الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 119960
تحميل: 4286


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 119960 / تحميل: 4286
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في أيدي الناس، و يقبلوا إلى جنابه، و يسألوا من فضله فإنّ الفضل بيد الله، و هو الّذي أعطى كلّ ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به و تفضّلون بذلك على غيركم ممّن ترغبون فيما عنده، و تتمنّون ما اُعطيه.

و قد اُبهم هذا الفضل الّذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة( مِنْ ) عليه، و فيه من الفائدةأوّلاً التعليم بأدب الدعاء و المسألة من جنابه تعالى فإنّ الأليق بالإنسان المبنيّ على الجهل بما ينفعه و يضرّه بحسب الواقع إذا سأل ربّه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه و ما يضرّهم، القادر على كلّ شي‏ء أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه، و لا يطنب في تشخيص ما يسأله منه و تعيين الطريق إلى وصوله، فكثيراً ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصّة كمال أو ولد أو جاه و منزلة أو صحّة و عافية و كان يلحّ في الدعاء و المسألة لأجلها لا يريد سواها ثمّ لما استجيب دعاؤه، و اُعطي مسألته كان في ذلك هلاكه و خيبة سعيه في الحياة.

و ثانياً: الإشارة إلى أن يكون المسؤل ما لا يبطل به الحكمة الإلهيّة في هذا الفضل الّذي قرّره الله تعالى بتشريع أو تكوين، فمن الواجب أن يسألوا شيئاً من فضل الله الّذي اختصّ به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثمّ أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة و فسدت الأحكام و القوانين المشرّعة فافهم.

فينبغي للإنسان إذا دعا الله سبحانه عند ما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس ممّا يرفع حاجته بل يسأله ممّا عنده و إذا سأله ممّا عنده أن لا يعلّم لربّه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيراً من عنده.

و أمّا قوله تعالى:( إِنَّ الله كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنّوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إنّ الله بكلّ شي‏ء عليم لا يجهل طريق المصلحة و لا يخطئ في حكمه.

٣٦١

( كلام في حقيقة قرآنيّة)

اختلاف القرائح و الاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الإنسان ممّا ينتهي إلى اُصول طبيعيّة تكوينيّة لا مناص عن تأثيرها في فعليّة اختلاف درجات الحياة و على ذلك جرى الحال في المجتمعات الإنسانيّة من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم.

فقد كانت الأفراد القويّة من الإنسان يستعبدون الضعفاء و يستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم و هوى نفوسهم من غير قيد أو شرط، و كان لا يسع لاُولئك الضعفاء المساكين إلّا الانقياد لأوامرهم، و لا يهتدون إلّا إلى إجابتهم بما يشتهونه و يريدونه منهم لكنّ القلوب ممتلئة غيظاً و حنقاً و النفوس متربّصة و لا يزال الناس على هذه السنّة الّتي ابتدأت سنّة شيوخيّة و انتهت إلى طريقة ملوكيّة و إمبراطوريّة.

حتّى إذا وفّق النوع الإنسانيّ بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلّبة و إلزام أولياء الحكومة و الملك على اتّباع الدساتير و القوانين الموضوعة لصلاح المجتمع و سعادته فارتحلت بذلك حكومة الإرادات الجزافيّة، و سيطرة السنن الاستبداديّة ظاهراً و ارتفع اختلاف طبقات الناس و انقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان و مملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أنّ شجرة الفساد أخذت في النموّ في أرض غير الأرض، و منظر غير منظره السابق، و الثمرة هي الثمرة، و هو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض، و صفارة الكفّ عند آخر، و بعد ما بين القبيلين بعداً لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلّا أن ينفذ بثروته في جميع شؤون حياة المجتمع، و لا المسكين المعدم إلّا أن ينهض للبراز و يقاوم الاضطهاد.

فاستتبع ذلك سنّة الشيوعيّة القائلة بالاشتراك في موادّ الحياة و إلغاء المالكيّة، و إبطال رؤس الأموال، و إنّ لكلّ فرد من المجتمع أن يتمتّع بما عملته يداه و هيّأه كماله النفسانيّ الّذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة و الجدة غير أنّه

٣٦٢

أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنّة السابقة و هو بطلان حرّيّة إرادة الفرد، و انسلاب اختياره، و الطبيعة تدفع ذلك، و الخلقة لا توافقه، و هيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة و يضطهد الخلقة.

على أنّ أصل الفساد مع ذلك مستقرّ على قراره فإنّ الطبيعة الإنسانيّة لا تنشط إلّا لعمل فيه إمكان التميّز و السبق، و رجاء التقدّم و الفخر و مع إلغاء التمايزات تبطل الأعمال، و فيه هلاك الإنسانيّة، و قد احتالوا لذلك بصرف هذه التميّزات إلى الغايات و المقاصد الافتخاريّة التشريفيّة غير المادّيّة، و عاد بذلك المحذور جذعاً فإنّ الإنسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها، و إن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادّيّ.

و قد احتالت الديمقراطيّة لدفع ما تسرّب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنّة بتوسعة التبليغ و بضرب الضرائب الثقيلة الّتي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب و المتاجر، و لمّا ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنّة مخالفيهم لا يسدّ طريق هجوم الشرّ على سنّتهم أنفسهم و لا ذهاب جلّ الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم و مظالمهم، و هم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملّك المال إلى التسلّط و تداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلّط و وضع اليد عليه و إدارته ما يستفاد من ملكه.

فلا هؤلاء عالجوا الداء و لا اُولئك، و لا دواء بعد الكيّ، و ليس إلّا لأنّ الّذي جعله البشر غاية و بغية لمجتمعه، و هو التمتّع بالحياة المادّيّة بوصلة تهدي إلى قطب الفساد، و لن تنقلب عن شأنها أينما حوّلت، و مهما نصبت.

و الّذي يراه الإسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرّر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الإنسانيّة، ثمّ قرّب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب الماليّة و نحوها، و خفض مستوى حياة الأغنياء بالمنع عن الإسراف و التبذير و التظاهر بما يبعّدهم من حاقّ الوسط، و تعدّيل ذلك بالتوحيد و الأخلاق، و صرف الوجوه عن المزايا المادّيّة إلى كرامة التقوى و ابتغاء ما عندالله من الفضل.

و هو الّذي يشير إليه قوله تعالى:( وَ سْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ) الآية، و قوله:( إِنَّ

٣٦٣

أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣، و قوله:( فَفِرُّوا إِلَى الله ) الذاريات: ٥٠، و قد بيّنا فيما تقدّم أنّ صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الأسباب الحقيقيّة الواقعيّة في تحرّي مقاصدهم الحيويّة من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل: إنّ الإسلام دين البطالة و الخمود عن ابتغاء المقاصد الحيويّة الإنسانيّة إلّا رمية من غير مرمى جهلاً، هذا ملخّص القول في هذا المقصد، و قد تكرّر الكلام في أطرافه تفصيلاً فيما تقدّم من مختلف المباحث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية، الموالي جمع مولى، و هو الوليّ و إن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيّد العبد لولايته عليه، و المولى للناصر لولايته على أمر المنصور، و المولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمّه، و لا يبعد أن يكون في الأصل مصدراً ميميّاً أو اسم مكان اُريد به الشخص المتلبّس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة و المحكمة و نريد بهما الحاكم.

و العقد مقابل الحلّ، و اليمين مقابل اليسار، و اليمين اليد اليمنى، و اليمين الحلف و له غير ذلك من المعاني.

و وقوع الآية مع قوله قبل:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) ، في سياق واحد، و اشتمالها على التوصيّة بإعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه، و أنّ الله جعل لكلّ موالي ممّا ترك الوالدان و الأقربون يؤيّد أن تكون الآية أعني قوله:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا ) إلخ بضميمة الآية السابقة تلخيصاً للأحكام و الأوامر الّتي في آيات الإرث، و وصيّة إجماليّة لما فيها من الشرائع التفصيليّة كما كان قوله قبل آيات الإرث:( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) الآية تشريعاً إجماليّاً كضرب القاعدة في باب الإرث تعود إليه تفاصيل أحكام الإرث.

و لازم ذلك أن ينطبق من اُجمل ذكره من الورّاث و المورّثين على من ذكر منهم تفصيلاً في آيات الإرث، فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثاً فيها من الأولاد و الأبوين و الإخوة و الأخوات و غيرهم.

٣٦٤

و المراد بالأصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله:( الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) الأصناف المذكورة في آيات الإرث، و هم ثلاثة: الوالدان و الأقربون و الزوجان فينطبق قوله:( الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) على الزوج و الزوجة.

فقوله:( وَ لِكُلٍّ ) أي و لكلّ واحد منكم ذكراً أو اُنثى، جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال، و قوله: ممّا تَرَكَ، من فيه للابتداء متعلّق بالموالي كأنّ الولاية نشأت من المال، أو متعلّق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون ممّا ترك، و ما ترك هو المال الّذي تركه الميّت المورث الّذي هو الوالدان و الأقربون نسباً و الزوج و الزوجة.

و إطلاق( الّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ) على الزوج و الزوجة إطلاق كنائيّ فقد كان دأبهم في المعاقدات و المعاهدات أن يصافحوا فكأنّ أيمانهم الّتي يصافحون بها هي الّتي عقدت العقود، و أبرمت العهود فالمراد: الّذين أوجدتم بالعقد سببيّة الازدواج بينكم و بينهم.

و قوله:( فَآتوهّم نَصِيبَهُمْ ) الضمير للموالي، و المراد بالنصيب ما بيّن في آيات الإرث، و الفاء للتفريع، و الجملة متفرّعة على قوله تعالى:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ) ، ثمّ أكّد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ شَهِيداً ) .

و هذا الّذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني الّتي ذكروها في تفسيرها، و ربّما ذكروا أنّ المراد بالموالي العصبة دون الورثة الّذين هم أولى بالميراث، و لا دليل عليه من جهة اللّفظ بخلاف الورثة.

و ربّما قيل: إنّ( من ) في قوله( ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، بيانيّة و المراد بما الورثة الأولياء، و المعنى: و لكلّ منكم جعلنا أولياء، يرثونه و هم الّذين تركهم و خلّفهم الوالدان و الأقربون.

و ربّما قيل: إنّ المراد بالّذينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الحلفاء، فقد كان الرجل في الجاهليّة يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من مال الحليف.

٣٦٥

و على هذا فالجملة مقطوعة عمّا قبلها، و المعنى: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثمّ نسخ ذلك بقوله:( وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ ) . و قيل: إنّ المراد : آتوهم نصيبهم من النصر و العقل و الرفد، و لا ميراث، و على هذه فلا نسخ في الآية.

و ربّما قيل: إنّ المراد بهم الّذين آخا بينهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة، و كانوا يتوارثون بذلك بينهم ثمّ نسخ ذلك بآية الميراث.

و ربّما قيل: اُريد بهم الأدعياء الّذين كانوا يتبنّونهم في الجاهليّة فاُمروا في الإسلام أن يوصوا لهم بوصيّة، و ذلك قوله تعالى:( فَآتوهّم نَصِيبَهُمْ ) .

و هذه معان لا يساعدها سياق الآية و لا لفظها على ما لا يخفى للباحث المتأمّل، و لذلك أضربنا عن الإطناب في البحث عمّا يرد عليها.

قوله تعالى: ( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ) القيم هو الّذي يقوم بأمر غيره، و القوّام و القيّام مبالغة منه.

و المراد بما فضّل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل و يزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء، و هو زيادة قوّة التعقّل فيهم، و ما يتفرّع عليه من شدّة البأس و القوّة و الطاقة على الشدائد من الأعمال و نحوها فإن حياة النساء حياة إحساسيّة عاطفيّة مبنيّة على الرقّة و اللّطافة، و المراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهنّ و نفقاتهنّ.

و عموم هذه العلّة يعطي أنّ الحكم المبنيّ عليها أعني قوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) غير مقصور على الأزواج بأن يختصّ القوّاميّة بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامّة الّتي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامّة الاجتماعيّة الّتي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة و القضاء مثلاً اللّذين يتوقّف عليهما حياة المجتمع، إنّما يقومان بالتعقّل الّذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، و كذا الدفاع الحربيّ الّذي يرتبط بالشدّة و قوّة التعقّل كلّ ذلك ممّا يقوم به الرجال على النساء.

و على هذا فقوله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ذو إطلاق تامّ، و أمّا قوله بعد:( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) إلخ الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل و زوجته على ما سيأتي فهو

٣٦٦

فرع من فروع هذا الحكم المطلق و جزئيّ من جزئيّاته مستخرج منه من غير أن يتقيّد به إطلاقه.

قوله تعالى: ( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ الله ) المراد بالصلاح معناه اللّغويّ، و هو ما يعبّر عنه بلياقة النفس. و القنوت هو دوام الطاعة و الخضوع.

و مقابلتها لقوله:( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ) إلخ، تفيد أنّ المراد بالصالحات الزوجات الصالحات، و أنّ هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقاً، و أنّ قوله:( قانِتاتٌ حافِظاتٌ ) - الّذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن و ليحفظن - حكم مربوط بشؤون الزوجيّة و المعاشرة المنزليّة، و هذا مع ذلك حكم يتّبع في سعته و ضيقه علّته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجيّة فعليها أن تقنت له و تحفّظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجيّة.

و بعبارة اُخرى كما أنّ قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنّما تتعلّق بالجهات العامّة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقّل الرجل و شدّته في البأس و هي جهات الحكومة و القضاء و الحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الإرادة الفرديّة و عمل نفسها بأن تريد ما أحبّت و تفعل ما شاءت من غير أن يحقّ للرجل أن يعارضها في شي‏ء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهنّ بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة و لا تصرّف، و لا أن لا تستقلّ المرأة في حفظ حقوقها الفرديّة و الاجتماعيّة، و الدفاع عنها، و التوسّل إليها بالمقدّمات الموصلة إليها بل معناها أنّ الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه و تطيعه في كلّ ما يرتبط بالاستمتاع و المباشرة عند الحضور، و أن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره، و أن تمتّع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتّع منها بذلك، و لا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال، و سلّطها عليه في ظرف الازدواج و الاشتراك في الحياة المنزليّة.

فقوله:( فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ ) أي ينبغي أن يتّخذن لأنفسهنّ وصف الصلاح،

٣٦٧

و إذا كنّ صالحات فهنّ لا محالة قانتات، أي يجب أن يقنتن و يطعن أزواجهنّ إطاعة دائمة فيما أرادوا منهنّ ممّا له مساس بالتمتّع، و يجب عليهنّ أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.

و أمّا قوله:( بِما حَفِظَ الله ) فالظاهر أنّ ما مصدريّة، و الباء للآلة و المعنى: إنّهنّ قانتات لأزواجهنّ حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرّع لهم القيمومة، و أوجب عليهنّ الإطاعة و حفظ الغيب لهم.

و يمكن أن يكون الباء للمقابلة، و المعنى حينئذ: أنّه يجب عليهنّ القنوت و حفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهنّ حيث أحيا أمرهنّ في المجتمع البشريّ، و أوجب على الرجال لهنّ المهر و النفقة، و المعنى الأوّل أظهر.

و هناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد على شي‏ء منها.

قوله تعالى: ( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ ) ، النشوز العصيان و الاستكبار عن الطاعة، و المراد بخوف النشوز ظهور آياته و علائمه، و لعلّ التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإنّ الوعظ كما أنّ له محلّاً مع تحقّق العصيان كذلك له محلّ مع بدوّ آثار العصيان و علائمه.

و الاُمور الثلاثة أعني ما يدلّ عليه قوله:( فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ) و إن ذكرت معاً و عطف بعضها على بعض بالواو فهي اُمور مترتّبة تدريجيّة: فالموعظة، فإن لم تنجح فالهجرة، فإن لم تنفع فالضرب، و يدلّ على كون المراد بها التدرّج فيها أنّها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذة من الضعف إلى الشدّة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام، فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو.

و ظاهر قوله:( وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ ) أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار و ترك الملاعبة و نحوها، و إن أمكن أن يراد من مثل الكلام ترك المضاجعة لكنّه بعيد، و ربّما تأيّد المعنى الأوّل بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإنّ المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهراً.

٣٦٨

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ) إلخ أي لا تتّخذوا عليهنّ علّة تعتلّون بها في إيذائهنّ مع إطاعتهنّ لكم، ثمّ علّل هذا النهي بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) ، و هو إيذان لهم أنّ مقام ربّهم عليّ كبير فلا يغرّنّهم ما يجدونه من القوّة و الشدّة في أنفسهم فيظلموهنّ بالاستعلاء و الاستكبار عليهنّ.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا ) ، الشقاق البينونة و العداوة، و قد قرّر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور و التحكّم، و قوله:( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُما ) أي إن يرد الزوجان نوعاً من الإصلاح من غير عناد و لجاج في الاختلاف، فإنّ سلب الاختيار من أنفسهما و إلقاء زمام الأمر إلى الحكمين المرضيّين يوجب وفاق البين.

و أسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العاديّ الّذي هو إرادتهما الإصلاح، و المطاوعة لما حكم به الحكمان لأنّه تعالى هو السبب الحقيقيّ الّذي يربط الأسباب بالمسبّبات و هو المعطي لكلّ ذي حقّ حقّه، ثمّ تمّم الكلام بقوله:( إِنَّ الله كانَ عَلِيماً خَبِيراً ) ، و مناسبته ظاهرة.

( كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء)

تقويّة القرآن الكريم لجانب العقل الإنسانيّ السليم، و ترجيحه إيّاه على الهوى و اتّباع الشهوات، و الخضوع لحكم العواطف و الإحساسات الحادّة و حضّه و ترغيبه في اتّباعه، و توصيته في حفظ هذه الوديعة الإلهيّة عن الضيعة ممّا لا ستر عليه، و لا حاجة إلى إيراد دليل كتابيّ يؤدّي إليه فقد تضمّن القرآن آيات كثيرة متكثّرة في الدلالة على ذلك تصريحاً و تلويحاً و بكلّ لسان و بيان.

و لم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة، و مهام آثارها الجميلة الّتي يتربّى بها الفرد، و يقوم بها صلب المجتمع كقوله:( أَشِدَّاءُ عَلَى الْكفّار رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ) الفتح: ٢٩، و قوله:( لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) الروم: ٢١، و قوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢،

٣٦٩

لكنّه عدّلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتّباع حكم هذه العواطف و الميول اتّباعاً لحكم العقل.

و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ من حفظ الإسلام لجانب العقل و بنائه أحكامه المشرّعة على ذلك أنّ جميع الأعمال و الأحوال و الأخلاق الّتي تبطل استقامة العقل في حكمه و توجب خبطه في قضائه و تقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر و القمار و أقسام المعاملات الغرريّة و الكذب و البهتان و الافتراء و الغيبة كلّ ذلك محرّمة في الدين.

و الباحث المتأمّل يحدس من هذا المقدار أنّ من الواجب أن يفوّض زمام الاُمور الكلّيّة و الجهات العامّة الاجتماعيّة - الّتي ينبغي أن تدبّرها قوّة التعقّل و يجتنب فيها من حكومة العواطف و الميول النفسانيّة كجهات الحكومة و القضاء و الحرب - إلى من يمتاز بمزيد العقل و يضعف فيه حكم العواطف، و هو قبيل الرجال دون النساء.

و هو كذلك، قال الله تعالى:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) و السنّة النبوّية الّتي هي ترجمان البيانات القرآنيّة بيّنت ذلك كذلك، و سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جرت على ذلك أيّام حياته فلم يولّ امرأة على قوم و لا أعطى امرأة منصب القضاء و لا دعاهنّ إلى غزاة بمعنى دعوتهنّ إلى أن يقاتلن.

و أمّا غيرها من الجهات كجهات التعليم و التعلّم و المكاسب و التمريض و العلاج و غيرها ممّا لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهنّ السنّة ذلك، و السيرة النبوّية تمضي كثيراً منها، و الكتاب أيضاً لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقّهنّ فإنّ ذلك لازم ما اُعطين من حرّيّة الإرادة و العمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لإخراجهنّ من تحت ولاية الرجال، و جعل الملك لهنّ بحيالهنّ ثمّ النهي عن قيامهنّ بإصلاح ما ملكته أيديهنّ بأيّ نحو من الإصلاح، و كذا لا معنى لجعل حقّ الدعوى أو الشهادة لهنّ ثمّ المنع عن حضورهنّ عند الوالي أو القاضي و هكذا.

اللّهمّ إلّا فيما يزاحم حقّ الزوج فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ في الغيبة، و لا يمضي لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك.

٣٧٠

( بحث روائي‏)

في المجمع، في قوله تعالى:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله ) الآية: أي لا يقل أحدكم: ليت ما اُعطي فلان من النعمة و المرأة الحسنى كان لي فإنّ ذلك يكون حسداً، و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله، قال: و هو المروي عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن الصادقعليه‌السلام مثله.

في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام في قوله تعالى:( ذلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ) ، و في قوله:( وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى‏ بَعْضٍ‏ ) أنّهما نزلتا في عليّعليه‌السلام .

أقول: و الرواية من باب الجري و التطبيق.

و في الكافي، و تفسير القمّيّ، عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ليس من نفس إلّا و قد فرض الله لها رزقها حلالاً يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئاً من الحرام قاصّها به من الحلال الّذي فرض لها و عندالله سواهما فضل كثير، و هو قول الله عزّوجلّ:( وَ سْئَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ ) .

أقول: و رواه العيّاشيّ عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و روي هذا المعنى أيضاً عن أبي الهذيل عن الصادقعليه‌السلام ، و روى قريباً منه أيضاً القمّيّ في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام .

و قد تقدّم كلام في حقيقة الرزق و فرضه و انقسامه إلى الرزق الحلال و الحرام في ذيل قوله:( وَ الله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حساب ) البقرة: ٢١٢، في الجزء الثاني فراجعه.

و في صحيح الترمذيّ، عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمّه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلوا الله من فضله فإنّ الله يحبّ أن يسأل، و إنّ من أفضل العبادة انتظار الفرج.

٣٧١

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول:( وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ ممّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ ) ، قال: عنى بذلك اُولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميّت أقربهم إليه من الرحم الّتي تجرّه إليها.

و فيه، أيضاً بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أباجعفرعليه‌السلام رجل و أنا عنده قال: فقال رجل لامرأته: أمرك بيدك، قال: أنّى يكون هذا و الله يقول:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) ؟ ليس هذا بشي‏ء.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبدالملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستعدي على زوجها أنّه لطمها، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القصاص، فأنزل الله:( الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) الآية فرجعت بغير قصاص.

أقول: و رواه بطرق اُخرى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في بعضها: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أردت أمراً و أراد الله غيره‏، و لعلّ المورد كان من موارد النشوز، و إلّا فذيل الآية:( فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ) ينفي ذلك.

و في ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إنّ ظاهرها أنّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى، و لازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه و تشريعه و هو ينافي عصمته، و ليس بنسخ فإنّه رفع حكم قبل العمل به، و الله سبحانه و إن تصرّف في بعض أحكام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضعاً أو رفعاً لكنّ ذلك إنّما هو في حكمه و رأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرّعه لاُمّته فإنّ ذلك تخطئة باطلة.

و في تفسير القمّيّ،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله: قانِتاتٌ يقول: مطيعات.

و في المجمع، في قوله تعالى:( فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ ) الآية، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: يحوّل ظهره إليها، و في معنى الضرب عن أبي جعفرعليه‌السلام : أنّه الضرب بالسواك.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله:( فَابْعَثُوا حَكَماً

٣٧٢

مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ) قال: الحكمان يشترطان إن شاءا فرّقا، و إن شاءا جمعا فإن فرّقا فجائز، و إن جمعا فجائز.

أقول: و روي هذا المعنى و ما يقرب منه بعدّة طرق اُخر فيه و في تفسير العيّاشيّ.

و في تفسير العيّاشيّ، عن ابن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قضى أميرالمؤمنينعليه‌السلام في امرأة تزوّجها رجل، و شرط عليها و على أهلها إن تزوّج عليها امرأة و هجرها أو أتى عليها سريّة فإنّها طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرّى عليها و هجرها إن أتت سبيل ذلك، قال الله في كتابه:( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) و قال:( أحلّ لكم ممّا ملكت أيمانكم) و قال:( وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ الله كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج البيهقيّ عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنّها أتت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بين أصحابه فقالت: بأبي أنت و اُمّي إنّي وافدة النساء إليك، و أعلم نفسي لك الفداء أنّه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلّا و هي على مثل رأيي.

إنّ الله بعثك بالحقّ إلى الرجال و النساء فآمنّا بك و بإلهك الّذي أرسلك، و إنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم، و مقضي شهواتكم، و حاملات أولادكم، و إنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحجّ بعد الحجّ، و أفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، و إنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّاً أو معتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم، و غزلنا لكم أثوابكم، و ربّينا لكم أموالكم(١) ، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟ فالتفت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه بوجهه كلّه، ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قطّ أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه؟ فقالوا: يا رسول الله ما ظننّا أنّ امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها ثمّ قال لها: انصرفي أيّتها المرأة و أعلمي من خلفك من النساء: أنّ

____________________

(١) أولادكم ظ.

٣٧٣

حسن تبعّل إحداكنّ لزوجها، و طلبها مرضاته، و اتّباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة و هي تهلّل و تكبّر استبشاراً.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مرويّة في جوامع الحديث من طرق الشيعة و أهل السنّة، و من أجمل ما روي فيه ما رواه في الكافي، عن أبي إبراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام :( جهاد المرأة حسن التبعّل) ، و من أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اُسّ ما بني عليه التشريع ما في نهج البلاغة، و رواه أيضاً في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن كثير عن الصادقعليه‌السلام عن عليّ عليه أفضل السلام، و بإسناده أيضاً عن الأصبغ بن نباتة عنهعليه‌السلام في رسالته إلى ابنه: أنّ المرأة ريحانة، و ليست بقهرمانة.

و ما روي في ذلك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّما المرأة لعبة من اتّخذها فلا يضيّعها) و قد كان يتعجّب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها، ففي الكافي، أيضاً بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أ يضرب‏ أحدكم المرأة ثمّ يظلّ معانقها؟!) و أمثال هذه البيانات كثيرة في الأحاديث، و من التأمّل فيها يظهر رأي الإسلام فيها.

و لنرجع إلى ما كنّا فيه من حديث أسماء بنت يزيد الأنصاريّة فنقول: يظهر من التأمّل فيه و في نظائره الحاكية عن دخول النساء على النبيّ ص، و تكليمهنّ إيّاه فيما يرجع إلى شرائع الدين، و مختلف ما قرّره الإسلام في حقّهنّ أنّهنّ على احتجابهنّ و اختصاصهنّ بالاُمور المنزليّة من شؤون الحياة غالباً لم يكنّ ممنوعات من المراودة إلى وليّ الأمر، و السعي في حلّ ما ربّما كان يشكل عليهنّ، و هذه حرّيّة الاعتقاد الّتي باحثنا فيها في ضمن الكلام في المرابطة الإسلاميّة في آخر سورة آل عمران.

و يستفاد منه و من نظائره أيضاًأوّلاً أنّ الطريقة المرضيّة في حياة المرأة في الإسلام أن تشتغل بتدبير اُمور المنزل الداخليّة و تربية الأولاد، و هذه و إن كانت سنّة مسنونة غير مفروضة لكنّ الترغيب و التحريض الندبي - و الظرف ظرف الدين، و الجوّ جوّ التقوى و ابتغاء مرضاة الله، و إيثار مثوبة الآخرة على عرض الدنيا و التربية على الأخلاق الصالحة

٣٧٤

للنساء كالعفّة و الحياء و محبّة الأولاد و التعلّق بالحياة المنزليّة - كانت تحفّظ هذه السنّة.

و كان الاشتغال بهذه الشؤون و الاعتكاف على إحياء العواطف الطاهرة المودعة في وجودهنّ يشغلهنّ عن الورود في مجامع الرجال، و اختلاطهنّ بهم في حدود ما أباح الله لهنّ، و يشهد بذلك بقاء هذه السنّة بين المسلمين على ساقها قروناً كثيرة بعد ذلك حتّى نفذ فيهنّ الاسترسال الغربيّ المسمّى بحرّيّة النساء في المجتمع فجرّت إليهنّ و إليهم هلاك الأخلاق، و فساد الحياة و هم لا يشعرون، و سوف يعلمون، و لو أنّ أهل القرى آمنوا و اتّقوا لفتح الله عليهم بركات من السماء، و أكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم و لكن كذّبوا فاُخذوا.

و ثانياً: أنّ من السنّة المفروضة في الإسلام منع النساء من القيام بأمر الجهاد كالقضاء و الولاية.

و ثالثاً: أنّ الإسلام لم يهمل أمر هذه الحرمانات كحرمان المرأة من فضيلة الجهاد في سبيل الله دون أن تداركها، و جبر كسرها بما يعادلها عنده بمزايا و فضائل فيها مفاخر حقيقيّة كما أنّه جعل حسن التبعّل مثلاً جهاداً للمرأة، و هذه الصنائع و المكارم أوشك أن لا يكون لها عندنا - و ظرفنا هذا الظرف الحيويّ الفاسد - قدر لكنّ الظرف الإسلاميّ الّذي يقوّم الاُمور بقيمها الحقيقيّة، و يتنافس فيه في الفضائل الإنسانيّة المرضيّة عندالله سبحانه، و هو يقدّرها حقّ قدرها يقدّر لسلوك كلّ إنسان مسلكه الّذي ندب إليه، و للزومه الطريق الّذي خطّ له، من القيمة ما يتعادل فيه أنواع الخدمات الإنسانيّة و تتوازن أعمالها فلا فضل في الإسلام للشهادة في معركة القتال و السماحة بدماء المهج - على ما فيه من الفضل - على لزوم المرأة وظيفتها في الزوجيّة، و كذا لا فخار لوال يدير رحى المجتمع الحيويّ، و لا لقاض يتّكي على مسند القضاء، و هما منصبان ليس للمتقلّد بهما في الدنيا لو عمل فيما عمل بالحق و جرى فيما جرى على الحقّ إلّا تحمّل أثقال الولاية و القضاء، و التعرّض لمهالك و مخاطر تهدّدهما حيناً بعد حين في حقوق من لا حامي له إلّا ربّ العالمين -( و إِنَّ ربّك لَبِالْمِرْصادِ ) - فأيّ فخر لهؤلاء على من منعه الدين الورود موردهما، و خطّ له خطّاً و أشار إليه بلزومه و سلوكه.

٣٧٥

فهذه المفاخر إنّما يحييها و يقيم صلبها بإيثار الناس لها نوع المجتمع الّذي يربّي أجزاءه على ما يندب إليه من غير تناقض، و اختلاف الشؤون الاجتماعيّة و الأعمال الإنسانيّة بحسب اختلاف المجتمعات في أجوائها ممّا لا يسع أحداً إنكاره.

هو ذا الجنديّ الّذي يلقي بنفسه في أخطر المهالك، و هو الموت في منفجر القنابل المبيدة ابتغاء ما يراه كرامة و مزيداً، و هو زعمه أن سيذكر اسمه في فهرسّ من فدى بنفسه وطنه و يفتخر بذلك على كلّ ذي فخر في عين ما يعتقد أنّ الموت فوت و بطلان، و ليس إلّا بغية وهميّة، و كرامة خرافيّة، و كذلك ما تؤثّره هذه الكواكب الظاهرة في سماء السينماءات و يعظم قدرهنّ بذلك الناس تعظيماً لا يكاد يناله رؤساء الحكومات السامية و قد كان ما يعتورنه من الشغل و ما يعطين من أنفسهنّ للملأ دهراً طويلاً في المجتمعات الإنسانيّة أعظم ما يسقط به قدر النساء، و أشنع ما يعيّرن به، فليس ذلك كلّه إلّا أن الظرف من ظروف الحياة يعيّن ما يعيّنه على أن يقع من سواد الناس موقع القبول و يعظّم الحقير، و يهوّن الخطير فليس من المستبعد أن يعظّم الإسلام اُموراً نستحقرها و نحن في هذه الظروف المضطربة، أو يحقّر اُموراً نستعظمها و نتنافس فيها فلم يكن الظرف في صدر الإسلام إلّا ظرف التقوى و إيثار الآخرة على الاُولى‏.

٣٧٦

( سورة النساء الآيات ٣٦ - ٤٢)

وَاعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى‏ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مِن كَانَ مُخْتَالاً فَخُور( ٣٦) الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِين( ٣٧) وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِين( ٣٨) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيم( ٣٩) إِنّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيم( ٤٠) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى‏ هؤُلاَءِ شَهِيد( ٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرّسُولَ لَوْ تُسَوّى‏ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيث( ٤٢)

( بيان)

آيات سبع فيها حثّ على الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذمّ على تركه أمّا بالبخل أو بالإنفاق مراءآة للناس.

قوله تعالى: ( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) هذا هو التوحيد غير أنّ المراد به التوحيد العمليّ، و هو إتيان الأعمال الحسنة - و منها الإحسان الّذي هو مورد الكلام - طلباً لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتّباع الهوى و الشرك به.

و الدليل على ذلك أنّه تعالى عقّب هذا الكلام أعني قوله:( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) ، و علّله بقوله:( إِنَّ الله لا يُحبّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً ) ، و ذكر أنّه البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الّذين يشركون بالله و لا يعبدونه وحده، ثمّ قال:( وَ ما ذا عَلَيْهِمْ

٣٧٧

لَوْ آمَنُوا بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا ) ، و ظهر بذلك أنّ شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالى:( وَ لا تتّبع الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله إِنَّ الّذينَ يضلّون عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحساب ) ص: ٢٦، فبيّن أنّ الضلال باتّباع الهوى - و كلّ شرك ضلال - إنّما هو بنسيان يوم الحساب، ثمّ قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتّخذ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ الله عَلى‏ عِلْمٍ ) الجاثية: ٢٣، فبيّن أنّ اتّباع الهوى عبادة له و شرك به.

فتبيّن بذلك كلّه أنّ التوحيد العمليّ أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو على ذكر من يوم الحساب الّذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أنّ الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر - و لو آمن به لم ينسه - و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزيّنه له هواه من التعلّق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربّه، و أشرك به.

فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلباً لمرضاته، و ابتغاءً لمثوبته لا لاتّباع الهوى.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إحساناً - إلى قوله -أَيْمانُكُمْ ) الظاهر أنّ قوله: إحساناً مفعول مطلق لفعل مقدّر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحساناً، و الإحسان يتعدّى بالباء و إلى معاً يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله:( وَ بِذِي الْقُرْبى) ، هو و ما بعده معطوف على الوالدين، و ذو القربى القرابة، و قوله:( وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ الْجارِ الْجُنُبِ ) قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب داراً، و بالجار الجنب - و هو الأجنبيّ - الجار البعيد داراً، و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تحديد الجوار بأربعين ذراعاً، و في رواية: أربعون داراً، و لعلّ الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى و الجار الجنب.

و قوله: و الصاحب بالجنب هو الّذي يصاحبك ملازماً لجنبك، و هو بمفهومه يعمّ مصاحب السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو الّذي لا يعرف من حاله إلّا أنّه سألك سبيل كأنّه ليس له من ينتسب إليه إلّا السبيل فهو ابنه، و أمّا كونه فقيراً ذا مسكنة عادماً لزاد أو راحلة فكأنّه خارج من مفهوم

٣٧٨

اللّفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عدّه في عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يُحبّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً ) المختال التائه المتبختر المسخّر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنّه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر، و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلّق بالمال و الجاه، و الإفراط في حبّهما، و لذلك لم يكن الله ليحبّ المختال الفخور لتعلّق قلبه بغيره تعالى، و ما ذكره تعالى في تفسيره بقوله:( الّذينَ يَبْخَلُونَ ) إلخ و قوله:( وَ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) إلخ يبيّن كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر: فالطائفة الاُولى متعلّقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و المال تلازم في الجملة.

و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدلّ على السبب في عدم الحبّ كما لا يخفى.

قوله تعالى: ( الّذينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ) الآية أمرهم الناس بالبخل إنّما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظاً أو سكتوا فإنّ هذه الطائفة لكونهم اُولي ثروة و مال يتقرّب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أمّا كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذّيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و خوفهم على أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجّه النفوس إلى أموالهم، و المراد بالكافرين الساترون لنعمة الله الّتي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره على الحقّ بإنكاره.

قوله تعالى: ( وَ الّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ ) ، إلخ أي لمراءآتهم، و في الآية دلالة على أنّ الرئاء في الإنفاق - أو هو مطلقاً - شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة العمل لأنّ المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنّما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، و على أنّ المرائي قرين الشيطان و ساء قريناً.

قوله تعالى: ( وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) الآية، استفهام للتأسّف أو التعجّب،

٣٧٩

و في الآية دلالة على أنّ الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبّس بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبّس به ظاهراً.

و قوله:( وَ كانَ الله بِهِمْ عَلِيماً ) تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمسّ لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) الآية. المثقال هو الزنة، و الذرّة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الّذي لا يكاد يرى صغراً. و قوله:( مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلماً يعدل مثقال ذرّة وزناً.

و قوله:( وَ إِنْ تَكُ حسنةً ) ، قرئ برفع حسنة و بنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامّة، و على تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث الضمير في قوله: إِنْ تَكُ إمّا من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرّة.

و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنّهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرّة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة يضاعفها. و الله أعلم.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كلّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ) الآية. قد تقدّم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ) البقرة: ١٤٣، من الجزء الأوّل من هذا الكتاب، و سيجي‏ء بعض آخر في محلّه المناسب له.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ ) الآية. نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أنّ المراد بها معصية أوامرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، و قوله:( لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ ) كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى:( يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً ) النبأ: ٤٠.

٣٨٠