الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107454
تحميل: 4050


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107454 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و هي سورة مدنيّة على ما يشهد به سياق آياتها.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) فسّر الصدّ بالإعراض عن سبيل الله و هو الإسلام كما عن بعضهم، و فسّر بالمنع و هو منعهم الناس أن يؤمنوا بما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم إليه من دين التوحيد كما عن بعض آخر.

و ثاني التفسيرين أوفق لسياق الآيات التالية و خاصّة ما يأمر المؤمنين بقتلهم و أسرهم و غيرهم.

فالمراد بالّذين كفروا كفّار مكّة و من تبعهم في كفرهم و قد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يفتّنونهم، و صدّوهم أيضاً عن المسجد الحرام.

و قوله:( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) أي جعل أعمالهم ضالّة لا تهتدي إلى مقاصدها الّتي قصدت بها و هي بالجملة إبطال الحقّ و إحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرّر منه تعالى من قوله:( وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) البقرة: 264، و قد وعد سبحانه بإحياء الحقّ و إبطال الباطل كما في قوله:( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الأنفال: 8.

فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها و فسادها دون الوصول إلى الغاية، و عدّ ذلك ضلالاً من الاستعارة بالكناية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) إلخ، ظاهر إطلاق صدر الآية أنّ المراد بالّذين آمنوا إلخ، مطلق من آمن و عمل صالحاً فيكون قوله:( وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى‏ مُحَمَّدٍ ) تقييدا احترازيّاً لا تأكيداً و ذكراً لما تعلّقت به العناية في الإيمان.

و قوله:( وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) جملة معترضة و الضمير راجع إلى ما نزّل.

و قوله:( كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ ) قال في المجمع: البال الحال و الشأن و البال القلب أيضاً يقال: خطر ببالي كذا، و البال لا يجمع لأنّه أبهم أخواته من الحال و الشأن انتهى.

و قد قوبل إضلال الأعمال في الآية السابقة بتكفير السيّئات و إصلاح البال في هذه

٢٤١

الآية فمعنى ذلك هداية إيمانهم و عملهم الصالح إلى غاية السعادة، و إنّما يتمّ ذلك بتكفير السيّئات المانعة من الوصول إلى السعادة، و لذلك ضمّ تكفير السيّئات إلى إصلاح البال.

و المعنى: ضرب الله الستر على سيّئاتهم بالعفو و المغفرة، و أصلح حالهم في الدنيا و الآخرة أمّا الدنيا فلأنّ الدين الحقّ هو الدين الّذي يوافق ما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة الّتي فطر الله الناس عليها، و الفطرة لا تقتضي إلّا ما فيه سعادتها و كمالها ففي الإيمان بما أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال المؤمنين في مجتمعهم الدنيويّ، و أمّا في الآخرة فلأنّها عاقبة الحياة الدنيا و إذ كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال تعالى:( وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) طه: 132.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ) إلخ، تعليل لما في الآيتين السابقتين من إضلال أعمال الكفّار و إصلاح حال المؤمنين مع تكفير سيّئاتهم.

و في تقييد الحقّ بقوله:( مِنْ رَبِّهِمْ ) إشارة إلى أنّ المنتسب إليه تعالى هو الحقّ و لا نسبة للباطل إليه و لذلك تولّى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه طريق الحقّ الّذي اتّبعوه، و أمّا الكفّار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم و أمّا انتساب ضلالهم إليه في قوله:( أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها إلى غايات صالحة سعيدة.

و في الآية إشارة إلى أنّ الملاك كلّ الملاك في سعادة الإنسان و شقائه اتّباع الحقّ و اتّباع الباطل و السبب في ذلك انتساب الحقّ إليه تعالى دون الباطل.

و قوله:( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ) أي يبيّن لهم أوصافهم على ما هي عليه، و في الإتيان باسم الإشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لأمر ما ضربه من المثل.

قوله تعالى: ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) إلى آخر الآية، تفريع على ما تقدّم في الآيات الثلاث من وصف الفريقين كأنّه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحقّ و الله ينعم عليهم بما ينعم و الكفّار أهل الباطل و الله يضلّ أعمالهم فعلى المؤمنين إذا لقوا

٢٤٢

الكفّار أن يقتلوهم و يأسروهم ليحيي الحقّ الّذي عليه المؤمنون و تطهر الأرض من الباطل الّذي عليه الكفّار.

فقوله:( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) المراد باللقاء اللقاء في القتال و ضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، و التقدير: فاضربوا الرقاب - أي رقابهم - ضرباً و ضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لأنّ أيسر القتل و أسرعه ضرب الرقبة به.

و قوله:( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) في المجمع: الإثخان إكثار القتل و غلبة العدوّ و قهرهم و منه أثخنه المرض اشتدّ عليه و أثخنه الجراح. انتهى. و في المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه و اعتمدت عليه، و أوثقته شددته، و الوثاق - بفتح الواو - و الوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشي‏ء. انتهى. و( حَتَّى ) غاية لضرب الرقاب، و المعنى: فاقتلوهم حتّى إذا أكثرتم القتل فيهم فأسروهم بشدّ الوثاق و إحكامه فالمراد بشدّ الوثاق الأسر فالآية في ترتّب الأسر فيها على الإثخان في معنى قوله تعالى:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) الأنفال: 67.

و قوله:( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً ) أي فأسروهم و يتفرّع عليه أنّكم إمّا تمنّون عليهم منّاً بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقّونهم و إمّا تفدونهم فداء بالمال أو بمن لكم عندهم من الأسارى.

و قوله:( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) أوزار الحرب أثقالها و هي الأسلحة الّتي يحملها المحاربون و المراد به وضع المقاتلين و أهل الحرب أسلحتهم كناية عن انقضاء القتال.

و قد تبيّن بما تقدّم من المعنى ما في قول بعضهم إنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى‏ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ) الأنفال: 67، لأنّ هذه السورة متأخّرة نزولاً عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها.

و ذلك لعدم التدافع بين الآيتين فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان

٢٤٣

و الآية المبحوث عنها تأمر بالأسر بعد الإثخان.

و كذا ما قيل: إنّ قوله:( فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) إلخ، منسوخ بآية السيف( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) التوبة: 5، و كأنّه مبنيّ على كون العامّ الوارد بعد الخاصّ ناسخاً له لا مخصّصاً به و الحقّ خلافه و تمام البحث في الاُصول، و في الآية أيضاً مباحث فقهيّة محلّها علم الفقه.

و قوله:( ذلِكَ ) أي الأمر ذلك أي إنّ حكم الله هو ما ذكر في الآية.

و قوله:( وَ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ) الضمير للكفّار أي و لو شاء الله الانتقام منهم لانتقم منهم بإهلاكهم و تعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم.

و قوله:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) استدراك من مشيّة الانتصار أي و لكن لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفّار يأمرهم بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين و يمتحن الكفّار بالمؤمنين فيتميّز أهل الشقاء منهم ممّن يوفّق للتوبة من الباطل و الرجوع إلى الحقّ.

و قد ظهر بذلك أنّ قوله:( لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) تعليل للحكم المذكورة في الآية و الخطاب في( بَعْضَكُمْ ) لمجموع المؤمنين و الكفّار و وجه الخطاب إلى المؤمنين.

و قوله:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) الكلام مسوق سوق الشرط و الحكم عامّ أي و من قتل في سبيل الله و هو الجهاد و القتال مع أعداء الدين فلن يبطل أعمالهم الصالحة الّتي أتوا بها في سبيل الله.

و قيل: المراد بقوله:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ) شهداء يوم اُحد، و فيه أنّه تخصيص من غير مخصّص و السياق سياق العموم.

قوله تعالى: ( سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) الضمير للّذين قتلوا في سبيل الله فالآية و ما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة و الكرامة و يصلح حالهم بالمغفرة و العفو عن سيّئاتهم فيصلحون لدخول الجنّة.

و إذا انضمّت هذه الآية إلى قوله تعالى:( وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) آل عمران: 169، ظهر أنّ المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم

٢٤٤

حياة يصلحون بها للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء.

و قال في المجمع: و الوجه في تكرير قوله:( بالَهُمْ ) أنّ المراد بالأوّل أنّه أصلح بالهم في الدين و الدنيا، و بالثاني أنّه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالأوّل سبب النعيم و الثاني نفس النعيم. انتهى. و الفرق بين ما ذكره من المعنى و ما قدّمناه أنّ قوله تعالى:( وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) على ما ذكرنا كالعطف التفسيريّ لقوله:( سَيَهْدِيهِمْ ) دون ما ذكره، و قوله الآتي:( وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ) على ما ذكره كالعطف التفسيريّ لقوله:( وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) دون ما ذكرناه.

قوله تعالى: ( وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) غاية هدايته لهم، و قوله:( عَرَّفَها لَهُمْ ) حال من إدخاله إيّاهم الجنّة أي سيدخلهم الجنّة و الحال أنّه عرّفها لهم إمّا بالبيان الدنيويّ من طريق الوحي و النبوّة و إمّا بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: سورة محمّد آية فينا و آية في بني اُميّة.

أقول: و روى القمّيّ في تفسيره، عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله.

و في المجمع: في قوله:( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) إلخ المرويّ عن أئمّة الهدىعليهم‌السلام : أنّ الاُسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال و الحرب قائمة فهؤلاء يكون الإمام مخيراً بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتّى ينزفوا، و لا يجوز المنّ و لا الفداء.

و الضرب الآخر الّذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال فالإمام مخيّر فيهم بين المنّ و الفداء إمّا بالمال أو بالنفس و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب

٢٤٥

فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.

أقول: و روي ما في معناه في الكافي عن أبي عبداللهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ ) قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد.

أقول: قد عرفت أنّ الآية عامّة، و سياق الاستقبال في قوله:( سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ ) إلخ، إنّما يلائم العموم و كون الكلام مسوقاً لضرب القاعدة.

و قد روي أنّ قوله تعالى:( حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ ) ناسخ لقوله:( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية، و أيضاً أنّ قوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ناسخ لقوله:( فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً ) و قد عرفت فيما تقدّم عدم استقامة النسخ.

٢٤٦

( سورة محمّد الآيات 7 - 15)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ( 7 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ( 8 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 9 ) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ  وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ( 10 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ( 11 ) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ( 12 ) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ( 13 ) أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم ( 14 ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ  فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى  وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ  كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ( 15 )

٢٤٧

( بيان‏)

الآيات جارية على السياق السابق.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ) تحضيض لهم على الجهاد و وعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييداً لدينه و إعلاءً لكلمة الحقّ لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليُظهروا نجده و شجاعة.

و المراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم و غلبتهم على عدوّهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفّار و إدارة الدوائر للمؤمنين عليهم و ربط جاش المؤمنين و تشجيعهم، و على هذا فعطف تثبيت الأقدام على النصر من عطف الخاصّ على العامّ و تخصيص تثبيت الأقدام، و هو كناية عن التشجيع و تقوية القلوب، لكونه من أظهر أفراد النصر.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ) ذكر ما يفعل بالكفّار عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم.

و التعس هو سقوط الإنسان على وجهه و بقاؤه عليه و يقابله الانتعاش و هو القيام عن السقوط على الوجه فقوله:( فَتَعْساً لَهُمْ ) أي تعسوا تعساً و هو ما يتلوه دعاء عليهم نظير قوله:( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة: 30،( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) عبس: 17، و يمكن أن يكون إخباراً عن تعسهم و بطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإنّ الإنسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطاً على وجهه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) المراد بما أنزل الله هو القرآن و الشرائع و الأحكام الّتي أنزلها الله تعالى على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمر بإطاعتها و الانقياد لها فكرهوها و استكبروا عن اتّباعها.

و الآية تعليل مضمون الآية السابقة و المعنى ظاهر.

٢٤٨

قوله تعالى: ( أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها ) التدمير الإهلاك، يقال: دمّره الله أي أهلكه، و يقال: دمّر الله عليه أي أهلك ما يخصّه من نفس و أهل و دار و عقار فدمّر عليه أبلغ من دمّره كما قيل، و ضمير( أَمْثالُها ) للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام.

و المراد بالكافرين الكافرون بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و المعنى: و للكافرين بك يا محمّد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة و إنّما اُوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة و لا يحلّ بهم إلّا مثل واحد لأنّهم في معرض عقوبات كثيرة دنيويّة و اُخرويّة و إن كان لا يحلّ بهم إلّا بعضها، و يمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، و الجملة من باب ضرب القاعدة.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) الإشارة بذلك إلى ما تقدّم من نصر المؤمنين و مقت الكافرين و سوء عاقبتهم، و لا يصغي إلى ما قيل: إنّه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الاُمم السالفة لهؤلاء، و كذا ما قيل: إنّه إشارة إلى نصر المؤمنين، و ذلك لأنّ الآية متعرّضة لحال الطائفتين: المؤمنين و الكفّار جميعاً.

و المولى كأنّه مصدر ميميّ اُريد به المعنى الوصفيّ فهو بمعنى الوليّ و لذلك يطلق على سيّد العبد و مالكه لأنّ له ولاية التصرّف في اُمور عبده، و يطلق على الناصر لأنّه يلي التصرّف في أمر منصورة بالتقوية و التأييد و الله سبحانه مولى لأنّه المالك الّذي يلي اُمور خلقه في صراط التكوين و يدبّرها كيف يشاء، قال تعالى:( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ ) الم السجدة: 4، و قال:( وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) يونس: 30، و هو تعالى مولى لأنّه يلي تدبير اُمور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى سعادتهم و الجنّة و يوفّقهم للصالحات و ينصرهم على أعدائهم، و المولويّة بهذا المعنى الثانية تختصّ بالمؤمنين، لأنّهم هم الداخلون في حظيرة العبوديّة المتّبعون لما يريده منهم ربّهم دون الكفّار.

و للمؤمنين مولى و وليّ هو الله سبحانه كما قال:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) ، و قال:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ) البقرة: 257، و أمّا الكفّار فقد اتّخذوا

٢٤٩

الأصنام أو أرباب الأصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من التهكّم:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) البقرة: 257، و نفي ولايتهم بالبناء على حقيقة الأمر فقال:( وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) ثمّ نفى ولايتهم مطلقاً تكويناً و تشريعاً مطلقاً فقال:( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) الشورى: 9، و قال:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) النجم: 23.

فمعنى الآية: أنّ نصره تعالى للمؤمنين و تثبيته أقدامهم و خذلانه الكفّار و إضلاله أعمالهم و عقوبته لهم إنّما ذلك بسبب أنّه تعالى مولى المؤمنين و وليّهم، و أنّ الكفّار لا مولى لهم فينصرهم و يهدي أعمالهم و ينجّيهم من عقوبته.

و قد تبيّن بما تقدّم ضعف ما قيل: إنّ المولى في الآية بمعنى الناصر دون المالك و إلّا كان منافياً لقوله تعالى:( وَ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ) يونس: 30، و وجه الضعف ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ) مقايسة بين الفريقين و بيان أثر ولاية الله للمؤمنين و عدم ولايته للكفّار من حيث العاقبة و الآخرة و هي أنّ المؤمنين يدخلون الجنّة و الكفّار يقيمون في النار.

و قد اُشير في الكلام إلى منشأ ما ذكر من الأثر حيث وصف كلّاً من الفريقين بما يناسب مآل حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) و إلى صفة الكفّار بقوله:( يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ) فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أنّ المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحقّ حيث آمنوا بالله و عملوا الأعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد و قاموا بوظيفة الإنسانيّة، و أمّا الكفّار فلا عناية لهم بإصابة الحقّ و لا تعلّق لقلوبهم بوظائف الإنسانيّة، و إنّما همّهم بطنهم و فرجهم يتمتّعون في حياتهم الدنيا القصيرة و يأكلون كما تأكل الأنعام لا منية لهم إلّا ذلك و لا غاية لهم وراءه.

فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكاً يريده منهم ربّهم

٢٥٠

و يهديهم إليه و لذلك يدخلهم في الآخرة جنّات تجري من تحتها الأنهار، و اُولئك أي الكفّار ما لهم من وليّ و إنّما وكلوا إلى أنفسهم و لذلك كان مثواهم و مقامهم النار.

و إنّما نسب دخول المؤمنين الجنّات إلى الله نفسه دون إقامة الكفّار في النار قضاء لحقّ الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصّة بأوليائه، و أمّا المنسلخون من ولايته فلا يبالي في أيّ واد هلكوا.

قوله تعالى: ( وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ ) المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد:( أَهْلَكْناهُمْ ) إلخ، و القرية الّتي أخرجتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي مكّة.

و في الآية تقوية لقلب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تهديد لأهل مكّة و تحقير لأمرهم أنّ الله أهلك قرى كثيرة كلّ منها أشدّ قوّة من قريتهم و لا ناصر لهم ينصرهم.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفّار يدلّ على أنّ المراد بمن كان على بيّنة من ربّه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بيّنة من ربّهم كونهم على دلالة بيّنة من ربّهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه و هي الحجّة البرهانيّة فهم إنّما يتّبعون الحجّة القاطعة على ما هو الحريّ بالإنسان الّذي من شأنه أن يستعمل العقل و يتّبع الحقّ.

و أمّا الّذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيّئة الّتي زيّنها لهم الشيطان و تعلّقت بها أهواؤهم و عملوا السيّئات، فكم بين الفريقين من فرق.

قوله تعالى: ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) إلى آخر الآية يفرّق بين الفريقين ببيان مآل أمرهما و هو في الحقيقة توضيح ما مرّ في قوله:( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.

فقوله:( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ) المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنّة الّتي وعد الله المتّقين أن يدخلهم فيها، و ربّما حمل المثل على معناه

٢٥١

المعروف و استفيد منه أنّ الجنّة أرفع و أعلى من أن يحيط بها الوصف و يحدّها اللفظ و إنّما تقرّب إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوّح إليه قوله تعالى:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) السجدة: 17.

و قد بدّل قوله في الآية السابقة:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) في هذه الآية من قوله:( الْمُتَّقُونَ ) تبديل اللازم من الملزوم فإنّ تقوى الله يستلزم الإيمان به و عمل الصالحات من الأعمال.

و قوله:( فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) أي غير متغيّر بطول المقام، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ) كما في ألبان الدنيا، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ) أي لذيذة للشاربين، و اللّذّة إمّا صفة مشبهة مؤنّثة وصف للخمر، و إمّا مصدر وصفت به الخمر مبالغة، و إمّا بتقدير مضاف أي ذات لذّة، و قوله:( وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) أي خالص من الشمع و الرغوة و القذى و سائر ما في عسل الدنيا من الأذى و العيوب، و قوله:( وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) جمع للتعميم.

و قوله:( وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) ينمحي بها عنهم كلّ ذنب و سيّئة فلا تتكدّر عيشتهم بمكدّر و لا ينتغص بمنغّص، و في التعبير عنه تعالى بربّهم إشارة إلى غشيان الرحمة و شمول الحنان و الرأفة الإلهيّة.

و قوله:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ) قياس محذوف أحد طرفيه أي أ من يدخل الجنّة الّتي هذا مثلها كمن هو خالد في النار و شرابهم الماء الشديد الحرارة الّذي يقطّع أمعاءهم و ما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، و إنّما يسقونه و هم مكرهون كما في قوله:( وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) و قيل: قوله:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ ) إلخ، بيان لقوله في الآية السابقة:( كَمَنْ زُيِّنَ ) إلخ، و هو كما ترى.

٢٥٢

( بحث روائي‏)

في المجمع في قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) : قال أبوجعفرعليه‌السلام : كرهوا ما أنزل الله في حقّ عليّعليه‌السلام .

و فيه في قوله تعالى:( كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ) قيل: هم المنافقون: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

أقول: و يحتمل أن تكون الروايتان من الجري.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ ) قال: ليس من هو في هذه الجنّة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن ليس عدوّ الله كوليّه.

٢٥٣

( سورة محمّد الآيات 16 - 32)

وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا  أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ( 16 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ( 17 ) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً  فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا  فَأَنَّىٰ لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ( 18 ) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ  وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( 19 ) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ  فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ  رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ  فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ( 20 ) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ  فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ ( 21 ) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ( 22 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ( 23 ) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( 24 ) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى  الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ( 25 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي

٢٥٤

بَعْضِ الْأَمْرِ  وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ( 26 ) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ( 27 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ( 28 ) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ ( 29 ) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ  وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ  وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ( 30 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( 31 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ( 32 )

( بيان‏)

الآيات جارية على السياق السابق، و فيها تعرّض لحال الّذين في قلوبهم مرض و المنافقين و من ارتدّ بعد إيمانه.

قوله تعالى: ( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) إلخ، آنفاً اسم فاعل منصوب على الظرفيّة أو لكونه مفعولاً فيه، و معناه الساعة الّتي قبيل ساعتك، و قيل: معناه هذه الساعة و هو على أيّ حال مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.

و قوله:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) الضمير للّذين كفروا، و المراد باستماعهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن و ما يبيّن لهم من اُصول المعارف و شرائع الدين.

٢٥٥

و قوله:( حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ ) الضمير للموصول و جمع الضمير باعتبار المعنى كما أنّ إفراده في( يَسْتَمِعُ ) باعتبار اللفظ.

و قوله:( قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ) المراد بالّذين اُوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة، و الضمير في( ما ذا قالَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الاستفهام في قولهم:( ما ذا قالَ آنِفاً ) قيل: للاستعلام حقيقة لأنّ استغراقهم في الكبر و الغرور و اتّباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحقّ كما قال تعالى:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) النساء: 78، و قيل: للاستهزاء، و قيل: للتحقير كأنّ القول لكونه مشحوناً بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصّل، و لكلّ من المعاني الثلاثة وجه.

و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) تعريف لهم، و قوله:( وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، و يتحصّل منه أنّ اتّباع الأهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصليّة لا يتوقّف في فهم المعارف الدينيّة و الحقائق الإلهيّة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) المقابلة الظاهرة بين الآية و بين الآية السابقة يعطي أنّ المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب و هو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة و اتّباع الحقّ، و زيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، و قد تقدّم أنّ الهدى و الإيمان ذو مراتب مختلفة، و المراد بالتقوى ما يقابل اتّباع الأهواء و هو الورع عن محارم الله و التجنّب عن ارتكاب المعاصي.

و بذلك يظهر أنّ زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم و إيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، و يظهر أيضاً بالمقابلة أنّ الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم و اتّباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح و حرمانهم منه و هذا لا ينافي ما قدّمنا أنّ اتّباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.

٢٥٦

قوله تعالى: ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ) إلخ، النظر هو الانتظار، و الأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، و الأصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقّف عليه وجود الشي‏ء لأنّ تحقّقه علامة تحقّق الشي‏ء فأشراط الساعة علاماتها الدالّة عليها.

و سياق الآية سياق التهكّم كأنّهم واقفون موقفاً عليهم إمّا أن يتّبعوا الحقّ فتسعد بذلك عاقبتهم، و إمّا أن ينتظروا الساعة حتّى إذا أيقنوا بوقوعها و أشرفوا عليها تذكّروا و آمنوا و اتّبعوا الحقّ أمّا اتّباع الحقّ اليوم فلم يخضعوا له بحجّة أو بموعظة أو عبرة، و أمّا انتظارهم مجي‏ء الساعة ليتذكّروا عنده فلا ينفعهم شيئاً فإنّها تجيي‏ء بغتة و لا تمهلهم شيئاً حتّى يستعدّوا لها بالذكرى و إذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لأنّ اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى:( يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى‏ يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ) الفجر: 24.

مضافاً إلى أنّ أشراطها و علاماتها قد جاءت و تحقّقت، و لعلّ المراد بأشراطها خلق الإنسان و انقسام نوعه إلى صلحاء و مفسدين و متّقين و فجّار المستدعي للحكم الفصل بينهم و نزول الموت عليهم فإنّ ذلك كلّه من شرائط وقوع الواقعة و إتيان الساعة، و قيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو خاتم الأنبياء و انشقاق القمر و نزول القرآن و هو آخر الكتب السماويّة.

هذا ما يعطيه التدبّر في الآية من المعنى و هي - كما ترى - حجّة برهانيّة في عين أنّها مسوقة سوق التهكّم.

و عليه فقوله:( بَغْتَةً ) حال من الإتيان جي‏ء به لبيان الواقع و ليتفرّع عليه قوله الآتي:( فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) و ليس قيداً للانتظار حتّى يفيد أنّهم إنّما ينتظرون إتيانها بغتة، و لدفع هذا التوهّم قيل:( إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) و لم يقل: إلّا أن تأتيهم الساعة بغتة.

و قوله:( فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ) أنّى خبر مقدّم و( ذِكْراهُمْ ) مبتدأ مؤخّر و( إِذا جاءَتْهُمْ ) معترضة بينهما، و المعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكّروا إذا

٢٥٧

جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الّذي يعمل فيه و إنّما هو يوم الجزاء.

و للقوم في معنى جُمل الآية و معناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصّلة.

قوله تعالى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) إلخ، قيل: هو متفرّع على جميع ما تقدّم في السورة من سعادة المؤمنين و شقاوة الكفّار كأنّه قيل: إذا علمت أنّ الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء و شقاوة اُولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانيّة الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على هذا هو الأمر بالثبات على العلم.

و يمكن أن يكون تفريعاً على ما بيّنه في الآيتين السابقتين أعني قوله:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ - إلى قوله -وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ ) من أنّه تعالى يطبع على قلوب المشركين و يتركهم و ذنوبهم و يعكس الأمر في الّذين اهتدوا إلى توحيده و الإيمان به فكأنّه قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانيّة الإله و اطلب مغفرة ذنبك و مغفرة اُمّتك من المؤمنين بك و المؤمنات حتّى لا تكون ممّن يطبع الله على قلبه و يحرمه التقوى بتركه و ذنوبه، و يؤيّد هذا الوجه قوله في ذيل الآية:( وَ اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ ) .

فقوله:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ) معناه على ما يؤيّده السياق فاستمسك بعلمك أنّه لا إله إلّا الله، و قوله:( وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) تقدّم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سيأتي أيضاً في تفسير أوّل سورة الفتح إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ) أمر بطلب المغفرة للاُمّة من المؤمنين و المؤمنات و حاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار و لا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء و لا يقابله بالاستجابة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ ) تعليل لما في صدر الآية:( فَاعْلَمْ أَنَّهُ ) إلخ، و الظاهر أنّ المتقلّب مصدر ميميّ بمعنى الانتقال من حال إلى حال، و كذلك المثوى بمعنى الاستقرار و السكون، و المراد أنّه تعالى يعلم كلّ أحوالكم من متغيّر

٢٥٨

و ثابت و حركة و سكون فاثبتوا على توحيده و اطلبوا مغفرته، و احذروا أن يطبع على قلوبكم و يترككم و أهواءكم.

و قيل: المراد بالمتقلّب و المثوى التصرّف في الحياة الدنيا و الاستقرار في الآخرة و قيل: المتقلّب هو التقلّب من الأصلاب إلى الأرحام و المثوى السكون في الأرض.

و قيل: المتقلّب التصرّف في اليقظة و المثوى المنام، و قيل: المتقلّب التصرّف في المعايش و المكاسب و المثوى الاستقرار في المنازل، و ما قدّمناه أظهر و أعمّ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ) إلى آخر الآية، لو لا تحضيضيّة أي هلّا اُنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم بتكاليف جديدة يمتثلونها، و المراد بالسورة المحكمة المبيّنة الّتي لا تشابه فيها، و المراد بذكر القتال الأمر به.

و المراد بالّذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الإيمان من المؤمنين دون المنافقين فإنّ الآية صريحة في أنّ الّذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الّذين آمنوا، و لا يعمّ الّذين آمنوا للمنافقين إلّا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالآية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) النساء: 77.

و المغشيّ عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره و غطّاه و غشي على فلان - بالبناء للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، و نظر المغشيّ عليه من الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.

و قوله:( فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) لعلّه خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: أولى لهم ذلك أي حريّ بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، و عن الأصمعيّ أنّ قولهم:( أَوْلى‏ لَكَ ) كلمة تهديد معناه وليك و قارنك ما تكره، و الآية نظيرة قوله تعالى:( أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏ ثُمَّ أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى) القيامة: 35.

و معنى الآية: و يقول الّذين آمنوا هلّا أنزلت سورة فإذا اُنزلت سورة محكمة

٢٥٩

لا تشابه فيها و اُمروا فيها بالقتال و الجهاد رأيت الضعفاء الإيمان منهم ينظرون إليك من شدّة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.

قوله تعالى: ( طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) عزم الأمر أي جدّ و تنجّز.

و قوله:( طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ) كأنّه خبر لمبتدإ محذوف و التقدير أمرنا - أو أمرهم و شأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها و قول معروف غير منكر قالوا لنا و هو إظهار السمع و الطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله:( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ - إلى أن قال -وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) البقرة: 285.

و على هذا يتّصل قوله بعده:( فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) بما قبله اتّصالاً بيّنا، و المعنى: أنّ الأمر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم:( سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) فلو أنّهم حين عزم الأمر صدقوا الله فيما قالوا و أطاعوه فيما يأمر به و منه أمر القتال لكان خيراً لهم.

و يحتمل أن يكون قوله:( طاعَةٌ ) إلخ، خبراً لضمير عائد إلى القتال المذكور و التقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم و قول معروف فلو أنّهم حين عزم الأمر صدقوا الله في إيمانهم و أطاعوه به لكان خيراً لهم. أمّا كونه طاعة منهم فظاهر، و أمّا كونه قولاً معروفاً فلأنّ إيجاب القتال و الأمر بالدفاع عن المجتمع الصالح لإبطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل و العقلاء.

و قيل: إنّ قوله:( طاعَةٌ ) إلخ، مبتدأ الخبر و التقدير طاعة و قول معروف خير لهم و أمثل، و قيل: مبتدأ خبره( فَأَوْلى‏ لَهُمْ ) في الآية السابقة فالآية من تمام الآية السابقة، و هو قول رديّ، و أردأ منه ما قيل: إن( طاعَةٌ ) إلخ، صفة لسورة في قوله:( فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ) و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) الخطاب للّذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، و قد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ و التقريع، و الاستفهام للتقرير، و التولّي الإعراض و المراد به

٢٦٠