الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 425

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 425
المشاهدات: 116651
تحميل: 4910


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 425 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 116651 / تحميل: 4910
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 16

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قوله:( يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الجباية الجمع، و الكلّ للتكثير لا للعموم لعدم إرادة العموم قطعاً، و المعنى: يجمع إلى الحرم ثمرات كثير من الأشياء، و الجملة صفة لحرماً جيي‏ء بها لما عسى أن يتوهّم أنّهم يتضرّرون إن آمنوا بانقطاع الميرة.

و قوله:( رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا ) مفعول مطلق أو حال من ثمرات، و قوله:( وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) استدراك عن جميع ما تقدّم أي إنّا نحن حفظناهم في أمن و رزقناهم من كلّ الثمرات لكنّ أكثرهم جاهلون بذلك فيحسبون أنّ الّذي يحفظهم من تخطّف العرب هو شركهم و عبادتهم الأصنام.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها ) إلى آخر الآية البطر الطغيان عند النعمة، و( مَعِيشَتَها ) منصوب بنزع الخافض أي و كم أهلكنا من قرية طغت في معيشتها.

و قوله:( فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا ) أي إنّ مساكنهم الخربة الخاوية على عروشها مشهودة لكم نصب أعينكم باقية على خرابها لم تعمر و لم تسكن بعد هلاكهم إلّا قليلاً منها.

و بذلك يظهر أنّ الأنسب كون( إِلَّا قَلِيلًا ) استثناء من( مَساكِنُهُمْ ) لا من قوله:( مِنْ بَعْدِهِمْ ) بأن يكون المعنى لم تسكن من بعدهم إلّا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلّا المارّة يوماً أو بعض يوم في الأسفار.

و قوله:( وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ) حيث ملكوها ثمّ تركوها فلم يخلفهم غيرنا فنحن ورثناهم مساكنهم، و في الجملة أعني قوله:( كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ ) عناية لطيفة فإنّه تعالى هو المالك لكلّ شي‏ء ملكاً حقيقيّاً مطلقاً فهو المالك لمساكنهم و قد ملّكها إيّاهم بتسليطهم عليها ثمّ نزعها من أيديهم بإهلاكهم و بقيت بعدهم لا مالك لها إلّا هو فسمّى نفسه وارثاً لهم بعناية أنّه الباقي بعدهم و هو المالك لما كان بأيديهم كأنّ ملكهم الاعتباريّ انتقل إليه و لا انتقال هناك بالحقيقة و إنّما ظهر ملكه الحقيقيّ بزوال ملكهم الاعتباريّ.

٦١

و الآية جواب ثان منه تعالى لقولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و محصّله أنّ مجرّد عدم تخطّف العرب لكم من أرضكم لا يضمن لكم البقاء و لا يحفظ لكم أرضكم و التنعّم فيها كما تشاؤن فكم من قرية بالغة في التنعّم ذات أشر و بطر أهلكنا أهلها و بقيت مساكنهم خالية غير مسكونة لا وارث لها إلّا الله.

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى‏ حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا ) اُمّ القرى هي أصلها و كبيرتها الّتي ترجع إليها و في الآية بيان السنّة الإلهيّة في عذاب القرى بالاستئصال و هو أنّ عذاب الاستئصال لا يقع منه تعالى إلّا بعد إتمام الحجّة عليهم بإرسال رسول يتلو عليهم آيات الله، و إلّا بعد كون المعذّبين ظالمين بالكفر بآيات الله و تكذيب رسوله.

و في تعقيب الآية السابقة بهذه الآية الشارحة لسنّته تعالى في إهلاك القرى تخويف لأهل مكّة المشركين بالإيماء إلى أنّهم لو أصرّوا على كفرهم كانوا في معرض نزول العذاب لأنّ الله قد بعث في اُمّ قراهم و هي مكّة رسولاً يتلو عليهم آياته و هم مع ذلك ظالمون بتكذيب رسولهم.

و بذلك يظهر النكتة في الالتفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) فإنّ في الإيماء إلى حصول شرائط العذاب فيهم لو كذّبوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوية لنفسه و تأكيداً لحجّته، و أمّا العدول بعده إلى سياق التكلّم بالغير في قوله:( وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى) فهو رجوع إلى السياق السابق بعد قضاء الوطر.

قوله تعالى: ( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلخ الإيتاء: الإعطاء و( مِنْ شَيْ‏ءٍ ) بيان لما لإفادة العموم أي كلّ شي‏ء اُوتيتموه، و المتاع ما يتمتّع به و الزينة ما ينضمّ إلى الشي‏ء ليفيده جمالاً و حسناً، و الحياة الدنيا الحياة المؤجّلة المقطوعة الّتي هي أقرب الحياتين منّا و تقابلها الحياة الآخرة الّتي هي خالدة مؤبّدة، و المراد بما عندالله الحياة الآخرة السعيدة الّتي عندالله و جواره و لذا عدّ خيراً و أبقى.

و المعنى: أنّ جميع النعم الدنيويّة الّتي أعطاكم الله إيّاها متاع و زينة زيّنت بها هذه الحياة الدنيا الّتي هي أقرب الحياتين منكم و هي بائدة فانية و ما عندالله من ثوابه

٦٢

في الدار الآخرة المترتّب على اتّباع الهدى و الإيمان بآيات الله خير و أبقى فينبغي أن تؤثروه على متاع الدنيا و زينتها أ فلا تعقلون.

و الآية جواب ثالث عن قولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) محصّله لنسلّم أنّكم إن اتّبعتم الهدى تخطّفتكم العرب من أرضكم لكنّ الّذي تفقدونه هو متاع الحياة الدنيا و زينتها الفانية فما بالكم تؤثرونه على ما عندالله من ثواب اتّباع الهدى و سعادة الحياة الآخرة و هي خير و أبقى.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) الآية إلى تمام سبع آيات إيضاح لمضمون الآية السابقة - و هو أنّ إيثار اتّباع الهدى أولى من تركه و التمتّع بمتاع الحياة الدنيا - ببيان آخر فيه مقايسة حال من اتّبع الهدى و ما يلقاه من الوعد الحسن الّذي وعده الله، من حال من لم يتّبعه و اقتصر على التمتّع من متاع الحياة الدنيا و سيستقبله يوم القيامة الإحضار و تبرّي آلهته منه و عدم استجابتهم لدعوته و مشاهدة العذاب و السؤال عن إجابتهم الرسل.

فقوله:( أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ ) الاستفهام إنكاريّ، و الوعد الحسن هو وعده تعالى بالمغفرة و الجنّة كما قال تعالى:( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) المائدة: 9، و لا يكذب وعده تعالى قال:( أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) يونس: 55.

و قوله:( كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أي و هو محروم من ذلك الوعد الحسن لاقتصاره على التمتّع بمتاعها، و الدليل على هذا التقييد المقابلة بين الوعد و التمتيع.

و قوله:( ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ) أي للعذاب، أو للسؤال و المؤاخذة و( ثُمَّ ) للترتيب الكلاميّ و إتيان الجملة اسميّة كما فيما يقابلها من قوله:( فَهُوَ لاقِيهِ ) للدلالة على التحقّق.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الشركاء

٦٣

هم الّذين كانوا يعبدونهم في الدنيا و كونهم شركاء عندهم لكونهم يعطونهم أو ينسبون إليهم بعض ما هو من شؤونه تعالى كالعبادة و التدبير، و في قوله:( يُنادِيهِمْ ) إشارة إلى بعدهم و خذلانهم يومئذ.

قوله تعالى: ( قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) آلهتهم الّذين يرونهم شركاء لله سبحانه صنفان صنف منهم عباد لله مكرمون كالملائكة المقرّبين و عيسى بن مريمعليه‌السلام ، و صنف منهم كعتاة الجنّ و مدّعي الاُلوهيّة من الإنس كفرعون و نمرود و غيرهما و قد ألحق الله سبحانه بهم كلّ مطاع في باطل كإبليس و قرناء الشياطين و أئمّة الضلال كما قال:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ - إلى أن قال -وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً ) يس: 62، و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: 23، و قال:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: 31.

و الّذين يشير إليهم قوله:( قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ) هم من الصنف الثاني بدليل ذكرهم إغواءهم و تبرّيهم من عبادتهم و هؤلاء المشركون و إن كانوا أنفسهم أيضاً ممّن حقّ عليهم القول كما يشير إليه قوله:( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) الم السجدة: 13، و لكنّ المراد بهم في الآية المبحوث عنها المتبوعون منهم الّذين ينتهي إليهم الشرك و الضلال.

و إيراد قول هؤلاء الشركاء مع عدم ذكر أنّ المسؤلين أشاروا إليهم لعلّه للإشارة إلى أنّهم ضلّوا عنهم في هذا الموقف كما في قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) حم السجدة: 48.

و قوله:( رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا ) أي هؤلاء - يشيرون إلى المشركين - هم الّذين أغويناهم و الجملة توطئة للجملة التالية.

و قوله:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) أي كانت غوايتهم بإغوائنا لغوايتنا أنفسنا فكما كنّا غوينا باختيارنا من غير إلجاء كذلك هم غووا باختيار منهم من غير إلجاء، و الدليل على هذا المعنى ما حكاه الله عن إبليس يومئذ إذ قال:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ

٦٤

إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) إبراهيم: 22 و قال حاكياً لتساؤل الظالمين و قرنائهم:( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ) الصافّات: 32 أي ما كان ليصل إليكم منّا و نحن غاون غير الغواية.

و من هنا يظهر أنّ لقولهم:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) معنى آخر، و هو أنّهم اكتسبوا منّا نظير الوصف الّذي كان فينا غير أنّا نتبرّأ منهم حيث لم نلجئهم إلى الغواية ما كانوا يعبدوننا بإلجاء.

و قوله:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ) تبرّ منهم مطلقاً حيث لم يكن لهم أن يلجؤهم و يسلبوا منهم الاختيار، و قوله( ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) أي بإلجاء منّا، أو لتبرّينا من أعمالهم فإنّ من تبرّأ من عمل لم ينتسب إليه و إلى هذا المعنى يؤل قوله تعالى في مواضع من كلامه في وصف هذا الموقف:( وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) الأنعام: 24( وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ ) حم السجدة: 48( وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) يونس: 28 إلى غير ذلك من الآيات فافهم.

و قيل: المعنى تبرّأنا إليك من أعمالهم ما كانوا إيّانا يعبدون بل كانوا يعبدون أهواءهم أو كانوا يعبدون الشياطين. و لا يخلو من سخافة.

و لكون كلّ من قوليه:( تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ) ( ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ ) في معنى قوله:( أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا ) جي‏ء بالفصل من غير عطف.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ) المراد بشركائهم الآلهة الّتي كانوا شركاء لله بزعمهم و لذا أضافهم إليهم. و المراد بدعوتهم دعوتهم إيّاهم لينصروهم و يدفعوا عنهم العذاب و لذا قال:( وَ رَأَوُا الْعَذابَ ) بعد قوله:( فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) .

و قوله:( لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ ) قيل: جواب لو محذوف لدلالة الكلام عليه

٦٥

و التقدير لو أنّهم كانوا يهتدون لرأوا العذاب أي اعتقدوا أنّ العذاب حقّ، و يمكن أن يكون لو للتمنّي أي ليتهم كانوا يهتدون.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) معطوف على قوله السابق:( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ) إلخ، سئلوا أوّلاً: عن شركائهم و اُمروا أن يستنصروهم، و ثانياً: عن جوابهم للمرسلين إليهم من عندالله.

و المعنى: ما ذا قلتم في جواب من اُرسل إليكم من رسل الله فدعوكم إلى الإيمان و العمل الصالح؟.

قوله تعالى: ( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ) العمى استعارة عن جعل الإنسان بحيث لا يهتدي إلى خبر، و كان مقتضى الظاهر أن ينسب العمى إليهم لا إلى الأنباء لكن عكس الأمر فقيل:( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ ) للدلالة على أخذهم من كلّ جانب و سدّ جميع الطرق و تقطّع الأسباب بهم كما قال:( وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: 166 فلسقوط الأسباب عن التأثير يومئذ لا تهتدي إليهم الأخبار و لا يجدون شيئاً يعتذرون به للتخلّص من العذاب.

و قوله:( فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ ) تفريع على عمى الأنباء من قبيل تفرّع بعض أفراد العامّ عليه أي لا يسأل بعضهم بعضاً ليعدّوا به عذراً يعتذرون به عن تكذيبهم الرسل و ردّهم الدعوة.

و قد فسّر صدر الآية و ذيلها بتفاسير كثيرة مختلفة لا جدوى في التعرّض لها فرأينا الصفح عنها أولى.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى‏ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ) أي هذه حال من كفر و لم يرجع إلى الله سبحانه فأمّا من رجع و آمن و عمل صالحاً فمن المرجوّ أن يكون من المفلحين، و عسى - كما قيل - للتحقيق على عادة الكرام أو للترجّي من قبل التائب، و المعنى: فليتوقّع الفلاح.

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الخيرة بمعنى التخيّر كالطيرة بمعنى التطيّر.

٦٦

و الآية جواب رابع عن قولهم:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و الّذي يتضمّنه حجّة قاطعة.

بيان ذلك: أنّ الخلق و هو الصنع و الإيجاد ينتهي إليه تعالى كما قال:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) الزمر: 62 فلا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى التأثير غيره تعالى فلا شي‏ء هناك يلجئه تعالى على فعل من الأفعال فإنّ هذا الشي‏ء المفروض إمّا مخلوق له منته في وجوده إليه فوجوده و آثار وجوده ينتهي إليه تعالى و لا معنى لتأثير الشي‏ء و لا لتأثير أثره في نفسه و إمّا غير مخلوق له و لا منته في وجوده إليه يؤثّر فيه بالإلجاء و القهر و لا مؤثّر في الوجود غيره و لا أنّ هناك شيئاً لا ينتهي في وجوده إليه تعالى فلا يعطيه شي‏ء أثراً و لا يمنعه شي‏ء من أثر كما قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: 41 و قال:( وَ اللهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ ) يوسف: 21.

و إذ لا قاهر يقهره على فعل و لا مانع يمنعه عن فعل فهو مختار بحقيقة معنى الاختيار هذا بحسب التكوين و التشريع يتبعه فإنّ حقيقة التشريع هي أنّه فطر الناس على فطرة لا تستقيم إلّا بإتيان اُمور هي الواجبات و ما في حكمها و ترك اُمور هي المحرّمات و ما في حكمها فما ينتفع به الإنسان في كماله و سعادته هو الّذي أمر به و ندب إليه و ما يتضرّر به هو الّذي نهى عنه و حذّر منه.

فله تعالى أن يختار في مرحلة التشريع من الأحكام و القوانين ما يشاء كما أنّ له أن يختار في مرحلة التكوين من الخلق و التدبير ما يشاء، و هذا معنى قوله:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ) و قد اُطلق إطلاقاً.

و الظاهر أنّ قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) إشارة إلى اختياره التكويني فإنّ معنى إطلاقه أنّه لا تقصر قدرته عن خلق شي‏ء و لا يمنعه شي‏ء عمّا يشاؤه و بعبارة اُخرى لا يمتنع عن مشيّته شي‏ء لا بنفسه و لا بمانع يمنع و هذا هو الاختيار بحقيقة معناه، و قوله:( وَ يَخْتارُ ) إشارة إلى اختياره التشريعيّ الاعتباري و يكون عطفه على قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) من عطف المسبّب على سببه لكون التشريع و الاعتبار متفرّعاً على التكوين و الحقيقة.

و يمكن حمل قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) على الاختيار التكوينيّ و قوله:( وَ يَخْتارُ )

٦٧

على الأعمّ من الحقيقة و الاعتبار لكنّ الوجه السابق أوجه، و من الدليل عليه كون المنفيّ في قوله الآتي:( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) هو الاختيار التشريعيّ الاعتباريّ، و الاختيار المثبت في قوله( وَ يَخْتارُ ) يقابله فالمراد إثبات الاختيار التشريعي الاعتباريّ.

ثمّ لا ريب في أنّ الإنسان له اختيار تكوينيّ بالنسبة إلى الأفعال الصادرة عنه بالعلم و الإرادة و إن لم يكن اختياراً مطلقاً فإنّ للأسباب و العلل الخارجيّة دخلاً في أفعاله إذ أكله لقمة من الطعام مثلاً متوقّف على تحقّق مادّة الطعام خارجاً و قابليّته و ملائمته و قربه منه و مساعدة أدوات الأخذ و القبض و الالتقام و المضغ و البلع و غير ذلك ممّا لا يحصى. فصدور الفعل الاختياريّ عنه مشروط بموافقة الأسباب الخارجيّة الداخليّة في تحقّق فعله، و الله سبحانه في رأس تلك الأسباب جميعاً و إليه ينتهي الكلّ و هو الّذي خلق الإنسان منعوتا بنعت الاختيار و أعطاه خيرته كما أعطاه خلقه.

ثمّ إنّ الإنسان يرى بالطبع لنفسه اختياراً تشريعيّاً اعتباريّاً فيما يشاؤه من فعل أو ترك بحذاء اختياره التكوينيّ فله أن يفعل ما يشاء و يترك ما يشاء من غير أن يكون لأحد من بني نوعه أن يحمله على شي‏ء أو يمنعه عن شي‏ء لكونهم أمثالاً له لا يزيدون عليه بشي‏ء في معنى الإنسانيّة و لا يملكون منه شيئاً، و هذا هو المراد بكون الإنسان حرّاً بالطبع.

فالإنسان مختار في نفسه حرّ بالطبع إلّا أن يملّك غيره من نفسه شيئاً فيسلب بنفسه عن نفسه الحرّيّة كما أنّ الإنسان الاجتماعيّ يسلب عن نفسه الحرّيّة بالنسبة إلى موارد السنن و القوانين الجارية في مجتمعة بدخوله في المجتمع و إمضائه ما يجري فيه من سنن و قوانين سواء كانت دينيّة أو اجتماعيّة، و كما أنّ المتقاتلين يملّك كلّ منهما الآخر من نفسه ما يغلب عليه فللغالب منهما أن يفعل بأسيره ما يشاء، و كما أنّ الأجير إذا ابتاع عمله و آجر نفسه فليس بحرّ في عمله إذ المملوكيّة لا تجامع الحرّيّة.

فالإنسان بالنسبة إلى سائر بني نوعه حرّ في عمله مختار في فعله إلّا أن يسلب باختيار منه شيئاً من اختياره فيملّك غيره، و الله سبحانه يملك الإنسان في نفسه و في فعله الصادر

٦٨

منه ملكاً مطلقاً بالملك التكوينيّ و بالملك الوضعيّ الاعتباريّ فلا خيرة له و لا حرّيّة بالنسبة إلى ما يريده منه تشريعاً بأمر أو نهي تشريعيّين كما لا خيرة و لا حرّيّة له بالنسبة إلى ما يشاؤه بمشيّته التكوينيّة.

و هذا هو المراد بقوله:( ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) أي لا اختيار لهم إذا اختار الله سبحانه لهم شيئاً من فعل أو ترك حتّى يختاروا لأنفسهم ما يشاؤن و إن خالف ما اختاره الله و الآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب: 36 و للقوم في تفسير الآية أقاويل مختلفة غير مجدية أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى المطوّلات.

و قوله:( سُبْحانَ اللهِ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) أي عن شركهم باختيارهم أصناماً آلهة يعبدونها من دون الله.

و ههنا معنى آخر أدقّ أي تنزّه و تعالى عن شركهم بادّعاء أنّ لهم خيرة بالنسبة إلى ما يختاره تعالى بقبوله أو ردّه فإنّ الخيرة بهذا المعنى لا تتمّ إلّا بدعوى الاستقلال في الوجود و الاستغناء عنه تعالى و لا تتمّ إلّا مع الاشتراك معه تعالى في صفة الاُلوهيّة.

و في قوله:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ) التفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة و النكتة فيه تأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تقويته و تطييب نفسه بإضافة صفة الربّ إليه فإنّ معناه إنّ ما أرسله به من الحكم ماض غير مردود فلا خيرة لهم في قبوله و ردّه، و لأنّهم لا يقبلون ربوبيّته.

و في قوله:( سُبْحانَ اللهِ ) وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه إرجاع الأمر إلى الذات المتعالية الّتي هي المبدأ للتنزّه و التعالي عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه فإنّه تعالى يتّصف بكلّ كمال و يتنزّه عن كل نقص لأنّه هو الله عزّ اسمه.

قوله تعالى:( وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ ) الإكنان الإخفاء و الإعلان الإظهار، و لكون الصدر يعدّ مخزناً للأسرار نسب الإكنان إلى الصدور و الإعلان إليهم أنفسهم.

و لعلّ تعقيب الآية السابقة بهذه الآية للإشارة إلى أنّه تعالى إنّما اختار لهم ما اختار لعلمه بما في ظاهرهم و باطنهم من أوساخ الشرك و المعصية فطهّرهم بذلك بحكمته.

٦٩

قوله تعالى: ( وَ هُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ظاهر السياق أنّ الضمير في صدر الآية راجع إلى( رَبُّكَ ) في الآية السابقة، و الظاهر على هذا أنّ اللّام في اسم الجلالة للتلميح إلى معنى الوصف، و قوله:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) تأكيد للحصر المستفاد من قوله:( هُوَ اللهُ ) كأنّه قيل: و هو الإله - المتّصف وحده بالاُلوهيّة - لا إله إلّا هو.

و على ذلك فالآية كالمتمّم لبيان الآية السابقة كأنّه قيل: هو سبحانه مختار له أن يختار عليهم أن يعبدوه وحده، و هو يعلم ظاهرهم و باطنهم فله أن يقضي عليهم أن يعبدوه وحده و هو الإله المستحقّ للعبادة وحده فيجب عليهم أن يعبدوه وحده.

و يكون ما في ذيل الآية من قوله:( لَهُ الْحَمْدُ ) إلخ، وجوهاً ثلاثة توجّه كونه تعالى معبوداً مستحقّاً للعبادة وحده:

أمّا قوله:( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى‏ وَ الْآخِرَةِ ) فلأنّ كلّ كمال موجود في الدنيا و الآخرة نعمة نازلة منه تعالى يستحقّ بها جميل الثناء، و كلّ جميل من هذه النعم الموهوبة مترشّحة من كمال ذاتيّ من صفاته الذاتيّة يستحقّ بها الثناء فله كلّ الثناء و لا يستقلّ شي‏ء غيره بشي‏ء من الثناء يثنى عليه به إلّا و ينتهي إليه و العبادة ثناء بقول أو فعل فهو المعبود المستحقّ للعبادة وحده.

و أمّا قوله:( وَ لَهُ الْحُكْمُ ) فلأنّه سبحانه هو المالك على الإطلاق لا يملك غيره إلّا ما ملّكه إيّاه و هو المالك لما ملّكه و هو سبحانه مالك في مرحلة التشريع و الاعتبار كما أنّه مالك في مرحلة التكوين و الحقيقة، و من آثار ملكه أن يقضي على عبيده و مملوكيه أن لا يعبدوا إلّا إيّاه.

و أمّا قوله:( وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فلأنّ الرجوع للحساب و الجزاء و إذ كان هو المرجع فهو المحاسب المجازي و إذ كان هو المحاسب المجازي وحده فهو الّذي يجب أن يعبد وحده و له دين يجب أن يتعبّد به وحده.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) إلى آخر الآية، السرمد على فعلل بمعنى الدائم، و قيل: هو من السرد و الميم زائدة

٧٠

و معناه المتتابع المطّرد، و تقييده بيوم القيامة إذ لا ليل بعد يوم القيامة.

و قوله:( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ ) أي من الإله الّذي ينقض حكمه تعالى و يأتيكم بضياء تستضيئون به و تسعون في طلب المعاش، هذا ما يشهد به السياق، و يجري نظيره في قوله الآتي:( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ ) إلخ.

و بذلك يندفع ما استشكل على الآيتين من أنّه لو فرض تحقّق جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة لم يتصوّر معه الإتيان بضياء أصلاً لأنّ الّذي يأتي به إمّا هو الله تعالى و إمّا هو غيره أمّا غيره فعجزه عن ذلك ظاهر، و أمّا الله تعالى فإتيانه به يستلزم اجتماع الليل و النهار و هو محال و المحال لا يتعلّق به القدرة و لا الإرادة، و كذا الكلام في جانب النهار.

و ربّما اُجيب عنه بأنّ المراد بقوله:( إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ ) إن أراد الله أن يجعل عليكم. و هو كما ترى.

و كان مقتضى الظاهر أن يقال: من إله غير الله يأتيكم بنهار، على ما يقتضيه سياق المقابلة بين الليل و النهار في الكلام لكنّ العدول إلى ذكر الضياء بدل النهار من قبيل الإلزام في الحجّة بأهون ما يفرض و أيسره ليظهر بطلان مدّعى الخصم أتمّ الظهور كأنّه قيل: لو كان غيره تعالى إله يدبّر أمر العالم فإن جعل الله الليل سرمداً فليقدر أن يأتي بالنهار، تنزّلنا عن ذلك فليقدر أن يأتي بضياء ما تستضيئون به لكن لا قدرة لشي‏ء على ذلك إذ القدرة كلّها لله سبحانه.

و لا يجري نظير هذا الوجه في الآية التالية في الليل حتّى يصحّ أن يقال مثلاً: من إله غير الله يأتيكم بظلمة لأنّ المأتي به إن كان ظلمة مّا لم تكف للسكن و إن كان ظلمة ممتدّة كانت هي الليل.

و تنكير( بِضِياءٍ ) يؤيّد ما ذكر من الوجه، و قد أوردوا وجوها اُخرى في ذلك لا تخلو من تعسّف.

و قوله:( أَ فَلا تَسْمَعُونَ ) أي سمع تفهّم و تفكّر حتّى تتفكّروا فتفهموا أن لا إله غيره تعالى.

٧١

قوله تعالى: ( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) أي تستريحون فيه ممّا أصابكم من تعب السعي للمعاش.

و قوله:( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) أي إبصار تفهّم و تذكّر و إذ لم يبصروا و لم يسمعوا فهم عمي صمّ، و من اللطيف تذييل الآيتين بقوله:( أَ فَلا تَسْمَعُونَ ) ( أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) و لعلّ آية النهار خصّ بالإبصار لمناسبة ضوء النهار الإبصار و بقي السمع لآية الليل و هو لا يخلو من مناسبة معه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) الآية بمنزلة نتيجة الحجّة المذكورة في الآيتين السابقتين سيقت بعد إبطال دعوى الخصم في صورة الإخبار الابتدائيّ لثبوته من غير معارض.

و قوله:( لِتَسْكُنُوا فِيهِ ) اللام للتعليل و الضمير للّيل، أي جعل لكم الليل لتستريحوا فيه، و قوله:( لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) أي و جعل لكم النهار لتطلبوا من رزقه الّذي هو عطيّته فرجوع( لِتَسْكُنُوا ) و( لِتَبْتَغُوا ) إلى الليل و النهار بطريق اللفّ و النشر المرتّب، و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) راجع إليهما جميعاً.

و قوله:( وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ) في معنى قولنا: جعل لكم و ذلك رحمة منه و فيه إشارة إلى أنّ التكوين كالسكون و الابتغاء و التشريع و هو هدايتهم إلى الشكر من آثار صفة رحمته تعالى فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) تقدّم تفسيره و قد كرّرت الآية لحاجة مضمون الآية التالية إليها.

قوله تعالى: ( وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) إلى آخر الآية، إشارة إلى ظهور بطلان مزعمتهم لهم يوم القيامة، و المراد بالشهيد شهيد الأعمال - كما تقدّمت الإشارة إليه مراراً - و لا ظهور للآية في كونه هو النبيّ المبعوث إلى الاُمّة نظراً إلى إفراد الشهيد و ذكر الاُمّة إذ الاُمّة هي الجماعة من الناس و لا ظهور و لا نصوصيّة له في الجماعة الّذين اُرسل إليهم نبيّ و إن كانت من مصاديقها.

٧٢

و قوله:( فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ ) أي طالبناهم بالحجّة القاطعة على ما زعموا أنّ لله شركاء.

و قوله:( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) أي غاب عنهم زعمهم الباطل أنّ لله سبحانه شركاء فعلموا عند ذلك أنّ الحقّ في الاُلوهيّة لله وحده فالمراد بالضلال الغيبة على طريق الاستعارة. كذا فسّروه، ففي الكلام تقديم و تأخير و الأصل فضلّ عنهم ما كانوا يفترون فعلموا أنّ الحقّ لله.

و على هذا فقوله:( أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) نظير ما يقال في القضاء بين المتخاصمين إذا تداعيا في حقّ يدّعيه كلّ لنفسه: أنّ الحقّ لفلان لا لفلان كأنّه تعالى يخاصم المشركين حيث يدّعون أنّ الاُلوهيّة بمعنى المعبوديّة حقّ لشركائهم فيدّعي تعالى أنّه حقّه فيطالبهم البرهان على دعواهم فيضلّ عنهم البرهان فيعلمون عندئذ أنّ هذا الحقّ لله فالاُلوهيّة حقّ ثابت لا ريب فيه فإذا لم يكن حقّاً لغيره تعالى فهو حقّ له.

و هذا وجه بظاهره وجيه لا بأس به لكن الحقيقة الّتي يعطيها كلامه تعالى أنّ من خاصّة يوم القيامة أنّ الحقّ يتمحّض فيه للظهور ظهوراً مشهوداً لا ستر عليه فليرتفع به كلّ باطل يلتبس به الأمر و يتشبّه بالحقّ، و لازمه أن يظهر أمر الاُلوهيّة ظهوراً لا ستر عليه فيرتفع به افتراء الشركاء ارتفاعاً مترتّباً عليه لا أن يفتقد الدليل على الشركاء فيستنتج منه توحّده تعالى بالاُلوهيّة على سبيل الاحتجاجات الفكريّة فافهم ذلك.

و بذلك يندفع أوّلاً ما يرد على الوجه السابق أنّ المستفاد من كلامه تعالى أنّهم لا حجّة عقليّة لهم على مدّعاهم و لا موجب على هذا لتأخّر علمهم أنّ الحقّ لله إلى يوم القيامة، و يرتفع ثانياً حديث التقديم و التأخير المذكور الّذي لا نكتة له ظاهراً إلّا رعاية السجع.

و من الممكن أن يكون( الْحَقَّ ) في قوله:( فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ) مصدراً فيرجع معنى الجملة إلى معنى قوله:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: 25 فكون الحقّ لله هو كونه تعالى حقّاً إن اُريد به الحقّ في ذاته أو كونه منتهياً إليه قائماً به

٧٣

إن اُريد به غيره، كما قال تعالى:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: 60 و لم يقل: الحقّ مع ربّك.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) الآية، قال: نزلت في قريش حين دعاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام و الهجرة و قالوا إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا فقال الله عزّوجلّ:( أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى‏ إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في كشف المحجّة، و روضة الواعظين، للمفيد و رواه في الدرّ المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عبّاس.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن المنذر عن ابن عبّاس أنّ الحارث بن عامر بن نوفل الّذي قال:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) الآية، قال: يختار الله عزّوجلّ الإمام و ليس لهم أن يختاروا.

أقول: و هو من الجري مبنيّاً على وجوب نصب الإمام المعصوم من قبل الله تعالى كالنبيّ، و قد مرّ تفصيل الكلام فيه.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) يقول: من هذه الاُمّة إمامها.

أقول: و هو من الجري.

٧٤

( سورة القصص الآيات 76 - 84)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ  وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ  إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ( 76 ) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ  وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا  وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ  وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ  إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 77 ) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي  أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا  وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ( 78 ) فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ  قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( 79 ) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ( 80 ) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ ( 81 ) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ  لَوْلَا أَن مَّنَّ اللهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا  وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( 82 ) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا  وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( 83 )

٧٥

مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا  وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 84 )

( بيان)

قصّة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعد ما حكى قول المشركين:( إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) و أجاب عنه بما مرّ من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثّل حالهم ثمّ أدّاه الكفر بالله إلى ما أدّى من سوء العاقبة فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة اُولي القوّة فظنّ أنّه هو الّذي جمعه بعلمه و جودة فكره و حسن تدبيره فآمن العذاب الإلهيّ و آثر الحياة الدنيا على الآخرة و بغى الفساد في الأرض فخسف الله به و بداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله و ما كان من المنتصرين.

قوله تعالى: ( إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ فَبَغى‏ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) قال في المجمع: البغي طلب العتوّ بغير حقّ. قال: و المفاتح جمع مفتح و المفاتيح جمع مفتاح و معناهما واحد و هو عبارة عمّا يفتح به الأغلاق. قال: و ناء بحمله ينوء نوءاً إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. و قال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتّى أماله و هو الأوفق للآية.

و قال في المجمع، أيضاً: العصبة الجماعة الملتفّ بعضها ببعض. و قال: و اختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، و قيل: ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة، و قيل أربعون رجلاً عن أبي صالح(1) ، و قيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عبّاس، و قيل: إنّهم الجماعة يتعصّب بعضهم لبعض. انتهى. و يزيّف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف:( وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ ) يوسف: 8 و هم تسعة نفر.

و المعنى: إنّ قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتوّ عليهم بغير حقّ و أعطيناه

____________________

(1) و روى في الدرّ المنثور عن أبي صالح سبعين.

٧٦

من الكنوز ما إنّ مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوّة، و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد بالمفاتح الخزائن، و ليس بذاك.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) فسّر الفرح بالبطر و هو لازم الفرح و السرور المفرط بمتاع الدنيا فإنّه لا يخلو من تعلّق شديد بالدنيا ينسي الآخرة و يورث البطر و الأشر، و لذا قال تعالى:( وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) الحديد: 23.

و لذا أيضاً علل النهي بقوله:( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) إلى آخر الآية أي و اطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله و وضعه فيما فيه مرضاته تعالى.

و قوله:( وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) أي لا تترك ما قسم الله لك و رزقك من الدنيا ترك المنسيّ و اعمل فيه لآخرتك لأنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الّذي يبقى له.

و قيل: معناه لا تنس أنّ نصيبك من الدنيا - و قد أقبلت عليك - شي‏ء قليل ممّا اُوتيت و هو ما تأكله و تشربه و تلبسه مثلاً و الباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك و أحسن بالفضل و هذا وجه جيّد. و هناك وجوه اُخر غير ملائمة للسياق.

و قوله:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) أي أنفقه لغيرك إحساناً كما آتاكه الله إحساناً من غير أن تستحقّه و تستوجبه، و هذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله:( وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) على أوّل الوجهين السابقين و متمّمة له على الوجه الثاني.

و قوله:( وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال و ما اكتسبت به من جاه و حشمة إنّ الله لا يحبّ المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح و الإصلاح.

قوله تعالى: ( قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) إلى آخر الآية. لا شكّ أنّ قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه و نصحوه به

٧٧

و كان كلامهم مبنيّاً على أنّ ما له من الثروة إنّما آتاه الله إحساناً إليه و فضلاً منه من غير استيجاب و استحقاق فيجب عليه أن يبتغي فيه الدار الآخرة و يحسن به إلى الناس و لا يفسد في الأرض بالاستعلاء و الاستكبار و البطر.

فأجاب بنفي كونه إنّما اُوتيه إحساناً من غير استحقاق و دعوى أنّه إنّما اُوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال و تدبيره و ليس عند غيره ذلك، و إذا كان ذلك باستحقاق فقد استقلّ بملكه و له أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء و يستدرّه في أنواع التنعّم و بسط السلطة و العلوّ و البلوغ إلى الآمال و الأمانيّ.

و هذه المزعمة الّتي ابتلي بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أنّ الّذي حصّل له الكنوز و ساق إليه القوّة و الجمع هو نبوغه العلميّ في اكتساب العزّة و قدرته النفسانيّة لا غير - مزعمة عامّة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير و وافقته الأسباب الظاهرة من عزّة عاجلة و قوّة مستعارة إلّا أنّ نفسه هي الفاعلة له و علمه هو السائق له إليه و خبرته هي الماسكة له لأجله.

و إلى عموم هذه المزعمة و ركون الإنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى:( فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الزمر: 52، و قال:( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) المؤمن: 83 و عرض الآيات على قصّة قارون لا يبقي شكّاً في أنّ المراد بالعلم في كلام ما قدّمناه.

و في قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ ) من غير إسناد الإيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له:( فِيما آتاكَ اللهُ ) نوع إعراض عن ذكره تعالى و إزراء بساحة كبريائه.

٧٨

و قوله:( أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً ) استفهام توبيخيّ و جواب عن قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) بأيسر ما يمكن أن يتنبّه به لفساد قوله فإنّه كان يرى أنّ الّذي اقتنى به المال و هو يبقيه له و يمتّعه منه هو علمه الّذي عنده و هو يعلم أنّه كان فيمن قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة و أكثر جمعاً، و كان ما له من القوّة و الجمع عن علم عنده على زعمه، و قد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الّذي يغترّ و يتبجّح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتّع منه و لم يكن بإيتاء الله فضلاً و إحساناً لنجّاهم من الهلاك و متّعهم من أموالهم و دافعوا بقوّتهم و انتصروا بجمعهم.

و قوله:( وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) ظاهر السياق أنّ المراد به بيان السنّة الإلهيّة في تعذيب المجرمين و إهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم و الإصغاء إلى ما لفّقوه من المعاذير أو هيّؤه من التذلّل و الإنابة ليرجو بذلك النجاة كما أنّ اُولي الطول و القوّة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكّمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثمّ العذاب، و ربّما صرف المجرم بما لفّقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكنّ الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم و إنّما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.

و الظاهر على هذا أن تكون الجملة من تتمّة التوبيخ السابق و يكون جواباً عن إسناده ثروته إلى علمه، و محصّله أنّ المؤاخذة الإلهيّة ليست كمؤاخذة الناس حتّى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفّقه من الجواب حتّى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه و إنّما يؤاخذه بذنبه، و أيضاً يؤاخذه بغتة و هو لا يشعر.

هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية و لهم فيها أقاويل اُخرى:

فقيل: المراد بالعلم في قوله:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي ) علم التوراة فإنّه كان أعلم بني إسرائيل بها.

و قيل: المراد علم الكيمياء و كان قد تعلّمه من موسى و يوشع بن نون و كالب بن

٧٩

يوقنّا و المراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس و قد صنع به مقداراً كثيراً من الذهب.

و قيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز و الدفائن و قد استخرج به كنوزاً و دفائن كثيرة.

و قيل: المراد بالعلم علم الله تعالى و المعنى: اُوتيته على علم من الله و تخصيص منه قصدني به، و معنى قوله:( عِنْدِي ) هو كذلك في ظنّي و رأيي.

و قيل: العلم علم الله لكنّه بمعنى المعلوم، و المعنى اُوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و( عَلى) على جميع هذه الأقوال للاستعلاء و جوّز أن تكون للتعليل.

و قيل: المراد بالسؤال في قوله:( وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ) سؤال يوم القيامة و المنفيّ سؤال الاستعلام لأنّ الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال و الملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم و يعرفونهم بسيماهم و أمّا قوله تعالى:( وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) الصافّات: 24 فهو سؤال تقريع و توبيخ لا سؤال استعلام، و يمكن أن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد و النفي و الإثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف و لا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.

و قيل: الضمير في قوله:( عَنْ ذُنُوبِهِمُ ) لمن هو أشدّ و المراد بالمجرمين غيرهم و المعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.

و هذه كلّها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.

قوله تعالى: ( فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) الحظّ هو النصيب من السعادة و البخت.

و قوله:( يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة و ما أعدّ الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: 30 و لذلك عدّوا ما اُوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد و شرط.

٨٠