الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116624
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116624 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) تقييد إيذائهم بغير ما اكتسبوا لأنّ إيذاءهم بما اكتسبوا كما في القصاص و الحدّ و التعزير لا إثم فيه.

و أمّا إيذاؤهم بغير ما اكتسبوا و من دون استحقاق فيعدّه سبحانه احتمالاً للبهتان و الإثم المبين، و البهتان هو الكذب على الغير يواجهه به، و وجه كون الإيذاء من غير اكتساب بهتاناً أنّ المؤذي إنّما يؤذيه لسبب عنده يعدّه جرماً له يقول: لم قال كذا؟ لم فعل كذا؟ و ليس بجرم فيبهته عند الإيذاء بنسبة الجرم إليه مواجهة و ليس بجرم.

و كونه إثماً مبيناً لأنّ الافتراء و البهتان ممّا يدرك العقل كونه إثماً من غير حاجة إلى ورود النهي عنهما شرعاً.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) إلخ، الجلابيب جمع جلباب و هو ثوب تشتمل به المرأة فيغطّي جميع بدنها أو الخمار الّذي تغطّي به رأسها و وجهها.

و قوله:( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) أي يتستّرن بها فلا تظهر جيوبهنّ و صدورهنّ للناظرين.

و قوله:( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) أي ستر جميع البدن أقرب إلى أن يعرفن أنّهنّ أهل الستر و الصلاح فلا يؤذين أي لا يؤذيهنّ أهل الفسق بالتعرّض لهنّ. و قيل: المعنى ذلك أقرب من أن يعرفن أنّهنّ مسلمات حرائر فلا يتعرّض لهنّ بحسبان أنّهنّ إماء أو من غير المسلمات من الكتابيّات أو غيرهنّ و الأوّل أقرب.

قوله تعالى: ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) إلخ، الانتهاء عن الشي‏ء الامتناع و الكفّ عنه، و الإرجاف إشاعة الباطل للاغتمام به و إلقاء الاضطراب بسببه، و الإغراء بالفعل التحريض عليه.

و المعنى: اُقسم لئن لم يكفّ المنافقون و الّذين في قلوبهم مرض عن الإفساد و الّذين يشيعون الأخبار الكاذبة في المدينة لإلقاء الاضطراب بين المسلمين لنحرّضنّك عليهم ثمّ يجاورونك في المدينة بسبب نفيهم عنها إلّا زماناً قليلاً و هو ما بين صدور الأمر و فعليّة إجرائه.

٣٦١

قوله تعالى: ( مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) الثقف إدراك الشي‏ء و الظفر به، و الجملة حال من المنافقين و من عطف عليهم أي حال كونهم ملعونين أينما وجدوا اُخذوا و بولغ في قتلهم فعمّهم القتل.

قوله تعالى: ( سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) السنّة هي الطريقة المعمولة الّتي تجري بطبعها غالباً أو دائماً.

يقول سبحانه هذا النكال الّذي أوعدنا به المنافقين و من يحذو حذوهم من النفي و القتل الذريع هي سنّة الله الّتي جرت في الماضين فكلّما بالغ قوم في الإفساد و إلقاء الاضطراب بين الناس و تمادوا و طغوا في ذلك أخذناهم كذلك و لن تجد لسنّة الله تبديلاً فتجري فيكم كما جرت في الاُمم من قبلكم.

( بحث روائي)

في الفقيه، روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا ) قال: متّعوهنّ أي أجملوهنّ بما قدرتم عليه من معروف فإنّهنّ يرجعن بكآبة و وحشة و همّ عظيم و شماتة من أعدائهنّ فإنّ الله كريم يستحيي و يحبّ أهل الحياء إنّ أكرمكم أشدّكم إكراماً لحلائلهم.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في رجل طلّق امرأته قبل أن يدخل بها. قال: عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئاً و إن لم يكن فرض لها فليمتّعها على نحو ما يمتّع به مثلها من النساء.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و هي مبنيّة على تخصيص الآية بآية البقرة كما تقدّم في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن حبيب بن ثابت قال: جاء رجل إلى عليّ بن الحسين فسأله عن رجل قال: إن تزوّجت فلانة فهي طالق قال: ليس

٣٦٢

بشي‏ء بدأ الله بالنكاح قبل الطلاق فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ) .

أقول: و رواه في المجمع، عن حبيب بن ثابت عنهعليه‌السلام .

و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه عن المسوّر بن مخرمة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا طلاق قبل نكاح و لا عتق قبل ملك.

أقول: و روي مثله عن جابر و عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الكافي، بإسناده عن الحضرميّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ ) كم اُحلّ له من النساء؟ قال: ما شاء من شي‏ء.

و فيه، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت:( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) ؟ فقال: لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينكح ما شاء من بنات عمّه و بنات عمّاته و بنات خاله و بنات خالاته و أزواجه اللّاتي هاجرن معه.

و اُحلّ له أن ينكح من عرض المؤمنين بغير مهر و هي الهبة و لا تحلّ الهبة إلّا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمّا لغير رسول الله فلا يصلح نكاح إلّا بمهر و ذلك معنى قوله تعالى:( وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الطبرانيّ عن عليّ بن الحسين: في قوله:( وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً ) هي اُمّ شريك الأزديّة الّتي وهبت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و روي أنّها خولة بنت الحكيم و أنّها ليلى بنت الخطيم و أنّها ميمونة، و الظاهر أنّ الواهبة نفسها عدّة من النساء.

و في الكافي، مسنداً عن محمّد بن قيس عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ المرأة لا تخطب الزوج و أنا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر و لا ولد فهل لك من حاجة؟ فإن تك فقد وهبت نفسي لك إن قبلتني. فقال لها رسول الله خيرا و دعا لها.

٣٦٣

ثمّ قال: يا اُخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيراً فقد نصرني رجالكم و رغبت فيّ نساؤكم. فقالت لها حفصة: ما أقلّ حياءك و أجرأك و أنهمك للرجال. فقال رسول الله: كفّي عنها يا حفصة فإنّها خير منك رغبت في رسول الله و لمتها و عبتها.

ثمّ قال للمرأة: انصرفي رحمك الله فقد أوجب الله لك الجنّة لرغبتك فيّ و تعرّضك لمحبّتي و سروري و سيأتيك أمري إن شاء الله، فأنزل الله عزّوجلّ:( وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: فأحلّ الله عزّوجلّ هبة المرأة نفسها للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يحلّ ذلك لغيره.

و في المجمع، و قيل: إنّها لمّا وهبت نفسها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية، فقالت عائشة: ما أرى الله إلّا يسارع في هواك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فإنّك إن أطعت الله سارع في هواك.

و في المجمع: في قوله تعالى:( تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ) قال أبوجعفر و أبوعبداللهعليهما‌السلام . من أرجى لم ينكح و من آوى فقد نكح.

و في الكافي، بإسناده عن الحضرمي عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ ) فقال: إنّما عنى به لا يحلّ لك النساء الّتي حرّم الله عليك في هذه الآية( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ ) إلى آخرها.

و لو كان الأمر كما يقولون كان قد اُحلّ لكم ما لم يحلّ له لأنّ أحدكم يستبدل كلّما أراد و لكنّ الأمر ليس كما يقولون إنّ الله عزّوجلّ أحلّ لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينكح من النساء ما أراد إلّا ما حرّم في هذه الآية في سورة النساء.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن زيد عن الحسن: في قوله:( وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) قال: قصره الله على نسائه التسع اللّاتي مات عنهنّ.

قال عليّ فأخبرت عليّ بن الحسين فقال: لو شاء تزوّج غيرهنّ. و لفظ عبد بن حميد فقال: بل كان له أيضاً أن يتزوّج غيرهنّ.

و في تفسير القمّيّ: و أمّا قوله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا

٣٦٤

بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) فإنّه لمّا أن تزوّج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب بنت جحش و كان يحبّها فأولم و دعا أصحابه فكان أصحابه إذا أكلوا يحبّون أن يتحدّثوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كان يحبّ أن يخلو مع زينب فأنزل الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ) و ذلك أنّهم كانوا يدخلون بلا إذن فقال عزّوجلّ:( إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ - إلى قوله -مِنْ وَراءِ حِجابٍ ) .

أقول: و روي تفصيل القصّة عن أنس بطرق مختلفة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان قال: نزل حجاب رسول الله على نسائه في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة.

أقول: و رواها أيضاً ابن سعد عن أنس و فيه: أنّ السنة كانت مبتنى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزينب.

و فيه، في قوله تعالى:( وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا ) الآية أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله قال: أ يحجبنا محمّد عن بنات عمّنا و يتزوّج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوّجنّ نساءه من بعده فنزلت الآية.

أقول: و قد وردت بذلك عدّة من الروايات و في بعضها أنّه كان يريد عائشة و اُمّ سلمة.

و في ثواب الأعمال، عن أبي المعزى عن أبي الحسنعليه‌السلام في حديث قال: قلت: ما معنى صلاة الله و صلاة ملائكته و صلاة المؤمن؟ قال: صلاة الله رحمة من الله، و صلاة الملائكة تزكية منهم له، و صلاة المؤمنين دعاء منهم له.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة قال: صلّوا على محمّد و آل محمّد فإنّ الله تعالى يقبل دعاءكم عند ذكر محمّد و دعاءكم و حفظكم إيّاه إذا قرأتم( إِنَّ اللهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) فصلّوا عليه في الصلاة كنتم أو في غيرها.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و أبو داود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: قال رجل: يا رسول الله أمّا السلام عليك فقد علمناه فكيف

٣٦٥

الصلاة عليك؟ قال: قل: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد اللّهمّ بارك على محمّد و على آل محمّد كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

أقول: و قد أورد ثماني عشرة حديثاً غير هذه الرواية تدلّ على تشريك آل النبيّ معه في الصلاة روتها أصحاب السنن و الجوامع عن عدّة من الصحابة منهم ابن عبّاس و طلحة و أبوسعيد الخدريّ و أبو هريرة و أبو مسعود الأنصاريّ و بريدة و ابن مسعود و كعب بن عجرة و عليّعليه‌السلام و أمّا روايات الشيعة فهي فوق حدّ الإحصاء.

و فيه، أخرج أحمد و الترمذيّ عن الحسن بن عليّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: البخيل من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) فإنّه كان سبب نزولها أنّ النساء كنّ يخرجن إلى المسجد و يصلّين خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا كان الليل و خرجن إلى صلاة المغرب و العشاء الآخرة يقعد الشبّاب لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهنّ و يتعرّضون لهنّ فأنزل الله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد الرزّاق و عبد بن حميد و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن اُمّ سلمة قالت: لمّا نزلت هذه الآية( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ) خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ) نزلت في قوم منافقين كانوا في المدينة يرجفون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج في بعض غزواته يقولون: قتل و اُسر فيغتمّ المسلمون لذلك و يشكون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله عزّوجلّ في ذلك( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ - إلى قوله -إِلَّا قَلِيلًا ) أي نأمرك بإخراجهم من المدينة إلّا قليلاً.

( مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( مَلْعُونِينَ ) فوجبت عليهم اللعنة بعد اللّعنة بقول الله.

٣٦٦

( سورة الأحزاب الآيات 63 - 73)

يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ  قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ  وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ( 63 ) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ( 64 ) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا  لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 65 ) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ( 66 ) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ( 67 ) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ( 68 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا  وَكَانَ عِندَ اللهِ وَجِيهًا ( 69 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ  وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ( 71 ) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ  إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ( 72 ) لِّيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 73 )

٣٦٧

( بيان)

آيات تذكر شأن الساعة و بعض ما يجري على الكفّار من عذابها و تأمر المؤمنين بالقول السديد و تعدهم عليه وعداً جميلاً ثمّ تختتم السورة بذكر الأمانة.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ) تذكر الآية سؤال الناس عن الساعة و إنّما كانوا يريدون أن يقدّر لهم زمن وقوعها و أنّها قريبة أو بعيدة كما يؤمي إليه التعبير عنها بالساعة فاُمر أن يجيبهم بقصر العلم بها في الله سبحانه و على ذلك جرت الحال كلّما ذكرت في القرآن.

و قوله:( وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) زيادة في الإبهام و ليعلموا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل غيره في عدم العلم بها و ليس من الستر الّذي أسرّه إليه و ستره من الناس.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ) لعن الكفّار إبعادهم من الرحمة، و الإعداد التهيئة، و السعير النار الّتي اُشعلت فالتهبت، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) الفرق بين الوليّ و النصير أنّ الوليّ يلي بنفسه تمام الأمر و المولى عليه بمعزل، و النصير يعين المنصور على بعض الأمر و هو إتمامه فالوليّ يتولّى الأمر كلّه و النصير يتصدّى بعضه، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا ) تقلّب وجوههم في النار تحوّلها لحال بعد حال فتصفرّ و تسوّد و تكون كالحة أو انتقالها من جهة إلى جهة لتكون أبلغ في مسّ العذاب كما يفعل باللحم المشويّ.

و قولهم:( يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا ) كلام منهم على وجه التحسّر و التمنّي.

٣٦٨

قوله تعالى: ( وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) السادة جمع سيّد و هو - على ما في المجمع - المالك المعظّم الّذي يملك تدبير السواد الأعظم و هو الجمع الأكثر، و الكبراء جمع كبير و لعلّ المراد به الكبير سنّا فالعامّة تطيع و تقلّد أحد رجلين إمّا سيّد القوم و إمّا أسنّهم.

قوله تعالى: ( رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) الضعفان المثلان و إنّما سألوا لهم ضعفي العذاب لأنّهم ضلّوا في أنفسهم و أضلّوا غيرهم، و لذلك أيضاً سألوا لهم اللعن الكبير.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى‏ فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) نهي عن أن يكونوا كبعض بني إسرائيل فيعاملوا نبيّهم بمثل ما عامل به بنو إسرائيل من الإيذاء و ليس المراد مطلق الإيذاء بقول أو فعل و إن كان منهيّاً عنه بل قوله:( فَبَرَّأَهُ اللهُ ) يشهد بأنّه كان إيذاء من قبيل التهمة و الافتراء المحوج في رفعه إلى التبرئة و التنزيه.

و لعلّ السكوت عن ذكر ما آذوا به موسىعليه‌السلام يؤيّد ما ورد في الحديث أنّهم قالوا: ليس لموسى ما للرجال فبرّأه الله من قولهم و سيوافيك.

و أوجه ما قيل في إيذائهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه إشارة إلى قصّة زيد و زينب، و إن يكن كذلك فمن إيذائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما في كثير من روايات القصّة من سردها على نحو لا يناسب ساحة قدسه.

و قوله:( وَ كانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ) أي ذا جاه و منزلة و الجملة مضافاً إلى اشتمالها على التبرئة إجمالاً تعلّل تبرئته تعالى له و للآية و ما بعدها نوع اتّصال بالآيات الناهية عن إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) ، السديد من السداد و هو الإصابة و الرشاد فالسديد من القول ما يجتمع فيه مطابقة الواقع و عدم كونه لغواً أو ذا فائدة غير مشروعة كالنميمة و غير ذلك فعلى المؤمن أن يختبر صدق ما يتكلّم به و أن لا يكون لغواً أو يفسد به إصلاح.

٣٦٩

قوله تعالى: ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) رتّب على ملازمة القول السديد إصلاح الأعمال و مغفرة الذنوب و ذلك أنّ النفس إذا لازمت القول السديد انقطعت عن كذب القول و لغو الحديث و الكلام الّذي يترتّب عليه فساد، و برسوخ هذه الصفة فيها تنقطع طبعاً عن الفحشاء و المنكر و اللغو في الفعل و عند ذلك يصلح أعمال الإنسان فيندم بالطبع على ما ضيّعه من عمره في موبقات الذنوب إن كان قد ابتلي بشي‏ء من ذلك و كفى بالندم توبة.

و يحفظه الله فيما بقي من عمره عن اقتحام المهلكات و إن رام شيئاً من صغائر الذنوب غفره الله له فقد قال الله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) النساء: 31 فملازمة القول السديد تسوق الإنسان إلى صلاح الأعمال و مغفرة الذنوب بإذن الله.

و قوله:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) وعد جميل على الإتيان بجميع الأعمال الصالحة و الاجتناب عن جميع المناهي بترتيب الفوز العظيم على طاعة الله و رسوله.

و بذلك تختتم السورة في معناها في الحقيقة لأنّ طاعة الله و رسوله هي الكلمة الجامعة بين جميع الأحكام السابقة، من واجبات و محرّمات و الآيتان التاليتان كالمتمّم لمعنى هذه الآية.

قوله تعالى: ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا - إلى قوله -غَفُوراً رَحِيماً ) الأمانة - أيّاً مّا كانت - شي‏ء يودع عند الغير ليحتفظ عليه ثمّ يردّه إلى من أودعه، فهذه الأمانة المذكورة في الآية شي‏ء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ على سلامته و استقامته ثمّ يردّه إليه سبحانه كما أودعه.

و يستفاد من قوله:( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ ) إلخ، أنّه أمر يترتّب على حمله النفاق و الشرك و الإيمان، فينقسم حاملوه باختلاف كيفيّة حملهم إلى منافق و مشرك و مؤمن.

٣٧٠

فهو لا محالة أمر مرتبط بالدين الحقّ الّذي يحصل بالتلبّس به و عدم التلبّس به النفاق و الشرك و الإيمان.

فهل هو الاعتقاد الحقّ و الشهادة على توحّده تعالى أو مجموع الاعتقاد و العمل بمعنى أخذ الدين الحقّ بتفاصيله مع الغضّ عن العمل به، أو التلبّس بالعمل به أو الكمال الحاصل للإنسان من جهة التلبّس بواحد من هذه الاُمور.

و ليست هي الأوّل أعني التوحيد فإنّ السماوات و الأرض و غيرهما من شي‏ء توحّده تعالى و تسبّح بحمده، و قد قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 44 و الآية تصرّح بإبائها عنه.

و ليست هي الثاني أعني الدين الحقّ بتفاصيله فإنّ الآية تصرّح بحمل الإنسان كائناً من كان من مؤمن و غيره له و من البيّن أنّ أكثر من لا يؤمن لا يحمله و لا علم له به، و بهذا يظهر أنّها ليست بالثالث و هو التلبّس بالعمل بالدين الحقّ تفصيلاً.

و ليست هي الكمال الحاصل له بالتلبّس بالتوحيد فإنّ السماوات و الأرض و غيرهما ناطقة بالتوحيد فعلاً متلبّسة به.

و ليست هي الكمال الحاصل من أخذ دين الحقّ و العلم به إذ لا يترتّب على نفس الاعتقاد الحقّ و العلم بالتكاليف الدينيّة نفاق و لا شرك و لا إيمان و لا يستعقب سعادة و لا شقاء و إنّما يترتّب الأثر على الالتزام بالاعتقاد الحقّ و التلبّس بالعمل.

فبقي أنّها الكمال الحاصل له من جهة التلبّس بالاعتقاد و العمل الصالح و سلوك سبيل الكمال بالارتقاء من حضيض المادّة إلى أوج الإخلاص الّذي هو أن يخلصه الله لنفسه فلا يشاركه فيه غيره فيتولّى هو سبحانه تدبير أمره و هو الولاية الإلهيّة.

فالمراد بالأمانة الولاية الإلهيّة و بعرضها على هذه الأشياء اعتبارها مقيسة إليها و المراد بحملها و الإباء عنه وجود استعدادها و صلاحيّة التلبّس بها و عدمه، و هذا المعنى هو القابل لأن ينطبق على الآية فالسماوات و الأرض و الجبال على ما فيها من العظمة و الشدّة و القوّة فاقدة لاستعداد حصولها فيها و هو المراد بإبائهنّ عن حملها و إشفاقهنّ منها.

٣٧١

لكنّ الإنسان الظلوم الجهول لم يأب و لم يشفق من ثقلها و عظم خطرها فحملها على ما بها من الثقل و عظم الخطر فتعقّب ذلك أن انقسم الإنسان من جهة حفظ الأمانة و عدمه بالخيانة إلى منافق و مشرك و مؤمن بخلاف السماوات و الأرض و الجبال فما منها إلّا مؤمن مطيع.

فإن قلت: ما بال الحكيم العليم حمل على هذا المخلوق الظلوم الجهول حملاً لا يتحمّله لثقله و عظم خطره السماوات و الأرض و الجبال على عظمتها و شدّتها و قوّتها و هو يعلم أنّه أضعف من أن يطيق حمله و إنّما حمله على قبولها ظلمه و جهله و أجرأه عليه غروره و غفلته عن عواقب الاُمور فما تحميله الأمانة باستدعائه لها ظلماً و جهلاً إلّا كتقليد مجنون ولاية عامّة يأبى قبولها العقلاء و يشفقون منها يستدعيها المجنون لفساد عقله و عدم استقامة فكره.

قلت: الظلم و الجهل في الإنسان و إن كانا بوجه ملاك اللّوم و العتاب فهما بعينهما مصحّح حمله الأمانة و الولاية الإلهيّة فإنّ الظلم و الجهل إنّما يتّصف بهما من كان من شأنه الاتّصاف بالعدل و العلم فالجبال مثلاً لا تتّصف بالظلم و الجهل فلا يقال: جبل ظالم أو جاهل لعدم صحّة اتّصافه بالعدل و العلم و كذلك السماوات و الأرض لا يحمل عليها الظلم و الجهل لعدم صحّة اتّصافها بالعدل و العلم بخلاف الإنسان.

و الأمانة المذكورة في الآية و هي الولاية الإلهيّة و كمال صفة العبوديّة إنّما تتحصّل بالعلم بالله و العمل الصالح الّذي هو العدل و إنّما يتّصف بهذين الوصفين أعني العلم و العدل الموضوع القابل للجهل و الظلم فكون الإنسان في حدّ نفسه و بحسب طبعه ظلوماً جهولاً هو المصحّح لحمل الأمانة الإلهيّة فافهم ذلك.

فمعنى الآيتين(1) يناظر بوجه معنى قوله تعالى:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) التين: 6.

فقوله تعالى:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ) أي الولاية الإلهيّة و الاستكمال بحقائق

____________________

(1) فالآية الاولى تحاذي الاولى و الثانية تحاذي الثانية و الثالثة.

٣٧٢

الدين الحقّ علماً و عملاً و عرضها هو اعتبارها مقيسة إلى هذه الأشياء.

و قوله:( عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ ) أي هذه المخلوقات العظيمة الّتي خلقها أعظم من خلق الإنسان كما قال:( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) المؤمن: 57 و قوله:( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها ) إباؤها عن حملها و إشفاقها منها عدم اشتمالها على صلاحية التلبّس و تجافيها عن قبولها و في التعبير بالحمل إيماء إلى أنّها ثقيلة ثقلاً لا يحتملها السماوات و الأرض و الجبال.

و قوله:( وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ ) أي اشتمل على صلاحيتها و التهيّؤ للتلبّس بها على ضعفه و صغر حجمه( إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ) أي ظالماً لنفسه جاهلاً بما تعقّبه هذه الأمانة لو خانها من وخيم العاقبة و الهلاك الدائم.

و بمعنى أدقّ لكون الإنسان خالياً بحسب نفسه عن العدل و العلم قابلاً للتلبّس بما يفاض عليه من ذلك و الارتقاء من حضيض الظلم و الجهل إلى أوج العدل و العلم.

و الظلوم و الجهول وصفان من الظلم و الجهل معناهما من كان من شأنه الظلم و الجهل نظير قولنا: فرس شموس و دابّة جموح و ماء طهور أي من شأنها ذلك كما قاله الرازيّ أو معناهما المبالغة في الظلم و الجهل كما ذكر غيره، و المعنى مستقيم كيفما كانا.

و قوله:( لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ ) اللّام للغاية أي كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذّب الله المنافقين و المنافقات و المشركين و المشركات و ذلك أنّ الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح و الأمانة و هو النفاق و قليلاً ما يتظاهر بالخيانة لها و لعلّ اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين و المنافقات في الآية على المشركين و المشركات.

و قوله:( وَ يَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) عطف على( لِيُعَذِّبَ ) أي و كان عاقبة ذلك أن يتوب الله على المؤمنين و المؤمنات، و التوبة من الله هي رجوعه إلى عبده بالرحمة فيرجع إلى الإنسان إذا آمن به و لم يخن بالرحمة و يتولّى أمره و هو وليّ المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه و جهله و تحليته بالعلم النافع و العمل الصالح لأنّه غفور رحيم.

٣٧٣

فإن قلت: ما هو المانع من جعل الأمانة بمعنى التكليف و هو الدين الحقّ و كون الحمل بمعنى الاستعداد و الصلاحية و الإباء هو فقده و العرض هو اعتبار القياس فيجري فيه حينئذ جميع ما تقدّم في بيان الانطباق على الآية.

قلت: نعم لكنّ التكليف إنّما هو مطلوب لكونه مقدّمة لحصول الولاية الإلهيّة و تحقّق صفة العبوديّة الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة و المطلوبة لنفسها.

و الالتفات في قوله:( لِيُعَذِّبَ اللهُ ) من التكلّم إلى الغيبة و الإتيان باسم الجلالة للدلالة على أنّ عواقب الاُمور إلى الله سبحانه لأنّه الله.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله:( وَ يَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) للإشعار بكمال العناية في حقّهم و الاهتمام بأمرهم.

و لهم في تفسير الأمانة المذكورة في الآية أقوال مختلفة:

فقيل: المراد بها التكاليف الموجبة طاعتها دخول الجنّة و معصيتها دخول النار و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالنسبة إلى استعدادها و إباؤهنّ عن حملها و إشفاقهنّ منها عدم استعدادهنّ لها، و حمل الإنسان لها استعداده، و الكلام جار مجرى التمثيل.

و قيل: المراد بها العقل الّذي هو ملاك التكليف و مناط الثواب و العقاب.

و قيل: هي قول لا إله إلّا الله.

و قيل: هي الأعضاء فالعين أمانة من الله يجب حفظها و عدم استعمالها إلّا فيما يرتضيه الله تعالى، و كذلك السمع و اليد و الرجل و الفرج و اللسان.

و قيل: المراد بها أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

و قيل: المراد بها معرفة الله بما فيها و هذا أقرب الأقوال من الحقّ يرجع بتقريب مّا إلى ما قدّمنا.

و كذلك اختلف في معنى عرض الأمانة عليها على أقوال:

منها: أنّ العرض بمعناه الحقيقيّ غير أنّ المراد بالسماوات و الأرض و الجبال أهلها فعرضت على أهل السماء من الملائكة و بيّن لهم أنّ في خيانتها الإثم العظيم

٣٧٤

فأبوها و خافوا حملها و عرض على الإنسان فلم يمتنع.

و منها: أنّه بمعناه الحقيقيّ و ذلك أنّ الله لمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهماً و قال لها: إنّي فرضت فريضة و خلقت جنّة لمن أطاعني فيها و ناراً لمن عصاني فيها فقلن: نحن مسخّرات لما خلقتنا لا نحتمل فريضة و لا نبغي ثواباً و لا عقاباً و لمّا خلق آدم عرض عليه ذلك فاحتمله و كان ظلوماً لنفسه جهولاً بوخامة عاقبته.

و منها: أنّ المراد بالعرض المعارضة و المقابلة، و محصّل الكلام أنّا قابلنا بهذه الأمانة السماوات و الأرض و الجبال فكانت هذه أرجح و أثقل منها.

و منها أنّ الكلام جار مجرى الفرض و التقدير و المعنى: أنّا لو قدّرنا أنّ السماوات و الأرض و الجبال فهماً، و عرضنا عليها هذه الأمانة لأبين حملها و أشفقن منها لكنّ الإنسان تحمّلها.

و بالمراجعة إلى ما قدّمناه يظهر ما في كلّ من هذه الأقوال من جهات الضعف و الوهن فلا تغفل.

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث قال: و لا يلعن الله مؤمناً قال الله عزّوجلّ:( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّ بني إسرائيل كانوا يقولون: ليس لموسى ما للرجال، و كان موسى إذا أراد الاغتسال ذهب إلى موضع لا يراه فيه أحد فكان يوماً يغتسل على شطّ نهر و قد وضع ثيابه على صخرة فأمر الله الصخرة فتباعدت عنه حتّى نظر بنوإسرائيل إليه فعلموا أن ليس كما قالوا فأنزل الله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) الآية.

و في المجمع: و اختلفوا فيما اُوذي به موسى على أقوال:

أحدها: أنّ موسى و هارون صعداً الجبل فمات هارون فقالت بنوإسرائيل: أنت

٣٧٥

قتلته فأمر الله الملائكة فحملته حتّى مرّوا به على بني إسرائيل و تكلّمت الملائكة بموته حتّى عرفوا أنّه قد مات و برّأه الله من ذلك عن عليّ و ابن عبّاس.

و ثانيها: أنّ موسى كان حييّاً ستيراً يغتسل وحده فقالوا: ما يستتر منّا إلّا لعيب في جلده إمّا برص و إمّا أدرة فذهب مرّة يغتسل فوضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى فرآه بنو إسرائيل عرياناً كأحسن الرجال خلقاً فبرّأه الله ممّا قالوا. رواه أبوهريرة مرفوعاً.

أقول: و روى الرواية الاُولى في الدرّ المنثور، أيضاً عن ابن مسعود و الثانية أيضاً عن أنس و ابن عبّاس.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه عن سهل بن سعد الساعديّ قال: ما جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذا المنبر قطّ إلّا تلا هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً ) .

أقول: و روي ما يقرب منه أيضاً عن عائشة و أبي موسى الأشعريّ و عروة.

و في نهج البلاغة: ثمّ أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها إنّها عرضت على السماوات المبنيّة و الأرض المدحوّة و الجبال ذات الطول المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها و لو امتنع شي‏ء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لأمتنعن و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الإنسان إنّه كان ظلوماً جهولاً.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ ) الآية، قال: هي ولاية أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

أقول: المراد بولاية أميرالمؤمنينعليه‌السلام ما كان هو أوّل فاتح لبابه من هذه الاُمّة و هو كون الإنسان، بحيث يتولّى الله سبحانه أمره بمجاهدته فيه بإخلاص العبوديّة له دون الولاية بمعنى المحبّة أو بمعنى الإمامة و إن كان ظاهر بعض الروايات ذلك بنوع من الجري و الانطباق.

٣٧٦

( سورة سبإ مكّيّة، و هي أربع و خمسون آية)

( سورة سبإ الآيات 1 - 9)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ  وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 1 ) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا  وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ( 2 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ  قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ  لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( 3 ) لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 ) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ( 5 ) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( 6 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ( 7 ) أَفْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ  بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ( 8 ) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ  إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( 9 )

٣٧٧

( بيان)

تتكلّم السورة حول الاُصول الثلاثة أعني الوحدانيّة و النبوّة و البعث فتذكرها و تذكر ما لمنكريها من الاعتراض فيها و الشبه الّتي ألقوها ثمّ تدفعها بوجوه الدفع من حكمة و موعظة و مجادلة حسنة و تهتمّ ببيان أمر البعث أكثر من غيره فتذكره في مفتتح الكلام ثمّ تعود إليه عودة بعد عودة إلى مختتمه.

و هي مكّيّة بشهادة مقاصد آياتها على ذلك.

قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، المطلوب بيان البعث و الجزاء بياناً لا يعتريه شكّ بالإشارة إلى الحجّة الّتي ينقطع بها الخصم و الأساس الّذي يقوم عليه ذلك أمران أحدهما عموم ملكه تعالى لكلّ شي‏ء من كلّ جهة حتّى يصحّ له أيّ تصرّف أراد فيها من إبداء و رزق و إماتة و إحياء بالإعادة و جزاء، و ثانيهما كمال علمه تعالى بالأشياء من جميع جهاتها علماً لا يطرأ عليه عزوب و زوال حتّى يعيد كلّ من أراد و يجزيه على ما علم من أعماله خيراً أو شرّاً.

و قد اُشير إلى أوّل الأمرين في الآية الاُولى الّتي نحن فيها و إلى الثانية في الآية الثانية و بذلك يظهر أنّ الآيتين تمهيد لما في الآية الثالثة و الرابعة.

فقوله:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) ثناء عليه على ملكه المنبسط على كلّ شي‏ء بحيث له أن يتصرّف في كلّ شي‏ء بما شاء و أراد.

و قوله:( وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ) تخصيص الحمد بالآخرة لما أنّ الجملة الاُولى تتضمّن الحمد في الدنيا فإنّ النظام المشهود في السماوات و الأرض نظام دنيويّ كما يشهد به قوله تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ ) إبراهيم: 48.

و قوله:( وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) ختم الآية بالاسمين الكريمين للدلالة على أنّ تصرّفه في نظام الدنيا ثمّ تعقيبه بنظام الآخرة مبنيّ على الحكمة و الخبرة فبحكمته عقّب الدنيا بالآخرة و إلّا لغت الخلقة و بطلت و لم يتميّز المحسن من المسي‏ء كما قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا - إلى أن قال -أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا

٣٧٨

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: 28، و بخبرته يحشرهم و لا يغادر منهم أحداً و يجزي كلّ نفس بما كسبت.

و الخبير من أسماء الله الحسنى مأخوذة من الخبرة و هي العلم بالجزئيات فهو أخصّ من العليم.

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها ) الولوج مقابل الخروج و العروج مقابل النزول و كأنّ العلم بالولوج و الخروج و النزول و العروج كناية عن علمه بحركة كلّ متحرّك و فعله و اختتام الآية بقوله:( وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) كأنّ فيه إشارة إلى أنّ له رحمة ثابتة و مغفرة ستصيب قوماً بإيمانهم.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ ) إلخ، يذكر إنكارهم لإتيان الساعة و هي يوم القيامة و هم ينكرونه مع ظهور عموم ملكه و علمه بكلّ شي‏ء و لا مورد للارتياب في إتيانها مع ذلك كما تقدّم فضلاً عن إنكار إتيانها و لذلك أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب عن قولهم بقوله:( قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) أي الساعة.

و لمّا كان السبب العمدة في إنكارهم هو اختلاط الأشياء و منها أبدان الأموات بعضها ببعض و تبدّل صورها تبدّلاً بعد تبدّل بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميّز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله:( عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ ) أي لا يفوت( عن علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) .

و قوله:( وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) تعميم لعلمه لكلّ شي‏ء و فيه مع ذلك إشارة إلى أنّ للأشياء كائنة ما كانت ثبوتاً في كتاب مبين لا تتغيّر و لا تتبدّل و إن زالت رسومها عن صفحة الكون و قد تقدّم بعض الكلام في الكتاب المبين في سورة الأنعام و غيرها.

قوله تعالى: ( لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) اللّام في( لِيَجْزِيَ ) للتعليل و هو متعلّق بقوله:( لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) و في قوله:( لَهُمْ

٣٧٩

مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) نوع محاذاة لقوله السابق:( وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) .

و في الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة و هو أن يجزي الله الّذين آمنوا و عملوا الصالحات بالمغفرة و الرزق الكريم و هو الجنّة بما فيها و السبب الأخير ما يشير إليه قوله:( وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ) السعي الجدّ في المشي و المعاجزة المبالغة في الإعجاز و قيل: المسابقة و الكلام مبنيّ على الاستعارة بالكناية كأنّ الآيات مسافة يسيرون فيها سيراً حثيثاً ليعجزوا الله و يسبقوه و الرجز كالرجس القذر و لعلّ المراد به العمل السيّئ فيكون إشارة إلى تبدّل العمل عذاباً أليماً عليهم أو سبباً لعذابهم، و قيل: الرجز هو سيّي‏ء العذاب.

و في الآية تعريض للكفّار الّذين يصرّون على إنكار البعث.

قوله تعالى: ( وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) الموصول الأوّل فاعل يرى و الموصول الثاني مفعوله الأوّل و الحقّ مفعوله الثاني و المراد بالّذين اُوتوا العلم العلماء بالله و بآياته، و بالّذي اُنزل إليه القرآن النازل إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و جملة( وَ يَرَى ) إلخ، استئناف متعرّض لقوله السابق:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أو حال من فاعل كفروا، و المعنى: اُولئك يقولون: لا تأتينا الساعة و ينكرونه جهلاً، و العلماء بالله و آياته يرون أنّ هذا القرآن النازل إليك المخبر بأنّ الساعة آتية هو الحقّ.

و قوله:( وَ يَهْدِي إِلى‏ صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) معطوف على الحقّ أي و يرون القرآن يهدي إلى صراط من هو عزيز لا يغلب على ما يريد محمود يثنى على جميع أفعاله لأنّه لا يفعل مع عزّته إلّا الجميل و هو الله سبحانه، و في التوصيف بالعزيز الحميد مقابلة لما وصفهم به في قوله:( الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى‏ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) كلام منهم وارد مورد الاستهزاء يعرّفون فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضهم لبعض بالقول بالمعاد.

٣٨٠