الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116594
تحميل: 4908


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116594 / تحميل: 4908
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و التمزيق التقطيع و التفريق، و كونهم في خلق جديد استقرارهم فيه أي تجديد خلقتهم بإحيائهم بعد موتهم و وجودهم ثانياً بعد عدمهم، و قوله:( إِذا مُزِّقْتُمْ ) ظرف لقوله:( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

و المعنى: و قال الّذين كفروا بعضهم لبعض على طريق الاستهزاء بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإنذاره إيّاهم بالبعث و الجزاء: هل ندلّكم على رجل و المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبّئكم و يخبركم أنّكم ستستقرّون في خلق جديد و يتجدّد لكم الوجود إذا فرّقت أبدانكم كلّ التفريق و قطّعت بحيث لا يتميّز شي‏ء منها من شي‏ء.

قوله تعالى: ( أَفْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) إلخ، الاستفهام للتعجيب فإنّ القول ببعث الأجساد بعد فنائها عجيب عندهم لا يقول به عاقل إلّا لتلبيس الأمر على الناس و إضلالهم لينال بعض ما عندهم و إلّا فكيف يلتبس فيه الأمر على عاقل، و لهذا ردّدوا الأمر بين الافتراء و الجنّة في الاستفهام و المعنى: أ هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث أم به نوع جنون يتفوّه بما بدا له من غير فكر مستقيم.

و قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ ) ردّ لقولهم و إضراب عن الترديد الّذي أتوا به مستفهمين، و محصّله أنّ ذلك ليس افتراء على الله و لا جنون فيه بل هؤلاء الكفّار مستقرّون في عذاب سيظهر لهم و قد أبعدهم ذلك عن الحقّ فكانوا في ضلال بعيد لا يسعهم مع ذلك أن يعقلوا الحقّ و يذعنوا به.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله:( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ) للدلالة على أنّ علّة وقوعهم فيما وقعوا فيه من العذاب و الضلال عدم إيمانهم بالآخرة.

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) إلخ، وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترؤا عليه من تكذيب آيات الله و الاستهزاء برسوله فالمراد بقوله:( ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ) إحاطة السماء و الأرض بهم من بين أيديهم و من خلفهم فأينما نظروا وجدوا سماء تظلّهم و أرضاً تقلّهم لا مفرّ لهم منهما.

و قوله:( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ ) أي إذ

٣٨١

أحاط بهم الأرض و السماء و هما مدبّرتان بتدبيرنا منقادتان مسخّرتان لنا أن نشأ نخسف بهم الأرض فنهلكهم أو نسقط عليهم قطعة من السماء فنهلكهم فما لهم لا ينتهون عن هذه الأقاويل؟.

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) ، أي فيما ذكر من إحاطة السماء و الأرض و كونهما مدبّرتين لله سبحانه أن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط عليهم كسفا من السماء لآية لكلّ عبد منيب، راجع إلى ربّه بالطاعة، فهؤلاء لا يستهينون بهذه الاُمور و لا يجترؤن على تكذيب هذه الآيات إلّا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربّهم و رجوعاً إلى طاعته.

٣٨٢

( سورة سبإ الآيات 10 - 21)

وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا  يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ  وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ( 10 ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ  وَاعْمَلُوا صَالِحًا  إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 11 ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ  وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ  وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ  وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ( 12 ) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ  اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا  وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( 13 ) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ  فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 14 ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ  جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ  كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ  بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ( 16 ) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا  وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ( 17 ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ  سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا

٣٨٣

آمِنِينَ ( 18 ) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( 19 ) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 20 ) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ  وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 21 )

( بيان)

تشير الآيات إلى نبذة من قصص داود و سليمان إذ آتاهما الله من فضله إذ أنعم على داود بتسخير الجبال و الطير معه و تليين الحديد له، و سخّر لسليمان الريح غدوّها شهر و رواحها شهر و سخّر الجنّ يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و غيرها و أمرهما بالعمل الصالح شكراً و كانا عبدين شكورين.

ثمّ إلى قصّة سبإ حيث أنعم عليهم بجنّتين عن اليمين و الشمال ليعيشوا فيها عيشاً رغداً فكفروا بالنعمة و أعرضوا عن الشكر فأرسل عليهم سيل العرم و بدّل جنّتيهم جنّتين دون ذلك و قد كان عمّر بلادهم فكفروا فجعلهم أحاديث و مزّقهم كلّ ممزّق، كلّ ذلك لكفرهم النعمة و إعراضهم عن الشكر و لا يجازى إلّا الكفور.

وجه اتّصال القصص على ما تقدّم من حديث البعث أنّ الله هو المدبّر لاُمور عباده و هم مغمورون في أنواع نعمه و للمنعم على المنعم عليه الشكر على نعمته و عليه أن يميّز بين الشاكرين لنعمته و الكافر بها و إذ لا ميز في هذه النشأة فهناك نشأة اُخرى يتميّز فيها الفريقان فالبعث لا مفرّ عنه.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) الفضل العطيّة و التأويب الترجيع من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به ترجيع

٣٨٤

الصوت بالتسبيح بدليل قوله فيه في موضع آخر:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: 19 و الطير معطوف على محلّ الجبال و منه يظهر فساد قول بعضهم: أنّ الأوب بمعنى السير و أنّ الجبال كانت تسير معه حيثما سار.

و قوله:( يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ ) بيان للفضل الّذي اُوتي داود و قد وضع فيه الخطاب الّذي خوطبت به الجبال و الطير فسخّرتا به موضع نفس التسخير الّذي هو العطيّة و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبّب و المعنى: سخّرنا الجبال له تؤوّب معه و الطير، و هذا هو المتحصّل من تسخير الجبال و الطير له كما يشير إليه قوله:( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ) ص: 19.

و قوله:( وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) أي و جعلناه ليّنا له على ما به من الصلابة.

قوله تعالى: ( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) إلخ، السابغات جمع سابغة و هي الدرع الواسعة، و السرد نسج الدرع، و تقديره الاقتصاد فيه بحيث تتناسب حلقه أي اعمل دروعا واسعة و أجعلها متناسبة الحلق، و جملة( أَنِ اعْمَلْ ) إلخ، نوع تفسير لا لأنة الحديد له.

و قوله:( وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) معنى الجملة في نفسها ظاهر و هي لوقوعها في سياق بيان إيتاء الفضل و عدّ النعم تفيد معنى الأمر بالشكر كأنّه قيل: و قلنا اشكر النعم أنت و قومك بالعمل الصالح.

قوله تعالى: ( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) إلخ، أي و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح - و هو أوّل النهار إلى الظهر - مسير شهر و رواح تلك الريح - و هو من الظهر إلى آخر النهار - مسير شهر أي إنّها تسير في يوم مسير شهرين.

و قوله:( وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) الإسالة إفعال من السيلان بمعنى الجريان

٣٨٥

و القطر النحاس أي و أذبنا له القطر فسالت كالعين الجارية.

قوله:( وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) ، أي و جمع من الجنّ - بدليل قوله بعد:( يَعْمَلُونَ لَهُ ) - يعمل بين يديه بإذن ربّه مسخّرين له( وَ مَنْ يَزِغْ ) أي ينحرف( عَنْ أَمْرِنا ) و لم يطع سليمان( نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ) ظاهر السياق أنّ المراد به عذاب النار في الدنيا دون الآخرة، و في لفظ الآية دلالة على أنّ المسخّر له كان بعض الجنّ لا جميعهم.

قوله تعالى: ( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ) إلخ، المحاريب جمع محراب و هو مكان إقامة الصلاة و العبادة، و التماثيل جمع تمثال و هي الصورة المجسّمة من الشي‏ء و الجفان جمع جفنة و هي صحفة الطعام، و الجوابي جمع جابية الحوض الّذي يجبى أي يجمع فيه الماء، و القدور جمع قدر و هو ما يطبخ فيه الطعام، و الراسيات الثابتات و المراد بكون القدور راسيات كونها ثابتات في أمكنتها لا يزلن عنها لعظمها.

و قوله:( اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ) خطاب لسليمان و سائر من معه من آل داود أن يعملوا و يعبدوا الله شكراً له، و قوله:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) أي الشاكر لله شكراً بعد شكر و الجملة إمّا في مقام ترفيع مقام أهل الشكر بأنّ المتمكّنين في هذا المقام قليلون و هم الأوحديّون من الناس، و إمّا في مقام التعليل كأنّه قيل: إنّهم قليل فكثّروا عدّتهم.

قوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ) المراد بدابّة الأرض الأرضة على ما وردت به الروايات و المنسأة العصا و قوله:( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ ) الخرور السقوط على الأرض.

و يستفاد من السياق أنّهعليه‌السلام لمّا قبض كان متكّئا على عصاه فبقي على تلك الحال قائماً متّكئا على عصاه زماناً لا يعلم بموته إنس و لا جنّ فبعث الله عزّوجلّ أرضة فأخذت

٣٨٦

في أكل منسأته حتّى إذا أكلت انكسرت العصا و سقط سليمان على الأرض فعلموا عند ذلك بموته و تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب لعلموا بموت سليمان المستور عنهم و ما لبثوا هذا المقدار من الزمان - و هو من حين قبضه إلى خروره - في العذاب المهين المذلّ لهم.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) إلخ، سبأ العرب العاربة باليمن سمّوا - كما قيل - باسم أبيهم سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و قوله:( عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ ) أي عن يمين مسكنهم و شماله.

و قوله:( كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ) أمر بالأكل من جنّتين و هو كناية عن رزقهم منهما، ثمّ بالشكر له على نعمته و رزقه، و قوله:( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ ) أي بلدة ملائمة صالحة للمقام و ربّ كثير الغفران لا يؤاخذكم بسيّئاتكم.

قوله تعالى: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ) العرم المسنّاة الّتي تحبس الماء، و قيل: المطر الشديد و قيل غير ذلك، و الاُكل بضمّتين كلّ ثمرة مأكولة، و الخمط - على ما قيل - كلّ نبت أخذ طعماً من المرارة، و الأثل الطرفاء و قيل: شجر يشبهها أعظم منها لا ثمرة له، و السدر معروف، و الأثل و شي‏ء معطوفان على( أُكُلٍ ) لا على خمط.

و المعنى: فأعرضوا أي قوم سبإ عن الشكر الّذي اُمروا به فجازيناهم و أرسلنا عليهم سيل العرم فأغرق بلادهم و ذهب بجنّتيهم و بدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي ثمرة مرّة و ذواتي طرفاء و شي‏ء قليل من السدر.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما ذكر من إرسال السيل و تبديل الجنّتين و محلّه النصب مفعولاً ثانياً لجزيناهم و الفرق بين الجزاء و المجازاة - كما قيل - أنّ المجازاة لا تستعمل إلّا في الشرّ و الجزاء أعمّ.

و المعنى: جزينا سبأ ذلك الجزاء بسبب كفرهم و إعراضهم عن الشكر - أو في مقابلة

٣٨٧

ذلك - و لا نجازي بالسوء إلّا من كان كثير الكفران لأنعم الله.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً ) إلخ، ضمير( بَيْنَهُمْ ) لسبإ و الكلام مسوق لبيان تتمّة قصّتهم المطلوب ذكرها و هو عطف على قوله:( كانَ لِسَبَإٍ ) و المراد بالقرى الّتي باركنا فيها القرى الشاميّة، و المراد بكون القرى ظاهرة كونها متقاربة يرى بعضها من بعض.

و قوله:( وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ ) أي جعلنا السير فيها على نسبة مقدّرة متناسبة غير مختلفة فالنسبة بين واحدة منها و ما يليها كالنسبة بين ما يليها و ما يليه، و قوله:( سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ ) على تقدير القول أي و قلنا: سيروا في هذه القرى على أمن إن شئتم ليالي و إن شئتم أيّاماً، و المراد قرّرنا فيها الأمن يسيرون فيها متى ما شاؤا من غير خوف و قلق.

قوله تعالى: ( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) إلخ، أي أنعمنا عليهم ما أنعمنا من وفور الفواكه و قرب المنازل و أمن الطرق و سهولة السير و رغد العيش فملّوا ذلك و سئموه و قالوا:( رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) أي اجعل أسفارنا ذوات مسافات بعيدة نركب فيها الرواحل و نقطع المفاوز و البوادي و هذا بغي منهم و كفران كما طلبت بنوإسرائيل الثوم و البصل مكان المنّ و السلوى.

و بالجملة أتمّ الله نعمه عليهم في السفر بقرب المنازل و أمن الطرق و وفور النعمة كما أتمّ نعمه عليهم في الحضر و أراد منهم الشكر على ذلك فكفروا بنعمه في السفر كما كفروا بها في الحضر، فأسرع الله في إسعاف ما اقترحوه فخرّب بلادهم و فرّق جمعهم و شتّت شملهم.

فقوله:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ) اقتراح ضمنيّ لتخريب بلادهم، و قوله:( وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) أي بالمعاصي.

و قوله:( فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) أي أزلنا أعيانهم و آثارهم فلم يبق منهم إلّا أحاديث يحدّث بها فيما يحدّث فعادوا أسماء لا مسمّى لهم إلّا في وهم المتوهّم و خيال المتخيّل و فرّقناهم كلّ تفرّق فلم يبق من أجزاء وجودهم جزءان

٣٨٨

مجتمعان إلّا فرّقنا بينهما فصاروا كسدى لا شبح له بعد ما كانوا مجتمعاً ذا قوّة و شوكة حتّى ضرب بهم المثل( تفرّقوا أيادي سبإ) .

و قوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) أي في هذا الّذي ذكر من قصّتهم لآيات لكلّ من كثر صبره في جنب الله و كثر شكره لنعمه الّتي لا تحصى يستدلّ بتلك الآيات على أنّ على الإنسان أن يعبد ربّه شكراً لنعمه و أنّ وراءه يوماً يبعث فيه و يجزى بعمله.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) أي حقّق إبليس عليهم ظنّه أو وجد ظنّه صادقاً عليهم إذ قال لربّه:( لَأُغْوِيَنَّهُمْ و لَأُضِلَّنَّهُمْ ) ( وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ ) ، و قوله:( فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بيان لتصديقه ظنّه.

و منه يظهر أنّ ضمير الجمع في( عَلَيْهِمْ ) ههنا و كذا في الآية التالية لعامّة الناس لا لسبإ خاصّة و إن كانت الآية منطبقة عليهم.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) ظاهر السياق أنّ المراد أنّهم لم يتّبعوه عن سلطان له عليهم يضطرّهم إلى اتّباعه حتّى يكونوا معذورين بل إنّما اتّبعوه عن سوء اختيارهم فهم يختارون اتّباعه فيتسلّط عليهم لا أنّه يتسلّط فيتّبعونه، قال تعالى:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: 42 و قال حاكياً عن إبليس يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: 22.

و منشأ اتّباعهم له ريب و شكّ في قلوبهم من الآخرة يظهر منهم بظهور أثره الّذي هو الاتّباع لإبليس، فإذنه سبحانه لإبليس أن يتسلّط عليهم من طريق اختيارهم هذا المقدار من التسلّط ليمتاز به أهل الشكّ في الآخرة من أهل الإيمان به و لا يرفع ذلك مسئوليّتهم في اتّباعه لكونه عن اختيار منهم.

٣٨٩

فقوله:( وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ ) نفي لكلّ سلطان، و قوله:( إِلَّا لِنَعْلَمَ ) أي لنميّز( مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ ) استثناء لسلطانه عليهم من طريق اتّباعهم له عن اختيار منهم، و قد وضع فيه الغاية موضع ذي الغاية أي التمييز المذكور موضع التسلّط من طريق الاتّباع الاختياريّ.

و تقييد الإيمان و الشكّ بالآخرة في الآية لمكان أنّ الرادع الوحيد عن المعصية و الداعي إلى الطاعة هو الإيمان بالآخرة دون الإيمان بالله و رسوله لو لا الآخرة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: 26.

و قوله:( وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ ) أي عالم علماً لا يفوته المعلوم بنسيان أو سهو أو غير ذلك و فيه تحذير عن الكفران و المعصية و إنذار لأهل الكفر و المعصية.

( بحث روائي)

في كمال الدين، بإسناده إلى هشام بن سالم عن الصادقعليه‌السلام : في حديث يذكر فيه قصّة داودعليه‌السلام قال: إنّه خرج يقرأ الزبور و كان إذا قرأ الزبور لا يبقى جبل و لا حجر و لا طائر إلّا أجابه.

و في تفسير القمّيّ، قوله عزّوجلّ:( أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ) قال: الدروع( وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) قال: المسامير الّتي في الحلقة، و قوله عزّوجلّ:( وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ ) قال: كانت الريح تحمل كرسيّ سليمان فتسير به في الغداة مسيرة شهر و بالعشيّ مسيرة شهر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن الحصين و عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العبّاس قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام :( يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ ) قال: ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها تماثيل الشجر و شبهه.

و فيه، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن هشام بن الحكم قال: قال أبوالحسن

٣٩٠

موسى بن جعفرعليه‌السلام : يا هشام ثمّ مدح الله القلّة فقال:( وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ) .

أقول: و قد وقع هذا المعنى في عدّة روايات و هو ينطبق على أحد المعنيين المتقدّمين في ذيل الآية.

و في العلل، بإسناده عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أمر سليمان بن داود الجنّ فصنعوا له قبّة من قوارير فبينا هو متكّئ على عصاه في القبّة ينظر إلى الجنّ كيف ينظرون إليه إذ حانت منه التفاتة فإذا رجل معه في القبّة قال له: من أنت؟ قال: أنا الّذي لا أقبل الرشا و لا أهاب الملوك أنا ملك الموت. فقبضه و هو قائم متكّئ على عصاه في القبّة و الجنّ ينظرون إليه.

قال: فمكثوا سنة يدأبون له حتّى بعث الله عزّوجلّ الأرضة فأكلت منسأته و هي العصا، فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏ الحديث.

أقول: و بقاؤهعليه‌السلام على حال القيام متكّئا على عصاه سنة وارد في عدّة من روايات الشيعة و أهل السنّة.

و في المجمع، في الحديث عن فروة بن مُسيك قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبإ أ رجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستّة و تشاءم أربعة فأمّا الّذين تيامنوا فالأزد و كندة و مذحج و الأشعرون و أنمار و حمير فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة. و أمّا الّذين تشاءموا فعاملة و جذام و لخم و غسّان.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أرباب الجوامع و السنن عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ‏ و المراد بالتيامن و التشاؤم السكونة باليمن و الشام.

و في الكافي، بإسناده عن سدير قال: سأل رجل أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) الآية فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم إلى بعض و أنهار جارية و أموال ظاهرة فكفروا نعم الله عزّوجلّ

٣٩١

و غيّروا ما بأنفسهم من عافية الله فغيّر الله ما بهم من نعمة و الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرّق قراهم و خرّب ديارهم و ذهب بأموالهم و أبدلهم مكان جنانهم جنّتين ذواتي اُكل خمط و أثل و شي‏ء من سدر قليل ثمّ قال:( ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ) .

أقول: و ورد في عدّة من الروايات أنّ القرى الّتي بارك الله فيها هم أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و القرى الظاهرة هم الوسائط بينهم و بين الناس من حملة أحاديثهم و غيرهم، و هو من بطن القرآن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٣٩٢

( سورة سبإ الآيات 22 - 30)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ  لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ( 22 ) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ  حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ  قَالُوا الْحَقَّ  وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( 23 ) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  قُلِ اللهُ  وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 24 ) قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 25 ) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ( 26 ) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاءَ  كَلَّا  بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 27 ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 28 ) وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 29 ) قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ( 30 )

( بيان)

آيات مقرّرة للتوحيد و احتجاجات حوله.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) إلى آخر الآية، أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتجّ على إبطال اُلوهيّة آلهتهم بعدم قدرتهم على استجابة الدعاء، فقوله:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي ادعوا الّذين زعمتموهم آلهة من دون الله - فمفعولاً( زَعَمْتُمْ ) محذوفان لدلالة السياق عليهما - و دعاؤهم هو

٣٩٣

مسألتهم شيئاً من الحوائج.

و قوله:( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) واقع موقع الجواب كأنّه قيل: فما ذا يكون إذا دعوهم؟ فقيل: لا يستجيبون لهم بشي‏ء لأنّهم( لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ ) و لو ملكوا لاستجابوا، و لا تتمّ الربوبيّة و الاُلوهيّة إلّا بأن يملك الربّ و الإله شيئاً ممّا يحتاج إليه الإنسان فيملّكه له و ينعم عليه به فيستحقّ بإزائه العبادة شكراً له فيعبد، أمّا إذا لم يملك شيئاً فلا يكون ربّاً و لا إلهاً.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ) كان الملك المنفيّ في الجملة السابقة( لا يَمْلِكُونَ ) إلخ، الملك المطلق المنبسط على الجميع و المنفيّ في هذه الجملة الملك المحدود المتبعّض الّذي ينبسط على البعض دون الكلّ إمّا مشاعاً أو مفروزاً، لكنّ المشركين ما كانوا يقولون بالملك المشترك بينهم و بين الله سبحانه مشاعاً بل كانوا يقولون بملك كلّ من آلهتهم لنوع من الخلقة أو بعض منها، و أمّا الله سبحانه فهو ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و على هذا كان من الواجب أن يستجيب آلهتهم إذا دعوا فيما يملكونه من الخلقة و عدم استجابتهم كاشف عن عدم ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم.

و قوله:( وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ) أي ليس لله سبحانه منهم كلّا أو بعضاً من معين يعينه فيما يفرض فيه عجزه عن القيام بأمر تدبيره إذ لو كان له منهم ظهير يظهره على التدبير كان مالكاً فيستجيب إذا دعي فيما هو ظهير بالنسبة إليه و إذ ليس فليس.

فتبيّن ممّا تقدّم أنّ احتجاج الآية على نفي الملك بانتفاء استجابتهم دعاء الداعي يجري في جميع الصور الثلاث و هي ملكهم لما في السماوات و ما في الأرض مطلقاً و ملكهم على وجه الشركة مع الله سبحانه و كونهم أو بعضهم ظهيراً لله سبحانه.

قوله تعالى: ( وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) المشركون كانوا يقولون بشفاعة آلهتهم كما حكاه الله سبحانه عنهم بقوله:( هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ ) يونس: 18 و ليس مرادهم بالشفاعة شفاعة يوم القيامة الّتي يثبتها القرآن الكريم فإنّهم ما كانوا يقولون بالمعاد بل الشفاعة في الدنيا لعبّادهم عندالله سبحانه ليسعدهم بقضاء حوائجهم

٣٩٤

و إصلاح شؤونهم بتوسّط آلهتهم.

و إذ كانت الآلهة مخلوقين لله مملوكين له من كلّ وجه فلا يملكون الشفاعة من عند أنفسهم مستقلّين بها إلّا أن يملّكهم الله سبحانه ذلك و هو الإذن لهم في أن يشفعوا فأصل شفاعتهم لو شفعوا بإذن الله سبحانه.

و قوله:( إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) يحتمل أن يكون اللام في( لِمَنْ ) لام الملك و المراد بمن أذن له الشافع من الملائكة، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا أن يملكه الشافع بالإذن من الله و أن يكون لام التعليل و المراد بمن أذن له المشفوع له، و المعنى: لا تنفع الشفاعة إلّا لأجل من أذن له من المشفوع لهم، قال في الكشاف: و هذا يعني الوجه الثاني وجه لطيف و هو الوجه. انتهى.

و هو الوجه فإنّ الملائكة على ما يستفاد من كلامه تعالى وسائط لإنفاذ الأمر الإلهيّ و إجرائه، قال تعالى:( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27 و قال:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ ) فاطر: 1 و الوساطة المذكورة من الشفاعة كما تقدّم في مباحث الشفاعة في الجزء الأوّل من الكتاب.

فالملائكة جميعاً شفعاء لكن لا في كلّ أمر و لكلّ أحد بل في أمر أذن الله فيه و لمن أذن له فنفي شفاعتهم إلّا مع الإذن يناسب المشفوع لهم دون الشفعاء، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ ) الأنبياء: 28 لا في معنى قوله:( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس: 3.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) التفزيع إزالة الفزع و كشفه و ضمائر الجمع - على ما يعطيه السياق - للشفعاء و هم الملائكة.

و لازم قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) - و هو غاية - أن يكون هناك أمر مغيّى بها و هو كون قلوبهم في فزع ممتدّ في انتظار أمر الله سبحانه حتّى يرتفع بصدور الأمر منه، فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ - إلى أن قال -وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) النحل: 50 فالفزع هو

٣٩٥

التأثّر و الانقباض من الخوف و هو المراد بسجدتهم تذلّلاً من خوف ربّهم من فوقهم.

و بذلك يظهر أنّ المراد بفزعهم حتّى يفزّع عنهم أنّ التذلّل غشي قلوبهم و هو تذلّلهم من حيث أنّهم أسباب و شفعاء في نفوذ الأوامر الإلهيّة و وقوعه على ما صدر و كما اُريد، و كشف هذا التذلّل هو تلقيهم الأمر الإلهيّ و اشتغالهم بالعمل كأنّهم بحيث لا يظهر من وجودهم إلّا فعلهم و طاعتهم لله فيما أمرهم به و أنّه لا واسطة بين الله سبحانه و بين الفعل إلّا أمره فافهم ذلك.

و إنّما نسب الفزع و التفزيع إلى قلوبهم للدلالة على أنّهم ذاهلون منصرفون عن أنفسهم و عن كلّ شي‏ء إلّا ربّهم و هم على هذه الحالة لا يشعرون بشي‏ء غيره حتّى إذا كشف الفزع عن قلوبهم عند صدور الأمر الإلهيّ بلا مهل و لا تخلّف فليس الأمر بحيث يعطّل أو يتأخّر عن الوقوع، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: 82 فالمستفاد من الآية نظراً إلى هذا المعنى أنّهم في فزع حتّى إذا اُزيل فزعهم بصدور الأمر الإلهيّ.

و قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) يدلّ على أنّهم طوائف كثيرون يسأل بعضهم بعضاً عن الأمر الإلهيّ بعد صدوره و انكشاف الفزع عن قلوب السائلين.

و يتبيّن منه أنّ كشف الفزع و نزول الأمر إلى بعضهم أسبق منه إلى بعض آخر فإنّ لازم السؤال أن يكون المسؤل عالماً بما سئل عنه قبل السائل.

فلهم مراتب مختلفة و مقامات متفاوتة بعضها فوق بعض تتلقّى الدانية منها الأمر الإلهيّ من العالية من غير تخلّف و لا مهلة و هو طاعة الداني منهم للعالي، كما يستفاد ذلك أيضاً بالتدبّر في قوله تعالى:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: 164 و قوله في وصف الروح الأمين:( ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: 21.

فبينهم مطاع و مطيع و لا طاعة مع ذلك إلّا لله سبحانه لأنّ المطاع منهم لا شأن له إلّا إيصال ما وصل إليه من الأمر الإلهيّ إلى مطيعه الّذي دونه، و يمكن أن يستفاد ذلك من توصيف القول بالحقّ في قوله:( قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) أي قال القول الثابت الّذي لا سبيل للبطلان و التبدّل إليه.

٣٩٦

و ما ألطف ختم الآية بقوله تعالى:( وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) أي هو العليّ الّذي دونه كلّ شي‏ء و الكبير الّذي يصغر عنده كلّ شي‏ء فليس للملائكة المكرمين إلّا تلقّي قوله الحقّ و امتثاله و طاعته كما يريد.

فقد تحصّل من الآية الكريمة أنّ الملائكة فزعون في أنفسهم متذلّلون في ذواتهم ذاهلون عن كلّ شي‏ء إلّا عن ربّهم محدقون إلى ساحة العظمة و الكبرياء في انتظار صدور الأمر حتّى يكشف عن قلوبهم الفزع، بصدور الأمر و نزوله و هم مع ذلك طوائف مختلفة ذووا مقامات متفاوتة علوّاً و دنوّاً يتوسّط كلّ عال في إيصال الأمر النازل إلى من هو دونه.

فهم مع كونهم شفعاء و أسباباً متوسّطة لا يشفعون و لا يتوسّطون في حدوث حادث من حوادث الخلق و التدبير إلّا بإذن خاصّ من ربّهم في حدوثه فيتحمّلون الأمر النازل إليهم حتّى يحقّقوه في الكون من غير أن يستقلّوا من أنفسهم في شي‏ء أو يستبدّوا برأي، و من كان هذا شأنه لا يشعر بشي‏ء إلّا طاعة ربّه فيما يأمره به كيف يكون ربّاً مستقلّاً في أمره مفوّضاً إليه التدبير يعطي ما يشاء و يمنع ما يشاء؟

و في الآية أقوال مختلفة اُخر:

منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) و( قالُوا ) الثاني للمشركين دون الملائكة و ضمير( قالُوا ) الأوّل للملائكة و المعنى: حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين وقت الفزع قالت الملائكة لهم: ما ذا قال ربّكم؟ قالت المشركون لهم: الحقّ فيعترفون بما أنكروه في الدنيا.

و منها: أنّ ضمير( قُلُوبِهِمْ ) للملائكة و المراد أنّ الملائكة الموكّلين بالأعمال إذا صعدوا بأعمال العباد إلى السماء و لهم زجل و صوت عظيم خشيت الملائكة أنّها الساعة فيفزعون و يخرّون سجّداً لله سبحانه حتّى إذا كشف عن قلوبهم الفزع و علموا أنّه ليس الأمر كذلك فسألوا ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ.

و منها: أنّ الله لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فترة بينه و بين عيسىعليهما‌السلام لم ينزل فيها شي‏ء من الوحي أنزل الله سبحانه جبريل بالوحي فلمّا نزل ظنّت الملائكة أنّه نزل

٣٩٧

بشي‏ء من أمر الساعة فصعقوا لذلك فجعل جبريل يمرّ بكلّ سماء و يكشف الفزع عن الملائكة الساكنين فيها فرفعوا رؤسهم و قال بعضهم لبعض: ما ذا قال ربّكم؟ قالوا: الحقّ أي الوحي.

و منها: أنّ الضمير للملائكة و المراد أنّ الله سبحانه إذا أوحى إلى بعض الملائكة غشي على الملائكة عند سماع الوحي و يصعقون و يخرّون سجّداً للآية العظيمة فإذا فزّع عن قلوبهم سألت الملائكة ذلك الملك الّذي اُوحي إليه ما ذا قال ربّك؟ أو سأل بعضهم بعضاً ما ذا قال ربّكم؟ فيعلمون أنّ الأمر في غيرهم.

و أنت بعد التدبّر في الآية الكريمة و التأمّل فيما قدّمناه تعلم وجه الضعف في هذه الأقوال و أنّ شيئاً منها على تقدير صحّته في نفسه لا يصلح تفسيراً لها.

قوله تعالى: ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللهُ ) إلخ، احتجاج آخر على المشركين من جهة الرزق الّذي هو الملاك العمدة في اتّخاذهم الآلهة فإنّهم يتعلّلون في عبادتهم الآلهة بأنّها ترضيهم فيوسّعون لهم في رزقهم فيسعدون بذلك.

فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم من يرزقهم من السماوات و الأرض؟ و الجواب عنه أنّه الله سبحانه لأنّ الرزق خلق في نفسه و لا خالق - حتّى عند المشركين - إلّا الله عزّ اسمه لكنّهم يستنكفون عن الاعتراف به بألسنتهم و إن أذعنت به قلوبهم و لذلك أمر أن ينوبهم في الجواب فقال:( قُلِ اللهُ ) .

و قوله:( وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى‏ هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) ، تتمّة قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هذا القول بعد إلقاء الحجّة القاطعة و وضوح الحقّ في مسألة الاُلوهيّة مبنيّ على سلوك طريق الإنصاف، و مفاده أنّ كلّ قول إمّا هدى أو ضلال لا ثالث لهما نفياً و إثباتاً و نحن و أنتم على قولين مختلفين لا يجتمعان فإمّا أن نكون نحن على هدى و أنتم في ضلال و إمّا أن تكونوا أنتم على هدى و نحن في ضلال فانظروا بعين الإنصاف إلى ما اُلقي إليكم من الحجّة و ميّزوا المهديّ من الضالّ و المحقّ من المبطل.

و اختلاف التعبير في قوليه:( لَعَلى‏ هُدىً ) و( فِي ضَلالٍ ) بلفظة على و في - كما قيل - للإشارة إلى أنّ المهتدي كأنّه مستعل على منار يتطلّع على السبيل و غايتها

٣٩٨

الّتي فيها سعادته، و الضالّ منغمر في ظلمة لا يدري أين يضع قدمه و إلى أين يسير و ما ذا يراد به؟.

قوله تعالى: ( قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي إنّ العمل و خاصّة عمل الشرّ لا يتعدّى عن عامله و لا يلحق وباله إلّا به فلا يسأل عنه غيره فلا تسألون عمّا أجرمنا بل نحن المسؤلون عنه و لا نسأل عمّا تعملون بل أنتم المسؤلون.

و هذا تمهيد لما في الآية التالية من حديث الجمع و الفتح فإنّ الطائفتين إذا اختلفا في الأعمال خيراً و شرّاً كان من الواجب أن يفتح بينهما و يتميّز كلّ من الاُخرى حتّى يلحق به جزاء عمله من خير أو شرّ أو سعادة أو شقاء و الّذي يفتح و يميّز هو الربّ تعالى.

و في التعبير عن عمل أنفسهم بالإجرام و في ناحية المشركين بقوله:( تَعْمَلُونَ ) و لم يقل تجرمون أخذ بحسن الأدب في المناظرة.

قوله تعالى: ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) لمّا كان من الواجب أن يلحق بكلّ من المحسن و المسي‏ء جزاء عمله و كان لازمه التميّز بينهما بالجمع ثمّ الفرق كان ذلك شأن مدبّر الأمر و هو الربّ أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكّرهم أنّ الّذي يجمع بين الجميع ثمّ يفتح بينهم بالحقّ هو الله، فهو ربّ هؤلاء و اُولئك فإنّه هو الفتّاح العليم يفتح بين كلّ شيئين بالخلق و التدبير فيتميّز بذلك الشي‏ء من الشي‏ء كما قال:( أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: 30 و هو العليم بكلّ شي‏ء.

فالآية تثبت البعث لتمييز المحسن من المسي‏ء أوّلاً ثمّ انحصار التمييز و الجزاء في جانبه تعالى بانحصار الربوبيّة فيه و يبطل بذلك ربوبيّة من اتّخذوه من الأرباب.

و الفتّاح من أسماء الله الحسنى و الفتح إيجاد الفصل بين شيئين لفائدة تترتّب عليه كفتح الباب للدخول بإيجاد الفصل بين مصراعيه و الفتح بين الشيئين ليتميّز كلّ منهما عن الآخر بذاته و صفاته و أفعاله.

قوله تعالى: ( قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )

٣٩٩

أمر آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسألهم أن يروه آلهتهم حتّى يختبر هل فيهم الصفات الضروريّة للإله المستحقّ للعبادة من الاستقلال بالحياة و العلم و القدرة و السمع و البصر؟ و هذا معنى قوله:( أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ ) أي ألحقتموهم به شركاء له.

ثمّ ردع بنفسه و قال: كلّا لا يكونون شركاء له لأنّهم إمّا أن يُروه الأصنام بما أنّها معبودة لهم معدودة آلهتهم و هي أجسام ميتة خالية عن الحياة و العلم و القدرة و إمّا أن يُروه أرباب هذه الأصنام و هم الملائكة و غيرهم بجعل الأصنام تماثيل مشيرة إليهم و هم و إن لم يخلوا عن حياة و علم و قدرة إلّا أنّ ما لهم من صفات الكمال مفاضة عليهم من الله سبحانه لا استقلال لهم في شي‏ء من هذه الصفات و لا في الأفعال المتفرّعة عليها فأين الاستقلال في التدبير الّذي يدّعون أنّه مفوّض إليهم فالوجود الواجبي بكماله اللّامتناهي يمنع أن يكون في خلقه من يشاركه في شي‏ء من كماله.

اللّهمّ إلّا أن يدعوا أنّه شاركهم في بعض ما له من الشؤون لتدبير خلقه من غير صلاحية لهم ذاتيّة و هذا ينافي حكمته تعالى.

و قد اُشير إلى هذه الحجّة بقوله:( بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنّ عزّته تعالى - و هو منع جانبه أن يعدو إلى حريم كماله عاد لكونه لا يحدّ بحدّ - تمنع أن يشاركه في شي‏ء من صفات كماله كالربوبيّة و الاُلوهيّة المنتهيتين إلى الذات أحد غيره هذا لو كانت الشركة عن صلاحية ذاتيّة من الشريك و لو كانت عن إرادة جزافيّة منه من غير صلاحية حقيقة من الشريك فالحكمة الإلهيّة تمنع ذلك.

و قد تبيّن بذلك أنّ الآية متضمّنة لحجّة قاطعة برهانيّة فأحسن التدبّر فيها.

قوله تعالى: ( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال الراغب في المفردات: الكفّ كفّ الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط و كففته أصبت كفّه، و كففته أصبته بالكفّ و دفعته بها و تعورف الكفّ بالدفع على أيّ وجه كان بالكفّ كان أو غيرها حتّى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره، و قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) أي كافّاً لهم عن المعاصي و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علّامة و نسّابة. انتهى.

٤٠٠