الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116600
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116600 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ( 15 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ( 16 ) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( 17 ) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( 18 ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ( 19 )

( بيان)

تفتتح السورة بوعد من الله و هو أنّ الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيّام نزول السورة عن الفرس ثمّ تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر و هو الوعد بيوم يرجع الكلّ فيه إلى الله و تقيم الحجّة على المعاد ثمّ تنعطف إلى ذكر آيات الربوبيّة و تصف صفاته تعالى الخاصّة به ثمّ تختتم السورة بوعد النصر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تؤكّد القول فيه إذ تقول:( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) و قد قيل قبيل ذلك:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

فغرض السورة هو الوعد القطعيّ منه تعالى بنصرة دينه و قد قدّم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدلّ بإنجاز هذا الوعد على إنجاز ذلك الوعد، و كذا يحتجّ به و من طريق العقل على أنّه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.

قوله تعالى: ( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ) الروم جيل من الناس على ساحل البحر الأبيض بالمغرب كانت لهم إمبراطوريّة وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم و بين الفرس حرب عوان في بعض نواحي الشام قريباً من الحجاز فغلبت الفرس و انهزمت الروم، و الظاهر أنّ المراد بالأرض أرض الحجاز و اللّام للعهد.

١٦١

قوله تعالى: ( وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) ضمير الجمع الأوّل للروم و كذا الثالث و أمّا الثاني فقد قيل إنّه للفرس و المعنى: و الروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، و يمكن أن يكون الغلب من المصدر المبنيّ للمفعول و الضمير للروم كالضميرين قبلها و بعدها فلا تختلف الضمائر و المعنى: و الروم من بعد مغلوبيّتهم سيغلبون. و البضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة.

قوله تعالى: ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ ) قبل و بعد مبنيّان على الضمّ فهناك مضاف إليه مقدّر و التقدير لله الأمر من قبل أن غلبت الروم و من بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء و يخذل من يشاء.

و قيل: المعنى لله الأمر من قبل كونهم غالبين و هو وقت كونهم مغلوبين و من بعد كونهم مغلوبين و هو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين و وقت كونهم غالبين و المعنى الأوّل أرجح إن لم يكن راجحاً متعيّناً.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) الظرف متعلّق بيفرح و كذا قوله( يَنْصُرُ ) و المعنى: و يوم إذ يغلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثمّ استأنف و قال:( يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ) تقريراً لقوله:( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) أي عزيز يعزّ بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء.

و في الآية وجوه اُخر ضعيفة ذكروها:

منها أنّ قوله:( وَ يَوْمَئِذٍ ) عطف على قوله:( مِنْ قَبْلُ ) و المراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الأزمنة الثلاثة: الماضي و المستقبل و الحال كأنّه قيل: لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ ثمّ ابتداء و قيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. و فيه أنّه يبطل انسجام الآية و ينقطع به آخرها عن أوّلها.

و منها: أنّ قوله:( بِنَصْرِ ) متعلّق بقوله:( الْمُؤْمِنُونَ ) دون( يَفْرَحُ ) و يدلّ بالملازمة المقاميّة أنّ غلبة الروم بنصر من الله.

١٦٢

و فيه أنّ لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس و يوم غلبة الروم جميعاً فإنّ في الغلبة نصراً و كلّ نصر من الله قال تعالى:( وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجّح فافهمه.

و منها: أنّ المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصر الروم على الفرس و إن توافق النصران زماناً فكأنّه قيل: إنّ الروم سيغلبون في بضع سنين و يوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله إيّاهم.

و فيه أنّ هذا المعنى لا يلائم قوله بعد:( يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ) .

و منها: أنّ المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق إخبارهم بغلبة الروم، و قيل: النصر هو استيلاء بعض الكفّار على بعض و تفرّق كلمتهم و انكسار شوكتهم. و هذان و ما يشبههما وجوه لا يعبؤ بها.

قوله تعالى: ( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( وَعْدَ اللهِ ) مفعول مطلق محذوف العامل و التقدير وعد الله وعداً و إخلاف الوعد خلاف إنجازه و قوله:( وَعْدَ اللهِ ) تأكيد و تقرير للوعد السابق في قوله:( سَيَغْلِبُونَ ) و( يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) كما أنّ قوله:( لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) تأكيد و تقرير لقوله:( وَعْدَ اللهِ ) .

و قوله:( لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ) كقوله:( إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) الرعد: 31 و خلف الوعد و إن لم يكن قبيحاً بالذات لأنّه ربّما يحسن عند الاضطرار لكنّه سبحانه لا يضطرّه ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال.

على أنّ خلف الوعد يلازم النقص دائماً و يستحيل النقص عليه تعالى.

على أنّه تعالى أخبر في كلامه بأنّه لا يخلف الميعاد و هو أصدق الصادقين و هو القائل عزّ من قائل:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: 84.

و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) أي هم جهلاء بشؤونه تعالى لا يثقون بوعده و يقيسونه إلى أمثالهم ممّن يصدّق و يكذب و ينجز و يخلف.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ )

١٦٣

جملة( يَعْلَمُونَ ) على ما ذكره في الكشّاف، بدل من قوله:( لا يَعْلَمُونَ ) و في هذا الإبدال من النكتة أنّه أبدله منه و جعله بحيث يقوم مقامه و يسدّ مسدّه ليعلمك أنّه لا فرق بين عدم العلم الّذي هو الجهل و بين وجود العلم الّذي لا يتجاوز الدنيا انتهى.

و قيل: الجملة استثنائيّة لبيان موجب جهلهم بأنّ وعد الله حقّ و أنّ لله الأمر من قبل و من بعد و أنّه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى و هذا أظهر.

و تنكير( ظاهِراً ) للتحقير و ظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها و هو الّذي يناله حواسّهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها و العكوف عليها و الإخلاد إليها و نسيان ما وراءها من الحياة الآخرة و المعارف المتعلّقة بها و الغفلة عمّا فيه خيرهم و نفعهم بحقيقة معنى الكلمة.

و قيل: الظهور في الآية بمعنى الزوال و استشهد بقوله:

و عيّرها الواشون أنّي اُحبّها

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و المعنى: يعلمون أمراً زائلاً لا بقاء له لكنّه معنى شاذّ الاستعمال.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إلخ المراد من خلق السماوات و الأرض و ما بينهما - و ذلك جملة العالم المشهود - بالحقّ أنّها لم تخلق عبثاً لا غاية لها وراءها بأن يوجد و يعدم ثمّ يوجد ثمّ يعدم من غير غرض و غاية فهو تعالى إنّما خلقها لغاية تترتّب عليها.

ثمّ إنّ العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الآخر حتّى يحتمل كون كلّ جزء لاحق غاية للجزء السابق و كلّ آت خلفاً لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم و هذا المعنى هو المراد بتقييد قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما ) بقوله:( وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) بعد تقييده بقوله:( إِلَّا بِالْحَقِّ ) .

فقوله:( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) الاستفهام للتعجيب، و كونهم في أنفسهم استعارة كنائيّة عن فراغ البال و حضور الذهن كأنّهم عند اشتغالهم باُمور الدنيا و سعيهم للمعيشة

١٦٤

و تشوّش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرّين في أنفسهم فيكون تفكّرهم حينئذ مجتمعاً غير متفرّق فيهديهم إلى الحقّ و يرشدهم إلى الواقع.

و قيل: المراد بتفكّرهم في أنفسهم أن يتفكّروا في خلق أنفسهم و أنّ الواحد منهم محدث و المحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حيّ قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثاً بل لغاية مطلوبة و ليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق و هو الثواب و لا يكون إلّا لصالح العمل فلا بدّ من دين مشرّع يميّز العمل الصالح من السيّئ فلا بدّ من دار يمتحنون فيها و هي الدنيا و دار يثابون فيها و هي الآخرة.

و فيه أنّ الجملة أعني قوله:( أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ) صالح في نفسه لأن يراد منها هذا المعنى لكن اتّصال قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ ) إلخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتّصال لعدم الارتباط بين صدر الآية و ذيلها على هذا التقدير.

و قوله:( ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى ) هو الفكر الّذي يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم و تقريره على ما تقدّم أنّ الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلّا و لا بعضاً إلّا خلقاً ملابساً للحقّ أو مصاحباً للحقّ أي لغاية حقيقيّة لا عبثاً لا غاية له و إلّا إلى أجل معيّن فلا يبقى شي‏ء منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى و ينقطع و إذا كان كلّ من أجزائه و المجموع مخلوقاً ذا غاية تترتّب عليها و ليس شي‏ء منها دائم الوجود كانت غايته مترتّبة عليه بعد انقطاع وجوده و فنائه، و هذا هو الآخرة الّتي ستظهر بعد انقضاء الدنيا و فنائها.

و قوله:( وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ ) مسوق سوق التعجيب كما بدأت الآية باستفهام التعجيب، و المراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، و قد عبّر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجباً فكيف يمكن أن يبتدؤا منه ثمّ لا ينتهوا إليه، و لذلك أكّده بإنّ إشارة إلى أنّ الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدّق به.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ )

١٦٥

إلى آخر الآية، لمّا ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد و ذلك أمر يلغو معه الدين الحقّ ذكّرهم حال الاُمم الكافرة و ما انتهت إليه من سوء العذاب لعلّهم يعتبرون بها فيرجعوا عمّا هم عليه من الكفر. و إثارة الأرض قلبها ظهر البطن للحرث و التعمير و نحو ذلك.

و قوله:( وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) أي بالكفر و المعاصي.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) بيان لما انتهى إليه أمر اُولئك الظالمين و لذا عبّر بثمّ، و( عاقِبَةَ ) بالنصب خبر كان و اسمه( السُّواى) قدّم الخبر عليه لإفادة الحصر و( أَساؤُا ) مقطوع عن المتعلّق بمعنى عملوا السوء، و السوآى الخلّة الّتي يسوء صاحبها و المراد بها سوء العذاب و( أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ ) بحذف لام التعليل و التقدير لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و المعنى: ثمّ كان سوء العذاب هو الّذي انتهى إليه أمر اُولئك الّذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله و استهزائهم بها.

و قيل: إنّ( السُّواى) مفعول لقوله:( أَساؤُا ) و خبر كان هو قوله:( أَنْ كَذَّبُوا ) إلخ، و المراد أنّ المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله و الاستهزاء بها.

و فيه: أنّه في نفسه معنى صحيح لكنّ المناسب للمقام هو المعنى الأوّل لأنّ المقام مقام الاعتبار و الإنذار و المناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرّقة إلى التكذيب و الاستهزاء الّذي هو أعظمها.

قوله تعالى: ( اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) بعد ما ذكر الحجّة و تكذيب كثير من الناس لخّص القول في نتيجتها و هو أنّ البدء و العود بيده سبحانه و سيرجع إليه الجميع، و المراد بالخلق المخلوقون، و لذا أرجع إليه ضمير الجمع في( تُرْجَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ) ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة و هي ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب و الجزاء، و الإبلاس اليأس من الله و فيه كلّ الشقاء.

١٦٦

قوله تعالى: ( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ) يريد أنّهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الّذين اتّخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عندالله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عندالله و كانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ - إلى قوله -مُحْضَرُونَ ) قال في المجمع: الروضة البستان المتناهي منظراً و طيباً. انتهى. و قال في المفردات: الحبر الأثر المستحسن - إلى أن قال - و قوله عزّوجلّ:( فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ) أي يفرحون حتّى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى.

و المراد بتفرّق الخلق يومئذ تميّز المؤمنين الصالحين من المجرمين و دخول هؤلاء النار و دخول اُولئك الجنّة على ما يشير إليه الآيتان التاليتان.

و لزوم هذا التميّز و التفرّق في الوجود هو الّذي أخذه الله سبحانه حجّة على ثبوت المعاد حيث قال:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) الجاثية: 21.

قوله تعالى: ( فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) لمّا ذكر أنّه يبدأ الخلق ثمّ يعيدهم و يرجعهم للقائه فيفرّقهم طائفتين: أهل الجنّة و النعمة و أهل النار و العذاب، أمّا أهل الجنّة فهم المؤمنون العاملون للصالحات و أمّا أهل النار فهم الكفّار المكذّبون لآيات الله و قد ذكر أنّهم كانوا في الدنيا أهل قوّة و نعمة لكنّهم نسوا الآخرة و كذّبوا بآيات الله و استهزؤا بها حتّى انتهى بهم الأمر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

فتحصّل من ذلك أنّ في دار الخلقة تدبيراً إلهيّاً متقناً صالحاً جميلاً على أجمل ما يكون و أنّ للإنسان على توالي الأزمنة و الدهور آثاماً و خطيئات من العقيدة السيّئة في حقّ ربّه و اتّخاذ شركاء له و إنكار لقائه إلى سائر المعاصي.

ذيّل الكلام بتسبيحه كلّما تجدّد حين بعد حين و تحميده على صنعه و تدبيره

١٦٧

في السماوات و الأرض و هو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزّه عن هذه الاعتقادات الباطلة و الأعمال الرديّة و محمود في جميع ما خلقه و دبّره في السماوات و الأرض.

و من هناك يظهر:

أوّلاً: أنّ التسبيح و التحميد في الآيتين إنشاء تنزيه و ثناء منه تعالى لا من غيره حتّى يكون المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله فقد تكرّر في كلامه تعالى تسبيحه و تحميده لنفسه كقوله:( سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ) الصافّات: 180 و قوله:( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ ) الفرقان: 1.

و ثانياً: أنّ المراد بالتسبيح و التحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليوميّة المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدّراً. و المعنى: قولوا سبحان الله و قولوا الحمد لله.

و ثالثاً: أنّ قوله:( وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) معترضة واقعة بين المعطوف و المعطوف عليه، و قوله:( وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ ) معطوفان على محلّ( حِينَ تُمْسُونَ ) لا على قوله:( فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) حتّى يختصّ المساء و الصباح بالتسبيح و السماوات و الأرض و العشيّ و الظهيرة بالتحميد بل الأوقات و ما فيها للتسبيح و الأمكنة و ما فيها للتحميد.

فالسياق يشير إلى أنّ ما في السماوات و الأرض من خلق و أمر هو لله يستدعي بحسنه حمداً و ثناءً لله سبحانه و أنّ للإنسان على مرّ الدهور و تغيّر الأزمنة و الأوقات من الشرك و المعصية ما يتنزّه عنه ساحة قدسه تعالى و تقدّس.

نعم ههنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد و التسبيح و هو أنّ الأزمنة و الأوقات على تغيّرها و تصرّمها من جملة ما في السماوات و الأرض فهي بوجودها يثني على الله تعالى، ثمّ كلّ ما في السماوات و الأرض بفقرها إليه تعالى و ذلّتها دونه و نقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبّحه كما قال:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 44 لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الآيتين اللّتين نحن فيهما.

و للمفسّرين في الآيتين أقوال اُخر متفرّقة أشرنا إلى المهمّ منها في الوجوه الّتي قدّمناها.

١٦٨

و تغيير السياق في قوله:( وَ عَشِيًّا ) لكون العشيّ لم يبن منه فعل من باب الإفعال بخلاف المساء و الصباح و الظهيرة حيث بني منها الإمساء و الإصباح و الإظهار بمعنى الدخول في المساء و الصباح و الظهيرة كذا قيل.

و الخطاب الّذي في الآيتين في قوله:( تُمْسُونَ و تُصْبِحُونَ و تُظْهِرُونَ ) ليس من الالتفات في شي‏ء بل تعميم للخطاب الّذي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ شرعت السورة، و المعنى: فإذا كان الأمر على هذه السبيل فالله منزّه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء و حينما دخلتم في صباح و في العشيّ و حينما دخلتم في ظهيرة و له الثناء الجميل في السماوات و الأرض.

و نظير هذا التعميم ما في قوله سابقاً:( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) و لاحقاً في قوله:( وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) .

قوله تعالى: ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) ظاهر إخراج الحيّ من الميّت و بالعكس خلق ذوي الحياة من الأرض الميتة ثمّ تبديل ذوي الحياة أرضاً ميتة، و قد فسّر بخلق المؤمن من الكافر و خلق الكافر من المؤمن فإنّه يعدّ المؤمن حيّاً و الكافر ميتاً، قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً ) الأنعام: 122.

و أمّا إحياء الأرض بعد موتها فهو انتعاش الأرض و ابتهاجها بالنبات في الربيع و الصيف بعد خمودها في الخريف و الشتاء، و قوله:( وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي تبعثون و تخرجون من قبوركم بإحياء جديد كإحياء الأرض بعد موتها، و قد تقدّم تفسير نظير صدر الآية و ذيلها مراراً.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الترمذيّ و حسّنه و النسائيّ و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الكبير و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل و الضياء عن ابن عبّاس في قوله:( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) قال: غُلبت و غَلبت.

١٦٩

قال: كان المشركون يحبّون أن يظهر فارس على الروم، لأنّهم أصحاب أوثان، و كان المسلمون يحبّون أن يظهر الروم على فارس لأنّهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر فذكره أبوبكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا إنّهم سيغلبون فذكره أبوبكر لهم فقالوا: اجعل بيننا و بينك أجلاً فإن ظهرنا كان لنا كذا و كذا و إن ظهرتم كان لكم كذا و كذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبوبكر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أ لّا جعلته - أراه قال: - دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله:( الم غُلِبَتِ الرُّومُ ) فغُلبت ثمّ غَلبت بعد.

يقول الله:( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ) قال سفيان: سمعت أنّهم قد ظهروا يوم بدر.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر مختلفة المضامين في الجملة ففي بعضها أنّ المقامرة كانت بين أبي بكر و اُبيّ بن خلف و في بعضها أنّها كانت بين المسلمين و المشركين و كان أبوبكر من قبل المسلمين و اُبيّ من قبل المشركين، و في بعضها أنّها كانت بين الطائفتين، و في بعضها بين أبي بكر و بين المشركين كما في هذه الرواية.

ثمّ الأجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، و في بعضها خمس، و في بعضها ستّ، و في بعضها سبع سنين.

و في بعضها أنّ الأجل المضروب أوّلاً انقضى بمكّة و هو سبع سنين فمادّهم أبوبكر سنتين بأمر من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغلبت الروم، و في بعضها خلافه.

ثمّ في بعضها أنّ الأجل الثاني انقضى بمكّة و في بعضها أنّه انقضى بعد الهجرة و كانت غلبة الروم يوم بدر، و في بعضها يوم الحديبية.

و في بعضها أنّ أبابكر لمّا قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر و هو مائة قلوص و جاء به إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّه سحت تصدّق به.

و الّذي تتّفق فيه الروايات أنّه قامرهم فقمرهم و كان القمار بإشارة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وجّه ذلك بأنّه كان قبل تحريم القمار فإنّه حرّم مع الخمر في سورة المائدة و قد نزلت في آخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٧٠

و قد تحقّق بما قدّمناه في تفسير آية الخمر و الميسر أنّ الخمر كانت محرّمة من أوّل البعثة و كان من المعروف من الدين أنّه يحرّم الخمر و الزنا.

على أنّ الخمر و الميسر من الإثم بنصّ آية البقرة:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) الآية: البقرة: 219 و الإثم محرّم بنصّ آية الأعراف:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ ) الآية: الأعراف: 33 و الأعراف من العتائق النازلة بمكّة فمن الممتنع أن يشير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمقامرة.

و على تقدير تأخّر الحرمة إلى آخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشكل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر لمّا أتى بالخطر إليه إنّه سحت ثمّ قوله: تصدّق به. فلا سبيل إلى تصحيح شي‏ء من ذلك بالموازين الفقهيّة و قد تكلّفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد إلّا إشكالاً.

ثمّ إنّ ما في الرواية أنّ الفرس كانوا عبدة الأوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فإنّهم و إن كانوا مشركين لكنّهم كانوا لا يتّخذون أوثاناً.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ ) قال: يرون حاضر الدنيا و يتغافلون عن الآخرة.

و في الخصال و سئل الصادقعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ) فقال: أ و لم ينظروا في القرآن.

و في تفسير القمّيّ، و قوله عزّوجلّ:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ) قال: إلى الجنّة و النار.

١٧١

( سورة الروم الآيات 20 - 26)

وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ( 20 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 21 ) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ( 22 ) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 23 ) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 24 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ  ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ( 25 ) وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( 26 )

( بيان)

يذكر في هذا الفصل عدّة من الآيات الدالّة على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و يشار فيها إلى امتزاج الخلق و التدبير و تداخلهما ليتّضح بذلك أنّ الربوبيّة بمعنى ملك التدبير و الاُلوهيّة بمعنى المعبوديّة بالحقّ لا يستحقّهما إلّا الله الّذي خلق الأشياء و أوجدها، لا كما يزعم الوثنيّ أنّ الخلق لله وحده و التدبير و العبادة لأرباب الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عندالله، و ليس له سبحانه إلّا أنّه ربّ

١٧٢

الأرباب و إله الآلهة.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الإنسان إلى الأرض فإنّ مراتب تكوّن الإنسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضيّة تنتهي إلى العناصر الأرضيّة.

و قوله:( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) إذا فجائيّة أي يفاجئكم أنّكم أناسيّ تنتشرون في الأرض أي يخلقكم من تركيبات أرضيّة المترقّب منها كينونة أرضيّة ميتة اُخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنّه يصير بشراً ذوي حياة و شعور عقليّ ينتشرون في الأرض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله:( ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ) في معنى قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: 14.

فخلق الإنسان أي جمع أجزائه من الأرض و تأليفها آية و كينونة هذا المجموع إنساناً ذا حياة و شعور عقليّ آية أو آيات اُخر تدلّ على صانع حيّ عليم يدبّر الأمر و يجري هذا النظام العجيب.

و قد ظهر بهذا المعنى أنّ( ثُمَّ ) للتراخي الرتبيّ و الجملة معطوفة على قوله:( خَلَقَكُمْ ) لا على قوله:( أَنْ خَلَقَكُمْ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) إلى آخر الآية، قال الراغب: يقال لكلّ واحد من القرينين من الذكر و الاُنثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج و لكلّ قرينين فيها و في غيرها: زوج، قال تعالى:( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ ) و قال:( وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) و زوجة لغة رديئة و جمعها زوجات - إلى أن قال - و جمع الزوج أزواج. انتهى.

فقوله:( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها ) أي خلق لأجلكم - أو لينفعكم - من جنسكم قرائن و ذلك أنّ كلّ واحد من الرجل و المرأة مجهّز بجهاز التناسل تجهيزاً يتمّ فعله بمقارنة الآخر و يتمّ بمجموعهما أمر التوالد و التناسل فكلّ واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر و يحصل من المجموع واحد تامّ له أن يلد و ينسل، و لهذا النقص و الافتقار يتحرّك الواحد منهما إلى الآخر حتّى إذا اتّصل

١٧٣

به سكن إليه لأنّ كلّ ناقص مشتاق إلى كماله و كلّ مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره و هذا هو الشبق المودع في كلّ من هذين القرينين.

و قوله:( وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً ) المودّة كأنّها الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الّذي هو نوع تأثّر نفسانيّ عن العظمة و الكبرياء.

و الرحمة نوع تأثّر نفسانيّ عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال و حاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى إنجائه من الحرمان و رفع نقصه.

و من أجلي موارد المودّة و الرحمة المجتمع المنزليّ فإنّ الزوجين يتلازمان بالمودّة و المحبّة و هما معاً و خاصّة الزوجة يرحمان الصغار من الأولاد لما يريان ضعفهم و عجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيويّة فيقومان بواجب العمل في حفظهم و حراستهم و تغذيتهم و كسوتهم و إيوائهم و تربيتهم و لو لا هذه الرحمة لانقطع النسل و لم يعش النوع قطّ.

و نظير هذه المودّة و الرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدنيّ بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودّة و يرحم المساكين و العجزة و الضعفاء الّذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة.

و المراد بالمودّة و الرحمة في الآية الاُوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الأخيرتان على ما يعطيه إطلاق الآية.

و قوله:( لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) لأنّهم إذا تفكّروا في الاُصول التكوينيّة الّتي يبعث الإنسان إلى عقد المجتمع من الذكورة و الاُنوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزليّ و المودّة و الرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنيّ ثمّ ما يترتّب على هذا الاجتماع من بقاء النوع و استكمال الإنسان في حياتية الدنيا و الاُخرى عثروا من عجائب الآيات الإلهيّة في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم و تدهش به أحلامهم.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ ) إلى آخر الآية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الألسن اختلاف اللغات من العربيّة

١٧٤

و الفارسيّة و الاُردويّة و غيرها و باختلاف الألوان اختلاف الاُمم في ألوانهم كالبياض و السواد و الصفرة و الحمرة.

و يمكن أن يستفاد اختلاف الألسنة من جهة النغم و الأصوات و نحو التكلّم و النطق و باختلاف الألوان اختلاف كلّ فردين من أفراد الإنسان بحسب اللون لو دقّق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن.

فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالّة على أنّ الصنع و الإيجاد مع النظام الجاري فيه لا يقوم إلّا بالله و لا ينتهي إلّا إليه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) إلى آخر الآية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة و يطلق على العطيّة لأنّ المعطي إنّما يعطي ما فضل من مقدار حاجته، و المراد به في الآية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق.

و في خلق الإنسان ذا قوى فعّالة تبعثه إلى طلب الرزق و رفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة و السعي ثمّ هدايته إلى الاستراحة و السكون لرفع متاعب السعي و تجديد تجهيز القوى و تخصيص الليل و النهار المتعاقبين للسعي و السكون و التسبيب إلى وجود الليل و النهار بأوضاع سماويّة قائمة بالأرض و الشمس لآيات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقّاً اتّبعه.

قال في الكشّاف، في الآية: هذا من باب اللف و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار إلّا أنّه فصل بين القرينين الأوّلين بالقرينين الآخرين لأنّهما زمانان و الزمان و الواقع فيه كشي‏ء واحد مع إعانة اللفّ على الاتّحاد و يجوز أن يراد منامكم في الزمانين و ابتغاؤكم فيهما، و الظاهر هو الأوّل لتكرّره في القرآن و أسدّ المعاني ما دلّ عليه القرآن. انتهى.

و قد ظهر ممّا تقدّم معنى تذييل الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) الظاهر أنّ الفعل نزّل منزلة المصدر و لذلك لم يصدّر

١٧٥

بأن المصدريّة كما صدّر به قوله:( أَنْ خَلَقَكُمْ ) و قوله:( أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ) و تنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربيّة جيّدة و عليه يحمل المثل السائر:( و تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه) و لا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الآيات بفنون التعبير كقوله:( مَنامُكُمْ ) ( يُرِيكُمُ ) ( أَنْ تَقُومَ ) .

و احتمل في قوله:( يُرِيكُمُ ) أن يكون بحذف أن المصدريّة و التقدير أن يريكم البرق و اُيّد بقراءة النصب في يريكم.

و احتمل أن يكون من حذف المضاف، و التقدير: و من آياته آية أن يريكم البرق، و احتمل أن يكون التقدير و من آياته آية البرق ثمّ استونف فقيل: يريكم البرق إلخ، و احتمل أن يكون( مِنْ آياتِهِ ) متعلّقاً بقوله:( يُرِيكُمُ ) ، و التقدير: و يريكم من آياته البرق، و احتمل أن يكون( مِنْ آياتِهِ ) حالاً من البرق، و التقدير: و يريكم البرق حال كون البرق من آياته.

و هذه وجوه متفرّقة لا يخفى عليك بعدها على أنّ بعضها يخرج الكلام في الآية عن موافقة السياق في الآيات السابقة النظيرة له كالوجهين الأخيرين.

و قوله:( خَوْفاً وَ طَمَعاً ) أي خوفاً من الصاعقة و طمعاً في المطر، و قوله:( وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) تقدّم تفسيره كراراً، و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) أي إنّ أهل التعقّل يفقهون أنّ هناك عناية متعلّقه بهذه المصالح فليس مجرّد اتّفاق و صدفة.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) القيام مقابل القعود و لمّا كان أعدل حالات الإنسان حيث يقوى به على عامّة أعماله أستعير لثبوت الشي‏ء و استقراره على أعدل حالاته كما يستعار لتدبير الأمر، قال تعالى:( أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) الرعد: 33.

و المراد بقيام السماء و الأرض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة و سكون و تغيّر و ثبات بأمره تعالى و قد عرّف أمره بقوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82.

١٧٦

و قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ) ( إِذا ) الاُولى شرطيّة و( إِذا ) الثانية فجائيّة قائمة مقام فاء الجزاء و( مِنَ الْأَرْضِ ) متعلّق بقوله:( دَعْوَةً ) و الجملة معطوفة على محلّ الجملة الاُولى لأنّ المراد بالجملة أعني قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ ) إلخ البعث و الرجوع إلى الله و ليس في عداد الآيات بل الجملة إخبار بأمر احتجّ عليه سابقاً و سيحتجّ عليه لاحقاً.

و أمّا قول القائل: إنّ الجملة على تأويل المفرد و هي معطوفة على( أَنْ تَقُومَ ) و التقدير و من آياته قيام السماء و الأرض بأمره ثمّ خروجكم إذا دعاكم دعوة من الأرض.

فلازمه كون البعث معدوداً من الآيات و ليس منها على أنّ البعث أحد الاُصول الثلاثة الّتي يحتجّ بالآيات عليه، و لا يحتجّ به على التوحيد مثلاً بل لو احتجّ فبالتوحيد عليه فافهم ذلك.

و لمّا كانت الآيات المذكورة من خلق البشر من تراب و خلقهم أزواجاً و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم و منامهم و ابتغائهم من فضله و إراءة البرق و تنزيل الماء من السماء كلّها آيات راجعة إلى تدبير أمر الإنسان كان المراد بقوله:( أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ ) بمعونة السياق ثبات السماء و الأرض على وضعهما الطبيعيّ و حالهما العاديّة ملائمتين لحياة النوع الإنسانيّ المرتبطة بهما و كان قوله:( ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ ) إلخ مترتّباً على ذلك ترتّب التأخير أي أنّ خروجهم من الأرض متأخّر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى.

و يظهر بذلك أيضاً أنّ المراد من قوله السابق( وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشريّة و ينفعانها.

و قد رتّبت الآيات المذكورة آخذة من بدء خلق الإنسان و تكوّنه ثمّ تصنّفه صنفين: الذكر و الاُنثى ثمّ ارتباط وجوده بالسماء و الأرض و اختلاف ألسنتهم و ألوانهم ثمّ السعي في طلب الرزق و سكون المنام ثمّ إراءة البرق و تنزيل الأمطار حتّى تنتهي إلى قيام السماء و الأرض إلى أجل مسمّى ليتمّ لهذا النوم الإنساني ما قدّر له من

١٧٧

أمد الحياة و يعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الآيات من النكات.

و قد رتّبت الفواصل أعني قوله:( يَتَفَكَّرُونَ ) ( لِلْعالِمِينَ ) ( يَسْمَعُونَ ) ( يَعْقِلُونَ ) على هذا الترتيب لأنّ الإنسان يتفكّر فيصير عالماً ثمّ إذا سمع شيئاً من الحقائق وعاه ثمّ عقله و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) كانت الآيات المذكورة مسوقة لإثبات ربوبيّته تعالى و اُلوهيّته كما تقدّمت الإشارة إليه و لمّا انتهى الكلام إلى ذكر البعث و الرجوع إلى الله عقّب ذلك بالبرهان على إمكانه و الحجّة مأخوذة من الخلق و التدبير المذكورين في الآيات السابقة.

فقوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إشارة إلى إحاطة ملكه الحقيقيّ لجميع من في السماوات و الأرض و هم المحشورون إليه و ذلك لأنّ وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر و حاجة لا استقلال و لا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه و هذا هو الملك الحقيقيّ الّذي أثره جواز تصرّف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرّف في مملوكيه بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الآخرة.

و قد أكّد ذلك بقوله:( كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات - و المراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينيّة - على ما يعطيه السياق - دون التشريعيّة الّتي ربّما تخلّفت.

و ذلك أنّهم الملائكة و الجنّ و الإنس فأمّا الملائكة فليس عندهم إلّا خضوع الطاعة، و أمّا الجنّ و الإنس فهم مطيعون منقادون للعلل و الأسباب الكونيّة و كلّما احتالوا في إلغاء أثر علّة من العلل أو سبب من الأسباب الكونيّة توسّلوا إلى علّة اُخرى و سبب آخر كونيّ ثمّ علمهم و إرادتهم كاختيارهم جميعاً من الأسباب الكونيّة فلا يكون إلّا ما شاء الله أي الّذي تمّت علله في الخارج و لا يتحقّق ممّا شاؤا إلّا ما أذن فيه و شاءه فهو المالك لهم و لما يملكونه.

١٧٨

( سورة الروم الآيات 27 - 39)

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ  وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 ) ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ  هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ  كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 28 ) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ  وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 29 ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا  فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا  لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ  ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 30 ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 31 ) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا  كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ( 32 ) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( 33 ) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ  فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 34 ) أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( 35 ) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا  وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ( 36 ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّ فِي

١٧٩

ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 37 ) فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ  ذَٰلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 38 ) وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ  وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ( 39 )

( بيان)

لمّا انساق الاحتجاج على الوحدانيّة و المعاد من طريق عدّ الآيات الدالّة على ذلك بقوله:( وَ مِنْ آياتِهِ ) إلى قوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الآية، و هو من صفات الفعل غيّر سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعليّة و أوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كلّ فصل شيئاً من صفات الفعل المستوجبة للوحدانيّة و المعاد و هي قوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ) إلخ، و قوله:( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ) إلخ.

و إنّما لم يبدأ الفصل الأوّل باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الاُخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتّصلة به أعني قوله:( وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ ) الّذي هو كالبرزخ المتوسّط بين السياقين، فقوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) فصل في صورة الوصل.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) إلى آخر الآية، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق و الإعادة إنشاء بعد إنشاء.

و قوله:( وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الضمير الأوّل للإعادة المفهوم من قوله:( يُعِيدُهُ ) و الضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.

١٨٠