الميزان في تفسير القرآن الجزء ٤

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 458

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 458
المشاهدات: 120021
تحميل: 4287


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 120021 / تحميل: 4287
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 4

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و المراد بالملك هو السلطنة على الاُمور المادّيّة و المعنويّة فيشمل ملك النبوّة و الولاية و الهداية و ملك الرقاب و الثروة، و ذلك أنّه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة و اللّاحقة فإنّ الآية السابقة تومئ إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء و الحكم على المؤمنين، و هو مسانخ للملك على الفضائل المعنويّة و ذيل الآية:( فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) يدلّ على ملك المادّيّات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعمّ من ملك المادّيّات و المعنويّات.

فيؤول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الّذي أنعم الله به على نبيّه بالنبوّة و الولاية و الهداية و نحوه، و لو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقلّ القليل الّذي لا يعتدّ به لبخلهم و سوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإنفاق ) الإسراء: ١٠٠.

قوله تعالى: ( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) و هذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة، و وجه الكلام إلى اليهود جواباً عن قضائهم على المؤمنين بأنّ دين المشركين أهدى من دينهم.

و المراد بالناس على ما يدلّ عليه هذا السياق هم الّذين آمنوا، و بما آتاهم الله من فضله هو النبوّة و الكتاب و المعارف الدينيّة، غير أنّ ذيل الآية:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ ) إلخ، يدلّ على أنّ هذا الّذي اُطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد بالناس حينئذ هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه و ببركاته العالية، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ الله اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ ) الآية: آل عمران: ٣٣، أنّ آل إبراهيم هو النبيّ و آله.

و إطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنّه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرّض لك و يؤذيك: لا تتعرّض للناس، و ما لك و للناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرّض لي.

قوله تعالى: ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجملة إيئاس لهم في حسدهم، و قطع لرجائهم زوال هذه النعمة، و انقطاع هذا الفضل بأنّ الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى، و آتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئاً.

٤٠١

و من هنا يظهر أنّ المراد بآل إبراهيم إمّا النبيّ و آله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل و إسحاق حتّى يشمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، و ليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإنّ الكلام على هذا التقدير يعود تقريراً لليهود في حسدهم النبيّ أو المؤمنين لمكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى.

و قد ظهر أيضاً كما تقدّمت الإشارة إليه أنّ هذه الجملة:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ ) إلخ تدلّ على أنّ الناس المحسّودين هم من آل إبراهيم، فيتأيّد به أنّ المراد بالناس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمّا المؤمنون به فليسوا جميعاً من ذرّيّة إبراهيم، و لا كرامة لذرّيّته من المؤمنين على غيرهم حتّى يحمل الكلام عليهم، و لا يوجب مجرّد الإيمان و اتّباع ملّة إبراهيم تسمية المتّبعين بأنّهم آل إبراهيم، و كذا قوله تعالى:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ للّذين اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النبيّ وَ الّذينَ آمَنُوا ) الآية: آل عمران: ٦٨، لا يوجب تسمية الّذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الأولويّة فإنّ في الآية ذكراً من الّذين اتّبعوا إبراهيم، و ليسوا يسمّون آل إبراهيم قطعاً، فالمراد بآل إبراهيم النبيّ أو هو و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إسماعيل جدّه و من في حذوه.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) قد تقدّم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعمّ الملك المعنويّ الّذي منه النبوّة و الولاية الحقيقيّة على هداية الناس و إرشادهم و يؤيّده أنّ الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيويّ لو لم ينته إلى فضيلة معنويّة و منقبة دينيّة، و يؤيّد ذلك أيضاً أنّ الله سبحانه لم يعدّ فيما عدّه من الفضل في حقّ آل إبراهيم النبوّة و الولاية إذ قال:( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) ، فيقوى أن يكون النبوّة و الولاية مندرجتين في إطلاق قوله: و آتيناهم ملكاً عظيماً.

قوله تعالى: ( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) الصدّ الصرف و قد قوبل الإيمان بالصدّ لأنّ اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرّد عدم الإيمان بما اُنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صدّ الناس عن سبيل الله و الإيمان بما نزّله من الكتاب، و ربّما كان الصدّ بمعنى الإعراض و حينئذ يتمّ التقابل من غير عناية زائدة.

٤٠٢

قوله تعالى: ( وَ كَفى‏ بِجهنّم سَعِيراً ) تهديد لهم بسعير جهنّم في مقابل ما صدّوا عن الإيمان بالكتاب و سعّروا نار الفتنة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذين آمنوا معه.

ثمّ بيّن تعالى كفاية جهنّم في أمرهم بقوله:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ) إلى آخر الآية و هو بيان في صورة التعليل، ثمّ عقّبه بقوله:( وَ الّذينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلى آخر الآية ليتبيّن الفرق بين الطائفتين:( مَنْ آمَنَ بِهِ، و مَنْ صَدَّ عَنْهُ ) ، و يظهر أنّهما في قطبين متخالفين من سعادة الحياة الاُخرى و شقائها: دخول الجنّات و ظلّها الظليل، و إحاطة سعير جهنّم و الاصطلاء بالنار - أعاذنا الله - و معنى الآيتين واضح.

قوله تعالى: ( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ ) إلخ الفقرة الثانية من الآية:( وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ ) ظاهره الارتباط بالآيات السابقة عليها فإنّ البيان الإلهيّ فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنّهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، و قد وصفهم الله تعالى في أوّل بيانه بأنّهم اُوتوا نصيباً من الكتاب و الّذي في الكتاب هو تبيين آيات الله و المعارف الإلهيّة، و هي أمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبيّن للناس، و لا تكتم عن أهله.

و هذا الّذي ذكر من القرائن يؤيّد أن يكون المراد بالأمانات ما يعمّ الأمانات المالية و غيرها من المعنويّات كالعلوم و المعارف الحقّة الّتي من حقّها أن يبلّغها حاملوها أهلها من الناس.

و بالجملة لمّا خانت اليهود الأمانات الإلهيّة المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد و آيات نبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكتموها و لم يظهروها في واجب وقتها، ثمّ لم يقنعوا بذلك حتّى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين فحكموا للوثنيّة على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللّعن الإلهيّ و جرّ ذلك إيّاهم إلى عذاب السعير فلمّا كان من أمرهم ما كان، غيّر سبحانه سياق الكلام من التكلّم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها، و بالعدل في الحكم فقال:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ ) إلخ.

٤٠٣

و الّذي وسّعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الّذي يقضي به السياق على ما عرفت، فلا يرد عليه أنّه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم فإنّ المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب ردّ الأمانة الماليّة إلى صاحبها، و عدل القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشرعيّ، و ذلك أنّ التشريع المطلق لا يتقيّد بما يتقيّد به موضوعات الأحكام الفرعيّة في الفقه بل القرآن مثلاً يبيّن وجوب ردّ الأمانة على الإطلاق، و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق فما كان من ذلك راجعاً إلى الفقه من الأمانة الماليّة و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه، و ما كان غير ذلك استفاد منه فنّ اُصول المعارف، و هكذا.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوى لسانه، و قال: أرعنا سمعك يا محمّد حتّى نفهمك، ثمّ طعن في الإسلام و عابه فأنزل الله فيه:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ - إلى قوله -فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلًا ) .

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الآية قال: نزلت في مالك بن الصيف، و رفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع.

و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس قال: كلّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤساءً من أحبار اليهود منهم عبدالله بن سوريا، و كعب بن أسد فقال لهم: يا معشر اليهود اتّقوا الله و أسلموا فوالله إنّكم لتعلمون أنّ الّذي جئتكم به لحقّ فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمّد فأنزل الله فيهم:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) الآية.

أقول: ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدّم في البيان السابق و إن كان نزولها

٤٠٤

في اليهود من أهل الكتاب إلّا أنّ ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنّه حكم تطبيقيّ كغالب نظائره من الأخبار الحاكية لأسباب النزول، و الله أعلم.

و في تفسير البرهان، عن النعمانيّ بإسناده عن جابر عن الباقرعليه‌السلام في حديث طويل يصف فيه خروج السفيانيّ، و فيه قال: و ينزل أمير جيش السفيانيّ البيداء فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر يحوّل الله وجوههم إلى أقفيتهم، و هم من كلب، و فيهم نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى‏ أَدْبارِها ) الآية:

أقول: و رواه عن المفيد أيضاً بإسناده عن جابر عن الباقرعليه‌السلام في نظير الخبر في قصّة السفيانيّ.

و في الفقيه، بإسناده عن ثوير عن أبيه: أنّ عليّاًعليه‌السلام قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من قوله عزّوجلّ:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور عن الفاريابيّ و الترمذيّ و حسّنه عن عليّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال لمّا نزلت:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ ) الآية فقام رجل فقال: و الشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) الآية.

و فيه، أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لمّا نزلت هذه الآية:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا ) الآية قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك بالله؟ فسكت - مرّتين أو ثلاثاً - فنزلت هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) فاُثبتت هذه في الزمر، و اُثبتت هذه في النساء.

أقول: و قد عرفت فيما تقدّم أنّ آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقّبه من الآيات في المغفرة بالتوبة، و لا ريب أنّ التوبة يغفر معها كلّ ذنب حتّى الشرك، و أنّ آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافي بين الآيتين مضموناً حتّى تكون إحداهما ناسخة أو مخصّصة للاُخرى.

٤٠٥

و في المجمع عن الكلبيّ في الآية: نزلت في المشركين وحشيّ و أصحابه، و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا قد ندمنا على الّذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة:( وَ الّذينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الّتي حَرَّمَ الله إلّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ) الآيتان، و قد دعونا مع الله إلهاً آخر، و قتلنا النفس الّتي حرّم الله، و زنينا، فلو لا هذه لاتّبعناك فنزلت الآية:( إلّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) الآيتين فبعث بهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى وحشيّ و أصحابه، فلمّا قرأهما كتبوا إليه: أنّ هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ ) الآية فبعث بها إليهم فقرؤوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ ) جميعاً فبعث بها إليهم فلمّا قرؤوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبل منهم، ثمّ قال لوحشيّ أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال: ويحك غيّب شخصك عنّي فلحق وحشيّ: بعد ذلك بالشام، و كان بها إلى أن مات.

أقول: و قد ذكر هذه الرواية الرازيّ في تفسيره عن ابن عبّاس‏ و التأمّل في موارد هذه الآيات الّتي تذكر الرواية أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يراجع بها وحشيّاً لا يدع للمتأمّل شكّاً في أنّ الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدّر أن وحشيّاً و أصحابه مغفور لهم و إن ارتكبوا من المعاصي كلّ كبيرة و صغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، و المستثنى من موضع مع أنّ كلّاً منها واقعة في محلّ محفوفة بأطراف لها معها ارتباط و اتّصال، و للمجموع سياق لا يحتمل التقطيع و التفصيل فقطّعها ثمّ رتّبها و نضدها نضداً يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين وحشيّ.

و لقد أجاد بعض المفسّرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: كأنّهم يثبتون أنّ الله سبحانه كان يداعب وحشيّاً.

٤٠٦

فواضع الرواية لم يرد إلّا أن يشرّف وحشيّاً بمغفرة محتومة مختومة لا يضرّه معها أيّ ذنب أذنب و أيّ فظيعة أتى بها، و عقّب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، و لازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانيّة بل أشنع فإنّهم إنّما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، و هذا يرفعه اتّباعاً لهوى وحشيّ.

و وحشيّ هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة باُحد ثمّ لحق مكّة ثمّ أسلم بعد أخذ الطائف، و قال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غيّب شخصك عنّي فلحق بالشام و سكن حمصاً و اشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثمّ اُخرج منه لكونه يدمن الخمر، و قد جلد لذلك غير مرّة، ثمّ مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي.

روى ابن عبدالبرّ في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبدالله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن اُميّة الضمريّ قال: خرجت أنا و عبدالله بن عديّ بن الخيار فمررنا بحمص و بها وحشيّ، فقلنا: لو أتيناه و سألناه عن قتله حمزة كيف قتله، فلقينا رجلاً و نحن نسأل عنه فقال: إنّه رجل قد غلبت عليه الخمر فإن تجداه صاحياً تجداه رجلاً عربيّاً يحدّثكما ما شئتما من حديث، و إن تجداه على غير ذلك فانصرفا عنه، قال: فأقبلنا حتّى انتهينا إليه، الحديث‏، و فيه ذكر كيفيّة قتله حمزة يوم اُحد.

و في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا بأنّه من أهل النار حتّى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقيّ قال: حدّثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم فسمعتهم يقولون:( مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً ) إلى آخر الآية فقال المهاجرون و الأنصار: قد أوجب له النار فلمّا نزلت:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء.

أقول: و روي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، و هذه

٤٠٧

الروايات لا تخلو من شي‏ء فلا نظنّ بعامّة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجهلوا أنّ هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئاً كما تقدّم بيانه، أو أن يغفلوا عن أنّ معظم آيات الشفاعة مكّيّة كقوله تعالى في سورة الزخرف:( وَ لا يَمْلِكُ الّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٦، و مثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس، و الأنبياء، و طه، و سبأ، و النجم، و المدّثّر كلّها آيات مكّيّة تثبت الشفاعة على ما مرّ بيانه، و هي عامّة لجميع الذنوب و مقيّدة في جانب المشفوع له بالدين المرضيّ و هو التوحيد و نفي الشريك و في جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصّل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلّا الشرك على مشيئة من الله، و هذا بعينه مفاد هذه الآية:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

و أمّا الآيات الّتي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حقّ، و آكل الربا، و قاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جهنّم خالِداً فِيها ) الآية: النساء: ٩٣، و قوله في الربا:( وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) البقرة: ٢٧٥، و قوله في قاطع الرحم:( أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) الرعد: ٢٥، و غير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنّما توعد بالشرّ و تنبئ عن جزاء النار، و أمّا كونه جزاءً محتوماً لا يقبل التغيير و الارتفاع فلا صراحة لها فيه.

و بالجملة لا يترجّح آية( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ ) على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهّد لهم ما ذكروه.

فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتّم النار حتّى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار، و لا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) إلخ أمراً ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتّى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر.

و يومئ إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، و هو ما رواه في الدرّ المنثور، عن ابن الضريس و أبي يعلى و ابن المنذر و ابن عديّ بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنّا

٤٠٨

نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتّى سمعنا من نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ، و قال: إنّي ادّخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من اُمّتي، فأمسكنا عن كثير ممّا كان في أنفسنا ثمّ نطقنا بعد و رجونا.

فظاهر الرواية أنّ الّذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر، و هو أنّه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة، و لم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكّيّة على كثرتها و دلالتها و طول العهد؟ ما أدري!.

و في الدرّ المنثور، في قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ - إلى قوله -سَبِيلاً ) أخرج البيهقيّ في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبدالله قال: لمّا كان من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكّة و كان بها، و قال: لا اُعين عليه و لا اُقاتله، فقيل له بمكّة: يا كعب أ ديننا خير أم دين محمّد و أصحابه؟ قال: دينكم خير و أقدم، و دين محمّد حديث، فنزلت فيه:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) الآية.

أقول: و في سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أنّ الجميع تشترك في أصل القصّة و هو أنّ بعضاً من اليهود حكموا لقريش على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ دينهم خير من دينه.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) الآية عن الشيخ في أماليه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام :( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ‏ ) قال: نحن الناس.

و في الكافي، بإسناده عن بريد عن الباقرعليه‌السلام في حديث:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) نحن الناس المحسودون، الحديث.

أقول: و هذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام مستفيضاً بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي، و التهذيب، و المعاني، و البصائر، و تفسيري القمّيّ و العيّاشيّ، و غيرها.

٤٠٩

و في معناها من طرق أهل السنّة ما عن ابن المغازليّ يرفعه إلى محمّد بن عليّ الباقرعليهما‌السلام في قوله تعالى:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ ) قال: نحن الناس و الله.

و ما في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر و الطبرانيّ من طريق عطاء عن ابن عبّاس: في قوله:( أَمْ يَحسّدُونَ النَّاسَ ) قال: نحن الناس دون الناس. و قد روي فيه أيضاً تفسير الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عكرمة و مجاهد و مقاتل و أبي مالك‏، و قد مرّ فيما قدّمناه من البيان: أنّ الظاهر كون المراد بالناس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أهل بيته ملحقون به.

و في تفسير العيّاشيّ، عن حمران عن الباقرعليه‌السلام ( فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ ) قال: النبوّة،( وَ الْحِكْمَةَ ) قال: الفهم و القضاء،( و مُلْكاً عَظِيماً ) قال: الطاعة.

أقول: المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث، و الأخبار في هذه المعاني أيضاً كثيرة، و في بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة و الخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقرعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ) الآية قال: الآيات أميرالمؤمنين و الأئمّةعليهم‌السلام .

أقول: و هو من الجري.

و في مجالس الشيخ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيّد الجعافرة جعفر بن محمّدعليهما‌السلام لمّا قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء و كان ملحداً فقال: ما تقول في هذه الآية:( كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ) ؟ هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير؟ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : ويحك هي هي و هي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أ رأيت لو أنّ رجلاً عمد إلى لبنة فكسرها ثمّ صبّ عليها الماء و جبلها ثمّ ردّها إلى هيئتها الاُولى أ لم تكن هي هي و هي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك.

أقول: و رواه في الإحتجاج، أيضاً عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام ، و القمّيّ في تفسيره مرسلاً، و يعود حقيقة الجواب إلى أنّ وحدة المادّة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الإنسان

٤١٠

كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان و إن تغيّر البدن بأيّ تغيّر حدث فيه.

و في الفقيه، قال: سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ قال: الأزواج المطهّرة اللّاتي لا يحضن و لا يحدثن.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ) الآية عن محمّد بن إبراهيم النعمانيّ بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمّد بن عليّعليهما‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ ) فقال: أمر الله الإمام أن يؤدّي الأمانة إلى الإمام الّذي بعده، ليس له أن يزويها عنه، أ لا تسمع قوله:( وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تحكّموا بِالْعَدْلِ إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ) هم الحكّام يا زرارة، إنّه خاطب بها الحكّام.

أقول: و صدر الحديث مرويّ بطرق كثيرة عنهمعليهم‌السلام ، و ذيله يدلّ على أنّه من باب الجري، و أنّ الآية نازلة في مطلق الحكم و إعطاء ذي الحقّ حقّه فينطبق على مثل ما تقدّم سابقاً.

و في معناه ما في الدرّ المنثور، عن سعيد بن منصور و الفريابيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله و أن يؤدّي الأمانة فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و أن يجيبوا إذا دعوا.

٤١١

( سورة النساء الآيات ٥٩ - ٧٠)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل( ٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُروا بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيد( ٦٠) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى‏ مَا أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُود( ٦١) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيق( ٦٢) أُولئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغ( ٦٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيم( ٦٤) فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيم( ٦٥) وَلَوْ أَنّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَا فَعَلُوهُ إِلّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيت( ٦٦) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُم مِن لَدُنّا أَجْراً عَظِيم( ٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيم( ٦٨) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَاءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيق( ٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ عَلِيم( ٧٠)

( بيان)

الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدّمها من الآيات فإنّ آيات السورة آخذة من قوله تعالى:( وَ اعْبُدُوا الله وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً ) ، كأنّها مسوقة لترغيب الناس

٤١٢

في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من المؤمنين و ذمّ الّذين يصدّون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثمّ الحثّ على إطاعة الله و إطاعة الرسول و اُولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنّب عن التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتّفق، و التحرّز عن النفاق، و لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبيّنة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظّمة لنظام اُمورهم في داخلهم، و ربّما تخلّلها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخلّ باتّصال الكلام كما تقدّم الإيماء إليه في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) نساء: ٤٣.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) لمّا فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بثّ الإحسان بين طبقات المؤمنين و ذمّ من يعيب هذا الطريق المحمود أو صدّ عنه صدوداً عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرّع عليه فروع اُخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلاميّ و هو التحضيض و الترغيب في أخذهم بالائتلاف و الاتّفاق، و رفع كلّ تنازع واقع بالردّ إلى الله و رسوله.

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، جملة سيقت تمهيداً و توطئة للأمر برّد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهيّة.

فإنّ ذلك ظاهر تفريع قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) ، ثمّ العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الّذينَ يَزْعُمُونَ ) إلخ، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله ) إلخ، و قوله:( فَلا وَ ربّك لا يُؤْمِنُونَ حتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) إلخ.

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلّا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أمّا رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله حيثيّتان: إحداهما: حيثيّة التشريع بما يوحيه إليه ربّه من غير كتاب، و هو ما يبيّنه للناس من

٤١٣

تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلّق و يرتبط بها كما قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبيّن لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤، و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الّذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء قال تعالى:( لِتحكم بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) النساء: ١٠٥، و هذا هو الرأي الّذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الّذي كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحكم به في عزائم الاُمور، و كان الله سبحانه أمره في اتّخاذ الرأي بالمشاورة فقال:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتوکّل عَلَى الله ) آل عمران: ١٥٩، فأشركهم به في المشاورة و وحّده في العزم.

إذا عرفت هذا علمت أنّ لإطاعة الرسول معنىّ و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأنّ الله هو المشرّع لوجوب إطاعته كما قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ الله ) فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبيّنه بالوحي، و فيما يراه من الرأي.

و هذا المعنى (و الله أعلم) هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، لا ما ذكره المفسّرون: أنّ التكرار للتأكيد فإنّ القصد لو كان متعلّقاً بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدلّ عليه و أقرب منه فإنّه كان يفيد أنّ إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أنّ الإطاعتين واحدة، و ما كلّ تكرار يفيد التأكيد.

و أمّا اُولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، و إنّما شأنهم الرأي الّذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لمّا ذكر وجوب الردّ و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خصّ الله و الرسول فقال:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) ، و ذلك أنّ المخاطبين بهذا الردّ هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع اُولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضيّة المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامّة لمن يرجع

٤١٤

إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبيّنة المقرّرة في الكتاب و السنّة، و الكتاب و السنّة حجّتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول اُولي الأمر في أنّ الكتاب و السنّة يحكمان بكذا أيضاً حجّة قاطعة فإنّ الآية تقرّر افتراض الطاعة من غير أيّ قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنّة.

و من هنا يظهر أن ليس لاُولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكماً جديداً، و لا أن ينسخوا حكماً ثابتاً في الكتاب و السنّة، و إلّا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب و السنّة و الردّ إلى الله و الرسول معنى على ما يدلّ عليه قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى الله وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ الله وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً ) الأحزاب: ٣٦، فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إمّا ذلك و إمّا الأعمّ، و إنّما الّذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا و الموضوعات العامّة.

و بالجملة لما لم يكن لاُولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، و لا عندهم إلّا ما لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنّة لم يذكرهم الله سبحانه ثانياً عند ذكر الردّ بقوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) ، فللّه تعالى إطاعة واحدة، و للرسول و اُولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ هذه الإطاعة المأمور بها في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) ، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيّدة بقيد و هو الدليل على أنّ الرسول لا يأمر بشي‏ء، و لا ينهى عن شي‏ء يخالف حكم الله في الواقعة و إلّا كان فرض طاعته تناقضاً منه تعالى و تقدّس و لا يتمّ ذلك إلّا بعصمة فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و هذا الكلام بعينه جار في اُولي الأمر غير أنّ وجود قوّة العصمة في الرسول لمّا قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حدّ نفسه من غير جهة هذه الآية دون اُولي الأمر ظاهراً أمكن أن يتوهّم متوهّم أنّ اُولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة و لا يتوقّف عليها الآية في استقامة معناها.

٤١٥

بيان ذلك أنّ الّذي تقرّره الآية حكم مجعول لمصلحة الاُمّة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرّب الخلاف و التشتّت فيهم و شقّ عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الاُمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم يعلمون أنّه ربّما يعصي و ربّما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، و ينبّه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطأه ينفذ حكمه و إن كان مخطئاً في الواقع و لا يبالي بخطإه فإنّ مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرّز من تشتّت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات.

و هذا حال اُولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنّة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ حكمهم‏ لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيّد إطلاق الآية، و أمّا الخطأ و الغلط فإن علم به ردّ إلى الحقّ و هو حكم الكتاب و السنّة، و إن احتمل خطأه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأنّ مصلحة حفظ الوحدة في الاُمّة و بقاء السودد و الاُبّهة تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرّر في اُصول الفقه من حجّيّة الطرق الظاهريّة مع بقاء الأحكام الواقعيّة على حالها، و عند مخالفة مؤدّاها للواقع تتدارك المفسدة اللّازمة بمصلحة الطريق.

و بالجملة طاعة اُولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطؤوا ردّوا إلى الكتاب و السنّة إن علم منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظاً لوحدة الكلمة.

و أنت بالتأمّل فيما قدّمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصله، و ذلك أنّ هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) و ما يؤدّي هذا المعنى

٤١٦

من الآيات القرآنيّة كقوله:( إِنَّ الله لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨، و ما في هذا المعنى من الآيات.

و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعاً نظير هذه الحجّيّة الظاهريّة المذكورة كفرض طاعة اُمراء السرايا الّذين كان ينصبهم عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كذا الحكام الّذين كان يولّيهم على البلاد كمكّة و اليمن أو يخلّفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجّيّة قول المجتهد على مقلّده و هكذا لكنّه لا يوجب تقيّد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولاً عليها بظاهر آية قرآنيّة أمر آخر.

فالآية تدلّ على افتراض طاعة اُولي الأمر هؤلاء، و لم تقيّده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنيّة ما يقيّد الآية في مدلولها حتّى يعود معنى قوله( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) إلى مثل قولنا: و أطيعوا اُولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوّموهم بالردّ إلى الكتاب و السنّة فما هذا معنى قوله:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) .

مع أنّ الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حسناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) الآية: العنكبوت: ٨، فما باله لم يظهر شيئاً من هذه القيود في آية تشتمل على اُسّ أساس الدين، و إليها تنتهي عامّة أعراق السعادة الإنسانيّة.

على أنّ الآية جمع فيها بين الرسول و اُولي الأمر، و ذكر لهما معاً طاعة واحدة فقال:( وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شي‏ء من ذلك على اُولي الأمر لم يسع إلّا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أيّ تقييد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب اُولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير فرق.

ثمّ إنّ المراد بالأمر في اُولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين

٤١٧

بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيّده قوله تعالى:( وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ) آل عمران: ١٥٩، و قوله في مدح المتّقين:( وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ ) الشورى: ٣٨، و إن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنّه بعيد.

و قد قيد بقوله:( مِنْكُمْ ) و ظاهره كونه ظرفاً مستقرّاً أي اُولي الأمر كائنين منكم و هو نظير قوله تعالى:( هُوَ الّذي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ) الجمعة: ٢، و قوله في دعوة إبراهيم:( ربّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ ) البقرة: ١٢٩، و قوله:( رُسُلٌ مِنْكُمْ يقصّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ) الأعراف: ٣٥، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أنّ تقييد اُولي الأمر بقوله:( مِنْكُمْ ) يدلّ على أنّ الواحد منهم إنسان عاديّ مثلنا و هم منّا و نحن مؤمنون من غير مزيّة عصمة إلهيّة.

ثمّ إنّ اُولي الأمر لمّا كان اسم جمع يدلّ على كثرة جمعيّة في هؤلاء المسمّين باُولي الأمر فهذا لا شكّ فيه لكن يحتمل في بادئ النظر أن يكونوا آحاداً يلي الأمر و يتلبّس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللّفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صلّ فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك.

و من عجيب الكلام ما ذكره الرازيّ: أنّ هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أنّ هذا استعمال شائع في اللّغة، و القرآن ملي‏ء به كقوله تعالى:( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ) القلم: ٨، و قوله:( فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ ) الفرقان: ٥٢، و قوله:( إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا ) الأحزاب: ٦٧، و قوله:( وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) الشعراء: ١٥١، و قوله:( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ ) البقرة: ٢٣٨، و قوله:( وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: ٨٨، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء.

و الّذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحلّ إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و هكذا.

٤١٨

و يحتمل أيضاً أن يكون المراد باُولي الأمر - هؤلاء الّذين هم متعلّق افتراض الطاعة - الجمع من حيث هو جمع أي إلهيئة الحاصلة من عدّة معدودة كلّ واحد منهم من اُولي الأمر، و هو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في اُمورهم كرؤساء الجنود و السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحلّ و العقد الّذين تثق بهم الاُمّة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح العامّة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمّال و الأحزاب، و مديرو الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون اُولي الأمر هم أهل الحلّ و العقد، و هم إلهيّئة الاجتماعيّة من وجوه الاُمّة لكنّ الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.

الآية دالّة - كما عرفت - على عصمة اُولي الأمر و قد اضطرّ إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسّرين.

فهل المتّصف بهذه العصمة أفراد هذه إلهيئة فيكون كلّ واحد واحد منهم معصوماً فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلّا الآحاد؟ لكن من البديهيّ أن لم يمرّ بهذه الاُمّة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحلّ و العقد كلّهم معصومون على إنفاذ أمر من اُمور الاُمّة و من المحال أن يأمر الله بشي‏ء لا مصداق له في الخارج، أو أنّ هذه العصمة - و هي صفة حقيقيّة - قائمة بتلك إلهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الّذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون داعياً إلى الضلال و المعصية بخلاف ما إذا رأته إلهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضاً محال و كيف يتصوّر اتّصاف موضوع اعتباريّ بصفة حقيقيّة أعني اتّصاف إلهيئة الاجتماعيّة بالعصمة.

أو أنّ عصمة هذه إلهيئة ليست وصفاً لأفرادها و لا لنفس إلهيئة بل حقيقته أنّ الله يصون هذه إلهيّئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأياً فتخطئ فيه، كما أنّ الخبر المتواتر مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكلّ واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعيّة بل حقيقته أنّ العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة

٤١٩

اُخرى هو تعالى يصون الخبر الّذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرّب الكذب عليه، فيكون رأي اُولي الأمر ممّا لا يقع فيه الخطأ البتّة و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متّصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن هذا معنى العصمة في اُولي الأمر، و الآية لا تدلّ على أزيد من أنّ رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنّة، و هو من عناية الله على الاُمّة، و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تجتمع اُمّتي على خطإ.

أمّا الرواية فهي أجنبيّة عن المورد فإنّها إن صحّت فإنّما تنفي اجتماع الاُمّة على خطإ، و لا تنفي اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم على خطإ، و للاُمّة معنى و لأهل الحلّ و العقد معنى آخر، و لا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأوّل، و كذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الاُمّة بل تنفي الاجتماع على خطإ، و بينهما فرق.

و يعود معنى الرواية إلى أنّ الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الاُمّة بل يكون دائماً فيهم من هو على الحقّ: أمّا كلّهم أو بعضهم و لو معصوم واحد، فيوافق ما دلّ من الآيات و الروايات على أنّ دين الإسلام و ملّة الحقّ لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة، قال تعالى:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) الأنعام:٨٩، و قوله:( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الزخرف: ٢٨، و قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) الحجر: ٩، و قوله:( وَ أنّه لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) فصّلت: ٤٢، إلى غير ذلك من الآيات.

و ليس يختصّ هذا باُمّة محمّد بل الصحيح من الروايات تدلّ على خلافه، و هي الروايات الواردة من طرق شتّى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدالّة على افتراق اليهود على إحدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة كلّهم هالك إلّا واحدة، و قد نقلنا الرواية في المبحث الروائيّ الموضوع في ذيل قوله تعالى:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جميعاً ) آل عمران: ١٠٣.

و بالجملة لا كلام على متن الرواية إن صحّ سندها فإنّها أجنبيّة عن مورد الكلام،

٤٢٠