الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116491
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116491 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الاقتضاء لا أنّها أثر بعض أفراد طبيعة الصلاة كما في الجواب الثاني، و لا أنّها أثر الاشتغال بالصلاة ما دام مشتغلاً بها كما في الجواب الثالث، و لا أنّ المراد هو التوسّل إلى تلقّي نهي الصلاة فحسب من غير نظر إلى الانتهاء عن نهيها كأنّه قيل أقم الصلاة لتسمع نهيها كما في الجواب الرابع، و لا أنّ المراد أقم الصلاة لينهاك الذكر الّذي تشتمل عليه عن الفحشاء و المنكر كما في الجواب الخامس.

فالحقّ في الجواب أنّ الردع أثر طبيعة الصلاة الّتي هي توجّه خاصّ عبادي إلى الله سبحانه و هو بنحو الاقتضاء دون الاستيجاب و العلّيّة التامّة فربّما تخلّف عن أثرها لمقارنة بعض الموانع الّتي تضعّف الذكر و تقرّبه من الغفلة و الانصراف عن حاقّ الذكر فكلّما قوي الذكر و كمل الحضور و الخشوع و تمحّض الإخلاص زاد أثر الردع عن الفحشاء و المنكر و كلّما ضعف ضعف الأثر.

و أنت إذا تأمّلت حال بعض من تسمّى بالإسلام من الناس و هو تارك الصلاة وجدته يضيع بإضاعة الصلاة فريضة الصوم و الحجّ و الزكاة و الخمس و عامّة الواجبات الدينيّة و لا يفرّق بين طاهر و نجس و حلال و حرام فيذهب لوجهه لا يلوي على شي‏ء ثمّ إذا قست إليه حال من يأتي بأدنى مراتب الصلاة ممّا يسقط به التكليف، وجدته مرتدعاً عن كثير ممّا يقترفه تارك الصلاة غير مكترث به ثمّ إذا قست إليه من هو فوقه في الاهتمام بأمر الصلاة وجدته أكثر ارتداعاً منه و على هذا القياس.

و قوله:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه و الذكر يقال اعتباراً باستحضاره. و تارة يقال لحضور الشي‏ء القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كلّ قول يقال له ذكر. انتهى.

و الظاهر أنّ الأصل في معناه هو المعنى الأوّل و تسمية اللفظ ذكراً إنّما هو لاشتماله على المعنى القلبيّ و الذكر القلبيّ بالنسبة إلى اللفظي كالأثر المترتّب على سببه و الغاية المقصودة من الفعل.

١٤١

و الصلاة تسمّى ذكراً لاشتمالها على الأذكار القوليّة من تهليل و تحميد و تنزيه و هي باعتبار آخر مصداق من مصاديق الذكر لأنّها بمجموعها ممثّل لعبوديّة العبد لله سبحانه كما قال:( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) الجمعة: 9 و هي باعتبار آخر أمر يترتّب عليه الذكر ترتّب الغاية على ذي الغاية يشير إليه قوله تعالى:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) طه: 14.

و الذكر الّذي هو غاية مترتّبة على الصلاة أعني الذكر القلبيّ بمعنى استحضار المذكور في ظرف الإدراك بعد غيبته نسياناً أو إدامة استحضاره - أفضل عمل يتصوّر صدوره عن الإنسان و أعلاه كعباً و أعظمه قدراً و أثراً فإنّه السعادة الأخيرة الّتي هيّئت للإنسان و مفتاح كلّ خير.

ثمّ إنّ الظاهر من سياق قوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) أنّ قوله:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) متّصل به مبيّن لأثر آخر للصلاة و هو أكبر ممّا بيّن قبله، فيقع قوله:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) موقع الإضراب و الترقّي و يكون المراد الذكر القلبيّ الّذي يترتّب على الصلاة ترتّب الغاية على ذي الغاية فكأنّه قيل: أقم الصلاة لتردعك عن الفحشاء و المنكر بل الّذي تفيده من ذكر الله الحاصل بها أكبر من ذلك أي من النهي عن الفحشاء و المنكر لأنّه أعظم ما يناله الإنسان من الخير و هو مفتاح كلّ خير و النهي عن الفحشاء و المنكر بعض الخير.

و من المحتمل أن يراد بالذكر ما تشتمل عليه الصلاة من الذكر أو نفس الصلاة. و الجملة أيضاً واقعة موقع الإضراب، و المعنى: بل الّذي تشتمل عليه الصلاة من ذكر الله أو نفس الصلاة الّتي هي ذكر الله أكبر من هذا الأثر الّذي هو النهي عن الفحشاء و المنكر لأنّ النهي أثر من آثارها الحسنة و( لَذِكْرُ اللهِ ) على الاحتمالين جميعاً من المصدر المضاف إلى مفعوله و المفضّل عليه لقوله:( أَكْبَرُ ) هو النهي عن الفحشاء و المنكر.

و لهم في معنى الذكر و كون المضاف إليه فاعلاً أو مفعولاً للمصدر و كون المفضّل عليه خاصّاً أو عامّاً أقوال اُخر:

فقيل: معنى الآية: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى و ذلك أنّ الله

١٤٢

تعالى يذكر من ذكره لقوله:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) البقرة: 152 و قيل: المعنى: ذكر الله تعالى العبد أكبر من الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر الله العبد أكبر من كلّ شي‏ء.

و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله في الصلاة أكبر من ذكره خارج الصلاة، و قيل: المعنى: لذكر العبد لله أكبر من سائر أعماله، و قيل: المعنى: للصلاة أكبر من سائر الطاعات و قيل: المعنى: لذكر العبد لله عند الفحشاء و المنكر و ذكر نهيه عنهما أكبر من زجر الصلاة و ردعها، و قيل: إنّ قوله:( أَكْبَرُ ) معرّى من معنى التفضيل لا يحتاج إلى مفضّل عليه كقوله:( ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ ) .

فهذه أقوال لهم متفرّقة أغمضنا عن البحث عمّا فيها إيثاراً للاختصار، و التدبّر في الآية يكفي مؤنة البحث على أنّ التحكّم في بعضها ظاهر لا يخفى.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) أي ما تفعلونه من خير أو شرّ فعليكم أن تراقبوه و لا تغفلوا عنه ففيه حثّ و تحريض على المراقبة و خاصّة على القول الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) لمّا أمر في قوله:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ) إلخ، بالتبليغ و الدعوة من طريق تلاوة الكتاب عقّبه ببيان كيفيّة الدعوة فنهى عن مجادلة أهل الكتاب و هم على ما يقتضيه الإطلاق اليهود و النصارى و يلحق بهم المجوس و الصابئون - إلّا بالمجادلة الّتي هي أحسن المجادلة.

و المجادلة إنّما تحسن إذا لم تتضمّن إغلاظاً و طعناً و إهانة، فمن حسنها أن تقارن رفقاً و ليناً في القول لا يتأذّى به الخصم و أن يقترب المجادل من خصمه و يدنو منه حتّى يتّفقاً و يتعاضداً لإظهار الحقّ من غير لجاج و عناد فإذا اجتمع فيها لين الكلام و الاقتراب بوجه زادت حسناً على حسن فكانت أحسن.

و لهذا لمّا نهى عن مجادلتهم إلّا بالّتي هي أحسن استثنى منه الّذين ظلموا منهم، فإنّ المراد بالظلم بقرينة السياق كون الخصم بحيث لا ينفعه الرفق و اللين و الاقتراب في المطلوب بل يتلقّى حسن الجدال نوع مذلّة و هوان للمجادل و يعتبره تمويها و احتيالاً

١٤٣

لصرفه عن معتقده فهؤلاء الظالمون لا ينجح معهم المجادلة بالأحسن.

و لهذا أيضاً عقّب الكلام ببيان كيفيّة الاقتراب معهم و بناء المجادلة على كلمة يجتمع فيها الخصمان فيتقاربان معه و يتعاضدان على ظهور الحقّ فقال:( وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ) أي على تلك الصفة و هي الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله أنزلنا إليك القرآن.

و قيل: المعنى: مثل ما أنزلنا إلى موسى و عيسى الكتاب أنزلنا إليك الكتاب و هو القرآن.

فقوله:( فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ) إلخ، تفريع على نحو نزول الكتاب أي لمّا كان القرآن نازلاً في الإسلام لله و تصديق كتبه و رسله فأهل الكتاب يؤمنون به بحسب الطبع لما عندهم من الإيمان بالله و تصديق كتبه و رسله، و من هؤلاء و هم المشركون من عبدة الأوثان من يؤمن به و ما يجحد بآياتنا و لا ينكرها من أهل الكتاب و هؤلاء المشركين إلّا الكافرون و هم الساترون للحقّ بالباطل.

و قد احتمل أن يكون المراد بالّذين آتيناهم الكتاب المسلمين و المشار إليه بهؤلاء أهل الكتاب و هو بعيد، و مثله في البعد إرجاع الضمير في( يؤمن به ) إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في قوله:( وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) نوع استقلال لمن آمن به من المشركين.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) التلاوة هي القراءة سواء كانت عن حفظ أو عن كتاب مخطوط و المراد به في الآية الثاني بقرينة المقام، و الخطّ الكتابة، و المبطلون جمع مبطل و هو الّذي يأتي بالباطل من القول، و يقال أيضاً للّذي يبطل الحقّ أي يدّعي بطلانه، و الأنسب في الآية المعنى الثاني و إن جاز أن يراد المعنى الأوّل.

١٤٤

و ظاهر التعبير في قوله:( وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا ) إلخ، نفي العادة أي لم يكن من عادتك أن تتلو و تخطّ كما يدلّ عليه قوله في موضع آخر:( فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ ) يونس: 16.

و قيل المراد به نفي القدرة أي ما كنت تقدر أن تتلو و تخطّ من قبله و الوجه الأوّل أنسب بالنسبة إلى سياق الحجّة و قد أقامها لتثبيت حقّيّة القرآن و نزوله من عنده.

و تقييد قوله:( وَ لا تَخُطُّهُ ) بقوله:( بِيَمِينِكَ ) نوع من التمثيل يفيد التأكيد كقول القائل: رأيته بعيني و سمعته بأذني.

و المعنى: و ما كان من عادتك قبل نزول القرآن أن تقرأ كتاباً و لا كان من عادتك أن تخطّ كتاباً و تكتبه - أي ما كنت تحسن القراءة و الكتابة لكونك اُمّيّاً - و لو كان كذلك لارتاب هؤلاء المبطلون الّذين يبطلون الحقّ بدعوى أنّه باطل لكن لمّا لم تحسن القراءة و الكتابة و استمرت على ذلك و عرفوك على هذه الحال لمخالطتك لهم و معاشرتك معهم لم يبق محلّ ريب لهم في أمر القرآن النازل إليك أنّه كلام الله تعالى و ليس تلفيقاً لفّقته من كتب السابقين و نقلته من أقاصيصهم و غيرهم حتّى يرتاب المبطلون و يعتذروا به.

قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) إضراب عن مقدّر يستفاد من الآية السابقة كأنّه لمّا نفى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التلاوة و الخطّ معاً تحصّل من ذلك أنّ القرآن ليس بكتاب مؤلف مخطوط فأضرب عن هذا المقدّر بقوله:( بَلْ هُوَ - أي القرآن -آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) .

و قوله:( وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ ) المراد بالظلم بقرينة المقام الظلم لآيات الله بتكذيبها و الاستكبار عن قبولها عناداً و تعنّتاً.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) لمّا ذكر الكتاب و أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلوه و يدعوهم إليه به و أنّ منهم من يؤمن به و منهم من لا يؤمن به و هم الكافرون الظالمون أشار في هذه الآية

١٤٥

و الآيتين بعدها إلى عدم اعتنائهم بالقرآن الّذي هو آية النبوّة و اقتراحهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتيهم بآيات غيره و الجواب عنه.

فقوله:( وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ ) اقتراح منهم أن يأتيهم بآيات غير القرآن تعريضاً منهم أنّه ليس بآية و زعماً منهم أنّ النبيّ يجب أن يكون ذا قوّة إلهيّة غيبيّة يقوى على كلّ ما يريد، و في قولهم: لو لا اُنزل عليه، دون أن يقولوا: لو لا يأتينا بآيات نوع سخريّة كقولهم:( يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الحجر: 7.

و قوله:( قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ ) جواب عن زعمهم أنّ من يدّعي الرسالة يدّعي قوّة غيبيّة يقدر بها على كلّ ما أراد بأنّ الآيات عند الله ينزلها متى ما أراد و كيفما شاء لا يشاركه في القدرة عليها غيره فليس إلى النبيّ شي‏ء إلّا أن يشاء الله ثمّ زاده بياناً بقصر شأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإنذار فحسب بقوله:( إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) إلى آخر الآية توطئة و تمهيد للجواب عن تعريضهم بالقرآن أنّه ليس بآية، و الاستفهام للإنكار و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي يكفيهم آيةً هذا الكتاب الّذي أنزلناه عليك و هو يتلى عليهم فيسمعونه و يعرفون مكانته من الإعجاز و هو مملوّ رحمة و تذكرة للمؤمنين.

قوله تعالى: ( قُلْ كَفى‏ بِاللهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً ) إلقاء جواب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجيبهم به و هو أنّ الله سبحانه شهيد بيني و بينكم فيما نتخاصم فيه و هو أمر الرسالة فإنّه سبحانه يشهد في كلامه الّذي أنزله عليّ برسالتي و هو تعالى يعلم ما في السماوات و الأرض من غير أن يجهل شيئاً و كفى بشهادته لي دليلاً على دعواي.

و ليس لهم أن يقولوا إنّه ليس بكلام الله لمكان تحدّيه مرّة بعد مرّة في خلال الآيات و منه يعلم أنّ قوله:( قُلْ كَفى‏ بِاللهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً ) ليس دعوى مجرّدة أو كلاماً خطابيّاً بل هو بيان استدلاليّ و حجّة قاطعة على ما عرفت.

و قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) قصر الخسران فيهم لعدم إيمانهم بالله بالكفر بكتابه الّذي فيه شهادته على الرسالة و هم بكفرهم بالله

١٤٦

الحقّ يؤمنون بالباطل و لذلك خسروا في إيمانهم.

قوله تعالى: ( وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ ) إشارة إلى قولهم كقول متقدّميهم: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و قد حكى الله عنهم استعجالهم في قوله:( وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ ) هود: 8.

و المراد بالأجل المسمّى هو الّذي قضاه لبني آدم حين أهبط آدم إلى الأرض فقال:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: 36 و قال:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ ) الأعراف: 34.

و هذا العذاب الّذي يحول بينه و بينهم الأجل المسمّى هو الّذي يستحقّونه لمطلق أعمالهم السيّئة كما قال عزّ من قائل:( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) الكهف: 58 و لا ينافي ذلك تعجيل العذاب بنزول الآيات المقترحة على الرسول من غير إمهال و إنظار، قال تعالى:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) إسراء: 59.

قوله تعالى: ( يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ) إلى آخر الآية، تكرار( يَسْتَعْجِلُونَكَ ) للدلالة على كمال جهلهم و فساد فهمهم و أنّ استعجالهم استعجال لأمر مؤجّل لا معجّل أوّلاً و استعجال لعذاب واقع لا صارف له عنهم لأنّهم مجزيّون بأعمالهم الّتي لا تفارقهم ثانياً.

و الغشاوة و الغشاية التغطية بنحو الإحاطة، و قوله:( يَوْمَ يَغْشاهُمُ ) ظرف لقوله:( لَمُحِيطَةٌ ) و الباقي ظاهر.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) روى الواحديّ بالإسناد عن جابر قال: تلا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية و قال: العالم الّذي يعقل عن الله فعمل بطاعته و اجتنب سخطه.

١٤٧

و فيه في قوله تعالى:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) روى أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر لم يزدد من الله إلّا بعداً.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عمران بن الحصين و ابن مسعود و ابن عبّاس و ابن عمر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواه القمّيّ في تفسيره مضمراً مرسلاً.

و فيه، و أيضاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لم تطع الصلاة و طاعة الصلاة أن تنتهي عن الفحشاء و المنكر.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن مسعود و غيره.

و فيه، و روى أنس: أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي الصلوات مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يرتكب الفواحش فوصف ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّ صلاته تنهاه يوماً مّا.

و فيه، روى أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من أحبّ أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل، فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر فبقدر ما منعته قبلت صلاته.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) يقول: ذكر الله لأهل الصلاة أكبر من ذكرهم إيّاه أ لا ترى أنّه يقول:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ) .

أقول: و هذا أحد المعاني الّتي تقدّم نقلها.

و في نور الثقلين، عن مجمع البيان، و روى أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ذكرالله عند ما أحلّ و حرّم.

و فيه، عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: أن تموت و لسانك رطب من ذكر الله عزّوجلّ.

و فيه، و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معاذ إنّ السابقين الّذين يسهرون بذكر الله عزّوجلّ و من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر من ذكر الله عزّوجلّ.

و في الكافي، بإسناده عن العبديّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( بَلْ

١٤٨

هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) قال: هم الأئمّة.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في الكافي، و في بصائر الدرجات، بعدّة طرق: و هو من الجري بمعنى انطباق الآية على أكمل المصاديق بدليل الرواية الآتية.

و في البصائر، بإسناده عن بريد بن معاوية عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له:( بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) فقال: أنتم هم من عسى أن يكونوا؟.

و في الدرّ المنثور، أخرج الإسماعيليّ في معجمه و ابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة قال: كان ناس من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكتبون من التوراة فذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّ أحمق الحمق و أضلّ الضلالة قوم رغبوا عمّا جاء به نبيّهم إلى نبيّ غير نبيّهم و إلى اُمّة غير اُمّتهم ثمّ أنزل الله:( أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) الآية.

و فيه، أخرج ابن عساكر عن ابن أبي مليكة قال: أهدى عبدالله بن عامر بن كريز إلى عائشة هديّة فظنّت أنّه عبدالله بن عمر فردّتها و قالت: يتتبّع الكتب و قد قال الله:( أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى‏ عَلَيْهِمْ ) فقيل لها: إنّه عبدالله بن عامر فقبلها.

أقول: ظاهر الروايتين و خاصّة الاُولى الآية في بعض الصحابة و سياق الآيات يأبى ذلك.

١٤٩

( سورة العنكبوت الآيات 56 - 60)

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ( 56 ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ  ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( 57 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ( 58 ) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 59 ) وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 60 )

( بيان)

لمّا استفرغ الكلام في توبيخ من ارتدّ عن دينه من المؤمنين خوف الفتنة عطف الكلام على بقيّة المؤمنين ممّن استضعفه المشركون بمكّة و كانوا يهدّدونهم بالفتنة و العذاب فأمرهم أن يصبروا و يتوكّلوا على ربّهم و أن يهاجروا منها إن أشكل عليهم أمر الدين و إقامة فرائضه، و أن لا يخافوا أمر الرزق فإنّ الرزق على الله سبحانه و هو يرزقهم إن ارتحلوا و هاجروا كما كان يرزقهم في مقامهم.

قوله تعالى: ( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏ ) توجيه للخطاب إلى المؤمنين الّذين وقعوا في أرض الكفر لا يقدرون على التظاهر بالدين الحقّ و الاستنان بسنّته و يدلّ على ذلك ذيل الآية.

و قوله:( إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ) الّذي يظهر من السياق أنّ المراد بالأرض هذه الأرض الّتي نعيش عليها و إضافتها إلى ضمير التكلّم للإشارة إلى أنّ جميع الأرض لا فرق عنده في أن يعبد في أيّ قطعة منها كانت، و وسعة الأرض كناية عن أنّه إن امتنع في ناحية من نواحيها أخذ الدين الحقّ و العمل به فهناك نواح غيرها لا يمتنع فيها

١٥٠

ذلك فعبادته تعالى وحده ليست بممتنعة على أيّ حال.

و قوله:( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏ ) الفاء الاُولى للتفريع على سعة الأرض أي إذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و الفاء الثانية فاء الجزاء للشرط المحذوف المدلول عليه بالكلام و الظاهر أنّ تقديم( إيّاي ) لإفادة الحصر فيكون قصر قلب و المعنى: لا تعبدوا غيري بل اعبدوني، و قوله:( فَاعْبُدُونِ) قائم مقام الجزاء.

و محصّل المعنى: أنّ أرضي واسعة إن امتنع عليكم عبادتي في ناحية منها تسعكم لعبادتي اُخرى منها فإذا كان كذلك فاعبدوني وحدي و لا تعبدوا غيري فإن لم يمكنكم عبادتي في قطعة منها فهاجروا إلى غيرها و اعبدوني وحدي فيها.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) الآية تأكيد للأمر السابق في قوله:( فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ‏ ) و كالتوطئة لقوله الآتي:( الَّذِينَ صَبَرُوا ) إلخ.

و قوله:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) من الاستعارة بالكناية و المراد أنّ كلّ نفس ستموت لا محالة، و الالتفات في قوله:( ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) من سياق التكلّم وحده إلى سياق التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة.

و محصّل المعنى: أنّ الحياة الدنيا ليست إلّا أيّاماً قلائل و الموت وراءه ثمّ الرجوع إلينا للحساب فلا يصدّنّكم زينة الحياة الدنيا - و هي زينة فانية - عن التهيّئ للقاء الله بالإيمان و العمل ففيه السعادة الباقية و في الحرمان منه هلاك مؤبّد مخلّد.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً ) إلخ، بيان لأجر الإيمان و العمل الصالح بعد الموت و الرجوع إلى الله و فيه حثّ و ترغيب للمؤمنين على الصبر في الله و التوكّل على الله، و التبوئة الإنزال على وجه الإقامة، و الغرف جمع غرفة و هي في الدار، العليّة العالية.

و قد بيّن تعالى أوّلاً ثواب الّذين آمنوا و عملوا الصالحات ثمّ سمّاهم عاملين إذ قال:( نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ) ثمّ فسّر العاملين بقوله:( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) فعاد بذلك الصبر و التوكّل سمة خاصّة للمؤمنين فدلّ بذلك كلّه أنّ المؤمن إنّما يرضى عن إيمانه إذا صبر في الله و توكّل عليه، فعلى المؤمن أن يصبر في الله على كلّ

١٥١

أذى و جفوة ما يجد إلى العيشة الدينيّة سبيلاً فإذا تعذّرت عليه إقامة مراسم الدين في أرضه فليخرج و ليهاجر إلى أرض غيرها و ليصبر على ما يصيبه من التعب و العناء في الله.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) وصف للعالمين، و الصبر أعمّ من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر على المعصية، و إن كان المورد مورد الصبر عند المصيبة فهو المناسب لحال المؤمنين بمكّة المأمورين بالهجرة.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) كأيّن للتكثير، و حمل الرزق هو ادّخاره كما يفعله الإنسان و النمل و الفأر و النحل من سائر الحيوان.

و في الآية تطييب لنفس المؤمنين و تقوية لقلوبهم أنّهم لو هاجروا في الله أتاهم رزقهم أينما كانوا و لا يموتون جوعاً فرازقهم ربّهم دون أوطانهم، يقول: و كثير من الدوابّ لا رزق مدّخر لها يرزقها الله و يرزقكم معاشر الآدميّين الّذين يدّخرون الأرزاق و هو السميع العليم.

و في تذييل الآية بالاسمين الكريمين السميع العليم إشارة إلى الحجّة على مضمونها و هو أنّ الإنسان و سائر الدوابّ محتاجون إلى الرزق يسألون الله ذلك بلسان حاجتهم إليه و الله سبحانه سميع للدعاء عليم بحوائج خلقه و مقتضى الاسمين الكريمين أن يرزقهم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ ) يقول: لا تطيعوا أهل الفسق من الملوك فإن خفتموهم أن يفتنوكم عن دينكم فإنّ أرضي واسعة، و هو يقول:( فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ) فقال:( أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) .

و في المجمع: و قال أبوعبداللهعليه‌السلام : معناه إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها.

١٥٢

و في العيون، بإسناده إلى الرضاعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا نزلت( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) قلت: يا ربّ أ يموت الخلائق كلّهم و يبقى الأنبياء؟ فنزلت:( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

أقول: و رواه أيضاً في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عليّ، و لا يخلو متنه عن شي‏ء فإنّ قوله:( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) يخبر عن موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و موت سائر الناس، و كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّ الأنبياء المتقدّمين عليه ماتوا فلا معنى لقوله: أ يموت الخلائق كلّهم و يبقى الأنبياء.

و في المجمع، عن عطاء عن ابن عمر قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى دخلنا بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر و يأكل فقال لي: يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟ فقلت: لا أشتهيه يا رسول الله. قال: أنا أشتهيه و هذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً و لو شئت لدعوت ربّي فأعطاني مثل ملك كسرى و قيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت مع قوم يخباُون رزق سنتهم لضعف اليقين فوالله ما برحنا حتّى نزلت:( وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

أقول: و قد روى الرواية في الدرّ المنثور، و ضعف سندها و هي مع ذلك لا تلائم وقوع الآية في سياق ما تقدّمها.

١٥٣

( سورة العنكبوت الآيات 61 - 69)

وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ  فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ( 61 ) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ  إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 62 ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ  قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ  بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 63 ) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ  وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ  لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 64 ) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ( 65 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا  فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( 66 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ  أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ( 67 ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ  أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ( 68 ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا  وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 69 )

( بيان)

الآيات تصرف الخطاب عن المؤمنين إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو في المعنى خطاب عامّ يشمل الجميع و إن كان في اللفظ خاصّاً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ الحجج المذكورة فيها ممّا يناله الجميع.

١٥٤

و الآيات تذكر مناقضات في آراء المشركين فيما اُلقي في الفصل السابق على المؤمنين فآمنوا به فإنّهم يعترفون أنّ خالق السماوات و الأرض و مدبّر الشمس و القمر - و عليهما مدار الأرزاق - هو الله و أنّ منزل الماء من السماء و محيي الأرض بعد موتها هو الله سبحانه ثمّ يدعون غيره ليرزقهم و هم يعبدونه تعالى إذا ركبوا البحر ثمّ إذا أنجاهم عبدوا غيره و يقيمون في حرم آمن و هو نعمة لهم فيؤمنون بالباطل و يجحدون الحقّ و يكفرون بنعمة الله.

و ما ختمت به السورة من قوله:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) يلائم ما في مفتتح السورة( أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ - إلى أن قال -وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) .

خلق السماوات و الأرض من الإيجاد و تسخير الشمس و القمر - و ذلك بتحويل حالاتهما بالطلوع و الغروب و القرب و البعد من الأرض - من التدبير الّذي يتفرّع عليه كينونة أرزاق الإنسان و سائر الحيوان و هذا الخلق و التدبير لا ينفكّ أحدهما عن الآخر فمن اعترف بأحدهما فليعترف بالآخر.

و إذا كان الله هو الخالق و بيده تدبير السماوات و يتبعه تدبير الأرض و كينونة الأرزاق كان هو الّذي يجب أن يدعى للرزق و سائر التدبير فمن العجب حينئذ أن يصرف عنه الإنسان إلى غيره ممّن لا يملك شيئاً و هو قوله:( فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ) أي فإذا كان الخلق و تدبير الشمس و القمر إليه تعالى فكيف يصرف هؤلاء إلى دعوة غيره من الأصنام و عبادته.

قوله تعالى: ( اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ‏ ) في الآية تصريح بما تلوّح إليه الآية السابقة، و القدر التضييق و يقابله البسط و المراد به لازم معناه و هو التوسعة، و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله:( إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) للدلالة على تعليل الحكم، و المعنى: و هو بكلّ شي‏ء عليم لأنّه الله.

١٥٥

و المعنى: الله يوسّع الرزق على من يشاء من عباده و يضيّقه على من يشاء - و لا يشاء إلّا على طبق المصلحة - لأنّه بكلّ شي‏ء عليم لأنّه الله الّذي هو الذات المستجمع لجميع صفات الكمال.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها - إلى قوله -لا يَعْقِلُونَ ) المراد بإحياء الأرض بعد موتها إنبات النبات في الربيع.

و قوله:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) أي احمد الله على تمام الحجّة عليهم باعترافهم بأنّ الله هو المدبّر لأمر خلقه فلزمهم أن يعبدوه دون غيره من الأصنام و أرباب الأصنام.

و قوله:( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي لا يتدبّرون الآيات و لا يحكّمون العقول حتّى يعرفوا الله و يميّزوا الحقّ من الباطل فهم لا يعقلون حقّ التعقّل.

قوله تعالى: ( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) اللهو ما يلهيك و يشغلك عمّا يهمّك فالحياة الدنيا من اللّهو لأنّها تلهي الإنسان و تشغله بزينتها المزوّقة الفانية عن الحياة الخالدة الباقية.

و اللعب فعل أو أفعال منتظمة انتظاماً خيالياً لغاية خيالية كملاعب الصبيان و الحياة الدنيا لعب لأنّها فانية سريعة البطلان كلعب الصبيان يجتمعون عليه و يتولّعون به ساعة ثمّ يتفرّقون و سرعان ما يتفرّقون.

على أنّ عامّة المقاصد الّتي يتنافس فيها المتنافسون و يتكالب عليه الظالمون اُمور وهميّة سرابيّة كالأموال و الأزواج و البنين و أنواع التقدّم و التصدّر و الرئاسة و المولوية و الخدم و الأنصار و غيرها فالإنسان لا يملك شيئاً منها إلّا في ظرف الوهم و الخيال.

و أمّا الحياة الآخرة الّتي يعيش فيها الإنسان بكماله الواقعيّ الّذي اكتسبه بإيمانه و عمله الصالح فهي المهمّة الّتي لا لهو في الاشتغال بها و الجدّ الّذي لا لعب فيها و لا لغو و لا تأثيم، و البقاء الّذي لا فناء معه، و اللّذّة الّتي لا ألم، عندها و السعادة الّتي لا شقاء دونها، فهي الحياة بحقيقة معنى الكلمة.

و هذا معنى قوله سبحانه:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) .

١٥٦

و في الآية - كما ترى - قصر الحياة الدنيا في اللّهو و اللّعب و الإشارة إليها بهذه المفيدة للتحقير و قصر الحياة الآخرة في الحيوان و هو الحياة و تأكيده بأدوات التأكيد كإنّ و اللّام و ضمير الفصل و الجملة الاسميّة.

و قوله:( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) أي لو كانوا يعلمون لعلموا أنّ الأمر كما وصفنا.

قوله تعالى: ( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ ) تفريع على ما تحصّل من الآيات السابقة من شأنهم و هو أنّهم يؤفكون و أنّ كثيراً منهم لا يعقلون أي لمّا كانوا يؤفكون و يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره و أكثرهم لا يعقلون و يناقضون أنفسهم بالاعتراف و الجحد فَإِذا رَكِبُوا إلخ.

و الركوب الاستعلاء بالجلوس على الشي‏ء المتحرّك و هو متعدّ بنفسه و تعديته في الآية بفي لتضمّنه معنى الاستقرار أو ما يشبهه، و المعنى: فإذا ركبوا مستقرّين في الفلك أو استقرّوا في الفلك راكبين، و معنى الآية ظاهر و هي تحكي عنهم تناقضاً آخر و كفراناً للنعمة.

قوله تعالى: ( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) اللّام في( لِيَكْفُرُوا ) و( لِيَتَمَتَّعُوا ) لام الأمر و أمر الآمر بما لا يرتضيه تهديد و إنذار كقولك لمن تهدّده:( افعل ما شئت) ، قال تعالى:( اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) حم السجدة: 40.

و احتمل كون اللّام للغاية، و المعنى: أنّهم يأتون بهذه الأعمال لتنتهي بهم إلى كفران النعمة الّتي آتيناهم و إلى التمتّع، و أوّل الوجهين أوفق لقوله في ذيل الآية:( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ، و يؤيّده قوله في موضع آخر:( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) الروم: 34 و لذا قرأه من قرأ( وَ لِيَتَمَتَّعُوا ) بسكون اللّام إذ لا يسكن غير لام الأمر.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ) الحرم الأمن هو مكّة و ما حولها و قد جعله الله مأمنا بدعاء إبراهيمعليه‌السلام و التخطّف كالخطف استلاب الشي‏ء بسرعة و اختلاسه و قد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور

١٥٧

و التناهب و لا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل و السبي و النهب لكنّهم يحترمون الحرم و لا يتعرّضون لمن أقام بها فيها.

و المعنى: أ و لم ينظروا أنّا جعلنا حرماً آمنّا لا يتعرّض لمن فيه بقتل أو سبي أو نهب و الحال أنّ الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم.

و قوله:( أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ ) توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة و هي نعمة عظيمة بالكفران لكنّهم يؤمنون بالأصنام و هي باطلة ليس لها إلّا الاسم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ ) تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشدّ الظلم و أعظمه و هو افتراء الكذب على الله بالقول بالآلهة و أنّ الله اتّخذهم شركاء لنفسه، و تكذيب الإنسان بالحقّ لمّا جاءه و الوصفان جميعاً موجودان فيهم فقد عبدوا الأصنام و كذّبوا بالقرآن لمّا جاءهم فهم كافرون و مثوى الكافرين و محلّ إقامتهم في الآخرة جهنّم.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) الجهد الوسع و الطاقة و المجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدوّ و الجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدوّ الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس كذا ذكره الراغب.

و قوله:( جاهَدُوا فِينا ) أي استقرّ جهادهم فينا و هو استعارة كنائيّة عن كون جهده مبذولاً فيما يتعلّق به تعالى من اعتقاد عمل، فلا ينصرف عن الإيمان به و الائتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه.

و قوله:( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) أثبت لنفسه سبلاً و هي أيّاً مّا كانت تنتهي إليه تعالى فإنّما السبيل سبيل لتأديته إلى ذي السبيل و هو غايتها فسبله هي الطرق المقرّبة منه و الهادية إليه تعالى، و إذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) محمّد: 17.

١٥٨

و ممّا تقدّم يظهر أن لا حاجة في قوله:( فِينا ) إلى تقدير مضاف كشأن و التقدير في شأننا.

و قوله:( وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) قيل أي معيّة النصرة و المعونة و تقدّم الجهاد المحتاج إليهما قرينة قويّة على إرادة ذلك. انتهى. و هو وجه حسن و أحسن منه أن يفسّر بمعيّة الرحمة و العناية فيشمل معيّة النصرة و المعونة و غيرهما من أقسام العنايات الّتي له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم و شمول رحمته لهم، و هذه المعية أخصّ من معيّة الوجود الّذي ينبئ عنه قوله تعالى:( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) الحديد: 4.

و قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ الآية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي جعفر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عجباً كلّ العجب للمصدّق بدار الحيوان و هو يسعى لدار الغرور.

و فيه، أخرج جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس أنّهم قالوا: يا محمّد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلّا مخافة أن يتخطّفنا الناس لقلّتنا و العرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنّا أكلة رأس فأنزل الله:( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً ) الآية.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: هذه الآية لآل محمّدعليه‌السلام و لأشياعهم.

١٥٩

( سورة الروم مكّيّة، و هي ستّون آية)

( سورة الروم الآيات 1 - 19)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ الم ( 1 ) غُلِبَتِ الرُّومُ ( 2 ) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ( 3 ) فِي بِضْعِ سِنِينَ  لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ  وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4 ) بِنَصْرِ اللهِ  يَنصُرُ مَن يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 5 ) وَعْدَ اللهِ  لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 6 ) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( 7 ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم  مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ( 8 ) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ  فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 9 ) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 ) اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 11 ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ( 12 ) وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ( 13 ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ( 14 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ

١٦٠