الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 120009
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120009 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة و صبّ الماء سفاحاً، و هل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك؟ فإن قال: بين النكاح الدائم و المؤجّل في ذلك فرق، فإنّ النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الإحصان بالازدواج و إيجاد النسل، و تشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجّل. فهذا منه مكابرة، فإنّ جميع ما يترتّب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا، و التوقّي عن اختلال الأنساب، و إيجاد النسل و الولد، و تأسيس البيت يمكن أن يترتّب على النكاح المؤجّل، و يختصّ بأنّ فيه نوع تسهيل و تخفيف على هذه الاُمّة، يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة، أو لغربة، أو لعوامل مختلفة اُخر تمنعه عن النكاح الدائم.

و كذا كلّ ما يترتّب على النكاح المؤجّل - ممّا عدّه ملاكاً للسفاح - كقصد صبّ الماء و قضاء الشهوة فإنّه جائز الترتّب على النكاح الدائم، و دعوى أنّ النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة، و نكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضارّ اللّاحقة - على أن تكون مضارّاً - دعوى واضحة الفساد.

و إن قال: إنّ نكاح المتعة لما كان سفاحاً كان زناً يقابل النكاح ردّ عليه: بأنّ السفاح الّذي فسّره بصبّ الماء أعمّ من الزنا، و ربّما شمل النكاح الدائم و لا سيّما إذا كان بقصد صبّ الماء.

و أمّا قوله: فإن كان هناك نوعٌ ما من إحصان نفسه إلخ، فمن عجيب الكلام، و ليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل و المرأة في ذلك حتّى يكون الرجل المتمتّع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا، و تكون المرأة لا يصحّ منها هذا القصد؟ و هل هذا إلّا مجازفة.

و أمّا ما أنشده من الشعر في بحث حقيقيّ يتعرّض لكشف حقيقة من الحقائق الدينيّة الّتي تتفرّع عليها آثار هامّة حيويّة دنيويّة و اُخرويّة لا يستهان بها - سواء كان نكاح المتعة محرّماً أو مباحاً -.

فما ذا ينفع الشعر و هو نسيج خياليّ، الباطل أعرف عنده من الحقّ، و الغواية أمسّ به من الهداية.

٣٢١

و هلا أنشده في ذيل ما مرّ من الروايات، و لا سيّما في ذيل قول عمر في رواية الطبريّ المتقدّم:( فالآن من شاء نكح بقبضة و فارق عن ثلاث بطلاق) .

و هل لهذا الطعن غرض يتوجّه إليه إلّا الله و رسوله في أصل تشريع هذا النوع من النكاح تأسيساً أو إمضاءً و قد كان دائراً بين المسلمين في أوّل الإسلام بمرئى من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مسمع بلا شكّ؟.

فإن قال: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر و إكباب الفاقة على عامّة المسلمين، و عروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدّمة.

قلنا: مع فرض تداوله في أوّل الإسلام بين الناس و شهرته باسم نكاح المتعة و الاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها، و عدم صلاحية شي‏ء من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأوُّل في دلالة الآية من غير دليل.

سلّمنا أنّ إباحته كانت بإذن من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمصلحة الضرورة لكنّا نسأل أنّ هذه الضرورة هل كانت في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ و أعظم منها بعده، و لا سيّما في زمن الراشدين، و قد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الأرض و مغاربها بالاُلوف بعد الاُلوف من الغزاة؟ و أيّ فرق بين أوائل خلافة عمر و أواخرها من حيث تحوّل هذه الضرورة من فقر و غزوة و اغتراب في الأرض و غير ذلك؟ و ما هو الفرق بين الضرورة و الضرورة؟.

و هل الضرورة المبيحة اليوم و في جوّ الإسلام الحاضر أشدّ و أعظم أو في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و النصف الأوّل من عهد الراشدين؟ و قد أظلّ الفقر العامّ على بلاد المسلمين، و قد مصّت حكومات الاستعمار و الدول القاهرة المستعلية و الفراعنة من أولياء اُمور المسلمين كلّ لبن في ضرعهم، و حصدوا الرطب من زرعهم و اليابس.

و قد ظهرت الشهوات في مظاهرها، و ازّيّنت بأحسن زينتها و أجملها، و دعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها و لا يزال الأمر يشتدّ، و البليّة تعمّ البلاد و النفوس، و شاعت الفحشاء بين طبقات الشبّان من المتعلّمين و الجنديّين و عملة المعامل، و هم الّذين يكونون المعظم من سواد الإنسانيّة، و نفوس المعمورة.

٣٢٢

و لا يشكّ شاكّ و لن يشكّ في أنّ الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا و اللّواط و كلّ انخلاع شهوانيّ عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت، و المشاغل الموقّتة المؤجّلة المانعة من اتّخاذ المنزل و النكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة و نحو ذلك. فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الإسلام - و هي أقلّ و أهون عند القياس - نكاح المتعة لكنّها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد و قد أحاطت البليّة و عظمت الفتنة؟.

ثمّ قال: ثمّ إنّه ينافي ما تقرّر في القرآن بمعنى هذا كقوله عزّوجلّ في صفة المؤمنين:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) المؤمنون: ٧، أي المتجاوزون ما أحلّ الله لهم إلى ما حرّمه عليهم، و هذه الآيات لا تعارض الآية الّتي نفسّرها يعني قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ ) الآية، بل هي بمعناها فلا نسخ، و المرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الّذي عليها بالمعروف، كما قال الله تعالى: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنّهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها، فلا يعدّونها من الأربع اللّواتي يحلّ للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوّزون للرجل أن يتمتّع بالكثير من النساء، و لا يقولون برجم الزاني المتمتّع إذ لا يعدّونه محصناً، و ذلك قطع منهم بأنّه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين:( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) و هذا تناقض صريح منهم.

و نقل عنهم بعض المفسّرين: أنّ المرأة المتمتّع بها ليس لها إرث و لا نفقة و لا طلاق و لا عدّة، و الحاصل أنّ القرآن بعيد من هذا القول، و لا دليل في هذه الآية و لا شبه دليل عليه البتّة.

أقول: أمّا قوله: ثمّ إنّه ينافي ما تقرّر في القرآن بمعنى هذا إلخ، محصّله: أنّ آيات المؤمنون:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) الآيات تقصر الحلّ في الأزواج، و المتمتّع بها ليست زوجة، فالآيات مانعة من حلّيّة المتعة، أوّلاً و مانعة من شمول قوله:( فَمَا اسْتمتّعتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ) الآية لها ثانياً.

فأمّا أنّ الآيات تحرّم المتعة، فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكّيّة، و المتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة، فهل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيح ما حرّمه القرآن بإجازته

٣٢٣

المتعة؟ و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة بنصّ القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن، أو أنّ إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة:( وَ الّذينَ هُمْ ) الآيات، ثمّ منع عنها القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحييت بذلك الآيات بعد موتها، و استحكّمت بعد نسخها؟ و هذا أمر لا يقول به، و لا قال به أحد من المسلمين، و لا يمكن أن يقال به.

و هذا في نفسه نعم الشاهد على أنّ المتمتّع بها زوجة، و أنّ المتعة نكاح، و أنّ هذه الآيات تدلّ على كون التمتّع تزوّجاً، و إلّا لزم أن تنتسخ بترخيص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالآيات حجّة على جواز التمتّع دون حرمته.

و بتقرير آخر: آيات المؤمنون و المعارج:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ ) الآيات، أقوى دلالة على حلّيّة المتعة من سائر الآيات، فمن المتّفق عليه بينهم أنّ هذه الآيات محكمة غير منسوخة و هي مكّيّة، و من الضروريّ بحسب النقل أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخّص في المتعة، و لو لا كون المتمتّع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخاً للآيات و هي غير منسوخة، فالتمتّع زوجيّة مشرّعة فإذا تمّت دلالة الآيات على تشريعه فما يدّعى من نهي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها فاسد أيضاً لمنافاته الآيات، و استلزامه نسخها، و قد عرفت أنّها غير منسوخة بالاتّفاق.

و كيف كان فالمتمتّع بها على خلاف ما ذكره زوجة و المتعة نكاح، و ناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة و التابعين بنكاح المتعة حتّى في لسان عمر بن الخطّاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقيّ عن عمر في خطبته، و رواية مسلم عن أبي نضرة، حتّى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمّال عن سليمان بن يسار:( بيّنوا حتّى يعرف النكاح من السفاح) فإنّ معناه أنّ المتعة نكاح لا يتبيّن من السفاح، و أنّه يجب عليكم أن تبيّنوه منه فأتوا بنكاح يبيّن و يتميّز منه، و الدليل على ذلك قوله: بيّنوا.

و بالجملة كون المتعة نكاحاً و كون المتمتّع بها زوجة في عرف القرآن و لسان السلف من الصحابة و من تلاهم من التابعين ممّا لا ينبغي الارتياب فيه، و إنّما تعيّن

٣٢٤

اللّفظان (النكاح و التزويج) في النكاح الدائم بعد نهي عمر، و انتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللّفظين إلّا النكاح الدائم، فصار هو المتبادر من اللّفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرّعة.

و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإنّ قوله: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنّهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها إلخ، يسأل عنه فيه: ما هو المراد بالزوجة؟ أمّا الزوجة في عرف القرآن فإنّهم يعطونها أحكامها من غير استثناء، و أمّا الزوجة في عرف المتشرّعة - كما ذكر - المعروفة في الفقه فإنّهم لا يعطونها أحكامها و لا محذور.

و أمّا قوله: و ذلك قطع منهم بأنّه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتّع قوله تعالى:( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) و هذا تناقض صريح منهم، ففيه أنّا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدّم أنّ ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أنّ المراد بالإحصان إحصان التعفّف دون الازدواج، و لو سلّم أنّ المراد بالإحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة، و أمّا عدم رجم الزاني المتمتّع (مع أنّ الرجم ليس حكماً قرآنيّاً) فإنّما هو لبيان أو لتخصيص من السنّة كسائر أحكام الزوجيّة من الميراث و النفقة و الطلاق و العدد.

و توضيح ذلك أنّ آيات الأحكام إن كانت مسوقة على الإهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص و لا تقييد، و إن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنّة مخصّصات أو مقيّدات من غير محذور التناقض و المرجع في ذلك علم اُصول الفقه.

و هذه الآيات أعني آيات الإرث و الطلاق و النفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص و التقييد كالإرث و الطلاق في المرتدّة و الطلاق عند ظهور العيوب المجوّزة لفسخ العقد و النفقة عند النشوز فلتخصّص بالمتعة، فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث و الطلاق و النفقة مخصّصات أو مقيّدات، و تعيّن ألفاظ التزويج و النكاح و الإحصان و نحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرّعة دون الحقيقة الشرعيّة فلا محذور أصلاً كما توهّمه فإذا قال الفقيه مثلاً: الزاني المحصن يجب رجمه، و لا رجم في الزاني

٣٢٥

المتمتّع لعدم إحصانه فإنّما ذلك لكونه يصطلح بالإحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائيّة، و لا ينافي ذلك كون الإحصان في عرف القرآن موجوداً في الدائمة و المنقطعة معاً، و له في كلّ منهما آثار خاصّة.

و أمّا نقله عن بعضهم أنّ الشيعة لا تقول في المتعة بالعدّة ففرية بيّنة فهذه جوامع الشيعة، و هذه كتبهم الفقهيّة مملوءة بأنّ عدّة المتمتّع بها حيضتان، و قد تقدّم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمّة أهل البيت (علهيم السلام).

ثمّ قال: و أمّا الأحاديث و الآثار المرويّة في ذلك فمجموعها يدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرخّص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثمّ نهاهم عنها ثمّ رخّص فيها مرّة أو مرّتين ثمّ نهاهم عنها نهياً مؤبّداً.

و أنّ الرخصة كانت للعلم بمشقّة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخفّ الضررين فإنّ الرجل إذا عقد على امرأة خليّة نكاحاً موقّتاً، و أقام معها ذلك الزمن الّذي عيّنه فذلك أهون من تصدّيه للزنا بأيّة امرأة يمكنه أن يستميلها.

أقول: ما ذكره أنّ مجموع الروايات تدلّ على الترخيص في بعض الغزوات ثمّ النهي ثمّ الترخيص فيها مرّة أو مرّتين ثمّ النهي المؤبّد لا ينطبق على ما تقدّم من الروايات على ما فيها من التدافع و التطارد فعليك بالرجوع إليها (و قد تقدّم أكثرها) حتّى ترى أنّ مجموعها يكذّب ما ذكره من وجه الجمع حرفاً حرفاً.

ثمّ قال: و يرى أهل السنّة أنّ الرخصة في المتعة مرّة أو مرّتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعاً باتّاً كما وقع التدريج في تحريم الخمر، و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهليّة، و لكن فشوّ الزنا كان في الإماء دون الحرائر.

أقول: أمّا قوله: إنّ الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصّله أنّ المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا، و قد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهليّة فتدرّج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه، و أبقى زنا المتعة فرخّص فيه ثمّ منع ثمّ رخّص حتّى تمكّن من المنع الباتّ فمنعه منعاً مؤبّداً.

٣٢٦

و لعمري إنّه من فضيح اللّعب بالتشريعات الدينيّة الطاهرة الّتي لم يرد الله بها إلّا تطهير هذه الاُمّة، و إتمام النعمة عليهم.

ففيهأولا: ما تقدّم أنّ نسبة المنع ثمّ الترخيص ثمّ المنع ثمّ الترخيص في المتعة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج و المؤمنون:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ) الآيات - و هي مكّيّة - على حرّمة المتعة على ما أصرّ عليه هذا القائل ليس إلّا نسبة نسخ الآيات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالترخيص ثمّ نسخ هذا النسخ و أحكام الآيات ثمّ نسخ الآيات ثمّ إحكامها و هكذا، و هل هذا إلّا نسبة اللّعب بكتاب الله إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و ثانياً: أنّ الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ أنّه كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) الإسراء: ٣٢، و أيّ لسان أصرح من هذا اللّسان، و الآية مكّيّة واقعة بين آيات المناهي، و كذا قوله:( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ ربّكمْ عَلَيْكُمْ - إلى أن قال -وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) الأنعام: ١٥١، كلمة الفواحش جمع محلّى باللّام واقعة في سياق النهي مفيدة لاستغراق النهي كلّ فاحشة و زنا، و الآية مكّيّة، و كذا قوله:( قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ) الأعراف: ٣٣، و الآية أيضاً مكّيّة، و كذا قوله:( وَ الّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلّا عَلى‏ أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى‏ وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ) المؤمنون: ٧، المعارج: ٣١، و السورتان مكّيّتان، و الآيات تحرّم المتعة على قول هذا القائل كما تحرّم سائر أقسام الزنا.

فهذه جلّ الآيات الناهية عن الزنا المحرّمة للفاحشة، و جميعها مكّيّة صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرّج في التحريم و المنع؟ أو أنّه يقول - كما هو اللّازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة -: إنّ الله سبحانه حرّمها تحريماً باتّاً، ثمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدرّج في المنع عملاً بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول، و قد شدّد الله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الخلّة بعينها، قال تعالى:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتّخذوكَ

٣٢٧

خَلِيلًا وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثمّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) الإسراء: ٧٥.

و ثالثاً: أنّ هذا الترخيص المنسوب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة بعد مرّة إن كان ترخيصاً من غير تشريع للحلّ، و الفرض كون المتعة زناً و فاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربّه لو كان من عند نفسه، و هو معصوم بعصمة الله تعالى، و لو كان من عند ربّه كان ذلك أمراً منه تعالى بالفحشاء، و قد ردّه تعالى بصريح قوله خطاباً لنبيّه:( قُلْ إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الآية: الأعراف: ٢٨.

و إن كان ترخيصاً مع تشريع للحلّ لم تكن زناً و فاحشة فإنّها سنّة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرّمة كالنكاح الدائم و معها فريضة المهر كالنكاح الدائم، و العدّة المانعة عن اختلاط المياه و اختلال الأنساب، و معها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة و ليست الفاحشة إلّا العمل المنكر الّذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود و إخلاله بالمصلحة العامّة و منعه عن القيام بحاجة المجتمع الضروريّة في حياتهم.

و رابعاً: أنّ القول بكون التمتّع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهليّة اختلاق في التاريخ، و اصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخيّ، إذ لا عين منه في كتب التاريخ و لا أثر بل هو سنّة مبتكرة إسلاميّة و تسهيل من الله تعالى على هذه الاُمّة لإقامة أودهم، و وقايتهم من انتشار الزنا و سائر الفواحش بينهم لو أنّهم كانوا وفّقوا لإقامة هذه السنّة و إذاً لم تكن الحكومات الإسلاميّة تغمض في أمر الزنا و سائر الفواحش هذا الإغماض الّذي ألحقها تدريجاً بالسنن القانونيّة، و امتلأت بها الدنيا فساداً و وبالاً.

و أمّا قوله:( و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهليّة، و لكن فشوّ الزنا كان في الإماء دون الحرائر) ظاهرة أنّ مراده بالفاحشتين الزنا و شرب الخمر، و هو كذلك إلّا أنّ كون الزنا فاشياً في الإماء دون الحرائر ممّا لا أصل له يركن إليه فإنّ الشواهد التاريخيّة المختلفة المتفرّقة تؤيّد خلاف ذلك كالأشعار الّتي قيلت في ذلك، و قد تقدّم في رواية ابن عبّاس أنّ أهل الجاهليّة لم تكن ترى بالزنا بأساً إذا لم يكن علنيّاً.

٣٢٨

و يدلّ عليه أيضاً مسألة الادعاء و التبنّي الدائر في الجاهليّة فإنّ الادعاء لم يكن بينهم مجرّد تسمية و نسبة بل كان ذلك أمراً دائراً بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدّة و القوّة بالإلحاق، و يستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتّى ذوات الأزواج منهنّ، و أمّا الإماء فهم و لا سيّما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهنّ، و المعاشقة و المغازلة معهنّ، و إنّما كانت شأن الإماء في ذلك أنّ مواليهنّ يقيمونهنّ ذلك المقام اكتساباً و استرباحاً.

و من الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الإلحاق في السير و الآثار كقصّة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان، و ما شهد به شاهد الأمر عند ذلك، و غيرها من القصص المنقولة.

نعم ربّما يستشهد على عدم فشوّ الزنا بين الحرائر في الجاهليّة بقول هند للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند البيعة: و هل الحرّة تزني؟ لكنّ الرجوع إلى ديوان حسّان، و التأمّل فيما هجا به هنداً بعد وقعتي بدر و اُحد يرفع اللّبس و يكشف ما هو حقيقة الأمر.

ثمّ قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث، و رفعه التدافع الواقع بينها على زعمه: و العمدة عند أهل السنّة في تحريمها وجوه: أوّلها: ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح و الطلاق و العدّة إن لم نقل لنصوصه، و ثانيها: الأحاديث المصرّحة بتحريمها تحريماً مؤبّداً إلى يوم القيامة - إلى أن قال -: و ثالثها: نهي عمر عنها و إشارته بتحريمها على المنبر، و إقرار الصحابة له على ذلك و قد علم أنّهم ما كانوا يقرّون على منكر، و أنّهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.

ثمّ اختار أنّ تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه، و إنّما كان استناداً إلى التحريم الثابت بنهي النبيّ صصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما يسند إليه التحريم من جهة أنّه مبيّن للحرمة أو منفذ لها كما يقال: حرّم الشافعيّ النبيذ و أحلّه أبوحنيفة.

أقول: أمّا الوجه الأوّل و الثاني فقد عرفت آنفاً و في البيان المتقدّم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه، و أمّا الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدّعيه هذا القائل، و سواء كان سكوت

٣٢٩

الصحابة عنه هيبة له و خوفاً من تهديده، أو إقراراً له في تحريمه كما ذكره، أو لعدم وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدلّ عليه الروايات عن عليّ و جابر و ابن مسعود و ابن عبّاس فتحريمه و حلفه على رجم مستحلّها و فاعلها لا يؤثّر في دلالة الآية عليها، و عدم انثلام هذه الحلّيّة بكتاب أو سنّة فدلالة الآيات و أحكامها ممّا لا غبار عليه.

و قد أغرب بعض الكتّاب حيث ذكر أنّ المتعة سنّة جاهليّة لم تدخل في الإسلام قطّ حتّى يحتاج إلى إخراجها منه و في نسخها إلى كتاب أو سنّة و ما كان يعرفها المسلمون و لا وقعت إلّا في كتب الشيعة.

أقول: و هذا الكلام المبنيّ على الصفح عمّا يدلّ عليه الكتاب و الحديث و الإجماع و التاريخ يتمّ به تحوّل الأقوال في هذه المسألة تحوّلها العجيب فقد كانت سنّة قائمة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نهي عنها في عهد عمر و نفذ النهي عند عامّة الناس، و وجّه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات اُخرى أو بنهي النبيّ عنها و خالف في ذلك عدّة من الأصحاب(١) و جمّ غفير ممّن تبعهم من فقهاء الحجاز و اليمن و غيرهم حتّى مثل ابن جريح من أئمّة الحديث( و كان يبالغ في التمتّع حتّى تمتّع بسبعين امرأة(٢) ) و مثل مالك أحد أئمّة الفقه الأربعة(٣) ، هذا، ثمّ أعرض المتأخّرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة، و راموا تفسيرها بالنكاح الدائم، و ذكروا أنّ المتعة كانت سنّة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نسخت بالحديث، ثمّ راموا في هذه الأواخر أنّها كانت من أنواع الزنا في الجاهليّة رخّص فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رخصة بعد رخصة ثمّ نهى عنها نهياً مؤبّداً إلى يوم القيامة، ثمّ ذكر هذا القائل الأخير: أنّها زناً جاهليّ محض لا خبر عنها في الإسلام قطّ إلّا ما وقع في كتب الشيعة، و الله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان.

____________________

(١) و من عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أنّ هذه آية غلط فيها قوم غلطاً عظيماً لجهلهم باللّغة، و ذلك أنّهم ذكروا أن قوله:( فما استمتعتم به منهن) من المتعة الّتي قد أجمع أهل العلم أنّها حرام، ثمّ ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح، و ليتني أدري أن أي فصل من كلامه يقبل الإصلاح؟ أرميه أمثال ابن عبّاس و أبي و غيره بالجهل باللّغة؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة؟ أم دعواه الخبرة باللّغة و قد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح؟!.

(٢) راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب و ميزان الاعتدال.

(٣) راجع للحصول على هذه الأقوال الكتب الفقهيّة، و في تفصيل أبحاثها الفقهيّة و الكلاميّة ما ألفه أساتذة الفنّ من القدماء و المتأخّرين و خاصّة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج.

٣٣٠

( بحث علمي)

رابطة النسب - و هي الرابطة الّتي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة و جامع الرحم - هي في الأصل رابطة طبيعيّة تكوينيّة تكوّن الشعوب و القبائل، و تحمّل الخصال المنبعثة عن الدم فتسرّيها حسب تسرية الدم، و هي المبدأ للآداب و الرسوم و السنن القوميّة بما تختلط و تمتزج بسائر الأسباب و العلل المؤثّرة.

و للمجتمعات الإنسانيّة المترقّية و غير المترقّية نوع اعتناء بها في السنن و القوانين الاجتماعيّة في الجملة: في نكاح و إرث و غير ذلك، و هم مع ذلك لا يزالون يتصرّفون في هذه الرابطة النسبيّة توسعة و تضييقاً بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيّات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أنّ غالب الاُمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسماً و كانوا يرون قرابة الدعي و بنوّته، و كما أنّ الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب و المسلم، و يلحق الولد للفراش و غير ذلك.

و لمّا اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهنّ من الشركة التامّة في الأموال، و الحرّيّة التامّة في الإرادة و العمل على ما سمعت في المباحث السابقة، و صار بذلك الابن و البنت في درجة واحدة من القرابة و الرحم الرسميّ، و كذلك الأب و الاُمّ، و الأخ و الاُخت، و الجدّ و الجدّة، و العمّ و العمّة، و الخال و الخالة، صار عمود النسب الرسميّ متنزّلاً من ناحية البنات كما كان يتنزّل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابناً للإنسان كبنوّة ابن الابن و هكذا ما نزل، و كذا صار بنت الابن و بنت البنت بنتين للإنسان على حدّ سواء، و على ذلك جرت الأحكام في المناكح و المواريث، و قد عرفت فيما تقدّم أنّ آية التحريم( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ ) الآية دالّة على ذلك.

و قد قصّر السلف من باحثينا في هذه المسألة و أشباهها (و هي مسألة اجتماعيّة و حقوقيّة) فحسبوها مسألة لغويّة يستراح فيها إلى قضاء اللّغة، فاشتدّ النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلاً، فمن معمّم و من مخصّص، و كلّ ذلك من الخطإ.

و قد ذكر بعضهم: أنّ الّذي تعرفه اللّغة من البنوّة ما يجري من ناحية الابن،

٣٣١

و أمّا ابن البنت و كلّ ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدّهم الاُمّيّ لا يعدّهم العرب أبناء للإنسان، و أمّا قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و غير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفيّ، و أنشد في ذلك قول القائل:

بنونا بنـو أبنائنا و بناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

و نظيره قول الآخر:

و إنّما أمهات الناس أوعية

مستودعات و للأنساب آباء

أقول: و قد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثاً لغويّاً زعم فيه أنّ العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيّرت بذلك نتيجة البحث، و هو غفلة عن أنّ الآثار و الأحكام المترتّبة في المجتمعات المختلفة البشريّة على الاُبوّة و البنوّة و نحوهما لا تتبع اللّغات، و إنّما تتبع نوع بنية المجتمع و السنن الدائرة فيها، و ربّما تغيّرت هذه الأحكام و الآثار بتغيّر السنّة الاجتماعيّة في المجتمع مع بقاء اللّغة على حالها، و هذا يكشف عن كون البحث اجتماعيّاً أو عائداً إليه لا لفظيّاً لغويّاً.

و أمّا ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئاً - و ليس إلّا زخرفة خياليّة و تزويقاً وهميّاً - حتّى يستدلّ بكلّ ما تقوله شاعر لاغ و لا سيّما فيما يداخله القرآن الّذي هو قول فصل و ليس بالهزل.

و أمّا مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الاُمّهات فهي على أنّها ليست مسألة لفظيّة لغويّة ليست من فروع النسب حتّى يستلزم لحوق الابن و البنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الاُمّ، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، و تربية الأولاد و نحوها.

و بالجملة فالاُمّ تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، و من آثاره البارزة في الإسلام الميراث و حرمة النكاح، نعم هناك أحكام و مسائل اُخر لها ملاكات خاصّة كلحوق الولد و النفقة و مسألة سهم اُولي القربى من السادات و كلّ تتبع ملاكها الخاصّ بها.

٣٣٢

( بحث علميّ آخر)

النكاح و الازدواج من السنن الاجتماعيّة الّتي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانيّة أيّ مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو في نفسه دليل على كونه سنّة فطريّة.

على أنّ من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الاُنثى مجهّزين بحسب البنية الجسمانيّة بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مراراً، و الطائفتان (الذكر و الاُنثى) في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الاُنثى بجهاز الإرضاع و العواطف الفطريّة الملائمة لتربية الأولاد.

ثمّ إنّ هناك غرائز إنسانيّة تنعطف إلى محبّة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقياً ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكناً للرجل و بالعكس، و تحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت.

و المجتمعات الّتي تحترم هذه الاُصول و الأحكام الفطريّة في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنّة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفّظ عن فساد الصحّة العامّة و قوّة التوالد الّذي يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء.

هذه اُصول معتبرة عند جميع الاُمم الجارية على سنّة النكاح في الجملة سواء خصّوا الواحد بالواحد، أو جوّزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهنّ على اختلاف هذه السنن بين الاُمم فإنّهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصّته الّتي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين.

فالفحشاء و السفاح الّذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أوّل ما تبغضه الفطرة الإنسانيّة القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثاراً بين الاُمم المختلفة و المجتمعات المتنوّعة حتّى الاُمم الّتي تعيش على الحرّيّة التامّة في الرجال و النساء

٣٣٣

في المواصلات و المخالطات الشهويّة فإنّهم متوحّشون من هذه الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفّظ لهم أحكام الأنساب بوجه.

و الإنسان مع إذعانه بسنّة النكاح لا يتقيّد فيه بحسب الطبع، و لا يحرّم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيّاً، و لا يجتنب الذكر من الإنسان اُمّاً و لا اُختاً و لا بنتاً و لا غيرهنّ، و لا الاُنثى منه أباً و لا أخاً و لا ابناً بحسب الداعية الشهويّة فالتاريخ و النقل يثبت نكاح الاُمّهات و الأخوات و البنات و غيرهنّ في الاُمم العظيمة الراقية و المنحطّة، و الأخبار تحقّق الزنا الفاشي في الملل المتمدّنة اليوم بين الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهنّ فطاغية الشهوة لا يقوم لها شي‏ء، و ما كان بين هذه الاُمم من اجتناب نكاح الاُمّهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهنّ فإنّما هو سنّة موروثة ربّما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القوميّة.

و إنّك إذا قايست القوانين المشرّعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأمّلت فيها منصفاً وجدتها أدقّ و أضمن لجميع شؤون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانيّة الفطريّة، و جميع ما شرّعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سدّ سبيل الزنا.

فالّذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء، و بذلك يتمّ إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإنّ فيه فساد الأنساب كما أنّه هو الملاك في وضع عدّة الطلاق بتربّص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرّزاً من اختلاط المياه.

و أمّا سائر أصناف النساء المحرّم نكاحها و هي أربعة عشر صنفاً المعدودة في آيات التحريم فإنّ الملاك في تحريم نكاحهنّ سدّ باب الزنا فإنّ الإنسان - و هو في المجتمع المنزليّ - أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنّما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجّه النفس و ركوز الفكر فيهنّ بما يهدي إلى تنبّه الميول و العواطف الحيوانيّة و هيجان دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذّه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

٣٣٤

فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرّد تحريم الزنا في هذه الموارد فإنّ دوام المصاحبة، و تكرّر هجوم الوساوس النفسانيّة و ورود الهمّ بعد الهمّ لا يدع للإنسان مجال التحفّظ على نهي واحد من الزنا.

بل كان يجب أن تحرّم هؤلاء تحريماً مؤبّداً، و تقع عليه التربية الدينيّة حتّى يستقرّ في القلوب اليأس التامّ من بلوغهنّ و النيل منهنّ، و يميت ذلك تعلّق الشهوة بهنّ و يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الّذي نرى من كثير من المسلمين حتّى في المتوغّلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنّهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم، و هتك ستر الاُمّهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا و نحوه.

و هذا كما أنّ الإسلام سدّ باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إمّا أن يمنع الاختلاط كما في طائفة، و إمّا أن يستقرّ اليأس من النيل بالمرّة بحرمة مؤبّدة يتربّى عليها الإنسان حتّى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبداً.

و تصديق ذلك ما نجده من حال الاُمم الغربيّة فإنّ هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا، و تعدّ تعدّد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتّى فشا الفحشاء فيها فشوّاً لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه، ثمّ لم يمكث هذا الداء حتّى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات و الاُمّهات، ثمّ إلى ما بين الرجال و الغلمان ثمّ الشبّان أنفسهم ثمّ و ثمّ آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة الّتي ما خلقها الله سبحانه إلّا سكناً للبشر، و نعمة يقيم بها صلب الإنسانيّة، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كلّ شأن سياسيّ و اقتصاديّ

٣٣٥

و اجتماعيّ و وسيلة للنيل إلى كلّ غرض يفسد حياة المجتمع و الفرد، و عادت الحياة الإنسانيّة اُمنيّة تخيّليّة، و لعباً و لهواً بتمام معنى الكلمة، و قد اتّسع الخرق على الراتق.

هذا هو الّذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرّمات من المبهمات و غيرها في باب النكاح إلّا المحصنات من النساء على ما عرفت.

و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشوّ الزنا و تسرّبه في المجتمع المنزليّ كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدنيّ على ما عرفت.

و قد تقدّم أنّ قوله تعالى:( وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) الآية، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم:( يُرِيدُ الله أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ) النساء: ٢٨، فإنّ تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريماً باتّاً يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهنّ و الميل إليهنّ و النيل منهنّ على إمكان من الأمر، و قد خلق الإنسان ضعيفاً في قبال الميول النفسانيّة، و الدواعي الشهوانيّة، و قد قال تعالى:( إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ) يوسف:٢٨، فإنّ من أمرّ الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيّات، و يصاحبهنّ في الخلوة و الجلوة، و يتّصل بهن ليلاً و نهاراً و يمتلئ سمعه و بصره من لطيف إشاراتهنّ و حلو حركاتهنّ حيناً بعد حين ثمّ يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهنّ و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنّه هو الّذي‏ أشار إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( من تزوّج أحرز نصف دينه فليتّق الله في النصف الآخر) (١) .

____________________

(١) مرويّة في نكاح الوسائل.

٣٣٦

( سورة النساء الآيات ٢٩ الى ٣٠)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيم( ٢٩) وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِير( ٣٠)

( بيان)

في الآية شبه اتّصال بما سبقتها حيث إنّها تتضمّن النهي عن أكل المال بالباطل و كانت الآيات السابقة متضمّنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل و التعدّي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ - إلى قوله -مِنْكُمْ ) الأكل معروف و هو آنفاًد ما يمكن أن يتغذّى به بالتقامه و بلعه مثلاً، و لما فيه من معنى التسلّط و الإنفاد يقال: أكلت النار الحطب شبّه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول و البلع، و يقال أيضاً: أكل فلان المال أي تصرّف فيه بالتسلّط عليه، و ذلك بعناية أنّ العمدة في تصرّف الإنسان في الأشياء هو التغذّي بها لأنّه أشدّ ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه و أمسّه منه، و لذلك سمّي التصرّف أكلاً لكن لا كلّ تصرّف بل التصرّف عن تسلّط يقطع تسلّط الغير على المال بالتملّك و نحوه كأنّه ينفده ببسط سلطته عليه و التصرّف فيه كما ينفد الأكل الغذاء بالأكل.

و الباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائيّ، و التجارة هي التصرّف في رأس المال طلباً للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللّفظ انتهى، فتنطبق على المعاملة بالبيع و الشري.

٣٣٧

و في تقييد قوله:( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ ) بقوله:( بَيْنَكُمْ ) الدالّ على نوع تجمّع منهم على المال و وقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهيّ عنه بنحو إدارته فيما بينهم و نقله من واحد إلى آخر بالتعاور و التداول، فتفيد الجملة أعني قوله:( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) ، بعد تقييدها بقوله:( بِالْباطِلِ ) النهي عن المعاملات الناقلة الّتي لا تسوق المجتمع إلى سعادته و نجاحه بل تضرّها و تجرّها إلى الفساد و الهلاك، و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغرريّة كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.

و على هذا فالاستثناء الواقع في قوله:( إلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) ، استثناء منقطع جي‏ء به لدفع الدخل فإنّه لمّا نهى عن أكل المال بالباطل - و نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد الّتي يتحقّق بها النقل و الانتقال المالي كالربويّات و الغرريّات و القمار و أضرابها باطلة بنظر الشرع - كان من الجائز أن يتوهّم أنّ ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع و تلاشي أجزائها و فيه هلاك الناس فاُجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع، و تقيم صلبه، و تحفظه على استقامته، و هي التجارة عن تراض و معاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع، و ذلك نظير قوله تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إلّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩، فإنّه لمّا نفي النفع عن المال و البنين يوم القيامة أمكن أن يتوهّم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح فإنّ معظم ما ينتفع به الإنسان إنّما هو المال و البنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلّا اليأس و الخيبة فاُجيب أنّ هناك أمراً آخر نافعاً كلّ النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين و هو القلب السليم.

و هذا الّذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية و كون قوله:( بِالْباطِلِ ) قيداً أصليّاً في الكلام نظير قوله تعالى:( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تدلّوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ ) الآية: البقرة: ١٨٨، و على هذا لا تخصّص الآية بسائر المعاملات الصحيحة و الاُمور المشروعة غير التجارة ممّا يوجب التملّك و يبيح التصرّف في المال كالهبة و الصلح و الجعالة و كالإمهار و الإرث و نحوها.

و ربّما يقال: إنّ الاستثناء متّصل و قوله:( بِالْباطِلِ ) قيد توضيحيّ جي‏ء به لبيان

٣٣٨

حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلّق النهي، و التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنّكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلاً بالباطل منهيّاً عنه كقولك: لا تضرب اليتيم ظلماً إلّا تأديباً، و هذا النحو من الاستعمال و إن كان جائزاً معروفاً عند أهل اللّسان إلّا أنّك قد عرفت أنّ الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله، و بالتجارة صرفه فيما يرضاه. و ربّما قيل: إنّ الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و أنّه كان الرجل منهم يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتّى نسخ ذلك بقوله في سورة النور:( وَ لا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إلى قوله أَنْ تَأْكُلُوا جميعاً أَوْ أَشْتاتاً ) النور: ٦١، و قد عرفت أنّ الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني.

و من غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتّصال الاستثناء مع أخذ قوله:( بِالْباطِلِ ) قيداً احترازيّاً فقال ما حاصله: إنّ المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة المستثنى منها تدلّ على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل و من غير عوض ثمّ استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإنّ تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوّض عنه في القيمة حقيقة متعسّر جدّاً لو لم يكن متعذّراً.

فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، و ما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته و ترويجها بزخرف القول من غير غشّ و لا خداع و لا تغرير كما يقع ذلك كثيراً إلى غير ذلك من الأسباب.

و كلّ ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة و تسهيلاً لأهلها، و لو لم يجوّز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة و اختلّ نظام المجتمع الدينيّ. انتهى ملخّصاً.

و فساده ظاهر ممّا قدّمناه فإنّ الباطل على ما يعرفه أهل اللّغة ما لا يترتّب عليه أثره المطلوب منه، و أثر البيع و التجارة تبدّل المالين و تغيّر محلّ الملكين لرفع حاجة

٣٣٩

كلّ واحد من البيّعين إلى مال الآخر بأن يحصل كلّ منهما على ما يرغب فيه و ينال إربه بالمعادلة، و ذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضمّ إلى القليل شي‏ء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة اُخرى يعادل بانضمامها الكثير، و الكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين، و مع وقوع التراضي لا تعدّ المبادلة باطلة البتّة.

على أنّ المستأنس باُسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أنّ من المحال أن يعدّ القرآن أمراً من الاُمور باطلاً ثمّ يأمر به و يهدي إليه و قد قال تعالى في وصفه:( يَهْدِي إِلَى الحقّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأحقاف: ٣٠، و كيف يهدي إلى الحقّ ما يهدي إلى الباطل؟.

على أنّ لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداءً حقّاً فطريّاً إلى حاجته إلى المبادلة في الأموال ثمّ يهتدي اهتداءً حقّاً فطريّاً إلى المبادلة بالموازنة ثمّ لا يكون ما يهتدي إليه وافياً لرفع حاجته حقّاً حتّى ينضمّ إليه شي‏ء من الباطل و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها، و لا يفي إلّا ببعض شأنها؟ و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل و هل الفارق بين الحقّ و الباطل في الأعمال إلّا اهتداء الفطرة و عدم اهتدائها؟ فلا مفرّ لمن يجعل الاستثناء متّصلاً من أن يجعل قوله: بِالْباطِلِ قيداً توضيحيّاً.

و أعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أنّ النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الإشارة إلى أنّ جميع ما في الدنيا من التجارة و ما في معناها من قبيل الباطل لأنّه لا ثبات له و لا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة الّتي هي خير و أبقى انتهى.

و هو خطأ فإنّه على تقدير صحّته نكتة للاستثناء المتّصل لا الاستثناء المنقطع، على أنّ هذه المعنويّات من الحقائق إنّما يصحّ أن يذكر لمثل قوله تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إلّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) العنكبوت: ٦٤، و قوله تعالى:( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ الله باقٍ ) النحل: ٩٦، و قوله تعالى:( قُلْ ما عِنْدَ الله خَيْرٌ

٣٤٠