الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116592
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116592 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لهم من دون الله من وليّ و لا نصير، فكذلكم أنتم، و قوله:( وَ ما عَلَى الرَّسُولِ ) يناسب الوجهين جميعاً.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) هذه الآية إلى تمام خمس آيات من كلامه تعالى واقعة في خلال القصّة تقيم الحجّة على المعاد و ترفع استبعادهم له متعلّقه بما تقدّم من حيث إنّ العمدة في تكذيبهم الرسل إنكارهم للمعاد كما يشير إليه قول إبراهيم:( إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

فقوله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا ) إلخ الضمير فيه للمكذّبين من جميع الاُمم من سابق و لاحق و المراد بالرؤية النظر العلميّ دون الرؤية البصريّة، و قوله:( كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) في موضع المفعول لقوله:( يَرَوْا ) بعطف( يُعِيدُهُ ) على موضع( يُبْدِئُ ) خلافاً لمن يرى عطفه على( أَ وَ لَمْ يَرَوْا ) و الاستفهام للتوبيخ.

و المعنى: أ و لم يعلموا كيفيّة الإبداء ثمّ الإعادة أي إنّهما من سنخ واحد هو إنشاء ما لم يكن، و قوله:( إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) الإشارة فيه إلى الإعادة بعد الإبداء و فيه رفع الاستبعاد لأنّه إنشاء بعد إنشاء و إذ كانت القدرة المطلقة تتعلّق بالإيجاد فهي جائزة التعلّق بالإنشاء بعد الإنشاء و هي في الحقيقة نقل للخلق من دار إلى دار و إنزال للسائرين إليه في دار القرار.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالإبداء ثمّ الإعادة إنشاء الخلق ثمّ إعادة أمثالهم بعد إفنائهم غير سديد لعدم ملائمة الاحتجاج على المعاد الّذي هو إعادة عين ما فنى دون مثله.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الآية إلى تمام ثلاث آيات أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطبهم بما يتمّ به الحجّة عليهم فيرشدهم إلى السير في الأرض لينظروا إلى كيفيّة بدء الخلق و إنشائهم على اختلاف طبائعهم و تفاوت ألوانهم و أشكالهم من غير مثال سابق و حصر أو تحديد في عدّتهم و عدّتهم ففيه دلالة على عدم التحديد

١٢١

في القدرة الإلهيّة فهو ينشئ النشأة الآخرة كما أنشأ النشأة الاُولى فالآية في معنى قوله:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) الواقعة: 62.

قوله تعالى: ( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ) من مقول القول، و الظاهر أنّه بيان لقوله:( يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) و قلب الشي‏ء تحويله عن وجهه أو حاله كجعل أسفله أعلاه و جعل باطنه ظاهره و هذا المعنى الأخير يناسب قوله تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9.

و فسّروا القلب بالردّ قال في المجمع: و القلب هو الرجوع و الردّ فمعناه أنّكم تردّون إلى حال الحياة في الآخرة حيث لا يملك فيه النفع و الضرّ إلّا الله. انتهى و هذا معنى لطيف يفسّر به معنى الرجوع إلى الله و الردّ إليه و هو وقوفهم موقفاً تنقطع فيه عنهم الأسباب و لا يحكم فيه إلّا الله سبحانه فالآية في معنى قوله:( وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) يونس: 30.

و محصّل المعنى: أنّ النشأة الآخرة هي نشأة يعذّب الله فيها من يشاء و هم المجرمون و يرحم من يشاء و هم غيرهم و إليه تردّون فلا يحكم فيكم غيره.

قوله تعالى: ( وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ) من مقول القول و توصيف لشأنهم يوم القيامة كما أنّ الآية السابقة توصيف لشأنه تعالى يومئذ.

فقوله:( وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ ) أي إنّكم لا تقدرون أن تعجزوه تعالى يومئذ بالفوت منه و الخروج من حكمه و سلطانه بالفرار و الخروج من ملكه و النفوذ من أقطار الأرض و السماء، فالآية تجري مجرى قوله:( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا ) الرحمن: 33.

و قيل: الكلام في معنى( من في السماء) فحذف من لدلالة الكلام عليه و التقدير و ما أنتم بمعجزين في الأرض و لا من في السماء بمعجزين في السماء.

و هو بعيد و دلالة الكلام عليه غير مسلّمة و لو بني عليه لكفى فيه أنّ الخطاب للأعمّ من البشر بتغليب جانب البشر المخاطبين على غيرهم من الجنّ و الملك و المعنى: و ما

١٢٢

أنتم معاشر الخلق بمعجزين في الأرض و لا في السماء.

و قوله:( وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ) أي ليس لكم اليوم وليّ من دون الله يتولّى أمركم فيغنيكم من الله و لا نصير ينصركم فيقوّي جانبكم و يتمّم ناقص قوّتكم فيظهركم عليه سبحانه.

فالآية - كما ترى - تنفي ظهورهم على الله و تعجيزهم له بالخروج و الامتناع عن حكمه بأقسامه فلا هم يستقلّون بذلك و هو قوله:( وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ) إلخ و لا غيرهم يستقلّ بذلك و هو قوله:( وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ ) و لا المجموع منهم و من غيرهم يعجزه تعالى و هو قوله:( وَ لا نَصِيرٍ ) .

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ‏ ) خطاب مصروف إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارج من مقول القول السابق( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) إلخ و المطلوب فيه أن ينبّئهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريح الحقّ فيمن يشقى و يهلك يوم القيامة فإنّه أبهم ذلك في قوله أوّلاً:( يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ ) .

و من الدليل عليه الخطاب في( أُولئِكَ ) مرّتين و لو كان من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيل:( أولئكم) .

و يؤيّد ذلك أيضاً قوله:( مِنْ رَحْمَتِي ) فإنّ الانتقال من مثل قولنا: اُولئك يئسوا من رحمة الله أو من رحمته بسياق الغيبة على ما يقتضيه المقام إلى قوله:( أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي ) يفيد التصديق و الاعتراف مضافاً إلى أصل الإخبار فيفيد صريح التعيين لأهل العذاب، و يؤيّد ذلك أيضاً تكرار الإشارة و ما في السياق من التأكيد.

و كانّ في تخصيص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الإخبار تقوية لنفسه الشريفة و عزلاً لهم عن صلاحية السمع لمثله و هم لا يؤمنون.

و المراد بآيات الله - على ما يفيده إطلاق اللفظ - جميع الأدلّة الدالّة على الوحدانيّة و النبوّة و المعاد من الآيات الكونيّة و المعجزات النبويّة و منها القرآن فالكفر بآيات الله يشمل بعمومه الكفر بالمعاد فذكر الكفر باللقاء و هو المعاد بعد الكفر بالآيات من ذكر الخاصّ بعد العامّ و الوجه فيه الإشارة إلى أهمّيّة الإيمان بالمعاد

١٢٣

إذ مع إنكار المعاد يلغو أمر الدين الحقّ من أصله و هو ظاهر.

و المراد بالرحمة ما يقابل العذاب و يلازم الجنّة و قد تكرّر في كلامه تعالى إطلاق الرحمة عليها بالملازمة كقوله:( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ) الجاثية: 30 و قوله:( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) الإنسان: 31.

و المراد بإسناد اليأس إليهم إمّا تلبّسهم به حقيقة فإنّهم لجحدهم الحياة الآخرة آيسون من السعادة المؤبّدة و الجنّة الخالدة و إمّا أنّه كناية عن قضائه تعالى المحتوم أنّ الجنّة لا يدخلها كافر.

و المعنى: و الّذين جحدوا آيات الله الدالّة على الدين الحقّ و خاصّة المعاد اُولئك يئسوا من الرحمة و الجنّة و اُولئك لهم عذاب أليم.

قوله تعالى: ( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) إلخ، تفريع على قوله في صدر القصّة:( وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) .

و ظاهر قوله:( قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ) أنّ كلّا من طرفي الترديد قول طائفة منهم و المراد بالقتل القتل بالسيف و نحوه فهو قولهم أوّل ما ائتمروا ليجازوه و إن اتّفقوا بعد ذلك على إحراقه كما قال:( قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ ) الأنبياء: 68 و يمكن أن يكون الترديد من الجميع لترددّهم في أمره أوّلاً ثمّ اتّفاقهم على إحراقه.

و قوله:( فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ ) فيه حذف و إيجاز و تقديره ثمّ اتّفقوا على إحراقه فأضرموا نارا فألقوه فيها فأنجاه الله منها، و قد فصّلت القصّة في مواضع من كلامه تعالى.

قوله تعالى: ( وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلى آخر الآية إذ كان لا حجّة عقليّة لهم على اتّخاذ الأوثان لم يبق لهم ممّا يستنّون به إلّا الاستنان بسنّة من يعظّمونه و يحترمون جانبه كالآباء للأبناء و الرؤساء المعظّمين لأتباعهم و الأصدقاء لأصدقائهم و بالأخرة الاُمّة لأفرادها فهذا السبب الرابط هو عمدة

١٢٤

ما يحفظ السنن القوميّة معمولاً بها قائمة على ساقها.

فالاستنان بسنّة الوثنيّة بالحقيقة من آثار المودّات الاجتماعيّة يرى العامّة ذلك بعضهم من بعض فتبعثه المودّة القوميّة على تقليده و الاستنان به مثله ثمّ هذا الاستنان نفسه يحفظ المودّة القوميّة و يقيم الاتّحاد و الاتّفاق على ساقه.

هذه حال العامّة منهم و أمّا الخاصّة فربّما ركنوا في ذلك إلى ما يحسبونه حجّة و ما هو بحجّة كقولهم إنّ الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به حسّ أو وهم أو عقل فلا يتعلّق به توجّهنا العباديّ فمن الواجب أن نتقرّب إلى بعض من له به عناية كالملائكة و الجنّ ليقرّبونا إليه زلفى و يشفعوا لنا عنده.

فقوله:( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) خطاب منهعليه‌السلام لعامّة قومه في أمر اتّخاذهم الأوثان للمودّة القوميّة ليصلحوا به شأن حياتهم الدنيا الاجتماعيّة، و قد أجابوه بذلك حيث سألهم عن شأنهم( إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ) الأنبياء: 53( قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) الشعراء: 74.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ) صالح لأن يكون منصوباً بنزع الخافض بتقدير لام التعليل و المودّة على هذا سبب مؤدّ إلى اتّخاذ الأوثان، و أن يكون مفعولاً له، و المودّة غاية مقصودة من اتّخاذ الأوثان، لكنّ ذيل الآية إنّما تلائم الوجه الثاني على ما سيظهر.

ثمّ عقّبعليه‌السلام بقوله:( إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ ) إلخ، بقوله:( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) يبيّن لهم عاقبة اتّخاذهم الأوثان للمودّة و هو باطن هذه المودّة المقصودة الّذي سيظهر يوم تبلى السرائر فإنّهم توسّلوا إلى هذا المتاع القليل بالشرك الّذي هو أعظم الظلم و أكبر الكبائر الموبقة و اجتمعوا عليه و توافقوا لكنّهم سيبدو لهم حقيقة عملهم و يلحق بهم وباله فيتبرّأ بعضهم من بعض و ينكره بعضهم على بعض.

١٢٥

و المراد بكفر بعضهم ببعض كفر آلهتهم بهم و تبرّيهم منهم، كما قال تعالى:( سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) مريم: 82 و قال:( وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) فاطر: 14 و في معناه: تبرّي المتبوعين من تابعيهم، كما قال تعالى:( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: 166 و المراد بلعن بعضهم بعضاً لعن كلّ بعض صاحبه، قال تعالى:( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) الأعراف: 38.

ثمّ عقّب ذلك بقوله:( وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) إشارة إلى لحوق الوبال و وقوع الجزاء و هو النار الّتي فيها الهلاك المؤبّد و لا ناصر ينصرهم و يدفع عنهم العذاب فهم إنّما توسّلوا إلى المودّة ليتناصروا و يتعاونوا و يتعاضدوا في الحياة لكنّها عادت يوم القيامة معاداة و مضادّة و أورثت تبرّياً و خذلاناً.

قوله تعالى: ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى‏ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي آمن به لوط و الإيمان يتعدّى باللّام كما يتعدّى بالباء و المعنى واحد.

و قوله:( وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى‏ رَبِّي ) قيل الضمير راجع إلى لوط، و قيل: راجع إلى إبراهيم و يؤيّده قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:( وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى‏ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) الصافّات: 99.

و كأنّ المراد بالمهاجرة إلى الله هجره وطنه و خروجه من بين قومه المشركين إلى أرض لا يعترضه فيها المشركون و لا يمنعونه من عبادة ربّه فعدّ المهاجرة مهاجرة إلى الله من المجاز العقليّ.

و قوله:( إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي عزيز لا يذلّ من نصره حكيم لا يضيع من حفظه.

قوله تعالى: ( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ ) معناه ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) الأجر هو الجزاء الّذي يقابل العمل و يعود إلى عامله و الفرق بينه و بين الاُجرة أنّ الاُجرة تختصّ بالجزاء الدنيويّ و الأجر يعمّ الدنيا و الآخرة، و الفرق بينه و بين الجزاء

١٢٦

أنّ الأجر لا يقال إلّا في الخير و النافع، و الجزاء يعمّ الخير و الشرّ و النافع و الضارّ.

و الغالب في كلامه تعالى استعمال لفظ الأجر في جزاء العمل العبوديّ الّذي أعدّه الله سبحانه لعباده المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب و درجات الولاية و منها الجنّة، نعم وقع في قوله تعالى حكاية عن يوسفعليه‌السلام :( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف: 90 و قوله:( وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف: 56 إطلاق الأجر على الجزاء الدنيويّ الحسن.

فقوله:( وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ) يمكن أن يكون المراد به إيتاء الأجر الدنيويّ الحسن و الأنسب على هذا أن يكون( فِي الدُّنْيا ) متعلّقاً بالأجر لا بالإيتاء و ربّما تأيّد هذا المعنى بقوله تعالى فيهعليه‌السلام في موضع آخر:( وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) النحل: 122 فإنّ الظاهر أنّ المراد بالحسنة الحياة الحسنة أو العيشة الحسنة و إيتاؤها فعليّة إعطائها دون تقديرها و كتابتها.

و يمكن أن يكون المراد به تقديم ما اُعدّ لعامّة المؤمنين في الآخرة من مقامات القرب في حقّهعليه‌السلام و إيتاؤه ذلك في الدنيا و قد تقدّم إحصاء ما يذكره القرآن الكريم من مقاماتهعليه‌السلام في قصصه من تفسير سورة الأنعام.

و قوله:( وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) تقدّم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:( وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) البقرة: 130 في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) أي و أرسلنا لوطاً أو و اذكر لوطاً إذ قال لقومه، و قوله:( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ) إخبار بداعي الاستعجاب و الإنكار، و المراد بالفاحشة إتيان الذكران.

و قوله:( ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) استئناف يوضح معنى الفاحشة و يؤكّده، و كأنّ المراد أنّ هذا العمل لم يشع في قوم قبلهم هذا الشيوع أو الجملة حال من فاعل( لَتَأْتُونَ ) .

١٢٧

قوله تعالى: ( أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) إلى آخر الآية، استفهام من أمر من الحريّ أن لا يصدّقه سامع و لا يقبله ذو لبّ و لذا اُكّد بالنون و اللّام، و هذا السياق يشهد أنّ المراد بإتيان الرجل اللواط و بقطع السبيل إهمال طريق التناسل و إلغاؤها و هي إتيان النساء، فقطع السبيل كناية عن الإعراض عن النساء و ترك نكاحهنّ، و بإتيانهم المنكر في ناديهم - و النادي هو المجلس الّذي يجتمعون فيه و لا يسمّى ناديا إلّا إذا كان فيه أهله - الإتيان بالفحشاء أو بمقدّماتها الشنيعة بمرأى من الجماعة.

و قيل: المراد بقطع السبيل قطع سبيل المارّة بديارهم فإنّهم كانوا يفعلون هذا الفعل بالمجتازين من ديارهم و كانوا يرمون ابن السبيل بالحجارة بالخذف فأيّهم أصابه كان أولى به فيأخذون ماله و ينكحونه و يغرمونه ثلاثة دراهم و كان لهم قاض يقضي بذلك و قيل: بل كانوا يقطعون الطرق، و قد عرفت أنّ السياق يقضي بخلاف ذلك.

و قيل: المراد بإتيان المنكر في النادي أنّ مجالسهم كانت تشتمل على أنواع المنكرات و القبائح مثل الشتم و السخف و القمار و خذف الأحجار على من مرّ بهم و ضرب المعازف و المزامير و كشف العورات و اللواط و نحو ذلك و قد عرفت ما يقتضيه السياق.

و قوله:( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) استهزاء و سخريّة منهم، و يظهر من جوابهم أنّه كان ينذرهم بعذاب الله و قد قال الله في قصّته في موضع آخر:( وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ) القمر: 36.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ) سؤال للفتح و دعاء منه عليهم، و قد عدّهم مفسدين لعملهم الّذي يفسد الأرض و يقطع النسل و يهدّد الإنسانيّة بالفناء.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‏ قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) إجمال قصّة هلاك قوم لوط، و قد كان ذلك برسل من الملائكة أرسلهم الله أوّلاً إلى إبراهيمعليه‌السلام فبشّروه و بشّروا امرأته بإسحاق و يعقوب ثمّ أخبروه بأنّهم مرسلون لإهلاك قوم لوط، و القصّة مفصّلة في سورة هود و غيرها.

١٢٨

و قوله:( قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ ) أي قالوا لإبراهيم، و في الإتيان بلفظ الإشارة القريبة - هذه القرية - دلالة على قربها من الأرض الّتي كان إبراهيمعليه‌السلام نازلاً بها، و هي الأرض المقدّسة.

و قوله:( إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) تعليل لإهلاكهم بأنّهم ظالمون قد استقرّت فيهم رذيلة الظلم، و قد كان مقتضى الظاهر أن يقال: إنّهم كانوا ظالمين فوضع المظهر موضع المضمر للإشارة إلى أنّ ظلمهم ظلم خاصّ بهم يستوجب الهلاك و ليس من مطلق الظلم الّذي كان الناس مبتلين به يومئذ كأنّه قيل: إنّ أهلها بما أنّهم أهلها ظالمون.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) ظاهر السياق أنّهعليه‌السلام كان يريد بقوله:( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب بأنّ فيها لوطاً و إهلاك أهلها يشمله فأجابوه بأنّهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممّن لا يشمله العذاب و هم أهله إلّا امرأته.

لكنّهعليه‌السلام لم يكن ليجهل أنّ الله سبحانه لا يعذّب لوطاً و هو نبيّ مرسل، و إن شمل العذاب جميع من سواه من أهل قريته و لا أنّه يخوّفه و يزعره و يفزعه بقهره عليهم بل كانعليه‌السلام يريد بقوله:( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب عن أهل القرية كرامة للوط لا أن يدفعه عن لوط، فاُجيب بأنّهم مأمورون بإنجائه و إخراجه من بين أهل القرية و معه أهله إلّا امرأته كانت من الغابرين.

و الدليل على هذا الّذي ذكرنا قوله تعالى في سورة هود في هذا الموضع من القصّة:( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى‏ يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ) هود: 76 فالآيات أظهر ما يكون في أنّ إبراهيمعليه‌السلام كان يدافع عن قوم لوط لا عن لوط نفسه.

فظاهر كلامهعليه‌السلام في الآية الّتي نحن فيها الدفاع عن لوط و على ذلك جاراه الرسل فأبقوا كلامه على ظاهره و أجابوا بأنّهم ما كانوا ليجهلوا ذلك فهم أعلم بمن فيها و عالمون بأنّ فيها لوطاً و معه أهله ممّن لا ينبغي أن يعذّب لكنّهم سينجّونه و أهله إلّا امرأته، لكنّ

١٢٩

الّذي أراده إبراهيمعليه‌السلام بكلامه دفع العذاب عن أهل القرية فاُجيب بأنّه من الأمر المحتوم على ما تشير إليه آيات سورة هود.

و للقوم في قوله:( إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ ) ، و قوله:( قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً ) مشاجرات طويلة أعرضنا عن التعرّض لها لعدم الجدوى، من أراد الوقوف عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ ) إلى آخر الآية، ضميراً الجمع في( سِي‏ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ) للرسل و الباء للسببيّة أي أخذته المساءة و هي سوء الحال بسببهم و ضاقت طاقته بسببهم لكونهم في صور شبّان حسان مرد يخاف عليهم من القوم ثمّ قصد القوم إيّاهم بالسوء و ضعف لوط من أن يدفعهم عنهم و هم ضيف له نازلون بداره.

و قوله:( وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ ) أي لا خطر محتملاً يهدّدك و لا مقطوعاً يقع عليك فإنّ الخوف إنّما هو في المكروه الممكن و الحزن في المكروه الواقع.

و قوله:( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) أي الباقين في العذاب تعليل لنفي الخوف و الحزن.

قوله تعالى: ( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى‏ أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) بيان لما يشير إليه قوله:( إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ ) من العذاب، و الرجز العذاب.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ضمير التأنيث للقرية و الترك الإبقاء أي أبقينا من القرية علامة واضحة لقوم يعقلون ليعتبروا بها فيتّقوا الله و هي الآثار الباقية منها بعد خرابها بنزول العذاب.

و هي اليوم مجهولة المحلّ لا أثر منها و ربّما يقال: إنّ الماء غمرها بعد و هي بحر لوط، لكنّ الآية ظاهرة - كما ترى - أنّها كانت ظاهرة معروفة في زمن نزول القرآن و أوضح منها قوله تعالى:( وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) الحجر: 76 و قوله:( وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) الصافّات: 138.

قوله تعالى: ( وَ إِلى‏ مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) يدعوهم إلى عبادة الله و هو التوحيد و إلى رجاء

١٣٠

اليوم الآخر و هو الاعتقاد بالمعاد و أن لا يفسدوا في الأرض و كانت عمدة إفسادهم فيها - على ما ذكر في قصّتهم في مواضع اُخر - نقص الميزان و المكيال.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) الرجفة الاضطراب الشديد على ما ذكره الراغب، و الجثم و الجثوم في المكان القعود فيه أو البروك على الأرض و هو كناية عن الموت و المعنى: فكذّبوا شعيباً فأخذهم الاضطراب الشديد أو الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم ميّتين لا حراك بهم.

و قال في قصّتهم في موضع آخر:( وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) هود: 94 و يستظهر من ذلك أنّهم اُهلكوا بالصيحة و الرجفة.

قوله تعالى: ( وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ) إلى آخر الآية غيّر السياق تفنّنا فبدأ بذكر عاد و ثمود و كذا في الآية التالية بدأ بذكر قارون و فرعون و هامان بخلاف قصص الاُمم المذكورين سابقاً حيث بدأ بذكر أنبيائهم كنوح و إبراهيم و لوط و شعيب. و قوله:( وَ عاداً وَ ثَمُودَ ) منصوبان بفعل مقدّر تقديره و اذكر عاداً و ثمود.

و قوله:( وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) تزيين الشيطان لهم أعمالهم كناية استعاريّة عن تحبيب أعمالهم السيّئة إليهم و تأكيد تعلّقهم بها و صدّه إيّاهم عن السبيل صرفهم عن سبيل الله الّتي هي سبيل الفطرة، و لذا قال بعضهم: إنّ المراد بكونهم مستبصرين أنّهم كانوا قبل ذلك على الفطرة الساذجة.

لكنّ الظاهر كما تقدّم في تفسير قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: 213 أنّ عهد الفطرة الساذجة كان قبل بعثة نوحعليه‌السلام و عاد و ثمود كانوا بعد نوح فكونهم مستبصرين قبل انصدادهم عن السبيل هو كونهم يعيشون على عبادة الله و دين التوحيد و هو دين الفطرة.

قوله تعالى: ( وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى‏ بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ ) السبق استعارة كنائيّة من الغلبة، و الباقي ظاهر.

١٣١

قوله تعالى: ( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) إلى آخر الآية أي كلّ واحدة من الاُمم المذكورين أخذناها بذنبها ثمّ أخذ في التفصيل فقال:( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ) و الحاصب الحجارة و قيل: الريح الّتي ترمي بالحصى و على الأوّل فهم قوم لوط، و على الثاني قوم عاد( وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) و هم قوم ثمود و قوم شعيب( وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ) و هو قارون( وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ) و هم قوم نوح و فرعون و هامان و قومهما.

ثمّ عاد سبحانه إلى كافّة القصص المذكورة و ما انتهى إليه أمر تلك الاُمم من الأخذ و العذاب فبيّن ببيان عامّ أنّ الّذي أوقعهم فيما وقعوا لم يكن بظلم منه سبحانه بل بظلم منهم لأنفسهم فقال:( وَ ما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي فيجازيهم الله على ظلمهم لأنّ الدار دار الفتنة و الامتحان و هي السنّة الإلهيّة الّتي لا معدل عنها فمن اهتدى فقد اهتدى لنفسه و من ضلّ فعليها.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه معاني الكفر قال: و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة قال تعالى:( وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) يعني يتبرّأ بعضكم من بعض الحديث.

أقول: و روي هذا المعنى في التوحيد، عن عليّعليه‌السلام : في حديث طويل يجيب فيه عمّا سئل عنه من تهافت الآيات و فيه: و الكفر في هذه الآية البراءة يقول: يتبرّأ بعضهم من بعض، و نظيرها في سورة إبراهيم قول الشيطان:( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) و قول إبراهيم خليل الرحمن:( كَفَرْنا بِكُمْ ) أي تبرّأنا.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الخذف(1) و هو قول الله:( وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) .

____________________

(1) الخذف بالحصاة و النواة الرمي بها من بين السبابتين.

١٣٢

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن عدّة من أصحاب الجوامع عن اُمّ هاني بنت أبي طالب و لفظ الحديث: قالت: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله:( وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ) قال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون ابن السبيل و يسخرون منهم.

و في الكافي، بإسناده عن أبي زيد الحماد عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في حديث نزول الملائكة على إبراهيم بالبشرى قال: فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ قالوا: في إهلاك قوم لوط. فقال لهم: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ فقال جبرئيل: لا.

قال: فإن كان فيها خمسون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها ثلاثون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرون؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها عشرة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها خمسة؟ قال: لا. قال: فإن كان فيها واحد؟ قال: لا. قال: فإنّ فيها لوطاً؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجّينّه و أهله إلّا امرأته كانت من الغابرين.

قال الحسن بن عليّعليه‌السلام : لا أعلم هذا القول إلّا و هو يستبقيهم و هو قول الله عزّوجلّ:( يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ) .

١٣٣

( سورة العنكبوت الآيات 41 - 55)

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا  وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 ) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 42 ) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ  وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ( 43 ) خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ( 44 ) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ  إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ  وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ  وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 45 ) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ  وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( 46 ) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ  فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ  وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ  وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ ( 47 ) وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ  إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ( 48 ) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ  وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ( 49 ) وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ  قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 50 ) أَوَلَمْ

١٣٤

يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 51 ) قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا  يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 52 ) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ  وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 53 ) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 54 ) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 55 )

( بيان)

تتضمّن الآيات تذييلاً لقصص اُولئك الاُمم الماضية الهالكة بمثل ضربه الله سبحانه لاتّخاذهم أولياء من دون الله فبيّن فيه أنّ بناءهم ذلك أوهن البناء ينادي ببطلانه و فساده خلق السماوات و الأرض و أنّهم ليس لهم من دونه من وليّ كما يذكره هذا الكتاب.

و من هنا ينتقل إلى أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلاوة هذا الكتاب الّذي اُوحي إليه و إقامة الصلاة و دعوة أهل الكتاب بقول ليّن و مجادلة حسناء و يجيب عن اقتراح المشركين على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم بآيات غير القرآن و أن يعجّلهم بالعذاب الّذي ينذرهم به.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ) إلى آخر الآية، العنكبوت معروف و يطلق على الواحد و الجمع و يذكّر و يؤنّث.

العناية في قوله:( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا ) إلخ، باتّخاذ الأولياء من دون الله و لذا

١٣٥

جي‏ء بالموصول و الصلة كما أنّ العناية في قوله:( كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ) إلى اتّخاذها البيت فيؤل المعنى إلى أنّ صفة المشركين في اتّخاذهم من دون الله أولياء كصفة العنكبوت في اتّخاذها بيتاً له نبأ - و هو الوصف الّذي يدلّ عليه تنكير( بَيْتاً ) .

و يكون قوله:( إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ ) بياناً لصفة البيت الّذي أخذته العنكبوت و لم يقل: إنّ أوهن البيوت لبيتها كما هو مقتضى الظاهر أخذاً للجملة بمنزلة المثل السائر الّذي لا يتغيّر.

و المعنى: أنّ اتّخاذهم من دون الله أولياء و هم آلهتهم الّذين يتولّونهم و يركنون إليهم كاتّخاذ العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت إذ ليس له من آثار البيت إلّا اسمه لا يدفع حرّاً و لا برداً و لا يكنّ شخصاً و لا يقي من مكروه كذلك ليس لولاية أوليائهم إلّا الاسم فقط لا ينفعون و لا يضرّون و لا يملكون موتاً و لا حياةً و لا نشوراً.

و مورد المثل هو اتّخاذ المشركين آلهة من دون الله، فتبديل الآلهة من الأولياء لكون السبب الداعي لهم إلى اتّخاذ الآلهة زعمهم أنّ لهم ولاية لأمرهم و تدبيراً لشأنهم من جلب الخير إليهم و دفع الشرّ عنهم و الشفاعة في حقّهم.

و الآية - مضافاً إلى إيفاء هذه النكتة - تشمل بإطلاقها كلّ من اتّخذ في أمر من الاُمور و شأن من الشؤن وليّاً من دون الله يركن إليه و يراه مستقلّاً في أثره الّذي يرجوه منه و إن لم يعدّ من الأصنام إلّا أن يرجع ولايته إلى ولاية الله كولاية الرسول و الأئمّة و المؤمنين كما قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: 106.

و قوله:( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) أي لو كانوا يعلمون أنّ مثلهم كمثل العنكبوت ما اتّخذوهم أولياء. كذا قيل.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يمكن أن يكون( ما ) في( ما يَدْعُونَ ) موصولة أو نافية أو استفهاميّة أو مصدريّة و( مِنْ ) في( مِنْ شَيْ‏ءٍ ) على الاحتمال الثاني زائدة للتأكيد و على الباقي للتبيين و أرجح

١٣٦

الاحتمالات الأوّلان و أرجحهما أوّلهما.

و المعنى: على الثاني أنّ الله يعلم أنّهم ليسوا يدعون من دونه شيئاً أي أنّ الّذي يعبدونه من الآلهة لا حقيقة له فيكون كما قال صاحب الكشّاف توكيداً للمثل و زيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً.

و المعنى: على الأوّل أنّ الله يعلم الشي‏ء الّذي يدعون من دونه و لا يجهل ذلك فيكون كناية عن أنّ المثل الّذي ضربه في محلّه، و ليس لأوليائهم من الولاية إلّا اسمها.

و يؤكّد هذا المعنى الاسمان الكريمان: العزيز الحكيم في آخر الآية فهو تعالى العزيز الّذي لا يغلبه شي‏ء فلا يشاركه في تدبير ملكه أحد كما لا يشاركه في الخلق و الإيجاد أحد، الحكيم الّذي يأتي بالمتقن من الفعل و التدبير فلا يفوّض تدبير خلقه إلى أحد، و هذا كالتمهيد لما سيبيّن في قوله:( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) .

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) يشير إلى أنّ الأمثال المضروبة في القرآن على أنّها عامّة تقرع أسماع عامّة الناس، لكنّ الإشراف على حقيقة معانيها و لبّ مقاصدها خاصّة لأهل العلم ممّن يعقل حقائق الاُمور و لا ينجمد على ظواهرها.

و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ ما يَعْقِلُها ) دون أن يقول: و ما يؤمن بها أو ما في معناه.

فالأمثال المضروبة في كلامه تعالى يختلف الناس في تلقّيها باختلاف أفهامهم فمن سامع لا حظّ له منها إلّا تلقّي ألفاظها و تصوّر مفاهيمها الساذجة من غير تعمّق فيها و سبر لأغوارها، و من سامع يتلقّى بسمعه ما يسمعه هؤلاء ثمّ يغور في مقاصدها العميقة و يعقل حقائقها الأنيقة.

و فيه تنبيه على أنّ تمثيل اتّخاذهم أولياء من دون الله باتّخاذ العنكبوت بيتاً هو أوهن البيوت ليس مجرّد تمثيل شعريّ و دعوى خالية من البيّنة بل متّك على حجّة برهانيّة و حقيقة حقّة ثابتة و هي الّتي تشير إليه الآية التالية.

١٣٧

قوله تعالى: ( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) المراد بكون خلق السماوات و الأرض بالحقّ نفي اللعب في خلقها، كما قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: 39.

فخلق السماوات و الأرض على نظام ثابت لا يتغيّر و سنّة إلهيّة جارية لا تختلف و لا تتخلّف، و الخلق و التدبير لا يختلفان حقيقة و لا ينفكّ أحدهما عن الآخر(1) ، و إذ كان الخلق و الصنع ينتهي إليه تعالى انتهاء ضروريّاً و لا محيص فالتدبير أيضاً له و لا محيص و ما من شي‏ء غيره تعالى إلّا و هو مخلوقة القائم به المملوك له لا يملك لنفسه نفعاً و لا ضرّاً، و من المحال قيامه بشي‏ء من تدبير أمر نفسه أو غيره بحيث يستقلّ به مستغنياً في أمره عنه تعالى هذا هو الحقّ الّذي لا لعب فيه و الجدّ الّذي لا هزل فيه.

فلو تولّى بعض خلقه أمر بعض لم يكن ذلك منه ولاية حقّ لكونه لا يملك شيئاً بحقيقة معنى الملك بل كان ذلك منه جارياً على اللعب و تفويضه تعالى أمر التدبير إليه لعباً منه تعالى و تقدّس إذ ليس إلّا فرضاً لا حقيقة له و وهماً لا واقع له و هو معنى اللعب.

و منه يظهر أنّ ولاية من يدّعون ولايته ليس لها إلّا اسم الولاية من غير مسمّى كما أنّ بيت العنكبوت كذلك.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) تخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الآية لهم و لغيرهم لكون المنتفعين بها هم المؤمنون دون غيرهم.

قوله تعالى: ( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) إلخ، لمّا ذكر إجمال قصص الاُمم و ما انتهى إليه شركهم و ارتكابهم الفحشاء و المنكر من الشقاء اللازم و الخسران الدائم انتقل من

____________________

(1) و ذلك أن موطن التدبير الحوادث الجارية في الكون و معناه تعقيب حادث بحادث آخر على نظم و ترتيب يؤدّي إلى غايات حقّة و حقيقته خلق حادث بعد حادث فالتدبير هو الخلق و الإيجاد باعتبار قياس الشي‏ء إلى آخر مثله و انضمامه إليه فليس وراء الخلق و الإيجاد شي‏ء منه.

١٣٨

ذلك - مستأنفاً للكلام - إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتلاوة ما اُوحي إليه من الكتاب لكونه خير رادع عن الشرك و ارتكاب الفحشاء و المنكر بما فيه من الآيات البيّنات الّتي تتضمّن حججاً نيّرة على الحقّ و تشتمل على القصص و العبر و المواعظ و التبشير و الإنذار و الوعد و الوعيد يرتدع بتلاوة آياته تاليه و من سمعه.

و شفعه بالأمر بإقامة الصلاة الّتي هي خير العمل و علّل ذلك بقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) و السياق يشهد أنّ المراد بهذا النهي ردع طبيعة العمل عن الفحشاء و المنكر بنحو الاقتضاء دون العلّيّة التامّة.

فلطبيعة هذا التوجّه العباديّ - إذ أتى به العبد و هو يكرّره كلّ يوم خمس مرّات و يداوم عليه و خاصّة إذا زاول عليه في مجتمع صالح يؤتى فيه بمثل ما أتى به و يهتمّ فيه بما اهتمّ به - أن يردعه عن كلّ معصية كبيرة يستشنعه الذوق الدينيّ كقتل النفس عدواناً و أكل مال اليتيم ظلماً و الزنا و اللواط، و عن كلّ ما ينكره الطبع السليم و الفطرة المستقيمة ردعاً جامعاً بين التلقين و العمل.

و ذلك أنّه يلقّنه أوّلاً بما فيه من الذكر الإيمان بوحدانيّته تعالى و الرسالة و جزاء يوم الجزاء و أن يخاطب ربّه بإخلاص العبادة و الاستعانة به و سؤال الهداية إلى صراطه المستقيم متعوّذاً من غضبه و من الضلال، و يحمله ثانياً على أن يتوجّه بروحه و بدنه إلى ساحة العظمة و الكبرياء و يذكر ربّه بحمده و الثناء عليه و تسبيحه و تكبيره ثمّ السلام على نفسه و أترابه و جميع الصالحين من عباد الله.

مضافاً إلى حمله إيّاه على التطهّر من الحدث و الخبث في بدنه و الطهارة في لباسه و التحرّز عن الغصب في لباسه و مكانه و استقبال بيت ربّه فالإنسان لو داوم على صلاته مدّة يسيرة و استعمل في إقامتها بعض الصدق أثبت ذلك في نفسه ملكة الارتداع عن الفحشاء و المنكر البتّة، و لو أنّك وكّلت على نفسك من يربّيها تربية صالحة تصلح بها لهذا الشأن و تتحلّى بأدب العبوديّة لم يأمرك بأزيد ممّا تأمرك به الصلاة و لا روّضك بأزيد ممّا تروّضك به.

و قد استشكل على الآية بأنّا كثيراً ما نجد من المصلّين من لا يبالي ارتكاب الكبائر

١٣٩

و لا يرتدع عن المنكرات فلا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر.

و لذلك ذكر بعضهم أنّ الصلاة في الآية بمعنى الدعاء و المراد الدعوة إلى أمر الله و المعنى: أقم الدعوة إلى أمر الله فإنّ ذلك يردع الناس عن الفحشاء و المنكر. و فيه أنّه صرف الكلام عن ظاهره.

و ذكر آخرون أنّ الصلاة في الآية في معنى النكرة و المعنى أنّ بعض أنواع الصلاة أو أفرادها يوجب الانتهاء عن الفحشاء و المنكر و هو كذلك و ليس المراد الاستغراق حتّى يرد الإشكال.

و ذكر قوم أنّ المراد نهيها عن الفحشاء و المنكر ما دامت قائمة و المصلّي في صلاته كأنّه قيل: إنّ المصلّي ما دام مصلّياً في شغل من معصية الله بإتيان الفحشاء و المنكر.

و قال بعضهم: إنّ الآية على ظاهرها و الصلاة بمنزلة من ينهى و يقول: لا تفعل كذا و لا تقترف كذا لكنّ النهي لا يستوجب الانتهاء فليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه تعالى كما في قوله:( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) النحل: 90 و نهيه تعالى لا يستوجب الانتهاء و ليس الإشكال إلّا مبنيّاً على توهّم استلزام النهي للانتهاء و هو توهّم باطل.

و عن بعضهم في دفع الإشكال أنّ الصلاة تقام لذكر الله كما قال تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) و من كان ذاكراً لله تعالى منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه و كلّ من تراه يصلّي و يأتي بالفحشاء و المنكر فهو بحيث لو لم يصلّ لكان أشدّ إتياناً فقد أثّرت الصلاة في تقليل فحشائه و منكره.

و أنت خبير بأنّ شيئاً من هذه الأجوبة لا يلائم سياق الحكم و التعليل في الآية فإنّ الّذي يعطيه السياق أنّ الأمر بإقامة الصلاة إنّما علل بقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) ليفيد أنّ الصلاة عمل عباديّ يورث إقامته صفة روحيّة في الإنسان تكون رادعة له عن الفحشاء و المنكر فتتنزّه النفس عن الفحشاء و المنكر و تتطهّر عن قذارة الذنوب و الآثام.

فالمراد به التوسّل إلى ملكة الارتداع الّتي هي من آثار طبيعة الصلاة بنحو

١٤٠