الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116497
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116497 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ محض ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجّلة المؤجّلة بالموت و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسدة ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ما وراءها شي‏ء.

و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة و المعتقدون بالمبدإ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة الّتي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاُصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الّذي هو جزء من أجزائه.

و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة فلو لا وجود قوانين و سنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.

و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز و هي أيّاً ما كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.

3- قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدّر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته الّتي تليق به و هذه السعادة أمر أو اُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الّذي هو أيضاً موجود تكوينيّ فتجعله إنساناً كاملاً في نوعه تامّاً في وجوده.

فهذه السنن و القوانين - و هي قضايا عمليّة اعتبارية - واقعة بين نقص الإنسان و كماله متوسّطة كالعبرة بين المنزلتين و هي كما عرفت تابعة للمصالح الّتي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات اُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص الّتي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.

فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي الّتي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها

٢٠١

و عزائمها و يصدّقه العقل الّذي هو القوّة الوحيدة الّتي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل فإنّه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.

فاُصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة الّتي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.

و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع - و منها الإنسان - من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة الّتي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسمّاة بالسنين و القوانين الّتي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقرّ كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.

فتبيّن أنّ من الواجب أن يتّخذ الدين - أي الاُصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة الّتي تضمن باتّخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة - من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطرياً و هو قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) .

4- قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً فالإسلام يسمّى دين الفطرة لما أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.

و يسمّى إسلاماً لما أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل تجمّع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتفّ به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) .

و يسمّى دين الله لأنّه الّذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مرّ من معنى الإرادة.

٢٠٢

و يسمّى سبيل الله لما أنّه السبيل الّتي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) الأعراف: 45.

و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.

٢٠٣

( سورة الروم الآيات 40 - 47)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ  هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 40 ) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 41 ) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ  كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ ( 42 ) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ  يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ( 43 ) مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ  وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( 44 ) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 45 ) وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 46 ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا  وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( 47 )

( بيان)

هذا هو الفصل الثاني من الفصول الأربعة الّتي يحتجّ فيها بالأفعال الخاصّة به و إن شئت فقل: بأسماء الأفعال على إبطال الشركاء و نفي ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم و على إثبات المعاد.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ

٢٠٤

شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، اسم الجلالة مبتدأ و( الَّذِي خَلَقَكُمْ ) خبره، و كذا قوله:( مَنْ يَفْعَلُ ) إلخ مبتدأ خبره( مِنْ شُرَكائِكُمْ ) المقدّم عليه و الاستفهام إنكاريّ و قد ذكر في تركيب الآية احتمالات اُخر.

و المعنى: أنّ الله سبحانه هو الّذي اتّصف بكذا و كذا وصفاً من أوصاف الاُلوهيّة و الربوبيّة فهل من الآلهة الّذين تدّعون أنّهم آلهة من يفعل شيئاً من ذلكم يعني من الخلق و الرزق و الإماتة و الإحياء و إذ ليس منهم من يفعل شيئاً من ذلكم فالله سبحانه هو إلهكم و ربّكم لا إله إلّا هو.

و لعلّ الوجه في ذكر الخلق مع الرزق و الإحياء و الإماتة مع تكرّر تقدّم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الإشارة إلى أنّ الرزق لا ينفكّ عن الخلق بمعنى أنّ بعض الخلق يسمّى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقاً فالرزق في الحقيقة من الخلق فالّذي يخلق الخلق هو الّذي يرزق الرزق.

فليس لهم أن يقولوا: إنّ الرازق و كذا المحيي و المميت بعض آلهتنا كما ربّما يدّعيه بعضهم أنّ مدبّر عالم الإنسان بعض الآلهة و مدبّر كلّ شأن من شؤن العالم من الخيرات و الشرور بعضهم لكنّهم لا يختلفون أنّ الخلق و الإيجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلّم ذلك و من المسلّم أنّ الرزق مثلاً خلق و كذا سائر الشؤن لا تنفكّ عن الخلق رجع الأمر كالخلق إليه تعالى و لم يبق لآلهتهم شأن من الشؤن.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن شركهم فقال:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الآية بظاهر لفظها عامّة لا تختصّ بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصّة، فالمراد بالبرّ و البحر معناهما المعروف و يستوعبان سطح الكرة الأرضيّة.

و المراد بالفساد الظاهر المصائب و البلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الأرض من الزلازل و قطع الأمطار و السنين و الأمراض السارية و الحروب و الغارات و ارتفاع الأمن و بالجملة كلّ ما يفسد النظام الصالح الجاري في العالم الأرضيّ سواء

٢٠٥

كان مستنداً إلى اختيار الناس أو غير مستند إليه. فكلّ ذلك فساد ظاهر في البرّ أو البحر مخلّ بطيب العيش الإنسانيّ.

و قوله:( بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) أي بسبب أعمالهم الّتي يعملونها من شرك أو معصية و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) الآية الأعراف: 96 و أيضاً في مباحث النبوّة من الجزء الثاني من الكتاب أنّ بين أعمال الناس و الحوادث الكونيّة رابطة مستقيمة يتأثّر إحداهما من صلاح الاُخرى و فسادها.

و قوله:( لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ) اللّام للغاية، أي ظهر ما ظهر لأجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيّئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا و قد ظهر في صورة الوبال و إنّما كان بعض ما عملوا لأنّ الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى: 30.

و الآية ناظرة إلى الوبال الدنيويّ و إذاقة بعضه لأكّله من غير نظر إلى وبال الأعمال الاُخروي فما قيل: إنّ المراد إذاقة الوبال الدنيويّ و تأخير الوبال الاُخرويّ إلى يوم القيامة لا دليل عليه و لعلّه جعل تقدير الكلام:( ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا) مع أنّ التقدير( ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا) ، لأنّ الّذي يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أنّ الراجع إليهم ثانياً في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالّذي اُذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا.

و قوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم و معاصيهم إلى التوحيد و الطاعة.

و وجه اتّصال الآية بما قبلها أنّه لمّا احتجّ في الآية السابقة على التوحيد و نزّهه عن شركهم أشار في هذه الآية إلى ما يستتبع الشرك - و هو معصية - من الفساد في الأرض و إذاقة وبال السيّئات فبيّن ذلك بيان عامّ.

و لهم في الآية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالأرض أرض مكّة و قول بعضهم: المراد بالبرّ القفار الّتي لا يجري فيها نهر و بالبحر كلّ قرية على شاطئ نهر

٢٠٦

عظيم، و قول بعضهم: البرّ الفيافي و مواضع القبائل و البحر السواحل و المدن الّتي عند البحر و النهر، و قول بعضهم: البرّ البريّة و البحر المواضع المخصبة الخضرة، و قول بعضهم: إنّ هناك مضافاً محذوفاً و التقدير في البرّ و مدن البحر، و لعلّ الّذي دعاهم إلى هذه الأقاويل ما ورد أنّ الآية ناظرة إلى القحط الّذي وقع بمكّة إثر دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قريش لمّا لجّوا في كفرهم و داموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الآية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلّف.

و قول بعضهم: إنّ المراد بالفساد في البرّ قتل ابن آدم أخاه و في البحر أخذ كلّ سفينة غصباً و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار الّذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم و عفت آثارهم و بادوا عن آخرهم و انقطع دابرهم بأنواع من النوائب و البلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالآية في مقام الاستشهاد لمضمون الآية السابقة.

قوله تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) تفريع على ما تقدّمه أي إذا كان الشرك و الكفر بالحقّ بهذه المثابة و له وبال سيلحق بالمتلبّس به فأقم وجهك للدين القيّم.

و قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ) متعلّق بقوله:( فَأَقِمْ ) و المرد مصدر ميميّ بمعنى الردّ و هو بمعنى الرادّ و اليوم الّذي لا مردّ له من الله يوم القيامة.

و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) أصله يتصدّعون، و التصدّع في الأصل تفرّق أجزاء الأواني ثمّ استعمل في مطلق التفرّق كما قيل، و المراد به - كما قيل - تفرّقهم يومئذ إلى الجنّة و النار.

و قيل: المراد تفرّق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى:( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) القارعة: 4 و لكلّ وجه، و لعلّ الأظهر امتياز الفريقين كما سيأتي.

قوله تعالى: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الظاهر

٢٠٧

أنّه تفسير لقوله في الآية السابقة:( يَتَفَرَّقُونَ ) و قوله:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) أي وبال كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الّذي سينقلب عليه ناراً يخلّد فيها و هذا أحد الفريقين.

و قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) مهد الفراش بسطه و إيطاؤه، و هؤلاء الفريق الآخر الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و قد جي‏ء بالجزاء( فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) جمعاً نظراً إلى المعنى، كما أنّه جي‏ء به مفرداً في الشرطيّة السابقة( فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) نظراً إلى اللفظ، و اكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح و لم يذكر الإيمان معه لأنّ العمل إنّما يصلح بالإيمان على أنّه مذكور في الآية التالية.

و المعنى: و الّذين عملوا عملاً صالحاً - بعد الإيمان - فلأنفسهم يوطئون ما يعيشون به و يستقرّون عليه.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) قال الراغب: الجزاء الغناء و الكفاية، قال الله تعالى:( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ) ، و قال:( لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً ) و الجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيراً فخير و إن شرّاً فشرّ، يقال: جزيته كذا و بكذا. انتهى.

و قوله:( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ ) اللّام للغاية و لا ينافي عدّ ما يؤتيهم جزاء - و فيه معنى المقابلة - عدّه من فضله و فيه معنى عدم الاستحقاق و ذلك لأنّهم بأعيانهم و ما يصدر عنهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لأنفسهم شيئاً حتّى يستحقّوا به أجراً، و أين العبوديّة من الملك و الاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق.

لكنّه سبحانه بفضله و رحمته اعتبر لهم ملكاً لأعمالهم في عين أنّه يملكهم و يملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقّاً يستحقّونه، و جعل ما ينالونه من الجنّة و الزلفى أجراً مقابلاً لأعمالهم و هذا الحقّ المجعول أيضاً فضل آخر منه سبحانه.

و منشأ ذلك حبّه تعالى لهم لأنّهم لمّا أحبّوا ربّهم أقاموا وجوههم للدين القيّم و اتّبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبّهم الله كما قال:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي

٢٠٨

يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) آل عمران: 31.

و لذا كانت الآية تعدّ ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء و فيه معنى المقابلة و المبادلة و تعدّ ذلك من فضله نظراً إلى أنّ نفس هذه المقابلة و المبادلة فضل منه سبحانه و منشأه حبّه تعالى لهم كما يومئ إليه تذييل الآية بقوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) .

و من هنا يظهر أنّ قوله:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) ، يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبي النفي و الإثبات جميعاً أي إنّه تعالى يخصّ المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل و يحرم الكافرين منه لأنّه يحبّ هؤلاء و لا يحبّ هؤلاء.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، المراد بكون الرياح مبشّرات تبشيرها بالمطر حيث تهبّ قبيل نزوله.

و قوله:( وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) عطف على موضع مبشّرات لما فيه من معنى التعليل و التقدير يرسل الرياح لتبشّركم و ليذيقكم من رحمته و المراد بإذاقة الرحمة إصابة أنواع النعم المترتّبة على جريان الرياح كتلقيح الأشجار و دفع العفونات و تصفية الأجواء و غير ذلك ممّا يشمله إطلاق الجملة.

و قوله:( وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) أي لجريان الرياح و هبوبها. و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي لتطلبوا من رزقه الّذي هو من فضله.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ، غاية معنويّة كما أنّ الغايات المذكورة من قبل غايات صوريّة، و الشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن إنعام منعمه أو الثناء اللفظيّ عليه بذكر إنعامه، و ينطبق بالأخرة على عبادته و لذلك جي‏ء بلعلّ المفيدة للرجاء فإنّ الغايات المعنويّة الاعتباريّة ربّما تخلّفت.

قوله تعالى: ( لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - و أجرم صار ذا جرم نحو أثمر و أتمر و ألبن و أستعير ذلك لكلّ اكتساب مكروه، و لا يكاد يقال في عامّة كلامهم للكيّس المحمود انتهى.

٢٠٩

و الآية كالمعترضة و كأنّها مسوقة لبيان أنّ للمؤمنين حقّاً على ربّهم و هو نصرهم في الدنيا و الآخرة و منه الانتقام من المجرمين، و هذا الحقّ مجعول من قبله تعالى لهم على نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوباً في نفسه مقهوراً محكوماً لغيره.

و قوله:( فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم و أجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين و كان حقّاً علينا نصر المؤمنين بإنجائهم من العذاب و إهلاك مخالفيهم، و في الآية بعض الإشعار بأنّ الانتقام من المجرمين لأجل المؤمنين فإنّه من النصر.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ) قال: في البرّ فساد الحيوان إذا لم يمطر و كذلك هلاك دوابّ البحر بذلك. و قال الصادقعليه‌السلام : حياة دوابّ البحر بالمطر فإذا كفّ المطر ظهر الفساد في البرّ و البحر، و ذلك إذا كثرت الذنوب و المعاصي.

أقول: و هو من الجري.

و في روضة الكافي، بإسناده عن أبي الربيع الشاميّ قال: سألت أبا عبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلكم.

و في المجمع في قوله:( وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) روى منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة فيمهد له كما يمهد لأحدهم خادمه فراشه.

و فيه، و جاءت الرواية عن اُمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من امرئ يردّ عن عرض أخيه إلّا كان حقّاً على الله أن يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ثمّ قرأ:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) .

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي الدرداء.

٢١٠

( سورة الروم الآيات 48 - 53)

اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ  فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ( 48 ) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ( 49 ) فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 50 ) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( 51 ) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ( 52 ) وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ  إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( 53 )

( بيان)

هذا هو الفصل الثالث من الآيات المحتجّة من طريق أفعاله تعالى و إن شئت فقل: أسماء أفعاله و عمدة غرضها الاحتجاج على المعاد، و لمّا كان عمدة إنكارهم و جحودهم متوجّها إلى المعاد و بإنكاره يلغو الأحكام و الشرائع فيلغو التوحيد عقّب الاحتجاج بإيئاس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بأن يشتغل بدعوة في نفسه استعداد الإيمان و صلاحية الإسلام و التسليم للحقّ.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ ) إلى آخر الآية، الإثارة التحريك و النشر و السحاب الغمام و السماء جهة العلو فكلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء و الكسف بالكسر فالفتح جمع كسفة و هي القطعة و الودق

٢١١

القطر من المطر و الخلال جمع خلّة و هي الفرجة.

و المعنى: الله الّذي يرسل الرياح فتحرّك و تنشر سحاباً و يبسط ذلك السحاب في جهة العلو من الجوّ كيف يشاء سبحانه و يجعله قطعات متراكبة متراكمة فترى قطر المطر يخرج من فرجه فإذا أصاب بذلك المطر من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون لأنّه مادّة حياتهم و حياة الحيوان و النبات.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ) الإبلاس: اليأس و القنوط.

و ضمير( يُنَزَّلَ ) للمطر و كذا ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) على ما قيل، و عليه يكون( مِنْ قَبْلِهِ ) تأكيداً لقوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) و فائدة التأكيد - على ما قيل - الاعلام بسرعة تقلّب قلوب البشر من اليأس إلى الاستبشار، و ذلك أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ) يحتمل الفسحة في الزمان فجاء( مِنْ قَبْلِهِ ) للدلالة على الاتّصال و دفع ذلك الاحتمال.

و في الكشّاف، أنّ قوله:( مِنْ قَبْلِهِ ) من باب التكرير و التوكيد كقوله تعالى:( فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ) و معنى التوكيد فيه الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد فاستحكم يأسهم و تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك. انتهى.

و ربّما قيل: إنّ ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) لإرسال الرياح، و المعنى: و إن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم المطر من قبل إرسال الرياح لآيسين قانطين.

قوله تعالى: ( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الآثار جمع الأثر و هو ما يبقى بعد الشي‏ء فيدلّ عليه كأثر القدم و أثر البناء و أستعير لكلّ ما يتفرّع على شي‏ء، و المراد برحمة الله المطر النازل من السحاب الّذي بسطته الرياح، و آثارها ما يترتّب على نزول المطر من النبات و الأشجار و الأثمار و هي بعينها آثار حياة الأرض بعد موتها.

و لذا قال:( فَانْظُرْ إِلى‏ آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) فجعل

٢١٢

آثار الرحمة الّتي هي المطر كيفيّة إحياء الأرض بعد موتها، فحياة الأرض بعد موتها من آثار الرحمة و النبات و الأشجار و الأثمار من آثار حياتها و هي أيضاً من آثار الرحمة و التدبير تدبير إلهيّ يتفرّع على خلقة الرياح و السحاب و المطر.

و قوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الإشارة بذلك إليه تعالى بما له من الرحمة الّتي من آثارها إحياء الأرض بعد موتها، و في الإشارة البعيدة تعظيم، و المراد بالموتى موتى الإنسان أو الإنسان و غيره من ذوي الحياة.

و المراد بقوله:( إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) الدلالة على المماثلة بين إحياء الأرض الميتة و إحياء الموتى إذ في كلّ منهما موت هو سقوط آثار الحياة من شي‏ء محفوظ و حياة هي تجدّد تلك الآثار بعد سقوطها، و قد تحقّق الإحياء في الأرض و النبات و حياة الإنسان و غيره من ذوي الحياة مثلها و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، فإذا جاز الإحياء في بعض هذه الأمثال و هو الأرض و النبات فليجز في البعض الآخر.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تقرير للإحياء المذكور ببيان آخر و هو عموم القدرة فإنّ القدرة غير محدودة و لا متناهية فيشمل الإحياء بعد الموت و إلّا لزم تقيّدها و قد فرضت مطلقة غير محدودة.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ) ضمير( فَرَأَوْهُ ) للنبات المفهوم من السياق، و قوله( لَظَلُّوا ) جواب للقسم قائم مقام الجزاء، و المعنى: و اُقسم لئن أرسلنا ريحاً باردة فضربت زروعهم و أشجارهم بالصفار و رأوه لظلّوا بعده كافرين بنعمه.

ففي الآية توبيخهم بالتقلّب السريع في النعمة و النقمة، فإذا لاحت لهم النعمة بادروا إلى الاستبشار، و إذا اُخذ بعض ما أنعم الله به من فضله لم يلبثوا دون أن يكفروا بالمسلّمات من النعم.

و قيل: ضمير( فَرَأَوْهُ ) للسحاب لأنّ السحاب إذا كان أصفر لم يمطر، و قيل: للريح فإنّه يذكّر و يؤنّث، و القولان بعيدان.

٢١٣

قوله تعالى: ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى -‏ إلى قوله -فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) تعليل لما يفهم من السياق السابق كأنّه قيل: لا تشتغل و لا تحزن بهؤلاء الّذين تتبدّل بهم الأحوال من إبلاس و استبشار و كفر و من عدم الإيمان بآياتنا و عدم تعقّلها فإنّهم موتى و صمّ و عمي و أنت لا تقدر على إسماعهم و هدايتهم و إنّما تسمع و تهدي من يؤمن بآياتنا أي يعقل هذه الحجج و يصدّقها فهم مسلمون. و قد تقدّم تفسير الآيتين في سورة النمل.

٢١٤

( سورة الروم الآيات 54 - 60)

اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً  يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( 54 ) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ  كَذَٰلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ( 55 ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَىٰ يَوْمِ الْبَعْثِ  فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( 56 ) فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 57 ) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ( 58 ) كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ( 59 ) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ  وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ( 60 )

( بيان)

هذا هو الفصل الرابع من الآيات و هو كسابقه و فيها ختام السورة.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً ) إلخ، الضعف و القوّة متقابلان، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ضَعْفٍ‏ ) للابتداء أي ابتداء خلقكم من ضعف أي ابتدأكم ضعفاء، و مصداقه على ما تفيده المقابلة أوّل الطفوليّة و إن أمكن صدقه على النطفة.

و المراد بالقوّة بعد الضعف بلوغ الأشدّ و بالضعف بعد القوّة الشيخوخة و لذا عطف عليه( شَيْبَةً ) عطف تفسير، و تنكير( ضَعْفٍ ) و( قُوَّةً ) للدلالة على الإبهام و عدم

٢١٥

تعيّن المقدار لاختلاف الأفراد في ذلك.

و قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) أي كما شاء الضعف فخلقه ثمّ القوّة بعده فخلقها ثمّ الضعف بعدها فخلقه و في ذلك أتمّ الإشارة إلى أنّ تتالي هذه الأحوال من الخلق و إذ كان هذا النقل من حال إلى حال في عين أنّه تدبير خلقاً فهو لله الخالق للأشياء فليس لقائل منهم أن يقول: إنّ ذلك من التدبير الراجع إلى إله الإنسان، مثلاً كما يقوله الوثنيّة.

ثمّ تمّم الكلام بالعلم و القدرة فقال:( وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) .

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) ، هذه الآيات كالذنابة للآيات السابقة العادّة للآيات و الحجج على وحدانيّته تعالى و البعث، و كالتمهيد و التوطئة للآية الّتي تختتم بها السورة فإنّه لما عدّ شيئاً من الآيات و الحجج و أشار إلى أنّهم ليسوا ممّن يترقّب منهم الإيمان أو يطمع في إيمانهم أراد أن يبيّن أنّهم في جهل من الحقّ يتلقّون الحديث الحقّ باطلاً و الآيات الصريحة الدلالة منعزلة عن دلالتها و كذلك يؤفكون و لا عذر لهم يعتذرون به.

و هذا الإفك و التقلّب من الحقّ إلى الباطل يدوم عليهم و يلازمهم حتّى قيام الساعة فيظنّون أنّهم لم يلبثوا في قبورهم فيما بين الموت و البعث غير ساعة من نهار فاشتبه عليهم أمر البعث كما اشتبه عليهم كلّ حقّ فظنّوه باطلاً.

فقوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ، يحكي عنهم اشتباه الأمر عليهم في أمر الفصل بين الدنيا و يوم البعث حتّى ظنّوه ساعة من ساعات الدنيا.

و قوله:( كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ) أي يصرفون من الحقّ إلى الباطل فيدعون إلى الحقّ و يقام عليه الحجج و الآيات فيظنّونه باطلاً من القول و خرافة من الرأي.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) إلخ، ردّ منهم لقول المجرمين:( ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) فإنّ المجرمين لإخلادهم إلى الأرض و توغّلهم في نشأة الدنيا يرون يوم البعث و الفصل بينه

٢١٦

و بين الدنيا محكوماً بنظام الدنيا فقدّروا الفصل بساعة و هو مقدار قليل من الزمان كأنّهم ظنّوا أنّهم بعد في الدنيا لأنّه مبلغ علمهم.

فردّ عليهم أهل العلم و الإيمان أنّ اللبث مقدّر بالفصل بين الدنيا و يوم البعث و هو الفصل الّذي يشير إليه قوله:( وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون: 100.

فاستنتجوا منه أنّ اليوم يوم البعث و لكنّ المجرمين لمّا كانوا في ريب من البعث و لم يكن لهم يقين بغير الدنيا ظنّوا أنّهم لم يمرّ بهم إلّا ساعة من ساعات الدنيا و هذا معنى قولهم:( لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ، أي كنتم جاهلين مرتابين لا يقين لكم بهذا اليوم و لذلك اشتبه عليكم أمر اللبث.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ ) ، اليقين و الالتزام بمقتضاه و أنّ العلم بمعنى اليقين بالله و بآياته و الإيمان بمعنى الالتزام بمقتضى اليقين من الموهبة الإلهيّة، و من هنا يظهر أيضاً أنّ المراد بكتاب الله الكتب(1) السماويّة أو خصوص القرآن لا غيره و قول بعضهم: إنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و قال الّذين اُوتوا العلم و الإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إلى يوم البعث لا يعتدّ به.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) الاستعتاب طلب العتبى، و العتبى إزالة العتاب أي لا ينفعهم المعذرة عن ظلمهم و لا يطلب منهم أن يزيلوا العتاب عن أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) إلخ، إشارة إلى كونهم مأفوكين مصروفين عن الحقّ حيث لا ينفعهم مثل يقرّب الحقّ من قلوبهم لأنّها مطبوع عليها، و لذا عقّبه بقوله:( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) أي جاؤن بالباطل و هذا القول منهم لأنّهم مصروفون عن الحقّ يرون كلّ حقّ باطلاً، و وضع الموصول و الصلة موضع الضمير للدلالة على سبب القول.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ، أي يجهلون بالله

____________________

(1) و يمكن أن يكون المراد بكتاب الله اللوح المحفوظ فيكون ذلك استدلالاً على قولهم بكتاب الله و يكون نظير ما في قوله: ( هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ) الجاثية: 29 بناء على ما سيأتي من معناه منه.

٢١٧

و آياته و منها البعث و هم يصرّون على جهلهم و ارتيابهم.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) ، أي فاصبر على ما يواجهونك به من قولهم:( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) و سائر تهكّماتهم، إنّ وعد الله أنّه ينصرك حقّ كما أومأ إليه بقوله:( كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ‏ ) ، و لا يستخفّنّك الّذين لا يوقنون بوعد الله سبحانه.

و قول بعضهم: إنّ المعنى لا يوقنون بما تتلو عليهم من الآيات البيّنات بتكذيبهم لها و إيذائهم لك بأباطيلهم، ليس بشي‏ء و قد بدأت السورة بالوعد و ختمت بالوعد و الوعدان جميعاً بالنصرة.

٢١٨

( سورة لقمان مكّيّة، و هي أربع و ثلاثون آية)

( سورة لقمان الآيات 1 - 11)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم ( 1 ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( 2 ) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ ( 3 ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( 4 ) أُولَئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ  وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 5 ) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا  أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( 6 ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا  فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 7 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ( 8 ) خَالِدِينَ فِيهَا  وَعْدَ اللهِ حَقًّا  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 9 ) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا  وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ  وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ( 10 ) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ  بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 11 )

( بيان)

غرض السورة كما يومئ إليه فاتحتها و خاتمتها و يشير إليه سياق عامّة آياتها الدعوة إلى التوحيد و الإيقان بالمعاد و الأخذ بكلّيّات شرائع الدين.

و يلوح من صدر السورة أنّها نزلت في بعض المشركين حيث كان يصدّ الناس عن استماع القرآن بنشر بعض أحاديث مزوّقة ملهية كما ورد فيه الأثر في سبب نزول قوله:

٢١٩

( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) الآية، و سيوافي حديثه. فنزلت السورة تبيّن اُصول عقائد الدين و كلّيّات شرائعه الحقّة و قصّت شيئاً من خبر لقمان الحكيم و مواعظه تجاه أحاديثهم الملهية.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها. و من غرر الآيات فيها قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ ) الآية.

قوله تعالى: ( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ - إلى قوله -يُوقِنُونَ ) تقدّم تفسير مفردات هذه الآيات في السور السابقة.

و قد وصف الكتاب بالحكيم إشعاراً بأنّه ليس من لهو الحديث من شي‏ء بل كتاب لا انثلام فيه ليداخله لهو الحديث و باطل القول، و وصفه أيضاً بأنّه هدى و رحمة للمحسنين تتميماً لصفة حكمته فهو يهدي إلى الواقع الحقّ و يوصل إليه لا كاللهو الشاغل للإنسان عمّا يهمّه، و هو رحمة لا نقمة صارفة عن النعمة.

و وصف المحسنين بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة اللتين هما العمدتان في الأعمال و بالإيقان بالآخرة و يستلزم التوحيد و الرسالة و عامّة التقوى، كلّ ذلك مقابلة الكتاب للهو الحديث المصغي إليه لمن يستمع لهو الحديث.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) إلخ، اللّهو ما يشغلك عمّا يهمّك، و لهو الحديث: الحديث الّذي يلهي عن الحقّ بنفسه كالحكايات الخرافيّة و القصص الداعية إلى الفساد و الفجور، أو بما يقارنه كالتغنّي بالشعر أو بالملاهي و المزامير و المعازف فكلّ ذلك يشمله لهو الحديث.

و قوله:( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) مقتضى السياق أن يكون المراد بسبيل الله القرآن الكريم بما فيه من المعارف الحقّة الاعتقاديّة و العلميّة و خاصّة قصص الأنبياء و اُممهم الخالية فإنّ لهو الحديث و الأساطير المزوّقة المختلقة تعارض أوّلاً هذه القصص ثمّ تهدم بنيان سائر المعارف الحقّة و توهنها في أنظار الناس.

و يؤيّد ذلك قوله بعد:( وَ يَتَّخِذَها هُزُواً ) فإنّ لهو الحديث بما أنّه حديث

٢٢٠