الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 115629
تحميل: 4838


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 115629 / تحميل: 4838
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة القصص مكّيّة و هي ثمان و ثمانون آية)

( سورة القصص الآيات 1 – 14)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ طسم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) نَتْلُو عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 3 ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ  إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 4 ) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ( 5 ) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ ( 6 ) وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ  فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي  إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ( 7 ) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا  إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ( 8 ) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ  لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 9 ) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا  إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 10 ) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ  فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 11 ) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ

٢

لَهُ نَاصِحُونَ ( 12 ) فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( 13 ) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا  وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 14 )

( بيان)

غرض السورة الوعد الجميل للمؤمنين و هم بمكّة قبل الهجرة شرذمة قليلون يستضعفهم فراعنة قريش و طغاتها و اليوم يوم شدّة و عسرة و فتنة بأنّ الله سيمنّ عليهم و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين و يمكّن لهم و يرى طغاة قومهم منهم ما كانوا يحذرون يقصّ تعالى للمؤمنين من قصّة موسى و فرعون أنّه خلق موسى في حين كان فرعون في أوج قدرته يستضعف بني إسرائيل يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم فربّاه في حجر عدوّ، حتّى إذا استوى و بلغ أشدّه نجّاه و أخرجه من بينهم إلى مدين ثمّ ردّه إليهم رسولاً منه بسلطان مبين حتّى إذا أغرق فرعون و جنوده أجمعين و جعل بني إسرائيل هم الوارثين و أنزل التوراة على موسى هدى و بصائر للمؤمنين.

و على هذا المجرى يجري حال المؤمنين و فيه وعدٌ لهم بالملك و العزّة و السلطان و وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردّه إلى معاد.

و انتقل من القصّة إلى بيان أنّ من الواجب في حكمة الله أن ينزّل كتاباً من عنده للدعوة الحقّة ثمّ ذكر طعنهم في دعوة القرآن بقولهم: لو لا اُوتي مثل ما اُوتي موسى و الجواب عنه، و تعلّلهم عن الإيمان بقولهم: إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا و الجواب عنه و فيه التمثّل بقصّة قارون و خسفه.

و السورة مكّيّة كما يشهد بذلك سياق آياتها، و ما أوردناه من الآيات فصل من قصّة موسى و فرعون من يوم ولد موسى إلى بلوغه أشدّه.

قوله تعالى: ( طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره.

٣

قوله تعالى: ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى‏ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( مِنْ ) للتبعيض و( بِالْحَقِّ ) متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو تلاوة متلبّسة بالحقّ فهو من عندنا و بوحي منّا من غير أن يداخل في إلقائه الشياطين، و يمكن أن يكون متعلّقاً بنبإ أي حال كون النبإ الّذي نتلوه عليك متلبّساً بالحقّ لا مرية فيه.

و قوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) اللّام فيه للتعليل و هو متعلّق بقوله:( نَتْلُوا ) أي نتلو عليك من نبإهما لأجل قوم يؤمنون بآياتنا.

و محصّل المعنى: نتلو عليك بعض نبإ موسى و فرعون تلاوة بالحقّ لأجل أن يتدبّر فيه هؤلاء الّذين يؤمنون بآياتنا ممّن اتّبعوك و هم طائفة أذلّاء مستضعفون في أيدي فراعنة قريش و طغاة قومهم فيتحقّقوا أنّ الله الّذي آمنوا به و برسوله و تحمّلوا كلّ أذى في سبيله هو الله الّذي أنشأ موسىعليه‌السلام لإحياء الحقّ و إنجاء بني إسرائيل و إعزازهم بعد ذلّتهم هاتيك الذلّة يذبّح أبناءهم و يستحيي نساءهم و قد علا فرعون و أنشب فيهم مخالب قهره و أحاط بهم بجوره.

أنشأه و الجوّ ذلك الجوّ المظلم الّذي لا مطمع فيه فربّاه في حجر عدوّه ثمّ أخرجه من مصر ثمّ أعاده إليهم بسلطان فأنجا به بني إسرائيل و أفنى بيده فرعون و جنوده و جعلهم أحاديث و أحلاما.

فهو الله جلّ شأنه يقصّ على نبيّه قصّتهم و يرمز له و لهم بقوله:( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) أنّه سيفعل بهؤلاء مثل ما فعل باُولئك و يمنّ على هؤلاء المستضعفين و يجعلهم أئمّة و يجعلهم الوارثين حذو ما صنع ببني إسرائيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ ) إلخ، العلوّ في الأرض كناية عن التجبّر و الاستكبار، و الشيع جمع شيعة و هي الفرقة، قال في المجمع: الشيع: الفرق و كلّ فرقة شيعة و سمّوا بذلك لأنّ بعضهم يتابع بعضاً. انتهى. و كأنّ المراد بجعل أهل الأرض - و كأنّهم أهل مصر و اللّام للعهد - فرقاً إلقاء الاختلاف بينهم لئلّا يتّفق كلمتهم فيثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور على ما هو من دأب الملوك في بسط القدرة و تقوية السلطة، و استحياء النساء إبقاء حياتهنّ.

٤

و محصّل المعنى: أنّ فرعون علا في الأرض و تفوّق فيها ببسط السلطة على الناس و إنفاذ القدرة فيهم و جعل أهلها شيعاً و فرقاً مختلفة لا تجتمع كلمتهم على شي‏ء و بذلك ضعّف عامّة قوّتهم على المقاومة دون قوّته و الامتناع من نفوذ إرادته.

و هو يستضعف طائفة منهم و هم بنو إسرائيل و هم أولاد يعقوبعليه‌السلام و قد قطنوا بمصر منذ أحضر يوسفعليه‌السلام أباه و إخوته و أشخصهم هناك فسكنوها و تناسلوا بها حتّى بلغوا الاُلوف.

و كان فرعون هذا و هو ملك مصر المعاصر لموسىعليه‌السلام يعاملهم معاملة الاُسراء الأرقّاء و يزيد في تضعيفهم حتّى بلغ من استضعافه لهم أن أمر بتذبيح أبنائهم و استبقاء نسائهم و كان فيه إفناء رجالهم بقتل الأبناء الذكور و فيه فناء القوم.

و السبب في ذلك أنّه كان من المفسدين في الأرض فإنّ الخلقة العامّة الّتي أوجدت الإنسان لم يفرّق في بسط الوجود بين شعب و شعب من الشعوب الإنسانيّة ثمّ جهّز الكلّ بما يهديهم إلى حياة اجتماعيّة بالتمتّع من أمتعة الحياة الأرضيّة و لكلّ ما يعادل قيمته في المجتمع و ما يساوي زنته في التعاون.

هذا هو الإصلاح الّذي يهتف به الصنع و الإيجاد، و التعدّي عن ذلك بتحرير قوم و تعبيد آخرين و تمتيع شعب بما لا يستحقّونه و تحريم غيرهم ما يصلحون له هو الإفساد الّذي يسوق الإنسانيّة إلى البيد و الهلاك.

و في الآية تصوير الظرف الّذي ولد فيه موسىعليه‌السلام و قد أحدقت الأسباب المبيدة لبني إسرائيل على إفنائه.

قوله تعالى: ( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ - إلى قوله -ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) الأصل في معنى المنّ - على ما يستفاد من كلام الراغب - الثقل و منه تسمية ما يوزن به منّا، و المنّة النعمة الثقيلة و منّ عليه منّا أي أثقله بالنعمة. قال: و يقال ذلك على وجهين أحدهما بالفعل كقوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ) أي نعطيهم من النعمة ما يثقلهم و الثاني بالقول كقوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) و هو مستقبح إلّا عند كفران النعمة. انتهى ملخصّاً.

٥

و تمكينهم في الأرض إعطاؤهم فيها مكاناً يملكونه و يستقرّون فيه، و عن الخليل أنّ المكان مفعل من الكون و لكثرته في الكلام اُجري مجرى فعال. فقيل: تمكن و تمسكن نحو تمنزل انتهى.

و قوله:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ) إلخ الأنسب أن يكون حالاً من( طائِفَةً ) و التقدير يستضعف طائفة منهم و نحن نريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا إلخ و قيل: معطوف على قوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) و الأوّل أظهر، و( نُرِيدُ ) على أيّ حال لحكاية الحال الماضية.

و قوله:( وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) عطف تفسير على قوله:( نَمُنَّ ) و كذا ما بعده من الجمل المتعاقبة.

و المعنى: أنّ الظرف كان ظرف علوّ فرعون، و تفريقه بين الناس و استضعافه لبني إسرائيل استضعافاً يبيدهم و يفنيهم و الحال أنّا نريد أن ننعم على هؤلاء الّذين استضعفوا من كلّ وجه نعمة تثقلهم و ذلك بأن نجعلهم أئمّة يقتدى بهم فيكونوا متبوعين بعد ما كانوا تابعين، و نجعلهم الوارثين لها بعد ما كانت بيد غيرهم و نمكّن لهم في الأرض بأن نجعل لهم مكاناً يستقرّون فيه و يملكونه بعد ما لم يكن لهم من المكان إلّا ما أراد غيرهم أن يبوّئهم فيه و يقرّهم عليه، و نري فرعون و هو ملك مصر و هامان و هو وزيره و جنودهما منهم أي من هؤلاء الّذين استضعفوا ما كانوا يحذرون و هو أن يظهروا عليهم فيذهبوا بملكهم و مالهم و سنّتهم كما قالوا في موسى و أخيه لمّا اُرسلاً إليهم:( يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) طه: 63.

و الآية تصوّر ما في باطن هذا الظرف الهائل الّذي قضى على بني إسرائيل أن لا يعيش منهم متنفّس و لا يبقى منهم نافخ نار و قد أحاطت بهم قدرة فرعون الطاغية و ملأ أقطار وجودهم رعبه و هو يستضعفهم حتّى يقضي عليهم بالبيد هذا ظاهر الأمر و في باطنه الإرادة الإلهيّة تعلّقت بأن تنجيهم منهم و تحوّل ثقل النعمة من آل فرعون الأقوياء العالين إلى بني إسرائيل الأذلّاء المستضعفين و تبدّل من الأسباب ما كان على بني إسرائيل لهم و ما كان لآل فرعون عليهم و الله يحكم لا معقّب لحكمه.

٦

قوله تعالى: ( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) إلى آخر الآية، الإيحاء هو التكليم الخفيّ و يستعمل في القرآن في تكليمه تعالى بعض خلقه بنحو الإلهام و الإلقاء في القلب كما في قوله:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: 5 و قوله:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) النحل: 68 و قوله في اُمّ موسى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) الآية أو بنحو آخر كما في الأنبياء و الرسل، و في غيره تعالى كما في قوله:( إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى‏ أَوْلِيائِهِمْ ) الأنعام: 121، و الإلقاء الطرح، و اليمّ البحر و النهر الكبير.

و قوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير و حبلت اُمّ موسى به - و الحال هذه الحال من الشدّة و الحدّة - و وضعته و أوحينا إليها إلخ.

و المعنى: و قلنا بنوع من الإلهام لاُمّ موسى لمّا وضعته: أرضعيه ما دمت لا تخافين عليه من قبل فرعون فإذا خفت عليه - أن يطّلع عليه آل فرعون فيأخذوه و يقتلوه - فألقيه في البحر و هو النيل على ما وردت به الرواية و لا تخافي عليه القتل و لا تحزني لفقده و مفارقته إيّاك إنّا رادّوه إليك بعد ذلك و جاعلوه من المرسلين فيكون رسولاً إلى آل فرعون و بني إسرائيل.

فقوله:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) تعليل للنهي في قوله:( وَ لا تَحْزَنِي ) كما يشهد به أيضاً قوله بعد:( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ ) و الفرق بين الخوف و الحزن بحسب المورد أنّ الخوف إنّما يكون في مكروه محتمل الوقوع و الحزن في مكروه قطعيّ الوقوف.

قوله تعالى: ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) الالتقاط أصابه الشي‏ء و أخذه من غير طلب، و منه اللقطة و اللّام في قوله:( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً ) للعاقبة - على ما قيل - و الحزن بفتحتين و الحزن بالضمّ فالسكون بمعنى واحد كالسقم و السقم، و المراد بالحزن سبب الحزن فإطلاق الحزن عليه مبالغة في سببيّته لحزنهم.

و الخاطئين اسم فاعل من خطئ يخطأ خطأً كعلم يعلم علما كما أنّ المخطئ

٧

اسم فاعل من أخطأ يخطئ إخطاءً، و الفرق بين الخاطئ و المخطئ - على ما ذكره الراغب - أنّ الخاطئ يطلق على من أراد فعلاً لا يحسنه ففعله قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) ، و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) ، و المخطئ يستعمل فيمن أراد فعلاً يحسنه فوقع منه غيره و اسم مصدره الخطأ بفتحتين، قال تعالى:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً ) النساء: 92 و المعنى الجامع هو العدول عن الجهة. انتهى ملخّصاً.

فقوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) أي فيما كانوا يفعلونه في أبناء بني إسرائيل و موسى تحذّرا من انهدام ملكهم و ذهاب سلطانهم بيدهم إرادة لتغيير المقادير عن مجاريها فقتلوا الجمّ الغفير من الأبناء و لا شأن لهم في ذلك و تركوا موسى حيث التقطوه و ربّوه في حجورهم و كان هو الّذي بيده انقراض دولتهم و زوال ملكهم.

و المعنى: فأصابه آل فرعون و أخذوه من اليمّ و كان غاية ذلك أن يكون لهم عدوّاً و سبب حزن إنّ فرعون و هامان و جنودهما كانوا خاطئين في قتل الأبناء و ترك موسى: أرادوا أن يقضوا على من سيقضي عليهم فعادوا يجتهدون في حفظه و يجدّون في تربيته.

و بذلك يظهر أنّ تفسير بعضهم كونهم خاطئين بأنّهم كانوا مذنبين فعاقبهم الله أن ربّي عدوّهم على أيديهم ليس بسديد.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) شفاعة من امرأة فرعون و قد كانت عنده حينما جاؤا إليه بموسى - و هو طفل ملتقط من اليمّ - تخاطب فرعون بقوله:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ ) أي هو قرّة عين لنا( لا تَقْتُلُوهُ ) و إنّما خاطب بالجمع لأنّ شركاء القتل كانوا كثيرين من سبب و مباشر و آمر و مأمور.

و إنّما قالت ما قالت لأنّ الله سبحانه ألقى محبّة منه في قلبها فعادت لا تملك نفسها دون أن تدفع عنه القتل و تضمّه إليها، قال تعالى فيما يمنّ به على موسىعليه‌السلام :( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي ) طه: 39.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) قالته لمّا رأت في وجهه من آثار الجلال

٨

و سيماء الجذبة الإلهيّة، و في قولها:( أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) دلالة على أنّهما كانا فاقدين للإبن.

و قوله:( وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) جملة حاليّة أي قالت ما قالت و شفعت له و صرفت عنه القتل و القوم لا يشعرون ما ذا يفعلون و ما هي حقيقة الحال و ما عاقبته؟

قوله تعالى: ( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى‏ قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الإبداء بالشي‏ء إظهاره، و الربط على الشي‏ء شدّة و هو كناية عن التثبيت.

و المراد بفراغ فؤاد اُمّ موسى فراغه و خلوّة من الخوف و الحزن و كان لازم ذلك أن لا يتوارد عليه خواطر مشوّشة و أوهام متضاربة يضطرب بها القلب فيأخذها الجزع فتبدي ما كان عليها أن تخفيه من أمر ولدها.

و ذلك أنّ ظاهر السياق أنّ سبب عدم إبدائها له فراغ قلبها و سبب فراغ قلبها الربط على قلبها و سبب الربط هو قوله تعالى لها فيما أوحى إليها:( لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) إلخ.

و قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا ) إلخ،( إِنْ ) مخفّفة من الثقيلة أي إنّها قربت من أن تظهر الأمر و تفشي السرّ لو لا أن ثبّتنا قلبها بالربط عليه، و قوله:( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي الواثقين بالله في حفظه فتصبر و لا تجزع عليه فلا يبدو أمره.

و المجموع أعني قوله:( إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) إلى آخر الآية في مقام البيان لقوله:( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) و محصّل معنى الآية و صار قلب اُمّ موسى بسبب وحينا خالياً من الخوف و الحزن المؤدّيين إلى إظهار الأمر، لو لا أن ثبّتنا قلبها بسبب الوحي لتكون واثقة بحفظ الله له لقربت من أن تظهر أمره لهم بالجزع عليه.

و بما تقدّم يظهر ضعف بعض ما قيل في تفسير جمل الآية كقول بعضهم في( وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى‏ فارِغاً ) أي صفراً من العقل لما دهمها من الخوف و الحيرة حين سمعت بوقوع الطفل في يد فرعون، و قول آخرين: أي فارغاً من الوحي الّذي اُوحي إليها بالنسيان، و ما قيل: أي فارغاً من كلّ شي‏ء إلّا ذكر موسى أي صار فارغاً له. فإنّها

٩

جميعاً وجوه لا يحتمل شيئاً منها السياق.

و نظير ذلك في الضعف قولهم: إنّ جواب لو لا محذوف و التقدير لو لا أن ربطنا على قلبها لأبدته و أظهرته، و الوجه في تقديرهم ذلك ما قيل: إنّ لو لا شبيهه بأدوات الشرط فلها الصدر و لا يتقدّم جوابها عليها. و قد تقدّمت المناقشة فيه في الكلام على قوله تعالى:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) يوسف: 24.

قوله تعالى: ( وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) قال في المجمع: القصّ اتّباع الأثر و منه القصص في الحديث لأنّه يتّبع فيه الثاني الأوّل. و قال: و معنى بصرت به عن جنب أبصرته عن جنابة أي عن بعد. انتهى.

و المعنى: و قالت اُمّ موسى لاُخته اتّبعي أثر موسى حتّى ترين إلام يؤل أمره فرأته عن بعد و قد أخذه خدم فرعون و هم لا يشعرون بأنّها تقصّه و تراقبه.

قوله تعالى: ( وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) التحريم في الآية تكوينيّ لا تشريعيّ و معناه جعله بحيث لا يقبل ثدي مرضع و يمتنع من ارتضاعها.

و قوله:( مِنْ قَبْلُ ) أي من قبل حضورها هناك و مجيئها إليهم و المراضع جمع مرضعة كما قيل.

و قوله:( فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) تفريع على ما تقدّمه غير أنّ السياق يدلّ على أنّ هناك حذفاً كأنّه قيل: و حرّمنا عليه المراضع غير اُمّه من قبل أن تجي‏ء اُخته فكلّما أتوا له بمرضع لترضعه لم يقبل ثديها فلمّا جاءت اُخته و رأت الحال قالت عند ذلك لآل فرعون: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لنفعكم و هم له ناصحون.

قوله تعالى: ( فَرَدَدْناهُ إِلى‏ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) تفريع على ما تقدّمه مع تقدير مّا يدلّ عليه السياق، و المحصّل أنّها قالت: هل أدلّكم على أهل بيت كذا فأنعموا لها بالقبول فدلّتهم على اُمّه فسلّموه إليها فرددناه إلى اُمّه بنظم هذه الأسباب.

١٠

و قوله:( كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ ) إلخ، تعليل للردّ و المراد بالعلم هو اليقين بالمشاهدة فإنّها كانت تعلم من قبلُ أنّ وعد الله حقّ و كانت مؤمنة و إنّما اُريد بالردّ أن توقن بالمشاهدة أنّ وعد الله حقّ.

و المراد بوعد الله مطلق الوعد الإلهيّ بدليل قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أي لا يوقنون بذلك و يرتابون في مواعده تعالى و لا تطمئنّ إليها نفوسهم، و محصّله أن توقع بمشاهدة حقيّة هذا الّذي وعدها الله به أنّ مطلق وعده تعالى حقّ.

و ربّما يقال: إنّ المراد بوعد الله خصوص الوعد المذكور في الآية السابقة:( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) و لا يلائمه قوله بعد:( وَ لكِنَّ ) إلخ على ما تقدّم.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) بلوغ الأشدّ أن يعمّر الإنسان ما تشتدّ عند ذلك قواه و يكون في الغالب في الثمان عشرة، و الاستواء الاعتدال و الاستقرار فالاستواء في الحياة استقرار الإنسان في أمر حياته و يختلف في الأفراد و هو على الأغلب بعد بلوغ الأشدّ، و قد تقدّم الكلام في معنى الحكم و العلم و إيتائهما و معنى الإحسان في مواضع من الكتاب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ) قال: يوسف و ولده.

أقول: لعلّ المراد بنو إسرائيل، و إلّا فظهور الآية في خلافه غير خفيّ.

و في معاني الأخبار، بإسناده عن محمّد بن سنان عن المفضّل بن عمر قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظر إلى عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام فبكى و قال: أنتم المستضعفون بعدي. قال المفضّل: فقلت له: ما معنى ذلك؟ قال: معناه أنّكم الأئمّة بعدي إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

١١

الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة.

أقول: و الروايات من طرق الشيعة في كون الآية في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة و بهذه الرواية يظهر أنّها جميعاً من قبيل الجري و الانطباق.

و في نهج البلاغة: لتعطفنّ الدنيا عليا بعد شماسها عطف الضروس على ولدها و تلا عقيب ذلك( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى) إلى آخر الآية: حدّثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّه لمّا حملت به اُمّه لم يظهر حملها إلّا عند وضعها له و كان فرعون قد وكّل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهنّ و ذلك أنّه كان لمّا بلغه عن بني إسرائيل أنّهم يقولون: إنّه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده فقال فرعون عند ذلك: لأقتلنّ ذكور أولادهم حتّى لا يكون ما يريدون و فرّق بين الرجال و النساء و حبس الرجال في المحابس.

فلمّا وضعت اُمّ موسى بموسى نظرت إليه و حزنت عليه و اغتمّت و بكت و قالت: يذبح الساعة فعطف الله عزّوجلّ قلب الموكّلة بها عليه فقالت لاُمّ موسى: ما لك قد اصفرّ لونك؟ فقالت أخاف أن يذبح ولدي فقالت: لا تخافي و كان موسى لا يراه أحد إلّا أحبّه و هو قول الله:( وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) .

فأحبّته القبطيّة الموكّلة بها و أنزل الله على اُمّ موسى التابوت، و نوديت ضعيه في التابوت فألقيه في اليمّ و هو البحر( وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) فوضعته في التابوت و أطبقته عليه و ألقته في النيل.

و كان لفرعون قصر على شطّ النيل متنزّه فنظر من قصره - و معه آسية امرأته - إلى سواد في النيل ترفعه الأمواج و الرياح تضربه حتّى جاءت به إلى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فاُخذ التابوت و رفع إليه فلمّا فتحه وجد فيه صبيّاً فقال: هذا إسرائيليّ فألقى الله في قلب فرعون محبّة شديدة و كذلك في قلب آسية.

١٢

و أراد فرعون أن يقتله فقالت آسية:( لا تَقْتُلُوهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أنّه موسى.

و في المجمع: في قوله تعالى:( قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ ) إلخ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الّذي يحلف به لو أقرّ فرعون بأن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته لهداه الله به كما هداها و لكنّه أبى للشقاء الّذي كتبه الله عليه.

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن نعمان الأحول عن أبي عبد اللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى) قال: أشدّه ثمان عشرة سنة( وَ اسْتَوى) التحى.

١٣

( سورة القصص الآيات 15 - 21)

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ  فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ  قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ  إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( 15 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 16 ) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ( 17 ) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ  قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ( 18 ) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ  إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ( 19 ) وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20 ) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ  قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 21 )

( بيان)

فصل ثان من قصّة موسىعليه‌السلام فيه ذكر بعض ما وقع بعد بلوغه أشدّه فأدّى إلى خروجه من مصر و قصده مدين.

قوله تعالى: ( وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى‏ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) إلخ، لا ريب أنّ المدينة الّتي دخلها على حين غفلة من أهلها هي مصر، و أنّه كان يعيش عند فرعون،

١٤

و يستفاد من ذلك أنّ القصر الملكيّ الّذي كان يسكنه فرعون كان خارج المدينة و أنّه خرج منه و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، و يؤيّد ما ذكرنا ما سيأتي من قوله:( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) على ما سيجي‏ء من الاستظهار.

و حين الغفلة من أهل المدينة هو حين يدخل الناس بيوتهم فتتعطّل الأسواق و تخلو الشوارع و الأزقّة من المارّة كالظهيرة و أواسط الليل.

و قوله:( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ ) أي يتنازعان و يتضاربان، و قوله:( هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ ) حكاية حال تمثّل به الواقعة، و معناه: أنّ أحدهما كان إسرائيليّاً من متّبعيه في دينه - فإنّ بني إسرائيل كانوا ينتسبون يومئذ إلى آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوبعليهم‌السلام في دينهم و إن كان لم يبق لهم منه إلّا الاسم و كانوا يتظاهرون بعبادة فرعون - و الآخر قبطيّاً عدوّاً له لأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل، و من الشاهد أيضاً على كون هذا الرجل قبطيّاً قوله في موضع آخر يخاطب ربّه:( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء: 14.

و قوله:( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) الاستغاثة: الاستنصار من الغوث بمعنى النصرة أي طلب الإسرائيلي من موسى أن ينصره على عدوّه القبطيّ.

و قوله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ ) ضميراً( فَوَكَزَهُ ) و( عَلَيْهِ ) للّذي من عدوّه و الوكز - على ما ذكره الراغب و غيره - الطعن و الدفع و الضرب بجمع الكفّ، و القضاء هو الحكم و القضاء عليه كناية عن الفراغ من أمره بموته، و المعنى: فدفعه أو ضربه موسى بالوكز فمات، و كان قتل خطإ و لو لا ذلك لكان من حقّ الكلام أن يعبّر بالقتل.

و قوله:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) الإشارة بهذا إلى ما وقع بينهما من الاقتتال حتّى أدّى إلى موت القبطي و قد نسبه نوع نسبة إلى عمل الشيطان إذ قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) و( مِنْ ) ابتدائيّة تفيد معنى الجنس أو نشوئيّة، و المعنى: هذا الّذي وقع من المعاداة و الاقتتال من جنس العمل المنسوب إلى

١٥

الشيطان أو ناش من عمل الشيطان فإنّه هو الّذي أوقع العداوة و البغضاء بينهما و أغرى على الاقتتال حتّى أدّى ذلك إلى مداخلة موسى و قتل القبطي بيده فأوقعه ذلك في خطر عظيم و قد كان يعلم أنّ الواقعة لا تبقى خفيّة مكتومة و أنّ القبط سيثورون عليه و أشرافهم و ملاؤهم و على رأسهم فرعون سينتقمون منه و من كلّ من تسبّب إلى ذلك أشدّ الانتقام.

فعند ذلك تنبّهعليه‌السلام أنّه أخطأ فيما فعله من الوكز الّذي أورده مورد الهلكة و لا ينسب الوقوع في الخطإ إلى الله سبحانه لأنّه لا يهدي إلّا إلى الحقّ و الصواب فقضي أنّ ذلك منسوب إلى الشيطان.

و فعله ذاك و إن لم يكن معصية منه لوقوعه خطأ و كون دفاعه عن الإسرائيلي دفعاً لكافر ظالم، لكنّ الشيطان كما يوقع بوسوسته الإنسان في الإثم و المعصية كذلك يوقعه في أيّ مخالفة للصواب يقع بها في الكلفة و المشقّة كما أوقع آدم و زوجه فيما أوقع من أكل الشجرة المنهيّة فأدّى ذلك إلى خروجهما من الجنّة.

فقوله:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) انزجار منه عمّا وقع من الاقتتال المؤدّي إلى قتل القبطيّ و وقوعه في عظيم الخطر و ندم منه على ذلك، و قوله:( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) إشارة منه إلى أنّ فعله كان من الضلال المنسوب إلى الشيطان و إن لم يكن من المعصية الّتي فيها إثم و مؤاخذة بل خطأ محضاً لا ينسب إلى الله بل إلى الشيطان الّذي هو عدوّ مضلّ مبين، فكان ذلك منه نوعاً من سوء التدبير و ضلال السعي يسوقه إلى عاقبة وخيمة و لذا لمّا اعترض عليه فرعون بقوله:( وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ ) أجابه بقوله:( فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) الشعراء: 20.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) اعتراف منه عند ربّه بظلمه نفسه حيث أوردها مورد الخطر و ألقاها في التهلكة، و منه يظهر أنّ المراد بالمغفرة المسؤولة في قوله:( فَاغْفِرْ لِي ) هو إلغاء تبعة فعله و إنجاؤه من الغمّ و تخليصه من شرّ فرعون و ملإه، كما يظهر من قوله تعالى:( وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ ) طه: 40.

١٦

و هذا الاعتراف بالظلم و سؤال المغفرة نظير ما وقع من آدم و زوجه المحكيّ في قوله تعالى:( قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الأعراف: 23.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: الباء في قوله:( بِما أَنْعَمْتَ ) للسببيّة و المعنى ربّ بسبب ما أنعمت عليّ، لك عليّ أن لا أكون معيناً للمجرمين فيكون عهداً منه لله تعالى و قيل: الباء للقسم و الجواب محذوف و المعنى: اُقسم بما أنعمت عليّ لأتوبنّ أو لأمتنعنّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين، و قيل: القسم استعطافيّ و هو القسم الواقع في الإنشاء كقولك بالله زرني، و المعنى اُقسمك أن تعطف عليّ و تعصمني فلن أكون ظهيراً للمجرمين.

و الوجه الأوّل هو الأوجه لأنّ المراد بقوله:( بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) - على ما ذكروه - إمّا إنعامه تعالى عليه إذ حفظه و خلّصه من قتل فرعون و ردّه إلى اُمّه، و إمّا إنعامه عليه إذ قبل توبته من قتل القبطيّ و غفر له بناء على أنّه علم مغفرته تعالى بإلهام أو رؤيا أو نحوهما و كيف كان فهو إقسام بغيره تعالى، و المعنى اُقسم بحفظك إيّاي أو اُقسم بمغفرتك لي، و لم يعهد في كلامه تعالى حكاية قسم من غيره بغيره بهذا النحو.

و قوله:( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) قيل: المراد بالمجرم من أوقع غيره في الجرم أو من أدّت إعانته إلى جرم كالإسرائيليّ الّذي خاصمه القبطيّ فأوقعت إعانته موسى في جرم القتل فيكون في لفظ المجرمين مجاز في النسبة من حيث تسمية السبب الموقع في الجرم مجرماً.

و قيل: المراد بالمجرمين فرعون و قومه و المعنى: اُقسم بإنعامك عليّ لأتوبنّ فلن أكون معيناً لفرعون و قومه بصحبتهم و ملازمتهم و تكثير سوادهم كما كنت أفعله إلى هذا اليوم.

و ردّ هذا الوجه الثاني بأنّه لا يناسب المقام.

و الحقّ أنّ قوله:( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) عهد من

١٧

موسىعليه‌السلام أن لا يعين مجرماً على إجرامه شكراً لله تعالى على ما أنعم عليه، و المراد بالنعمة و قد اُطلقت إطلاقاً الولاية الإلهيّة على ما يشهد به قوله تعالى:( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ ) النساء: 69.

و هؤلاء أهل الصراط المستقيم مأمونون من الضلال و الغضب لقوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ ) الفاتحة: 7 و ترتّب الامتناع عن إعانة المجرمين على الإنعام بهذا المعنى ظاهر لا سترة عليه.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالمجرمين أمثال فرعون و قومه دون أمثال الإسرائيلي الّذي أعانه فلم يكن في إعانته جرم و لا كان وكز القبطيّ جرماً حتّى يتوبعليه‌السلام منه كيف؟ و هوعليه‌السلام من أهل الصراط المستقيم الّذين لا يضلّون بمعصيته، و قد نصّ تعالى على كونه من المخلصين الّذين لا سبيل للشيطان إليهم بالإغواء حيث قال:( إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا ) مريم: 51.

و قد نصّ تعالى أيضاً آنفاً بأنّه آتاه حكماً و علماً و أنّه من المحسنين و من المتيقّن من أمره أن لا تستخفّه عصبيّة قوميّة أو غضب في غير ما ينبغي أو إعانة و نصرة لمجرم في إجرامه.

و قد كرّر( قالَ ) ثلاثاً حيث قيل:( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) ( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) و ذلك لاختلاف السياق في الجمل الثلاث فالجملة الاُولى قضاء منه و حكم، و الجملة الثانية استغفار و دعاء، و الجملة الثالثة عهد و التزام.

قوله تعالى: ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى‏ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) تقييد( فَأَصْبَحَ ) بقوله:( فِي الْمَدِينَةِ ) دليل على أنّه بقي في المدينة و لم يرجع إلى قصر فرعون، و الاستصراخ الاستغاثة برفع الصوت من الصراخ بمعنى الصياح، و الغواية إخطاء الصواب خلاف الرشد.

و المعنى: فأصبح موسى في المدينة - و لم يرجع إلى بلاط فرعون - و الحال أنّه خائف من فرعون ينتظر الشرّ ففاجأه أنّ الإسرائيليّ الّذي استنصره على القبطيّ

١٨

بالأمس يستغيث به رافعاً صوته على قبطيّ آخر قال موسى للإسرائيليّ توبيخاً و تأنيباً: إنّك لغويّ مبين لا تسلك سبيل الرشد و الصواب لأنّه كان يخاصم و يقتتل قوماً ليس في مخاصمتهم و المقاومة عليهم إلّا الشرّ كلّ الشرّ.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلى آخر الآية، ذكر جلّ المفسّرين أنّ ضمير( قالَ ) للإسرائيلي الّذي كان يستصرخه و ذلك أنّه ظنّ أنّ موسى إنّما يريد أن يبطش به لمّا سمعه يعاتبه قبل بقوله:( إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) فهاله ما رأى من إرادته البطش فقال:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) إلخ، فعلم القبطيّ عند ذلك أنّ موسى هو الّذي قتل القبطيّ بالأمس فرجع إلى فرعون فأخبره الخبر فأتمروا بموسى و عزموا على قتله.

و ما ذكروه في محلّه لشهادة السياق بذلك فلا يعبوء بما قيل: إنّ القائل هو القبطيّ دون الإسرائيليّ، هذا و معنى باقي الآية ظاهر. و في قوله:( أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ) تعريض للتوراة الحاضرة حيث تذكر أنّ المتقاتلين هذين كانا جميعاً إسرائيليّين، و فيه أيضاً تأييد أنّ القائل:( يا مُوسى‏ أَ تُرِيدُ ) إلخ، الإسرائيلي دون القبطيّ لأنّ سياقه سياق اللّوم و الشكوى.

قوله تعالى: ( وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى‏ قالَ يا مُوسى‏ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ) إلخ، الائتمار المشاورة، و النصيحة خلاف الخيانة.

و الظاهر كون قوله:( مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ) قيداً لقوله:( جاءَ ) فسياق القصّة يعطي أنّ الائتمار كان عند فرعون و بأمر منه، و أنّ هذا الرجل جاء من هناك و قد كان قصر فرعون في أقصى المدينة و خارجها فأخبر موسى بما قصدوه من قتله و أشار عليه بالخروج من المدينة.

و هذا الاستئناس من الكلام يؤيّد ما تقدّم أنّ قصر فرعون الّذي كان يسكنه كان خارج المدينة، و معنى الآية ظاهر.

١٩

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) فيه تأييد أنّه ما كان يرى قتله القبطيّ خطأ جرماً لنفسه.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، قال: فلم يزل موسى عند فرعون في أكرم كرامة حتّى بلغ مبلغ الرجال و كان ينكر عليه ما يتكلّم به موسىعليه‌السلام من التوحيد حتّى همّ به فخرج موسى من عنده و دخل المدينة فإذا رجلان يقتتلان أحدهما يقول بقول موسى و الآخر يقول بقول فرعون فاستغاثه الّذي من شيعته فجاء موسى فوكز صاحب فرعون فقضى عليه و توارى في المدينة.

فلمّا كان الغد جاء آخر فتشبّث بذلك الرجل الّذي يقول بقول موسى فاستغاث بموسى فلمّا نظر صاحبه إلى موسى قال له:( أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ ) فخلّى عن صاحبه و هرب.

و في العيون، بإسناده إلى عليّ بن محمّد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضاعليه‌السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى. قال: فأخبرني عن قول الله:( فَوَكَزَهُ مُوسى‏ فَقَضى‏ عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) قال الرضاعليه‌السلام : إنّ موسىعليه‌السلام دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوّه فقضى على العدوّ بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات، قال:( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) يعني الاقتتال الّذي وقع بين الرجلين لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله( إِنَّهُ ) يعني الشيطان( عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

قال المأمون: فما معنى قول موسى:( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟ قال: يقول: وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم. قال موسى: ربّ بما أنعمت

٢٠