الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107387
تحميل: 4045


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107387 / تحميل: 4045
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإعراض عن كتاب الله و العمل بما فيه و العود إلى الشرك و رفض الدين.

و المعنى: فهل يتوقّع منكم أن أعرضتم عن كتاب الله و العمل بما فيه و منه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم بسفك الدماء و نهب الأموال و هتك الأعراض تكالباً على جيفة الدنيا أي إن تولّيتم كان المتوقّع منكم ذلك.

و قد ظهر بذلك أنّ الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة:( لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ) و لذا صدّر بالفاء.

و قيل: المراد بالتولّي التصدّي للحكم و الولاية، و المعنى: هل يتوقّع منكم إن جُعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام و أخذ الرشاء و الجور في الحكم هذا، و هو معنى بعيد عن السياق.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى‏ أَبْصارَهُمْ ) الإشارة إلى المفسدين في الأرض المقطّعين للأرحام و قد وصفهم الله بأنّه لعنهم فأصمّهم و أذهب بسمعهم فلا يسمعون القول الحقّ و أعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحقّ فإنّها لا تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب الّتي في الصدور.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها ) الاستفهام للتوبيخ و ضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، و تنكير( قُلُوبٍ ) كما قيل للدلالة على أنّ المراد قلوب هؤلاء و أمثالهم.

قال في مجمع البيان: و في هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شي‏ء من ظاهر القرآن إلّا بخبر و سمع. انتهى.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُمْ ) الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال و هو استعارة اُريد بها الترك بعد الأخذ، و التسويل تزيين ما تحرض النفس عليه و تصوير القبيح لها في صورة الحسن، و المراد بالإملاء الإمداد أو تطويل الآمال.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ

٢٦١

الْأَمْرِ وَ اللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان و إملائه و بالجملة تسلّطه عليهم، و المراد( لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ ) هم الّذين كفروا كما تقدّم في قوله:( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ) الآية: 9 من السورة.

و قوله:( سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ) مقول قولهم و وعد منهم للكفّار بالطاعة و هو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعته في جميع الاُمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسرّ إلى من يعدّه أنّه سيطيعه في بعض الأمر و فيما تيسّر له ذلك ثمّ يكتم ذلك و يقعد متربّصاً للدوائر.

و يستفاد من ذلك أنّ هؤلاء كانوا قوماً من المنافقين أسرّوا إلى الكفّار ما حكاه تعالى عنهم و وعدهم الطاعة لهم مهما تيسّر لهم ذلك، و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد:( وَ اللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ) .

و اختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل: هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر نصرناكم، و قيل: هم اليهود أو اليهود و المنافقون قالوا ذلك للمشركين. و يرد على الوجهين جميعاً أنّ موضوع الكلام في الآية المرتدّون بعد إيمانهم و اليهود لم يؤمنوا حتّى يرتدّوا.

و قيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ) الحشر: 11.

و فيه أنّ الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلّف في صدق الارتداد على كفرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبيّن رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلّهم قوم من المنافقين غيرهم.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ )

٢٦٢

متفرّع على ما قبله، و المعنى: هذا حالهم اليوم يرتدّون بعد تبيّن الهدى لهم فيفعلون ما يشاؤن فكيف حالهم إذا توفّتهم الملائكة و هم يضربون وجوههم و أدبارهم.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) الظاهر أنّ المراد بما أسخط الله أهواء النفس و تسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي و الذنوب الموبقة كما قال تعالى:( وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) ، و قال:( الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى‏ لَهُمْ ) .

و السخط و الرضا من صفاته تعالى الفعليّة و المراد بهما العقاب و الثواب.

و الإشارة في قوله:( ذلِكَ ) إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفّيهم أي سبب عقابهم أنّ أعمالهم حابطة لاتّباعهم ما أسخط الله و كراهتهم رضوانه، و إذ لا عمل لهم صالحاً يشقون بالعذاب.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ ) قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - و الضغن - بضمّها - الحقد الشديد و جمعه أضغان انتهى. و المراد بالّذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان و لعلّهم الّذين آمنوا أوّلاً على ضعف في إيمانهم ثمّ مالوا إلى النفاق و ارتدّوا بعد الإيمان، فالتدبّر الدقيق في تاريخ صدر الإسلام يوضح أنّ قوماً ممّن آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا على هذه الصفة كما أنّ قوماً منهم آخرين كانوا منافقين من أوّل يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، و على هذا فعدّهم من المؤمنين فيما تقدّم بملاحظة بادئ أمرهم.

و المعنى: بل ظنّ هؤلاء المنافقون الّذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله و لن يظهر أحقادهم للدين و أهله.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) السيماء العلامة، و المعنى: و لو نشاء لأريناك اُولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم الّتي أعلمناهم بها.

و قوله:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إمّا بإزالة الإعراب أو التصحيف و هو المذموم، و ذلك أكثر

٢٦٣

استعمالاً، و أمّا بإزالته عن التصريح و صرفه إلى تعريض و فحوى، و هو محمود عند أكثر الاُدباء من حيث البلاغة. انتهى.

فالمعنى: و لتعرفنّهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية و التعريض، و في جعل لحن القول ظرفاً للمعرفة نوع من العناية المجازيّة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ ) أي يعلم حقائقها و أنّها من أي القصود و النيّات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم و غيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين و وعيد لغيرهم.

قوله تعالى: ( وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) البلاء و الابتلاء الامتحان و الاختبار، و الآية بيان علّة كتابة القتال على المؤمنين، و هو الاختبار الإلهيّ ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاقّ التكاليف الإلهيّة.

و قوله:( وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ) كأنّ المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنّها تصدر عن العاملين فيكون إخباراً لهم يخبر بها عنهم، و اختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أنّ اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيّرة و قد تقدّم فيما تقدّم أنّ المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، و بنظر أدقّ هو علم فعليّ له تعالى خارج عن الذات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى‏ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ‏ ) المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفّار مكّة و من يلحق بهم لأنّهم الّذين صدّوا عن سبيل الله و شاقّوا الرسول و عادوه أشدّ المعاداة بعد ما تبيّن لهم الهدى.

و قوله:( لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً ) لأنّ كيد الإنسان و مكره لا يرجع إلّا إلى نفسه و لا يضرّ إلّا إيّاه و قوله:( وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ) أي مساعيهم لهدم أساس الدين و ما عملوه لإطفاء نور الله، و قيل: المراد إحباط أعمالهم و إبطالها فلا يثابون في الآخرة

٢٦٤

على شي‏ء من أعمالهم، و المعنى الأوّل أنسب للسياق لأنّ فيه تحريض المؤمنين و تشجيعهم على قتال المشركين و تطييب نفوسهم أنّهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ) إلخ عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام قال: إنّا كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ما ذا قال آنفاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أشار بالسبّابة و الوسطى.

أقول: و روي هذا اللفظ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق اُخرى عن أبي هريرة و سهل بن مسعود.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاريّ و مسلم و ابن ماجة و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما المسؤل عنها بأعلم من السائل و لكن ساُحدّثك عن أشراطها.

إذا ولدت الأمة ربّتها فذاك من أشراطها، و إذا كانت الحفاة العراة رعاء الشاء رؤس الناس فذاك من أشراطها، و إذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.

و في العلل، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام و قد سأله عن مسائل: أمّا أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

أقول: و لعلّ المراد به غير ظاهرة، و الأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة و أهل السنّة فوق حدّ الإحصاء، و قد مرّت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواية حمران عن الصادقعليه‌السلام و هما روايتان جامعتان في الباب.

٢٦٥

و في المجمع، قد صحّ الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلاً ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إنّي لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين أنت من الاستغفار؟ إنّي لأستغفر الله في اليوم مائة مرّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و مسلم و أبوداود و النسائيّ و ابن حبّان و ابن مردويه عن الأغرّ المزنيّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ليغان على قلبي، و إنّي لأستغفر الله كلّ يوم مائة مرّة.

و فيه في قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ ) الآية: أخرج البيهقيّ عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الرحم معلّقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللّهمّ صلّ من وصلني، و اقطع من قطعني.

أقول: و الروايات فيها و في صلتها و قطعها كثيرة، و قد مرّ شطر منها في تفسير أوّل سورة النساء.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) الآية أ فلا يتدبّرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحقّ: عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في التوحيد، بإسناده إلى محمّد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عزّوجلّ هل له رضىً و سخط؟ قال: نعم- و ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين و لكن غضب الله عقابه و رضاه ثوابه.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) الآية عن أبي سعيد الخدريّ قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب. قال: كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغضهم عليّ بن أبي طالب.

قال في المجمع: و روي مثل ذلك عن جابر بن عبدالله الأنصاري.

و قال: و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة.

٢٦٦

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ببغض عليّ بن أبي طالب.

و في أمالي الطوسيّ، بإسناده إلى عليّعليه‌السلام أنّه قال: قلت أربعاً أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوّء تحت لسانه فإذا تكلّم ظهر، فأنزل الله:( وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) .

٢٦٧

( سورة محمّد الآيات 33 - 38)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ( 33 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ( 34 ) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ( 35 ) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ  وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ( 36 ) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ( 37 ) هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ  وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ  وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ  وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ( 38 )

( بيان‏)

لمّا وصف حال الكفّار و أضاف إليه وصف حال الّذين في قلوبهم مرض و تثاقلهم في أمر القتال و حال من ارتدّ منهم بعد، رجع يحذّر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين و يميلوا إليهم فيتّبعوا ما أسخط الله و يكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، و في الآيات موعظة لهم بالترغيب و الترهيب و التطميع و التخويف، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) الآية و إن كانت في نفسها مستقلّة في مدلولها مطلقة في معناها حتّى استدلّ

٢٦٨

الفقهاء بقوله فيها:( وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنّها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرّضة لأمر القتال، و كذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق و خاصّة ما في ظاهر قوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، من التعليل و ما في قوله:( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) إلخ، من التفريع، و بالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدلّ على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب و شرّع من الحكم و إيجاب طاعة الرسول فيما بلّغ عن الله سبحانه، و فيما يُصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الدينيّ، و على تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به اُولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الّذين انجرّ أمر بعضهم أن ارتدّوا بعد ما تبيّن لهم الهدى.

فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرّع و أنزل من حكم القتال، و من طاعة الرسول طاعته فيما بلّغ منه و فيما أمر به منه و من مقدّماته بما له من الولاية فيه و بإبطال الأعمال التخلّف عن حكم القتال كما تخلّف المنافقون و أهل الردّة.

و قيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنّهم على الله و رسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) و قيل: إبطالها بالرياء و السمعة، و قيل: بالعجب، و قيل: بالكفر و النفاق، و قيل: المراد إبطال الصدقات بالمنّ و الأذى كما قال:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏ ) البقرة: 264، و قيل: إبطالها بالمعاصي، و قيل: بخصوص الكبائر.

و يرد على هذه الأقوال جميعاً أنّ كلّ واحد منها على تقدير صحّته و تسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغضّ من وقوعها في السياق الّذي تقدّمت الإشارة إليه، و أمّا من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلّا القتال كما مرّ.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ‏ ) ظاهر السياق أنّه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنّكم لو لم تطيعوا الله و رسوله و أبطلتم أعمالكم باتّباع ما أسخط الله و كراهة رضوانه أدّاكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر و الصدّ و لا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبداً.

٢٦٩

و المراد بالصدّ عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.

قوله تعالى: ( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) تفريع على ما تقدّم، و قوله:( فَلا تَهِنُوا ) من الوهن بمعنى الضعف و الفتور، و قوله:( وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ) معطوف على( تَهِنُوا ) واقع في حيّز النهي أي و لا تدعوا إلى السلم، و السلم- بفتح السين- الصلح، و قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) جملة حاليّة أي لا تفعلوا الصلح، و قوله:( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) جملة حاليّة أي لا تفعلوا ذلك و الحال أنّكم الغالبون، و المراد بالعلوّ الغلبة و هي استعارة مشهورة.

و قوله:( وَ اللهُ مَعَكُمْ ) معطوف على( وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ) يبيّن سبب علوّهم و يعلّله فالمراد بمعيّته تعالى لهم معيّة النصر دون المعيّة القيّوميّة الّتي يشير إليها قوله تعالى:( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) الحديد: 4.

و قوله:( وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ ) قال في المجمع: يقال: وتره يتره وتراً إذا نقصه و منه الحديث(1) فكأنّه وتر أهله و ماله، و أصله القطع و منه الترة القطع بالقتل و منه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى.

فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفّي أجرها تامّاً كاملاً، و قيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، و قيل: لن يظلمكم، و المعاني متقاربة.

و معنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله و رسوله و إبطال أعمالكم هذه السبيل و كان مؤدّياً إلى الحرمان من مغفرة الله أبداً فلا تضعفوا و لا تفتروا في أمر القتال و لا تدعوا المشركين إلى الصلح و ترك القتال و الحال أنكم أنتم الغالبون و الله ناصركم عليهم و لن ينقصكم شيئاً من اُجوركم بل يوفّيكموها تامّة كاملة.

و في الآية وعد المؤمنين بالغلبة و الظفر إن أطاعوا الله و رسوله فهي كقوله:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: 139.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ

____________________

(1) و هو ما عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: ( من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله ) عن الجوامع.

٢٧٠

وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ترغيب لهم في الآخرة و تزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها و هي أنّها لعب و لهو - و قد مرّ معنى كونها لعباً و لهواً -.

و قوله:( وَ إِنْ تُؤْمِنُوا ) إلخ، أي أن تؤمنوا و تتّقوا بطاعته و طاعة رسوله يؤتكم اُجوركم و لا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم و ظاهر السياق أنّ المراد بالأموال جميع أموالهم و يؤيّده أيضاً الآية التالية.

قوله تعالى: ( إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ ) الإحفاء الإجهاد و تحميل المشقّة، و المراد بالبخل - كما قيل - الكفّ عن الإعطاء، و الأضغان الأحقاد.

و المعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلّها كففتم عن الإعطاء لحبّكم لها و يخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.

قوله تعالى: ( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ) إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنّه قيل: إنّه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا و يشهد بذلك أنّكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - و هو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنّه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.

و قوله:( وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ ) أي يمنع الخير عن نفسه فإنّ الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم و آخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، و إليه يشير قوله بعده:( وَ اللهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) و القصران للقلب أي الله هو الغنيّ دونكم و أنتم الفقراء دون الله.

و قوله:( وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) قيل: عطف على قوله:( وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا ) و المعنى: إن تؤمنوا و تتّقوا يؤتكم اُجوركم و إن تتولّوا و تعرضوا يستبدل قوماً غيركم بأن يوفّقهم للإيمان دونكم ثمّ لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون و يتّقون و ينفقون في سبيل الله.

٢٧١

( بحث روائي‏)

في ثواب الأعمال، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: الحمدلله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: لا إله إلّا الله غرس الله له بها شجرة في الجنّة، و من قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنّة.

فقال رجل من قريش: يا رسول الله إنّ شجرنا في الجنّة لكثير. قال: نعم و لكن إيّاكم أن ترسلوا عليها ناراً فتحرقوها، و ذلك أنّ الله عزّوجلّ يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) .

و في تفسير القمّيّ:( وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) قال: هي منسوخة بقوله:( فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللهُ مَعَكُمْ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ في الأوسط و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية:( وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ) فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الّذين إن تولّينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منكب سلمان ثمّ قال: هذا و قومه، و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريّا لتناوله رجال من فارس.

أقول: و روي بطرق اُخر عن أبي هريرة: مثله. و كذا عن ابن مردويه عن جابر: مثله.

و في المجمع، و روى أبوبصير عن أبي جعفرعليه‌السلام قال:( إِنْ تَتَوَلَّوْا ) يا معشر العرب( يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ) يعني الموالي.

و فيه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قد والله أبدل خيراً منهم الموالي.

٢٧٢

( سورة الفتح مدنيّة و هي تسع و عشرون آية)

( سورة الفتح الآيات 1 - 7)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ( 1 ) لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( 2 ) وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( 3 ) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ  وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 4 ) لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ  وَكَانَ ذَٰلِكَ عِندَ اللهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( 5 ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ  عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ  وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ  وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( 6 ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 7 )

( بيان‏)

مضامين آيات السورة بفصولها المختلفة ظاهرة الانطباق على قصّة صلح الحديبيّة الواقعة في السنة السادسة من الهجرة و ما وقع حولها من الوقائع كقصّة تخلّف الأعراب و صدّ المشركين، و بيعة الشجرة على ما تفصّله الآثار و سيجي‏ء شطر منها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٢٧٣

فغرض السورة بيان ما امتنّ الله تعالى على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رزقه من الفتح المبين في هذه السفرة، و على المؤمنين ممّن معه، و مدحهم البالغ، و الوعد الجميل للّذين آمنوا منهم و عملوا الصالحات، و السورة مدنيّة.

قوله تعالى: ( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) كلام واقع موقع الامتنان، و تأكيد الجملة بإنّ و نسبة الفتح إلى نون العظمة و توصيفه بالمبين كلّ ذلك للاعتناء بشأن الفتح الّذي يمتنّ به.

و المراد بهذا الفتح على ما تؤيّده قرائن الكلام هو ما رزق الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفتح في صلح الحديبيّة.

و ذلك أنّ ما سيأتي في آيات السورة من الامتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين، و مدحهم و الرضا عن بيعتهم و وعدهم الجميل في الدنيا بمغانم عاجلة و آجلة و في الآخرة بالجنّة و ذمّ المخلّفين من الأعراب إذ استنفرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يخرجوا معه، و ذمّ المشركين في صدّهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه، و ذمّ المنافقين، و تصديقه تعالى رؤيا نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) - و كاد يكون صريحاً - كلّ ذلك معان مرتبطة بخروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة للحجّ و انتهاء ذلك إلى صلح الحديبيّة.

و أمّا كون هذا الصلح فتحاً مبيناً رزقه الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظاهر بالتدبّر في لحن آيات السورة في هذه القصّة فقد كان خروج النبيّ و المؤمنين إلى هذه البغية خروجاً على خطر عظيم لا يرجى معه رجوعهم إلى المدينة عادة كما يشير إليه قوله تعالى:( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً ) و المشركون من صناديد قريش و من يتبعهم على ما لهم من الشوكة و القوّة و العداوة مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين لم يتوسّط بينهم منذ سنين إلّا السيف و لم يجمعهم جامع غير معركة القتال كغزوة بدر و اُحد و الأحزاب، و لم يخرج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا شرذمة قليلون - ألف و أربعمائة - لا قدر لهم عند جموع المشركين و هم في عقر دارهم.

لكنّ الله سبحانه قلّب الأمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين على المشركين فرضوا بما لم

٢٧٤

يكن مطموعاً فيه متوقّعاً منهم فسألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصالحهم على ترك القتال عشر سنين، و على تأمين كلّ من القبيلين أتباع الآخر و من لحق به، و على أن يرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عامّة هذا ثمّ يقدم إلى مكّة العامّ القابل فيخلّوا له المسجد و الكعبة ثلاثة أيّام.

و هذا من أوضح الفتح رزقه الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان من أمسّ الأسباب بفتح مكّة سنة ثمان من الهجرة فقد آمن جمع كثير من المشركين في السنتين بين الصلح و فتح مكّة، و فتح في أوائل سنة سبع خيبر و ما والاه و قوي به المسلمون و اتّسع الإسلام اتّساعاً بيّناً و كثر جمعهم و انتشر صيتهم و أشغلوا بلاداً كثيرة، و خرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكّة في عشرة آلاف أو في اثني عشر ألفاً، و قد كان خرج إلى حديبيّة في ألف و أربعمائة على ما تفصّله الآثار.

و قيل: المراد بالفتح فتح مكّة فالمراد بقوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ) إنّا قضينا لك فتح مكّة، و فيه أنّ القرائن لا تساعده.

و قيل: المراد به فتح خيبر، و معناه - على تقدير نزول السورة عند مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة إلى المدينة - إنا قضينا لك فتح خيبر، و حال هذا القول أيضاً كسابقه.

و قيل: المراد به الفتح المعنويّ و هو الظفر على الأعداء بالحجج البيّنة و المعجزات الباهرة الّتي غلب بها كلمة الحقّ على الباطل و ظهر الإسلام على الدين كلّه، و هذا الوجه و إن كان في نفسه لا بأس به لكن سياق الآيات لا يلائمه.

قوله تعالى: ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) اللّام في قوله:( لِيَغْفِرَ ) للتعليل على ما هو ظاهر اللفظ فظاهره أنّ الغرض من هذا الفتح المبين هو مغفرة ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر، و من المعلوم أن لا رابطة بين الفتح و بين مغفرة الذنب و لا معنى معقولاً لتعليله بالمغفرة.

و قول بعضهم فراراً عن الإشكال: إنّ اللام المكسورة في( لِيَغْفِرَ ) لام القسم

٢٧٥

و الأصل ليغفرنّ حذفت نون التوكيد و بقي ما قبلها مفتوحاً للدلالة على المحذوف غلط لا شاهد عليه من الاستعمال.

و كذا قول بعض آخر فراراً عن الإشكال:( إنّ العلّة هو مجموع المغفرة و ما عطف عليه من إتمام النعمة و الهداية و النصر العزيز من حيث المجموع فلا ينافي عدم كون البعض أي مغفرة الذنب في نفسه علّة للفتح) كلام سخيف لا يغني طائلاً فإنّ مغفرة الذنب لا هي علّة أو جزء علّة للفتح و لا مرتبطة نوع ارتباط بما عطف عليها حتّى يوجّه دخولها في ضمن علله فلا مصحّح لذكرها وحدها و لا مع العلل و في ضمنها.

و بالجملة هذا الإشكال نعم الشاهد على أن ليس المراد بالذنب في الآية هو الذنب المعروف و هو مخالفة التكليف المولويّ، و لا المراد بالمغفرة معناها المعروف و هو ترك العقاب على المخالفة المذكورة فالذنب في اللغة على ما يستفاد من موارد استعمالاته هو العمل الّذي له تبعة سيّئة كيفما كان، و المغفرة هي الستر على الشي‏ء، و أمّا المعنيان المذكوران المتبادران من لفظي الذنب و المغفرة إلى أذهاننا اليوم أعني مخالفة الأمر المولويّ المستتبع للعقاب و ترك العقاب عليها فإنّما لزماهما بحسب عرف المتشرّعين.

و قيام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة و نهضته على الكفر و الوثنيّة فيما تقدّم على الهجرة و إدامته ذلك و ما وقع له من الحروب و المغازي مع الكفّار و المشركين فيما تأخّر عن الهجرة كان عملاً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذا تبعة سيّئة عند الكفّار و المشركين و ما كانوا ليغفروا له ذلك ما كانت لهم شوكة و مقدرة، و ما كانوا لينسوا زهوق ملّتهم و انهدام سنّتهم و طريقتهم، و لا ثارات من قتل من صناديدهم دون أن يشفوا غليل صدورهم بالانتقام منه و إمحاء اسمه و إعفاء رسمه غير أنّ الله سبحانه رزقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الفتح و هو فتح مكّة أو فتح الحديبيّة المنتهي إلى فتح مكّة فذهب بشوكتهم و أخمد نارهم فستر بذلك عليه ما كان لهم عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الذنب و آمنه منهم.

فالمراد بالذنب - و الله أعلم - التبعة السيّئة الّتي لدعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الكفّار و المشركين و هو ذنب لهم عليه كما في قول موسى لربّه:( وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) الشعراء: 14، و ما تقدّم من ذنبه هو ما كان منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة، و

٢٧٦

ما تأخّر من ذنبه هو ما كان منه بعد الهجرة، و مغفرته تعالى لذنبه هي سترة عليه بإبطال تبعته بإذهاب شوكتهم و هدم بنيتهم، و يؤيّد ذلك ما يتلوه من قوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ - إلى أن قال -وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) .

و للمفسّرين في الآية مذاهب مختلفة اُخر:

فمن ذلك: أنّ المراد بذنبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صدر عنه من المعصية، و المراد بما تقدّم منه. و ما تأخّر ما صدر عنه قبل النبوّة و بعدها، و قيل: ما صدر قبل الفتح و ما صدر بعده.

و فيه أنّه مبنيّ على جواز صدور المعصية عن الأنبياءعليهم‌السلام و هو خلاف ما يقطع به الكتاب و السنّة و العقل من عصمتهمعليهم‌السلام و قد تقدّم البحث عنه في الجزء الثاني من الكتاب و غيره.

على أنّ إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: أنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر مغفرة ما وقع من معصيته و ما لم يقع بمعنى الوعد بمغفرة ما سيقع منه إذا وقع لئلّا يرد الإشكال بأنّ مغفرة ما لم يتحقّق من المعصية لا معنى له.

و فيه مضافاً إلى ورود ما ورد على سابقه عليه أنّ مغفرة ما سيقع من المعصية قبل وقوعه تلازم ارتفاع التكاليف عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عامّة، و يدفعه نصّ كلامه تعالى في آيات كثيرة كقوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) الزمر: 2، و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) الزمر: 12، إلى غير ذلك من الآيات الّتي تأبى بسياقها التخصيص.

على أنّ من الذنوب و المعاصي مثل الشرك بالله و افتراء الكذب على الله و الاستهزاء بآيات الله و الإفساد في الأرض و هتك المحارم، و إطلاق مغفرة الذنوب يشملها و لا معنى لأن يبعث الله عبداً من عباده فيأمره أن يقيم دينه على ساق و يصلح به الأرض فإذا فتح له و نصره و أظهره على ما يريد يجيز له مخالفة ما أمره و هدم ما بناه و إفساد ما أصلحه بمغفرة كلّ مخالفة و معصية منه و العفو عن كلّ ما تقوّله و افتراه على الله، و

٢٧٧

فعله تبليغ كقوله، و قد قال تعالى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) الحاقّة: 46.

و من ذلك: قول بعضهم: إنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه مغفرة ما تقدّم من ذنب أبويه آدم و حوّاءعليهما‌السلام ببركتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المراد بمغفرة ما تأخّر منه مغفرة ذنوب اُمّته بدعائه.

و فيه ورود ما ورد على ما تقدّم عليه.

و من ذلك: أنّ الكلام في معنى التقدير و إن كان في سياق التحقيق و المعنى: ليغفر لك الله قديم ذنبك و حديثه لو كان لك ذنب.

و فيه أنّه أخذ بخلاف الظاهر من غير دليل.

و من ذلك: أنّ القول خارج مخرج التعظيم و حسن الخطاب و المعنى: غفر الله لك كما في قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) التوبة: 43.

و فيه أنّ العادة جرت في هذا النوع من الخطاب أن يورد بلفظ الدعاء. كما قيل.

و من ذلك: أنّ المراد بالذنب في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك الأولى و هو مخالفة الأوامر الإرشاديّة دون التمرّد عن امتثال التكاليف المولويّة، و الأنبياء على ما هم عليه من درجات القرب يؤاخذون على ترك ما هو أولى كما يؤاخذ غيرهم على المعاصي المعروفة كما قيل: حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

و من ذلك: ما ارتضاه جمع من أصحابنا من أنّ المراد بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر مغفرة ما تقدّم من ذنوب اُمّته و ما تأخّر منها بشفاعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لا ضير في إضافة ذنوب اُمّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه للاتّصال و السبب بينه و بين اُمّته.

و هذا الوجه و الوجه السابق عليه سليمان عن عامّة الإشكالات لكن إشكال عدم الارتباط بين الفتح و المغفرة على حاله.

و من ذلك: ما عن علم الهدى رحمه الله أنّ الذنب مصدر، و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معاً فيكون هنا مضافاً إلى المفعول، و المراد ما تقدّم من ذنبهم

٢٧٨

إليك في منعهم إيّاك من مكّة و صدّهم لك عن المسجد الحرام، و يكون معنى المغفرة على هذا الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه من المشركين أي يزيل الله تعالى ذلك عنك و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكّة فتدخلها فيما بعد.

و هذا الوجه قريب المأخذ ممّا قدّمنا من الوجه، و لا بأس به لو لم يكن فيه بعض المخالفة لظاهر الآية.

و في قوله:( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ) إلخ، بعد قوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ) التفات من التكلّم إلى الغيبة و لعلّ الوجه فيه أنّ محصّل السورة امتنانه تعالى على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين بما رزق من الفتح و إنزال السكينة و النصر و سائر ما وعدهم فيها فناسب أن يكون السياق الجاري في السورة سياق الغيبة و يذكر تعالى فيها باسمه و ينسب إليه النصر بما يعبده نبيّه و المؤمنون وحده قبال ما لا يعبده المشركون و إنّما يعبدون آلهة من دونه طمعاً في نصرهم و لا ينصرونهم.

و أمّا سياق التكلّم مع الغير المشعر بالعظمة في الآية الاُولى فلمناسبته ذكر الفتح فيها و يجري الكلام في قوله تعالى الآتي:( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ) الآية.

و قوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) قيل: أي يتمّها عليك في الدنيا بإظهارك على عدوّك و إعلاء أمرك و تمكين دينك، و في الآخرة برفع درجتك، و قيل: أي يتمّها عليك بفتح خيبر و مكّة و الطائف.

و قوله:( وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) قيل: أي و يثبّتك على صراط يؤدّي بسالكه إلى الجنّة، و قيل: أي و يهديك إلى مستقيم الصراط في تبليغ الأحكام و إجراء الحدود.

و قوله:( وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) قيل: النصر العزيز هو ما يمتنع به من كلّ جبّار عنيد و عات مريد، و قد فعل بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إذ جعل دينه أعزّ الأديان و سلطانه أعظم السلطان، و قيل: المراد بالنصر العزيز ما هو نادر الوجود قليل النظير أو عديمه و نصره تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك كما يظهر بقياس حاله في أوّل بعثته إلى حاله في آخر أيّام دعوته.

٢٧٩

و التدبّر في سياق الآيتين بالبناء على ما تقدّم من معنى قوله:( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ ) يعطي أن يكون المراد بقوله:( وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ) هو تمهيده تعالى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتمام الكلمة و تصفيته الجوّ لنصره نصراً عزيزاً بعد رفع الموانع بمغفرة ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.

و بقوله:( وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) هدايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تصفية الجوّ له إلى الطريق الموصل إلى الغاية الّذي سلكه بعد الرجوع من الحديبية من فتح خيبر و بسط سلطة الدين في أقطار الجزيرة حتّى انتهى إلى فتح مكّة و الطائف.

و بقوله:( وَ يَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً ) نصره لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذاك النصر الظاهر الباهر الّذي قلمّا يوجد - أو لا يوجد - له نظير إذ فتح له مكّة و الطائف و انبسط الإسلام في أرض الجزيرة و انقلع الشرك و ذلّ اليهود و خضع له نصارى الجزيرة و المجوس القاطنون بها، و أكمل تعالى للناس دينهم و أتمّ عليهم نعمته و رضي لهم الإسلام ديناً.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بالسكينة سكون النفس و ثباتها و اطمئنانها إلى ما آمنت به، و لذا علل إنزالها فيها بقوله:( لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ) و قد تقدّم البحث عن السكينة في ذيل قوله تعالى:( أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) البقرة: 248 في الجزء الثاني من الكتاب و ذكرنا هناك أنّها تنطبق على روح الإيمان المذكور في قوله تعالى:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: 22.

و قيل: السكينة هي الرحمة، و قيل: العقل، و قيل: الوقار و العصمة لله و لرسوله، و قيل: الميل إلى ما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قيل: ملك يسكن قلب المؤمن، و قيل: شي‏ء له رأس كرأس الهرّة، و هذه الأقاويل لا دليل على شي‏ء منها.

و المراد بإنزال السكينة في قلوبهم إيجادها فيها بعد عدمها فكثيراً مّا يعبّر في القرآن عن الخلق و الإيجاد بالإنزال كقوله:( وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ) الزمر: 6، و قوله:( وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ) الحديد: 25، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: 21. و إنّما عبّر عن الخلق

٢٨٠