الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107446
تحميل: 4050


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107446 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الجاثية الآيات 20 - 37)

هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 20 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ  سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 21 ) وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( 22 ) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ  أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( 23 ) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ  وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ( 24 ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 25 ) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( 26 ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ( 27 ) وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً  كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 ) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ  إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 29 ) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا

١٨١

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 30 ) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ ( 31 ) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ( 32 ) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 33 ) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 34 ) ذَٰلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا  فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 35 ) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 36 ) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 37 )

( بيان‏)

لمّا أشار إلى جعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شريعة من الأمر و هو تشريع الشريعة الإسلاميّة أشار في هذه الآيات إلى أنّها بصائر للنّاس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيّبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.

و أشار إلى أنّ الّذي يدعو مجترحي السيّئات أن يستنكفوا عن التشرّع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنّهم و المتشرّعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن لا أثر

١٨٢

للتشرّع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الّذي تهدي إليه الشريعة إلّا إتعاب النفس بالتقيّد من غير موجب. فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثمّ أردفه بوصف المعاد و ما يثيب به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الاجرام، و عند ذلك تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.

قوله تعالى: ( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الّذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنّما كانت الشريعة بصائر لأنّها تتضمّن أحكاماً و قوانين كلّ منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.

و المعنى: هذه الشريعة المشرّعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصّر بكلّ منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحقّ و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة:( هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ ) كقوله بعد ذكر آيات الوحدانيّة في أوّل السورة:( هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ.

و قوله:( وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد بقوم يوقنون: الّذين يوقنون بآيات الله الدالّة على اُصول المعارف فإنّ المعهود في القرآن تعلّق الإيقان بالاُصول الاعتقاديّة.

و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرّد التبصّر، و بالرحمة الرحمة الخاصّة بمن اتّقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد: 28، و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - إلى أن قال -وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة: 4، و للرحمة درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقاً ثمّ للرحمة الخاصّة بأهل الإيمان أيضاً مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكلّ مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.

١٨٣

و أمّا الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإنّ القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافّة كما أنّ الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعاً، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: 107، و قد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ‏ ) إلخ، قال في المجمع: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأنّ لذلك تأثيراً كتأثير الجراح. قال: و السيّئة الفعلة القبيحة الّتي يسوء صاحبها باستحقاق الذمّ عليها. انتهى.

و الجعل بمعنى التصيير، و قوله:( كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ ) في محلّ المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالّذين آمنوا، إلخ.

و جزم الزمخشريّ في الكشّاف على كون الكاف في( كَالَّذِينَ) اسماً بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله:( نَجْعَلَهُمْ) ، و قوله:( سَواءً ) بدلاً منه.

و قوله:( سَواءً) بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستوياً أو متساوياً، و قوله:( مَحْياهُمْ) مصدر ميميّ و فاعل( سَواءً ) و ضميره راجع إلى مجموع المجترحين و المؤمنين، و( مَماتُهُمْ) معطوف على( مَحْياهُمْ) و حاله كحاله.

و الآية مسوقة سوق الإنكار و( أَمْ) منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظنّ الّذين يكتسبون السيّئات أن نصيّرهم مثل الّذين آمنوا و عملوا الصالحات مستوياً محياهم و مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة اُولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرّع بالدين لغواً لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.

و قوله:( ساءَ ما يَحْكُمُونَ‏ ) ردّ لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيّئات و الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.

فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.

١٨٤

أمّا أنّهما لا يتساويان في الحياة فلأنّ الّذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربّهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة و المسي‏ء صفر الكفّ، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) طه: 124، و قال في موضع آخر:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: 122.

و أمّا أنّهما لا يتساويان في الممات فلأنّ الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداماً للشي‏ء و بطلاناً للنفس الإنسانيّة كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة الّتي هي دار البقاء و عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.

و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدّم من كلامه بقوله:( كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) و قوله:( ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) و غير ذلك، و سيتعرّض له بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) إلخ.

و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصّل منها من معارك الآراء بين المفسّرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الّذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما قدّمناه و لا كثير فائدة في التعرّض لوجوه اُخر ذكروها فمن أراد الاطّلاع عليها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى‏ كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) الظاهر أنّ المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء في( بِالْحَقِّ ) للملابسة فكون خلق العالم بالحقّ كونه حقّاً لا باطلاً و لعباً و هو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.

و قوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، عطف على( بِالْحَقِّ ) و الباء في قوله:( بِما كَسَبَتْ ) للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية فالعقاب، و قوله:( وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) حال من كلّ نفس أي و لتجزى كلّ نفس بما كسبت بالعدل.

١٨٥

فيؤل معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحقّ و بالعدل فكون الخلق بالحقّ يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كلّ نفس ما تستحقّه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسناً و المسي‏ء يجزى جزاء سيّئاً و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة اُخرى.

و بهذا البيان يظهر أنّ الآية تتضمّن حجّتين على المعاد إحداهما ما اُشير إليه بقوله:( وَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ ) و يسلك من طريق الحقّ، و الثانية ما اُشير إليه بقوله:( وَ لِتُجْزى‏ ) إلخ، و يسلك من طريق العدل.

فتؤل الحجّتان إلى ما يشتمل عليه قوله:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: 28.

و الآية بما فيها من الحجّة تبطل حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الممات فإنّ حديث المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أنّ المسي‏ء كالمحسن في الحياة فإنّ ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل و يتزوّد من يومه لغده بخلاف المسي‏ء العائش في عمى و ضلال فليسا بمتساويين.

قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أنّ قوله:( أَ فَرَأَيْتَ ) مسوق للتعجيب أي أ لا تعجّب ممّن حاله هذا الحال؟

و المراد بقوله:( اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) حيث قدّم( إِلهَهُ ) على( هَواهُ) إنّه يعلم أنّ له إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنّه يبدّله من هواه و يجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقّبه بقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي إنّه ضالّ عن السبيل و هو يعلم.

و معنى اتّخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإنّ الله سبحانه عدّ الطاعة

١٨٦

عبادة كما في قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اعْبُدُونِي ) يس: 61، و قوله:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) التوبة: 31، و قوله:( وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) آل عمران: 64.

و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلّا إظهار الخضوع و تمثيل أنّ العابد عبد لا يريد و لا يفعل إلّا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئاً فقد اتّخذه إلهاً و عبده فمن أطاع هواه فقد اتّخذ إلهه هواه و لا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته.

فقوله:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) أي أ لا تعجب ممّن يعبد هواه بإطاعته و اتّباعه و هو يعلم أنّ له إلهاً غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنّه يجعل معبوده و مطاعه هو هواه.

و قوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) أي هو ضالّ بإضلال منه تعالى يضلّه به مجازاة لاتّباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرّاً على علم هذا الضالّ، و لا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: 14 و ذلك أنّ العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل الّذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقّبه الاهتداء و أمّا إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتّباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال و إن كان معه علم.

و أمّا قول بعضهم: إنّ المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضلّه الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.

و قوله:( وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً ) كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ أَضَلَّهُ اللهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحقّ و لا يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحقّ من آيات الله و محصّل الجميع: أن لا يترتّب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحقّ إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتّباع للهوى، و قد عرفت أنّ الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.

١٨٧

و قوله:( فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ ) الضمير لمن اتّخذ إلهه هواه و التفريع على ما تحصّل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضلّه الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى:( قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى‏ ) البقرة: 120 و قال:( وَ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ ) المؤمن: 33.

و قوله:( أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) أي أ فلا تتفكّرون في حاله فتتذكّروا أنّ هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتّباع الهوى فتتّعظوا.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدّة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ثمّ يعبّر به عن كلّ مدّة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإنّ الزمان يقع على المدّة القليلة و الكثيرة. انتهى.

و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيّين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريّين الناسبين للحوادث وجوداً و عدماً إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعاً إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.

فقولهم:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلّا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدّعيه الدين الإلهيّ من البعث و الحياة الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيّدة لأن يكون المراد بقوله:( نَمُوتُ وَ نَحْيا ) يموت بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمرّ بذلك بقاء النسل الإنسانيّ بموت الأسلاف و حياة الأخلاف و يؤيّد ذلك بعض التأييد قوله بعده:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) المشعر بالاستمرار.

فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياتنا إلّا حياتنا الدنيا الّتي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما يهلكنا إلّا الزمان - الّذي بمروره يبلى كلّ جديد و يفسد كلّ كائن و يميت كلّ حيّ - فليس الموت انتقالاً من دار إلى دار منتهياً إلى البعث و الرجوع إلى الله.

١٨٨

و لعلّ هذا كلام بعض الجهلة من وثنيّة العرب و إلّا فالعقيدة الدائرة بين الوثنيّة هي التناسخ و هو أنّ نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلّقت بأبدان اُخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلّقت ببدن جديد تتنعّم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلّقت ببدن لاحق تشقى فيه و تعذّب جزاء لعملها السيّئ و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.

و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائراً بين الوثنيّة ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى:( ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ) فلسنا نخرج من الدنيا أبداً( نَمُوتُ ) عن حياة دنيا( وَ نَحْيا ) بعد الموت بالتعلّق ببدن جديد و هكذا( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) .

و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلاً:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) إلّا أن يوجّه بأنّ مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسّل بها الملك الموكّل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجّتهم المنقولة ذيلاً:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الظاهرة في أنّهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.

و ذكر في معنى الآية وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتاً لا حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثمّ نحيي بولوجها على حدّ قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) البقرة: 28.

و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازاً، و المعنى: نموت نحن و نحيا ببقاء نسلنا. إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قوله:( وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) أي إنّ قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم و إنّما هو ظنّ يظنّونه و ذلك أنّهم لا دليل لهم يدلّ على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلّة على ثبوته.

قوله تعالى: ( وَ إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا

١٨٩

بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة الدنيا قولاً بغير علم.

و المراد بالآيات البيّنات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها بيّنات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شكّ، و تسمية قولهم:( ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) مع كونه اقتراحاً جزافيّاً بعد قيام الحجّة إنّما هو من باب التهكّم فإنّه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنّه قيل: ما كانت حجّتهم إلّا اللّاحجّة.

و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و الحال أنّها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلّا بجزاف من القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - إلى قوله -وَ الْأَرْضِ ) ما ذكر من اقتراحهم الحجّة على مطلوب قامت عليه الحجّة و إن كان اقتراحاً جزافيّاً لا يستدعي شيئاً من الجواب لكنّه سبحانه أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الّذي كانوا يستبعدونه.

و محصّله: أنّ الّذي يحييكم لأوّل مرّة ثمّ يميتكم ثمّ يجمعكم إلى يوم القيامة الّذي لا ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرّف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرّف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة و القضاء بينكم ثمّ الجزاء، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ) قال الراغب: الخسر و الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجيّة كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسيّة كالصحّة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الّذي جعله الله تعالى الخسران المبين.

قال: و كلّ خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلّق بالمقتنيات الماليّة و التجارات البشريّة.

١٩٠

و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشي‏ء و إزالته سواء كان ذلك الشي‏ء حقّاً أو باطلاً قال تعالى:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ ) و قد يقال فيمن يقول شيئاً لا حقيقة له نحو( وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ) ، و قوله تعالى:( خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) أي الّذين يبطلون الحقّ. انتهى.

و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعليّة ما يقع فيها من البعث و الجمع و الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صحّ جعل الساعة مظروفاً لليوم و هما واحد، و الأشبه أن يكون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) تأكيداً لقوله:( يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) .

و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الّذين أبطلوا الحقّ و عدلوا عنه.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) إلخ، الجثوّ البروك على الركبتين كما أنّ الجذوّ البروك على أطراف الأصابع.

و الخطاب عامّ لكلّ من يصحّ منه الرؤية و إن كان متوجّهاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كلّ اُمّة من الاُمم جالسة على الجثوّ جلسة الخاضع الخائف كلّ اُمّة منهم تدعى إلى كتابها الخاصّ بها و هي صحيفة الأعمال و قيل لهم:( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

و يستفاد من ظاهر الآية أنّ لكلّ اُمّة كتاباً خاصّاً بهم كما أنّ لكلّ إنسان كتاباً خاصّاً به قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) إسراء: 13.

قوله تعالى: ( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) قال في الصحّاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كلّه بمعنى، و النسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، و قال الراغب: النسخ إزالة الشي‏ء بشي‏ء يتعقّبه كنسخ الشمس الظلّ و نسخ الظلّ الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته

١٩١

المجرّدة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاُولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة اُخرى كاتّخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدّم بنسخ الشي‏ء و الترشّح للنسخ. انتهى.

و مقتضى ما نقل أنّ المفعول الّذي يتعدّى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) كتاباً و أصلاً و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو اُريد به ضبط الأعمال الخارجيّة القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتاباً و أصلاً يستنسخ، و لا دليل على كون( يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.

و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجيّة بما أنّها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.

و هذا هو المعنى الّذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادقعليه‌السلام و من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس، و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

و على هذا فقوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى:( و يقال لهم هذا كتابنا) إلخ.

و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدّم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظراً إلى أنّه صحيفة الأعمال من جهة أنّه مكتوب بأمره تعالى و نظراً إلى أنّه اللوح المحفوظ من جهة التشريف و قوله:( يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) أي يشهد على ما عملتم و يدلّ عليه دلالة واضحة ملابساً للحقّ.

و قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم

١٩٢

بالحقّ أي إنّ كتابنا هذا دالّ على عملكم بالحقّ من غير أن يتخلّف عنه لأنّه اللّوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعيّة.

و لو لا أنّ الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شكّ و لا يحتمل منهم التكذيب لكذّبوه، قال تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ) آل عمران: 30.

و للقوم في الآية أقوال اُخر:

منها ما قيل: إنّ الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحقّ إنّا كنّا نكتب ما كنتم تعملون.

و فيه أنّ كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أنّ كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.

و منها: أنّ الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى اللّوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقاً.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب و العقاب، و السعداء المثابون هم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء المعاقبون هم الّذين كفروا من المستكبرين المجرمين.

و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهيّة تسعد من استقرّ فيها و منها الجنّة، و الفوز المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ ) المراد بالّذين كفروا المتلبّسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة قوله:( أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ ) إلخ.

و الفاء في( أَ فَلَمْ تَكُنْ ) للتفريع فتدلّ على مقدّر متفرّع عليه هو جواب لمّا، و التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهيّة الملقاة

١٩٣

إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبّس بالأجرام و هو الذنب.

و المعنى: و أمّا الّذين كفروا جاحدين للحقّ مع ظهوره فيقال لهم توبيخاً و تقريعاً: أ لم تكن حججي تقرأ و تبيّن لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوماً مذنبين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و الجزاء فيكون قوله:( وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها ) من عطف التفسير، و يمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدريّ.

و قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) معناه أنّه غير مفهوم لهم و الحال أنّهم أهل فهم و دراية فهو كناية عن كونه أمراً غير معقول و لو كان معقولاً لدروه.

و قوله:( إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ) أي ليست ممّا نقطع به و نجزم بل نظنّ ظنّاً لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم:( ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ) إلخ، غبّ ما تليت عليهم من الآيات البيّنة أفحش المكابرة مع الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) إضافة السيّئات إلى ما عملوا بيانيّة أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيّئة أو السيّئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: 30.

فالآية من الآيات الدالّة على تمثّل الأعمال، و قيل: إنّ في الكلام حذفاً و التقدير: و بدا لهم جزاء سيّئات ما عملوا.

و قوله:( وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) أي و حلّ بهم العذاب الّذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا اُنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.

قوله تعالى: ( وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكّره و تركهم التأهّب للقائه، و الباقي ظاهر.

١٩٤

قوله تعالى: ( ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ) إلخ، الإشارة بقوله:( ذلِكُمْ ) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيّئات و حلول العذاب و الهزء السخريّة الّتي يستهزأ بها و الباء للسببيّة.

و المعنى: ذلكم العذاب الّذي يحلّ بكم بسبب أنّكم اتّخذتم آيات الله سخريّة تستهزؤن بها و بسبب أنّكم غرّتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلّقتم بها.

و قوله:( فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و يتضمّن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.

و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.

قوله تعالى: ( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدّم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و المدبّر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحقّ المستتبع ليوم الرجوع إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع الّتي تسوق إلى السعادة و الثواب و يتعقّبه الجمع ليوم الجمع ثمّ الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و العدل بإعطاء كلّ شي‏ء ما يستحقّه فلم يدبّر إلّا تدبيراً جميلاً و لم يفعل إلّا فعلاً محموداً فله الحمد كلّه.

و قد كرّر( الرب) فقال:( رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ ) ثمّ أبدل منهما قوله:( رَبِّ الْعالَمِينَ ) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبيّة للجميع فلو جي‏ء بربّ العالمين و اكتفي به أمكن أن يتوهّم أنّه ربّ المجموع لكنّ للسماوات خاصّة ربّ آخر و للأرض وحدها ربّ آخر كما ربّما قال بمثله الوثنيّة، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن صريحاً في ربوبيّته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.

قوله تعالى: ( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفّع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.

١٩٥

و هي على أيّ حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسّيّة و مرجعه إلى كمال وجوده و لا تناهي كماله.

و قوله:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي له الكبرياء في كلّ مكان فلا يتعالى عليه شي‏ء فيهما و لا يستصغره شي‏ء و تقديم الخبر في( لَهُ الْكِبْرِياءُ ) يفيد الحصر كما في قوله:( فَلِلَّهِ الْحَمْدُ ) .

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) قال: نزلت في قريش كلّما هووا شيئاً عبدوه.

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر فأنزل الله( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) .

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ ) و قد روي في الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: لا تسبّوا الدهر فإنّ الله هو الدهر.

أقول: قال الطبرسيّ بعد إيراد الحديث: و تأويله أنّ أهل الجاهليّة كانوا ينسبون الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا يسبون الدهر فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فاعل هذه الاُمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. و يؤيّد هذا الوجه الرواية التالية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قال الله تبارك و تعالى: لا يقل ابن آدم يسبّ الدّهر يا خيبة الدهر فإنّي أنا الدهر اُرسل الليل و النهار فإذا شئت قبضتهما.

١٩٦

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الآية حدّثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبدالرحيم القصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن( ن وَ الْقَلَمِ ) قال: إنّ الله خلق القلم من شجرة في الجنّة يقال لها الخلد ثمّ قال لنهر في الجنّة: كن مداداً فجمد النهر و كان أشدّ بياضاً من الثلج و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اُكتب. قال: يا ربّ ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضاً من الفضّة و أصفى من الياقوت. ثمّ طواه فجعله في ركن العرش ثمّ ختم على فم القلم فلن ينطق أبداً.

فهو الكتاب المكنون الّذي منه النسخ كلّها أ و لستم عرباً؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنّما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ و هو قوله:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

أقول: قولهعليه‌السلام : فكتب القلم في رقّ إلخ، تمثيل للّوح المكتوب فيه الحوادث بالرقّ و الرقّ ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدّم الحديث عنهعليه‌السلام أنّ القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثمّ ختم على فم القلم إلخ كناية عن كون ما كتب في الرقّ قضاء محتوماً لا يتغيّر و لا يتبدّل، و قوله: أ و لستم عرباً إلخ، إشارة إلى ما تقدّم توضيحه في تفسير الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: إنّ الله خلق النون و هو الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول برّ أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثمّ ألزم كلّ شي‏ء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟

ثمّ جعل على العباد حفظة و على الكتاب خزّاناً تحفظه ينسخون كلّ يوم من الخزّان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئاً فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا.

١٩٧

قال ابن عبّاس: أ لستم قوماً عرباً؟ تسمعون الحفظة يقولون:( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) و هل يكون الاستنساخ إلّا من أصل؟.

أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من اُمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنّما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من اُمّ الكتاب.

و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكّلين بالعبد: و في رواية: أنّهما إذا أرادا النزول صباحاً و مساءً ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللّوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعداً صباحاً و مساءً بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ الّتي انتسخ لهما حتّى يظهر أنّه كان كما نسخ منه.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) و في الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري- فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنّم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٩٨

( سورة الأحقاف مكّيّة و هي خمس و ثلاثون آية)

( سورة الأحقاف الآيات 1 - 14)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ( 2 ) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى  وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ ( 3 ) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ  ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 4 ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( 5 ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( 6 ) وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ( 7 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ  قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئًا  هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ  كَفَىٰ بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 8 ) قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ  إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 9 ) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ  إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 10 ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا

١٩٩

مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ  وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ( 11 ) وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ إِمَامًا وَرَحْمَةً  وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ ( 12 ) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 13 ) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 14 )

( بيان‏)

غرض السورة إنذار المشركين الرادّين للدعوة إلى الإيمان بالله و رسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، و لذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد:( ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ ) ثمّ يعود إليه عودة بعد عودة كقوله:( وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ ) ، و قوله:( وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ ) ، و قوله:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) ، و قوله في مختتم السورة:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ ) الآية.

و فيها احتجاج على الوحدانيّة و النبوّة، و إشارة إلى هلاك قوم هود و هلاك القرى الّتي حول مكّة و إنذارهم بذلك، و إنباء عن حضور نفر من الجنّ عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و استماعهم القرآن و إيمانهم به و رجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.

و السورة مكّيّة كلّها إلّا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله، قوله تعالى:( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) إلخ، و قوله:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ) الآية.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) تقدّم تفسيره.

٢٠٠