الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116601
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116601 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بيان)

يلوح من سياق آيات السورة و خاصّة ما في صدرها من الآيات أنّ بعضاً ممّن آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة رجع عنه خوفاً من فتنة كانت تهدّده من قبل المشركين فإنّ المشركين كانوا يدعونهم إلى العود إلى ملّتهم و يضمنون لهم أن يحملوا خطاياهم إن اتّبعوا سبيلهم فإن أبوا فتنوهم و عذّبوهم ليعيدوهم إلى ملّتهم.

يشير إلى ذلك قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) الآية، و قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) الآية.

و كأنّ في هؤلاء الراجعين عن إيمانهم من كان رجوعه بمجاهدة من والديه على أن يرجع و إلحاح منهما عليه في الارتداد كبعض أبناء المشركين على ما يستشمّ من قوله تعالى:( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) الآية، و قد نزلت السورة في شأن هؤلاء.

فغرض السورة على ما يستفاد من بدئها و ختامها و السياق الجاري فيها أنّ الّذي يريده الله سبحانه من الإيمان ليس هو مجرّد قولهم:( آمَنَّا بِاللهِ ) بل هو حقيقة الإيمان الّتي لا تحرّكها عواصف الفتن و لا تغيّرها غير الزمن و هي إنّما تتثبّت و تستقرّ بتوارد الفتن و تراكم المحن، فالناس غير متروكين بمجرّد أن يقولوا:( آمَنَّا بِاللهِ ) دون أن يفتنوا و يمتحنوا فيظهر ما في نفوسهم من حقيقة الإيمان أو وصمة الكفر فليعلمنّ الله الّذين صدقوا و يعلم الكاذبين.

فالفتنة و المحنة سنّة إلهيّة لا معدل عنها تجري في الناس الحاضرين كما جرت في الاُمم الماضين كقوم نوح و عاد ثمود و قوم إبراهيم و لوط و شعيب و موسى فاستقام منهم من استقام و هلك منهم من هلك و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

١٠١

فعلى من يقول: آمنت بالله أن يصبر على إيمانه و يعبد الله وحده فإن تعذّر عليه القيام بوظائف الدين فليهاجر إلى أرض يستطيع فيها ذلك فأرض الله واسعة و لا يخف عسر المعاش فإنّ الرزق على الله و كأيّن من دابّة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إيّاه.

و أمّا المشركون الّذين يفتنون المؤمنين من غير جرم أجرموه إلّا أن يقولوا ربّنا الله فلا يحسبوا أنّهم يعجزون الله و يسبقونه فأمّا فتنتهم للمؤمنين و إيذاؤهم و تعذيبهم فإنّما هي فتنة لهم و للمؤمنين غير خارجة عن علم الله و تقديره، فهي فتنة و هي محفوظة عليهم إن شاء أخذهم بوبالها في الدنيا و إن شاء أخّرهم إلى يوم يرجعون فيه إليه و ما لهم من محيص.

و أمّا ما لفّقوه من الحجّة و ركنوا إليه من باطل القول فهو داحض مردود إليهم و الحجّة قائمة تامّة عليهم.

فهذا محصّل غرض السورة و مقتضى ذلك كون السورة كلّها مكّيّة، و قول القائل: إنّها مدنيّة كلّها أو معظمها أو بعضها - و سيجي‏ء في البحث الروائيّ التالي - غير سديد، فمضامين آيات السورة لا تلائم إلّا زمن العسرة و الشدّة قبل الهجرة.

قوله تعالى: ( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) الحسبان هو الظنّ، و جملة( أَنْ يُتْرَكُوا ) قائمة مقام مفعوليه، و قوله:( أَنْ يَقُولُوا ) بتقدير باء السببيّة، و الفتنة الامتحان و ربّما تطلق على المصيبة و العذاب، و الأوفق للسياق هو المعنى الأوّل، و الاستفهام للإنكار.

و المعنى: أ ظنّ الناس أن يتركوا فلا يتعرّض لحالهم و لا يمتحنوا بما يظهر به صدقهم أو كذبهم في دعوى الإيمان بمجرّد قولهم: آمنّا؟

و قيل: المعنى: أ ظنّ الناس أن يتركوا فلا يبتلوا ببليّة و لا تصيبهم مصيبة لقولهم: آمنّا بأن تكون لهم على الله كرامة بسبب الإيمان يسلموا بها من كلّ مكروه يصيب الإنسان مدى حياته؟ و لا يخلو من بعد بالنظر إلى سياق الآيات.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ

١٠٢

الْكاذِبِينَ ) اللّامان للقسم، و قوله:( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) حال من الناس في قوله:( أَ حَسِبَ النَّاسُ ) أو من ضمير الجمع في قوله:( لا يُفْتَنُونَ ) و على الأوّل فالإنكار و التوبيخ متوجّه إلى ظنّهم أنّهم لا يفتنون مع جريان السنّة الإلهيّة على الفتنة و الامتحان و على الثاني إلى ظنّهم الاختلاف في فعله تعالى حيث يفتن قوماً و لا يفتن آخرين، و لعلّ الوجه الأوّل أوفق للسياق.

فالظاهر أنّ المراد بقوله:( وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) أنّ الفتنة و الامتحان سنّة جارية لنا و قد جرت في الّذين من قبلهم و هي جارية فيهم و لن تجد لسنّة الله تبديلاً.

و قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) إلخ تعليل لما قبله، و المراد بعلمه تعالى بالّذين صدقوا بالكاذبين ظهور آثار صدقهم و كذبهم في مقام العمل بسبب الفتنة و الامتحان الملازم لثبوت الإيمان في قلوبهم حقيقة و عدم ثبوته فيها حقيقة فإنّ السعادة الّتي تترتّب على الإيمان المدعوّ إليه و كذا الثواب إنّما تترتّب على حقيقة الإيمان الّذي له آثار ظاهرة من الصبر عند المكاره و الصبر على طاعة الله و الصبر عن معصية الله لا على دعوى الإيمان المجرّدة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم علمه تعالى الفعليّ الّذي هو نفس الأمر الخارجي فإنّ الاُمور الخارجيّة بنفسها من مراتب علمه تعالى، و أمّا علمه تعالى الذاتيّ فلا يتوقّف على الامتحان البتّة.

و المعنى: أ حسبوا أن يتركوا و لا يفتنوا بمجرّد دعوى الإيمان و إظهاره و الحال أنّ الفتنة سنّتنا و قد جرت في الّذين من قبلهم فمن الواجب أن يتميّز الصادقون من الكاذبين بظهور آثار صدق هؤلاء و آثار كذب اُولئك الملازم لاستقرار الإيمان في قلوب هؤلاء و زوال صورته الكاذبة عن قلوب اُولئك.

و الالتفات في قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ) إلى اسم الجلالة قيل: للتهويل و تربية المهابة و الظاهر أنّه في أمثال المقام لإفادة نوع من التعليل و ذلك أنّ الدعوة إلى الإيمان و الهداية إليه و الثواب عليه لمّا كانت راجعة إلى المسمّى بالله الّذي منه يبدأ كلّ شي‏ء و به يقوم كلّ شي‏ء و إليه ينتهي كلّ شي‏ء بحقيقته فمن الواجب أن يتميّز

١٠٣

عنده حقيقة الإيمان من دعواه الخالية و يخرج عن حال الإبهام إلى حال الصراحة و لذلك عدل عن مثل قولنا: فلنعلمنّ إلى قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ ) .

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) أم منقطعة، و المراد بقوله:( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) المشركون الّذين كانوا يفتنون المؤمنين و يصدّونهم عن سبيل الله كما أنّ المراد بالناس في قوله:( أَ حَسِبَ النَّاسُ ) هم الّذين قالوا: آمنّا و هم في معرض الرجوع عن الإيمان خوفاً من الفتنة و التعذيب.

و المراد بقوله:( أَنْ يَسْبِقُونا ) الغلبة و التعجيز بسبب فتنة المؤمنين و صدّهم عن سبيل الله على ما يعطيه السياق.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) تخطئة لظنّهم أنّهم يسبقون الله بما يمكرون من فتنة و صدّ فإنّ ذلك بعينه فتنة من الله لهم أنفسهم و صدّ لهم عن سبيل السعادة و لا يحيق المكر السيّئ إلّا بأهله.

و قيل: مفاد الآية توبيخ العصاة من المؤمنين و هم المراد بقوله:( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ) و المراد بالسيّئات المعاصي الّتي يقترفونها غير الشرك، و أنت خبير بأنّ السياق لا يساعد عليه.

و قيل: المراد بعمل السيّئات أعمّ من الشرك و اقتراف سائر المعاصي فالآية عامّة لا موجب لتخصيصها بخصوص الشرك أو بخصوص سائر المعاصي دون الشرك.

و فيه أنّ اعتبار الآية من حيث وقوعها في سياق خاصّ من السياقات أمر و اعتبارها مستقلّة في نفسها أمر آخر و الّذي يقتضيه الاعتبار الأوّل و هو العمدة بالنظر إلى غرض السورة هو ما قدّمناه من المعنى، و أمّا الاعتبار الثاني: فمقتضاه العموم و لا ضير فيه على ذلك التقدير.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إلى تمام ثلاث آيات. لمّا وبّخ سبحانه الناس على استهانتهم بأمر الإيمان و رجوعهم عنه بأيّ فتنة و إيذاء من المشركين و وبّخ المشركين على فتنتهم و إيذائهم المؤمنين و

١٠٤

صدّهم عن سبيل الله إرادة لإطفاء نور الله و تعجيزاً له فيما شاء و خطّأ الفريقين فيما ظنّوا.

رجع إلى بيان الحقّ الّذي لا معدل عنه و الواجب الّذي لا مخلص منه، فبيّن في هذه الآيات الثلاث أنّ من يؤمن بالله لتوقّع الرجوع إليه و لقائه فليعلم أنّه آت لا محالة و أنّ الله سميع لأقواله عليم بأحواله و أعماله فليأخذ حذره و ليؤمن حقّ الإيمان الّذي لا يصرفه عنه فتنة و لا إيذاء و ليجاهد في الله حقّ جهاده، و ليعلم أنّ الّذي ينتفع بجهاده هو نفسه و لا حاجة لله سبحانه إلى إيمانه و لا إلى غيره من العالمين و ليعلم أنّه إن آمن و عمل صالحاً فإنّ الله سيكفّر عنه سيّئاته و يجزيه بأحسن أعماله، و العلمان الأخيران يؤكّدان العلم الأوّل و يستوجبان لزومه الإيمان و صبره على الفتن و المحن في جنب الله.

فقوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) رجوع إلى بيان حال من يقول: آمنت فإنّه إنّما يؤمن لو صدق بعض الصدق لتوقّعه الرجوع إلى الله سبحانه يوم القيامة إذ لو لا المعاد لغي الدين من أصله، فالمراد بقوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) من كان يؤمن بالله أو من كان يقول: آمنت بالله، فالجملة من قبيل وضع السبب موضع المسبّب.

و المراد بلقاء الله وقوف العبد موقفاً لا حجاب بينه و بين ربّه كما هو الشأن يوم القيامة الّذي هو ظرف ظهور الحقائق، قال تعالى:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .

و قيل: المراد بلقاء الله هو البعث، و قيل: الوصول إلى العاقبة من لقاء ملك الموت و الحساب و الجزاء، و قيل: المراد ملاقاة جزاء الله من ثواب أو عقاب و قيل: ملاقاة حكمه يوم القيامة، و الرجاء على بعض هذه الوجوه بمعنى الخوف.

و هذه وجوه مجازيّة بعيدة لا موجب لها إلّا أن يكون من التفسير بلازم المعنى.

و قوله:( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) الأجل هو الغاية الّتي ينتهي إليها زمان الدين و نحوه و قد يطلق على مجموع ذلك الزمان و الغالب في استعماله هو المعنى الأوّل.

و( أَجَلَ اللهِ ) هو الغاية الّتي عيّنها الله تعالى للقائه، و هو آت لا ريب فيه و قد أكّد القول تأكيداً بالغاً، و لازم تحتّم إتيان هذا الأجل و هو يوم القيامة أن لا

١٠٥

يسامح في أمره و لا يستهان بأمر الإيمان بالله حقّ الإيمان و الصبر عليه عند الفتن و المحن من غير رجوع و ارتداد، و قد زاد في تأكيد القول بتذييله بقوله:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) إذ هو تعالى لمّا كان سميعاً لأقوالهم عليماً بأحوالهم فلا ينبغي أن يقول القائل: آمنت بالله إلّا عن ظهر القلب و مع الصبر على كلّ فتنة و محنة.

و من هنا يظهر أنّ ذيل الآية:( فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) إلخ، من قبيل وضع السبب موضع المسبّب كما كان صدرها:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) أيضاً كذلك، و الأصل من قال: آمنت بالله. فليقله مستقيماً صابراً عليه مجاهداً في ربّه.

و قوله:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) المجاهدة و الجهاد مبالغة من الجهد بمعنى بذل الطاقة، و فيه تنبيه لهم أنّ مجاهدتهم في الله بلزوم الإيمان و الصبر على المكاره دونه ليست ممّا يعود نفعه إلى الله سبحانه حتّى لا يهمّهم و يلغو بالنسبة إليهم أنفسهم بل إنّما يعود نفعه إليهم أنفسهم لغناه تعالى عن العالمين فعليهم أن يلزموا الإيمان و يصبروا على المكاره دونه.

فقوله:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) تأكيد لحجّة الآية السابقة، و قوله:( إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) تعليل لما قبله.

و الالتفات من سياق التكلم بالغير إلى اسم الجلالة في الآيتين نظير ما مرّ من الالتفات في قوله:( فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ) الآية.

و قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ ) بيان لعاقبة إيمانهم حقّ الإيمان المقارن للجهاد و يتبيّن به أنّ نفع إيمانهم يعود إليهم لا إلى الله سبحانه و أنّه عطيّة من الله و فضل.

و على هذا فالآية لا تخلو من دلالة ما على أنّ الجهاد في الله هو الإيمان و العمل الصالح فإنّها في معنى تبديل قوله في الآية السابقة:( وَ مَنْ جاهَدَ ) من قوله في هذه الآية:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) .

و تكفير السيّئات هو العفو عنها و الأصل في معنى الكفر هو الستر، و قيل: تكفير السيّئات هو تبديل كفرهم السابق إيماناً و معاصيهم السابقة طاعات، و ليس بذاك.

١٠٦

و جزاؤهم بأحسن الّذي كانوا يعملون هو رفع درجتهم إلى ما يناسب أحسن أعمالهم أو عدم المناقشة في أعمالهم عند الحساب إذا كانت فيها جهات رداءة و خسّة فيعاملون في كلّ واحد من أعمالهم معاملة من أتى بأحسن عمل من نوعه فتحتسب صلاتهم أحسن الصلاة و إن اشتملت على بعض جهات الرداءة و هكذا.

قوله تعالى: ( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) إلخ، التوصية العهد و هو ههنا الأمر، و قوله:( حُسْناً ) مصدر في معنى الوصف قائم مقام مفعول مطلق محذوف و التقدير: و وصيّنا الإنسان بوالديه توصية حسنة أو ذات حسن أي أمرناه أن يحسن إليهما و هذا مثل قوله:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) أي قولاً حسناً أو ذا حسن، و يمكن أن يكون وضع المصدر موضع الوصف للمبالغة نحو زيد عدل، و ربّما وجّه بتوجيهات اُخر.

و قوله:( وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ) إلخ، تتميم للتوصية بخطاب شفاهيّ للإنسان بنهيه عن إطاعة والديه إن دعواه إلى الشرك و الوجه في ذلك أنّ التوصية في معنى الأمر فكأنّه قيل: و قلنا للإنسان أحسن إلى والديك و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.

و لم يقل: و أن لا يطيعهما إن جاهداه على أن يشرك إلخ، لما في الخطاب من الصراحة و ارتفاع الإبهام و لذلك قال أيضاً:( لِتُشْرِكَ بِي ) بضمير المتكلّم وحده فافهمه و يؤل معنى الجملة إلى أنّا نهيناه عن الشرك طاعة لهما و رفعنا عنه كلّ إبهام.

و في قوله:( ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إشارة إلى علّة النهي عن الطاعة فإنّ دعوتهما إلى الشرك بعبادة إله من دون الله دعوة إلى الجهل و عبادة ما ليس له به علم افتراءً على الله و قد نهى الله عن اتّباع غير العلم قال:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إسراء: 38 و بهذه المناسبة ذيلها بقوله:( إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي ساُعلمكم ما معنى أعمالكم و منها عبادتكم الأصنام و شرككم بالله سبحانه.

و معنى الآية: و عهدنا إلى الإنسان في والديه عهداً حسناً - و أمرناه أن أحسن إلى والديك - و إن بذلاً جهدهما أن تشرك بي فلا تطعهما لأنّه اتّباع ما ليس لك به علم.

١٠٧

و في الآية - كما تقدّمت الإشارة إليه - توبيخ تعريضيّ لبعض من كان قد آمن ثمّ رجع عن إيمانه بمجاهدة من والديه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ) معنى الآية ظاهر، و في وقوعها بعد الآية السابقة و في سياقها، دلالة على وعد جميل منه تعالى و تطييب نفس لمن ابتلي من المؤمنين بوالدين مشركين يجاهدانه على الشرك فعصاهما و فارقهما، يقول سبحانه: إن جاهداه على الشرك فعصاهما و هجرهما ففاتاه لم يكن بذلك بأس فإنّا سنرزقه خيراً منهما و ندخله بإيمانه و عمله الصالح في الصالحين و هم العباد المنعّمون في الجنّة، قال تعالى:( يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي ) الفجر: 30.

و أمّا إرادة المجتمع الصالح في الدنيا فبعيد من السياق.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) إلى آخر الآية، لمّا كان إيمان هؤلاء مقيّداً بالعافية و السلامة مغيّى بالإيذاء و الابتلاء لم يعدّه إيماناً بقول مطلق و لم يقل: و من الناس من يؤمن بالله بل قال:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ) فالآية بوجه نظيرة قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: 11.

و قوله:( فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ ) أي اُوذي لأجل الإيمان بالله بناء على أنّ في للسببيّة كما قيل و فيه عناية كلاميّة لطيفة بجعله تعالى - أي جعل الإيمان بالله - ظرفاً للإيذاء و لمن يقع عليه الإيذاء ليفيد أنّ الإيذاء منتسب إليه تعالى انتساب المظروف إلى ظرفه و ينطبق على معنى السببيّة و الغرضيّة و نظيره قوله:( يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) الزمر: 56 و قوله:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ) العنكبوت: 69.

و قيل: معنى الإيذاء في الله هو الإيذاء في سبيل الله و كأنّه مبنيّ على تقدير مضاف محذوف.

و فيه أنّ العناية الكلاميّة مختلفة فالإيذاء في الله ما كان السبب فيه محض الإيمان

١٠٨

بالله و هو قولهم: ربّنا الله، و الإيذاء في سبيل الله ما كان سببه سلوك السبيل الّتي هي الدين قال تعالى:( فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي ) آل عمران: 195 و من الشاهد على تغاير الاعتبارين قوله في آخر السورة:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) حيث جعل الجهاد في الله طريقاً إلى الاهتداء إلى سبله و لو كانا بمعنى واحد لم يصحّ ذلك.

و قوله:( جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ ) أي نزّل العذاب و الإيذاء الّذي يصيبه من الناس في وجوب التحرّز منه منزلة عذاب الله الّذي يجب أن يتحرّز منه فرجع عن الإيمان إلى الشرك خوفاً و جزعاً من فتنتهم مع أنّ عذابهم يسير منقطع الآخر بنجاة أو موت و لا يقاس ذلك بعذاب الله العظيم المؤبّد الّذي يستتبع الهلاك الدائم.

و قوله:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) أي لئن أتاكم من قبله تعالى ما فيه فرج و يسر لكم من بعد ما أنتم فيه من الشدّة و العسرة من قبل أعداء الله ليقولنّ هؤلاء إنّا كنّا معكم فلنا منه نصيب.

و( لَيَقُولُنَّ ) بضمّ اللّام صيغة جمع، و الضمير راجع إلى( مِنَ ) باعتبار المعنى كما أنّ ضمائر الإفراد الاُخر راجعة إليها باعتبار اللفظ.

و قوله:( أَ وَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ ) استفهام إنكاريّ فيه ردّ دعواهم أنّهم مؤمنون بأنّ الله أعلم بما في الصدور و لا تنطوي قلوب هؤلاء على إيمان.

و المراد بالعالمين الجماعات من الإنسان أو الجماعات المختلفة من اُولي العقل إنساناً كان أو غيره كالجنّ و الملك، و لو كان المراد به جميع المخلوقات من ذوي الشعور و غيرهم كان المراد بالصدور البواطن و هو بعيد.

قوله تعالى: ( وَ لَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) من تتمّة الكلام في الآية السابقة و المحصّل أنّ الله مع ذلك يميّز بين المؤمنين و المنافقين بالفتنة و الامتحان.

و في الآية إشارة إلى كون هؤلاء منافقين و ذلك لكون إيمانهم مقيّداً بعدم الفتنة و هم يظهرونه مطلقاً غير مقيّد و الفتنة سنّة إلهيّة جارية لا معدل عنها.

١٠٩

و قد استدلّ بالآيتين على أنّ السورة أو خصوص هذه الآيات مدنيّة و ذلك أنّ الآية تحدّث عن النفاق و النفاق إنّما ظهر بالمدينة بعد الهجرة و أمّا مكّة قبل الهجرة فلم يكن للإسلام فيها شوكة و لا للمسلمين فيها إلّا الذلّة و الإهانة و الشدّة و الفتنة و لا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجتمع العربيّ يومئذ و خاصّة عند قريش عزّة و لا منزلة فلم يكن لأحد منهم داع يدعوه إلى أن يتظاهر بالإيمان و هو ينوي الكفر.

على أنّ قوله في الآية:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) يخبر عن النصر و هو الفتح و الغنيمة و قد كان ذلك بالمدينة دون مكّة.

و نظير الآيتين قوله السابق:( وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) ضرورة أنّ الجهاد و القتال إنّما كان بالمدينة بعد الهجرة.

و هو سخيف: أمّا حديث النفاق فالّذي جعل في الآية ملاكاً للنفاق و هو قولهم:( آمَنَّا بِاللهِ ) حتّى إذا اُوذوا في الله راجعوا عن قولهم كان جائز التحقّق في مكّة كما في غيرها و هو ظاهر بل الّذي ذكر من الإيذاء و الفتنة إنّما كان بمكّة فلم تكن في المدينة بعد الهجرة فتنة.

و أمّا حديث النصر فالنصر غير منحصر في الفتح و الغنيمة فله مصاديق اُخر يفرّج الله بها عن عباده. على أنّ الآية لا تخبر عنه بما يدلّ على التحقّق فقوله:( فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ) يدلّ على تحقّق الإيذاء و الفتنة حيث عبّر بإذا الدالّة على تحقّق الوقوع بخلاف مجي‏ء النصر حيث عبّر عنه بأنّ الشرطيّة الدالّة على إمكان الوقوع دون تحقّقه.

و أمّا قوله تعالى:( وَ مَنْ جاهَدَ ) إلخ فقد اتّضح ممّا تقدّم أنّ المراد به جهاد النفس دون مقاتلة الكفّار فالحقّ أن لا دلالة في شي‏ء من الآيات على كون السورة أو بعضها مدنيّة.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) المراد بالّذين كفروا مشركو مكّة الّذين أبدوا الكفر أوّل مرّة بالدعوة الحقّة، و بالّذين آمنوا المؤمنون بها أوّل مرّة

١١٠

و قولهم لهم:( اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) نوع استمالة لهم و تطييب لنفوسهم أن لو رجعوا إلى الشرك و اتّبعوا سبيلهم لم تكن عليهم تبعة على أيّ حال: إذ لو لم تكن في ذلك خطيئة فهو، و إن كانت فهم حاملون لها عنهم، و لذلك لم يقولوا: و لنحمل خطاياكم لو كانت بل أطلقوا القول من غير تقييد.

فكأنّهم قالوا: لنفرض أنّ اتّباعكم لسبيلنا خطيئة فإنّا نحملها عنكم و نحمل كلّ ما يتفرّع عليه من الخطايا أو إنّا نحمل عنكم خطاياكم عامّة و من جملتها هذه الخطيئة.

و قوله:( وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ردّ لقولهم:( وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) و هو ردّ محفوف بحجّة إذ لو كان اتّباعهم لسبيلهم و رجوعهم عن الإيمان بالله خطيئة كان خطيئة عندالله لاحقة بالراجعين و انتقالها عن عهدتهم إلى غيرهم يحتاج إلى إذن من الله و رضى فهو الّذي يؤاخذهم به و يجازيهم و هو سبحانه يصرّح و يقول:( ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و قد عمّم النفي لكلّ شي‏ء من خطاياهم.

و قوله:( إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) تكذيب لهم لما أنّ قولهم:( وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ) يشتمل على دعوى ضمنيّ أنّ خطاياهم تنتقل إليهم لو احتملوها و أنّ الله يجيز لهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) من تمام القول السابق في ردّهم و هو في محلّ الاستدراك أي إنّهم لا يحملون خطاياهم بعينها فهي لازمة لفاعليها لكنّهم حاملون أثقالاً و أحمالاً من الأوزار مثل أوزار فاعليها من غير أن ينقص من فاعليها فيحملونها مضافاً إلى أثقال أنفسهم و أحمالها لما أنّهم ضالّون مضلّون.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) النحل: 25.

و قوله:( وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ ) فشركهم افتراء على الله سبحانه و كذا دعواهم القدرة على إنجاز ما وعدوه و أنّ الله يجيز لهم ذلك.

١١١

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس و النحّاس و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن ابن عبّاس و أيضاً ابن مردويه عن عبدالله بن الزبير قالا: نزلت سورة العنكبوت بمكّة.

أقول: و قد نقل في روح المعاني، عن البحر عن ابن عبّاس أنّ السورة مدنيّة.

و في المجمع قيل: نزلت الآية يعني قوله تعالى:( أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) في عمّار بن ياسر و كان يعذّب في الله. عن ابن جريج.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الشعبيّ في قوله:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) الآية، قال: اُنزلت في اُناس بمكّة قد أقرّوا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة لمّا نزلت آية الهجرة أنّه لا يقبل منكم إقرار و لا إسلام حتّى تهاجروا. قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة فأتبعهم المشركون فردّوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنّه نزل فيكم آية كذا و كذا فقالوا: نخرج فإن اتّبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فأتّبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل و منهم من نجا فأنزل الله فيهم:( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )

و فيه، أخرج ابن جرير عن قتادة( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ - إلى قوله -وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) قال: هذه الآيات نزلت في القوم الّذين ردّهم المشركون إلى مكّة، و هذه الآيات العشر مدنيّة.

و فيه، أخرج ابن جرير عن الضحّاك في قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ) قال: ناس من المنافقين بمكّة كانوا يؤمنون فإذا اُوذوا و أصابهم بلاء من المشركين رجعوا إلى الكفر و الشرك مخافة من يؤذيهم و جعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.

و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سعد بن أبي وقّاص قال: قالت اُمّي: لا آكل طعاماً و لا أشرب شراباً حتّى تكفر بمحمّد فامتنعت من الطعام

١١٢

و الشراب حتّى جعلوا يسجرون فاها بالعصا فنزلت هذه الآية( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) الآية.

و في المجمع، قال الكلبيّ نزل قوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ) الآية في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي و ذلك أنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحلفت اُمّه أسماء بنت مخرمة بن أبي جندل التميميّ أن لا تأكل و لا تشرب و لا تغسل رأسها و لا تدخل كنّا حتّى يرجع إليها فلمّا رأى ابناها أبوجهل و الحارث ابنا هشام - و هما أخوا عيّاش لاُمّه - جزعها ركباً في طلبه حتّى أتيا المدينة فلقياه و ذكراً له القصّة فلم يزالاً به حتّى أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه و تبعهما و قد كانت اُمّه صبرت ثلاثة أيّام ثمّ أكلت و شربت.

فلمّا خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه كتافاً و جلّده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى برى‏ء من دين محمّد جزعاً من الضرب و قال ما لا ينبغي فنزلت الآية و كان الحارث أشدّهما عليه فحلف عيّاش لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنّ عنقه.

فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حيناً ثمّ هاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون إلى المدينة و هاجر عيّاش و حسن إسلامه و أسلم الحارث بن هشام و هاجر إلى المدينة و بايع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الإسلام و لم يحضر عيّاش فلقيه عيّاش يوماً بظهر قبا و لم يشعر بإسلامه فضرب عنقه فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم فاسترجع عيّاش و بكى ثمّ أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك فنزل:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) الآية.

أقول: و أنت ترى اختلاف الروايات في سبب نزول الآيات و قد تقدّم أنّ الّذي يعطيه سياق آيات السورة أنّها مكّيّة محضة.

و في الكافي، عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن معمّر بن خلّاد قال: سمعت أباالحسنعليه‌السلام يقول:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) . ثمّ قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين فقال: يفتنون كما يفتن الذهب. ثمّ قال: يخلصون كما يخلص الذهب.

و في المجمع: قيل: إنّ معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم و أموالهم: و هو المرويّ

١١٣

عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و فيه في قوله تعالى:( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) و في تفسير الكلبيّ أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتوضّأ و أسبغ وضوءه ثمّ قام و صلّى فأحسن صلاته ثمّ سأل الله سبحانه أن لا يبعث عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم أو يلبسهم شيعاً و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل و لم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل ما بقاء اُمّتي مع قتل بعضهم بعضاً؟ فقام و عاد إلى الدعاء فنزل:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا ) الآيتان فقال: لا بدّ من فتنة يبتلى بها الاُمّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب لأنّ الوحي انقطع و بقي السيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.

و في نهج البلاغة: و قام إليه رجل فقال أخبرنا عن الفتنة و هل سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها؟ فقالعليه‌السلام : لمّا أنزل الله سبحانه قوله:( الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ ) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله بها؟ فقال: يا عليّ إنّ اُمّتي سيفتنون من بعدي.

و في التوحيد، عن عليّعليه‌السلام - في حديث طويل: و قد سأله رجل عن آيات من القرآن - و قوله:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ ) يعني بقوله: من كان يؤمن بأنّه مبعوث فإنّ وعد الله لآت من الثواب و العقاب فاللقاء ههنا ليس بالرؤية و اللقاء هو البعث فافهم جميع ما في كتاب الله من لقائه فإنّه يعني بذلك البعث.

أقول: مرادهعليه‌السلام نفي الرؤية الحسّيّة و التفسير بلازم المعنى.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ ) الآية قال: من أحبّ لقاء الله جاءه الأجل( وَ مَنْ جاهَدَ ) نفسه عن اللّذات و الشهوات و المعاصي( فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) .( وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً ) قال: هما اللّذان ولداه.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ

١١٤

خَطاياكُمْ ) قال: كان الكفّار يقولون للمؤمنين: كونوا معنا فإنّ الّذي تخافون أنتم ليس بشي‏ء فإن كان حقّاً نتحمّل عنكم ذنوبكم، فيعذّبهم الله عزّوجلّ مرّتين: مرّة بذنوبهم و مرّة بذنوب غيرهم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف و ابن المنذر عن ابن الحنفيّة قال: كان أبوجهل و صناديد قريش يتلقّون الناس إذا جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلمون يقولون: إنّه يحرّم الخمر و يحرّم الزنا و يحرّم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ )

و فيه، أخرج أحمد عن حذيفة قال: سأل رجل على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمسك القوم ثمّ إنّ رجلاً أعطاه فأعطى القوم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سنّ خيراً فاستنّ به كان له أجره و من اُجور من تبعه غير منتقص من اُجورهم شيئاً، و من سنّ شرّاً فاستنّ به كان عليه وزره و من أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئاً.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر و في بعضها تفسير قوله:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ) بذلك.

١١٥

( سورة العنكبوت الآيات 14 - 40)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 14 ) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ( 15 ) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ  ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 16 ) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا  إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ  إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 17 ) وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ  وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( 18 ) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ  إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ( 19 ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ  ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ  إِنَّ اللهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 20 ) يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ  وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 21 ) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ  وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ( 22 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 23 ) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 24 ) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي

١١٦

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 25 ) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ  وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّي  إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 26 ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا  وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 27 ) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ ( 28 ) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ  فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 29 ) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ( 30 ) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ  إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ( 31 ) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا  قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا  لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 32 ) وَلَمَّا أَن جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ  إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ( 33 ) إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَىٰ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 34 ) وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 35 ) وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ

١١٧

وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 36 ) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 37 ) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ  وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ( 38 ) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ  وَلَقَدْ جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ( 39 ) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ  فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا  وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 40 )

( بيان)

لمّا ذكر سبحانه في صدر السورة أنّ الفتنة سنّة إلهيّة لا معدل عنها و قد جرت في الاُمم السابقة عقّب ذلك بالإشارة إلى قصص سبعة من الأنبياء الماضين و اُممهم و هم: نوح و إبراهيم و لوط و شعيب و هود و صالح و موسىعليهم‌السلام فتنهم الله و امتحنهم فنجي منهم من نجي و هلك، منهم من هلك و قد ذكر سبحانه في الثلاثة الاُول النجاة و الهلاك معاً و في الأربعة الأخيرة الهلاك فحسب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ ) في المجمع: الطوفان الماء الكثير الغامر لأنّه يطوف بكثرته في نواحي الأرض، انتهى. و قيل: هو كلّ ما يطوف بالشي‏ء على كثرة و شدّة من السيل و الريح و الظلام و الغالب استعماله في طوفان الماء.

و التعبير بألف سنة إلّا خمسين عاماً دون أن يقال: تسعمائة و خمسين سنة للتكثير و الآية ظاهرة في أنّ الألف إلّا خمسين مدّة دعوة نوحعليه‌السلام ما بين بعثته إلى أخذ

١١٨

الطوفان فيغاير ما في التوراة الحاضرة أنّها مدّة عمرهعليه‌السلام و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في قصصهعليه‌السلام في تفسير سورة هود، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) أي فأنجينا نوحاً و أصحاب السفينة الراكبين معه فيها و هم أهله و عدّة قليلة من المؤمنين به و لم يكونوا ظالمين.

و قوله:( وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الظاهر أنّ الضمير للواقعة أو للنجاة و أمّا رجوعه إلى السفينة فلا يخلو من بعد، و العالمين الجماعات الكثيرة المختلفة من الأجيال اللاحقة بهم.

قوله تعالى: ( وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) معطوف على قوله:( نُوحاً ) أي و أرسلنا إبراهيم إلى قومه.

و قوله لقومه:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) دعوة إلى التوحيد و إنذار بقرينة الآيات التالية فتفيد الجملة فائدة الحصر.

على أنّ الوثنيّة لا يعبدون الله سبحانه و إنّما يعبدون غيره زعما منهم أنّه تعالى لا يمكن أن يعبد إلّا من طريق الأسباب الفعّالة في العالم المقرّبة عنده كالملائكة و الجنّ و لو عبد لكان معبوداً وحده من غير شريك فدعوتهم إلى عبادة الله بقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) تفيد الدعوة إليه وحده و إن لم تقيّد بأداة الحصر.

قوله تعالى: ( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) إلى آخر الآية، الأوثان جمع وثن بفتحتين و هو الصنم، و الإفك الأمر المصروف عن وجهه قولاً أو فعلاً.

و قوله:( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ) بيان لبطلان عبادة الأوثان و يظهر به كون عبادة الله هي العبادة الحقّة و بالجملة انحصار العبادة الحقّة فيه تعالى( أَوْثاناً ) منكّر للدلالة على وهن أمرها و كون اُلوهيّتها دعوى مجرّدة لا حقيقة وراءها، أي لا تعبدون من دون الله إلّا أوثاناً من أمرها كذا و كذا.

و لذا عقّب الجملة بقوله:( وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) أي و تفتعلون كذباً بتسميتها آلهة

١١٩

و عبادتها بعد ذلك فهناك إله تجب عبادته لكنّه هو الله الواحد دون الأوثان.

و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) تعليل لما ذكر من افتعالهم الكذب بتسمية الأوثان آلهة و عبادتها و محصّله أنّ هؤلاء الّذين تعبدون من دون الله و هم الأوثان بما هم تماثيل المقرّبين من الملائكة و الجنّ إنّما تعبدونهم لجلب النفع و هو أن يرضوا عنكم فيرزقوكم و يدرّوا عليكم الرزق لكنّهم ليسوا يملكون لكم رزقاً فإنّ الله هو الّذي يملك رزقكم الّذي هو السبب الممدّ لبقائكم لأنّه الّذي خلقكم و خلق رزقكم فجعله ممدّاً لبقائكم و الملك تابع للخلق و الإيجاد.

و لذلك عقّبه بقوله:( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ ) أي فاطلبوا الرزق من عندالله لأنّه هو الّذي يملكه فلا تعبدوهم بل اعبدوا الله و اشكروا له على ما رزقكم و أنعم عليكم بألوان النعم فمن الواجب شكر المنعم على ما أنعم.

و قوله:( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) في مقام التعليل لقوله:( وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ ) و لذا جي‏ء بالفصل من غير عطف، و في هذا التعليل صرفهم عن عبادة الإله ابتغاء للرزق إلى عبادته للرجوع و الحساب إذ لو لا المعاد لم يكن لعبادة الإله سبب محصّل لأنّ الرزق و ما يجري مجراه له أسباب خاصّة كونيّة غير العبادات و القربات و لا يزيد و لا ينقص بإيمان أو كفر لكن سعادة يوم الحساب تختلف بالإيمان و الكفر و العبادة و الشكر و خلافهما فليكن الرجوع إلى الله هو الباعث إلى العبادة و الشكر دون ابتغاء الرزق.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) الظاهر أنّه من تمام كلام إبراهيمعليه‌السلام ، و ذكر بعضهم أنّه خطاب منه تعالى لمشركي قريش و لا يخلو من بعد.

و معنى الشرط و الجزاء في صدر الآية أنّ التكذيب هو المتوقّع منكم لأنّه كالسنّة الجارية في الاُمم المشركة و قد كذّب من قبلكم و أنتم منهم و في آخرهم و ليس عليّ بما أنا رسول إلّا البلاغ المبين.

و يمكن أن يكون المراد أنّ حالكم في تكذيبكم كحال الاُمم من قبلكم لم ينفعهم تكذيبهم شيئاً حلّ بهم عذاب الله و لم يكونوا بمعجزين في الأرض و لا في السماء و لم يكن

١٢٠