الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107459
تحميل: 4050


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107459 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة الفتح الآيات 11 - 17)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا  يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ  قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا  بَلْ كَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( 11 ) بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ( 12 ) وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( 13 ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ  وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 14 ) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ  يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ  قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ  فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا  بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 15 ) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ  فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا  وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 16 ) لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ  وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( 17 )

٣٠١

( بيان‏)

فصل ثالث من الآيات متعرّض لحال الأعراب الّذين قعدوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة و لم ينفروا إذا استنفرهم و هم على ما قيل أعراب حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل فتخلّفوا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصاحبوه قائلين: إنّ محمّداً و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلاً ذريعاً، و إنّهم لن يرجعوا من هذه السفرة و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهليهم أبداً.

فأخبر الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الآيات أنّهم سيلقونك و يعتلّون في قعودهم باشتغالهم بالأموال و الأهلين و يسألونك أن تستغفر الله لهم، و كذّبهم الله فيما قالوا و ذكر أنّ السبب في قعودهم غير ذلك و هو ظنّهم السوء، و أخبر أنّهم سيسألونك اللحوق و ليس لهم ذلك غير أنّهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم الأجر الجزيل و إن تولّوا فأليم العذاب.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) إلى آخر الآية، قال في المجمع: المخلّف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، و هو مشتقّ من الخلف و ضدّه المقدّم. انتهى. و الأعراب - و على ما قالوا - الجماعة من عرب البادية و لا يطلق على عرب الحاضرة، و هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه.

و قوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ) إخبار عمّا سيأتي من قولهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في اللفظ دلالة مّا على نزول الآيات في رجوعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة إلى المدينة و لمّا يردها.

و قوله:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ) أي كان الشاغل المانع لنا عن صحابتك و الخروج معك هو أموالنا و أهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا

٣٠٢

ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلّفنا عنك، و في سؤال الاستغفار دليل على أنّهم كانوا يرون التخلّف ذنباً فتعلّقهم بأنّه شغلتهم الأموال و الأهلون ليس اعتذاراً للتبريّ عن الذنب بل ذكراً للسبب الموقع في الذنب.

و قوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) تكذيب لهم في جميع ما أخبروا به و سألوه فلا أنّ الشاغل لهم هو شغل الأموال و الأهلين، و لا أنّهم يهتمّون باستغفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إنّما سألوه ليكون ذلك جنّة يصرفون بها العتاب و التوبيخ عن أنفسهم.

و قوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ) جواب حلّيّ عمّا اعتذروا به من شغل الأموال و الأهلين محصّله أنّ الله سبحانه له الخلق و الأمر و هو المالك المدبّر لكلّ شي‏ء لا ربّ سواه فلا ضرّ و لا نفع إلّا بإرادته و مشيّته فلا يملك أحد منه تعالى شيئاً حتّى يقهره على ترك الضرّ أو فعل الخير إن أراد الضرّ أو على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، و إذا كان كذلك فانصرافكم عن الخروج مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصرةً للدين و اشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال و الأهلين لا يغني من الله شيئاً لا يدفع الضرّ إن أراد الله بكم ضرّاً و لا يعين على جلب الخير و لا يعجّله إن أراد بكم خيراً.

فقوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ ) إلخ، جواب عن تعلّلهم بالشغل على تقدير تسليم صدقهم فيه، ملخّصه أنّ تعلّقكم في دفع الضرّ و جلب الخير بظاهر الأسباب و منها تدبيركم و القعود بذلك عن مشروع دينيّ لا يغنيكم شيئاً في ضرّ أو نفع بل الأمر تابع لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى:( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا ) .

و التمسّك بالأسباب و عدم إلغائها و إن كان مشروعاً مأموراً به لكنّه فيما لا يعارض ما هو أهمّ منها كالدفاع عن الحقّ و إن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللّهمّ إلّا إذا تعقّب خطراً قطعيّاً لا أثر معه للدفاع و السعي.

و قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في قولهم:( شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا ) .

٣٠٣

قوله تعالى: ( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى‏ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) إلخ، بيان لما يشير إليه قوله:( بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) من كذبهم في اعتذارهم، و المعنى: ما تخلّفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال و الأهلين بل ظننتم أنّ الرسول و المؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبداً و أنّ الخارجين سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع و البأس الشديد و الشوكة و القدرة و لذلك تخلّفتم.

و قوله:( وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ) أي زيّن الشيطان ذلك الظنّ في قلوبكم فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظنّ المزيّن و هو أن تتخلّفوا و لا تخرجوا حذراً من أن تهلكوا و تبيدوا.

و قوله:( وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً ) البور - على ما قيل - مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك اُريد به معنى الفاعل أي كنتم قوماً فاسدين أو هالكين.

قيل: المراد بظنّ السوء ظنّهم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبداً و لا يبعد أن يكون المراد به ظنّهم أنّ الله لا ينصر رسوله و لا يظهر دينه كما مرّ في قوله في الآية السادسة من السورة:( الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ) بل هو أظهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) الجمع في هذه الآيات بين الإيمان بالله و رسوله للدلالة على أنّ الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله، و في الآية لحن تهديد.

و قوله:( فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً ) كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علّة الحكم بتعليقه على المشتقّ، و المعنى: أعتدنا و هيّأنا لهم لكفرهم سعيراً أي ناراً مسعّرة مشتعلة، و تنكير سعيراً للتهويل.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) معنى الآية ظاهر و فيها تأييد لما تقدّم، و في تذييل الملك المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب و حثّ على الاستغفار و الاسترحام.

٣٠٤

قوله تعالى: ( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ ) إلى آخر الآية إخبار عن أنّ المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح و يصيبون مغانم و يسألهم المخلّفون أن يتركوهم يتّبعونهم طمعاً في الغنيمة، و تلك غزوة خيبر اجتاز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون إليه ففتحوه و أخذوا الغنائم و خصّها الله تعالى بمن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفره الحديبيّة لم يشرك معهم غيرهم.

و المعنى: أنّكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلّفون: اتركونا نتّبعكم.

و قوله:( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ ) قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبيّة أن يخصّهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجي‏ء من قوله:( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) الآية، و يشير إليه في هذه الآية بقوله:( إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى‏ مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ) .

و قوله:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) أمر منه تعالى للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمنعهم عن اتّباعهم استناداً إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتّباع.

و قوله:( فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا ) أي سيقول المخلّفون بعد ما منعوا عمّا سألوه من الاتّباع:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) و قوله:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) جواب عن قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) لم يوجّه الخطاب إليهم أنفسهم لأنّ المدّعي أنّهم لا يفقهون الحديث و لذلك وجّه الخطاب بالجواب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال:( بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) .

و ذلك أنّ قولهم:( بَلْ تَحْسُدُونَنا ) إضراب عن قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم بأمر الله:( لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ ) فمعنى قولهم: إنّ منعنا من الاتّباع ليس عن أمر من قبل الله بل إنّما تمنعنا أنت و من معك من المؤمنين أهل الحديبيّة أن نشارككم في الغنائم و تريدون أن تختصّ بكم.

و هذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل و تمييز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعصوم الّذي لا يرد و لا يصدر في شأن إلّا بأمر من الله اللّهمّ إلّا أن يكون من بساطة العقل و بلادة

٣٠٥

الفهم فهذا القول الّذي واجهوا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم مدّعون للإيمان و الإسلام أدّل دليل على ضعف تعقّلهم و قلّة فقههم.

و من هنا يظهر أنّ المراد بعدم فقههم إلّا قليلاً بساطة عقلهم و ضعف فقههم للقول لا أنّهم يفقهون بعض القول و لا يفقهون بعضه و هو الكثير و لا أنّ بعضهم يفقه القول و جلّهم لا يفقهونه كما فسّره به بعضهم.

قوله تعالى: ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى‏ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) إلخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن، و قيل: ثقيف، و قيل: هوازن و ثقيف، و قيل: هم الروم في غزاة مؤتة و تبوك، و قيل: هم أهل الردّة قاتلهم أبوبكر بعد الرحلة، و قيل: هم الفارس، و قيل: أعراب الفارس و أكرادهم.

و ظاهر قوله:( سَتُدْعَوْنَ ) أنّهم بعض الأقوام الّذين قاتلهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح خيبر من هوازن و ثقيف و الروم في مؤتة، و قوله تعالى سابقاً:( قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا ) ناظر إلى نفي اتّباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.

و قوله:( تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ) استئناف يدلّ على التنويع أي إمّا تقاتلون أو يسلمون أي أنّهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إمّا أن يقاتلوا أو يسلموا.

و لا يصحّ أخذ( تُقاتِلُونَهُمْ ) صفة لقوم لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال قوم يقاتلونهم، و كذا لا يصحّ أخذ حالاً من نائب فاعل( سَتُدْعَوْنَ ) لأنّهم يدعون إلى قتال القوم لا أنّهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.

ثمّ تمّم سبحانه الكلام بالوعد و الوعيد على الطاعة و المعصية فقال:( فَإِنْ تُطِيعُوا ) أي بالخروج إليهم( يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا ) أي بالمعصية و عدم الخروج( كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ) و لم تخرجوا في سفره الحديبيّة( يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً ) أي في الدنيا كما هو ظاهر المقام أو في الدنيا و الآخرة معاً.

٣٠٦

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى‏ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الّذين يشقّ عليهم الجهاد برفع لازمه و هو الحرج.

ثمّ تمّم الآية أيضاً بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال:( وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً ) .

٣٠٧

( سورة الفتح الآيات 18 - 28)

لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( 18 ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا  وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 19 ) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( 20 ) وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا  وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( 21 ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( 22 ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ  وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ( 23 ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ  وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( 24 ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ  وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ  لِّيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ  لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 25 ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ

٣٠٨

عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا  وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( 26 ) لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ  لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ  فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( 27 ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ  وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ( 28 )

( بيان‏)

فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممّن كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خروجه إلى الحديبيّة فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة ثمّ يمتنّ عليهم بإنزال السكينة و إثابة فتح قريب و مغانم كثيرة يأخذونها.

و يخبرهم - و هو بشرى - أنّ المشركين لو قاتلوهم لانهزموا و ولّوا الأدبار و أنّ الرؤيا الّتي رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلّقين رؤسهم لا يخافون فإنّه تعالى أرسل رسوله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون.

قوله تعالى: ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقّي ما يلائمها و تقبله من غير دفع، و يقابله السخط، و إذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة و الجزاء الحسن دون الهيئة الطارئة و الصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.

٣٠٩

و الرضا - كما قيل - يستعمل متعدّيا إلى المفعول بنفسه و متعديا بعن و متعدّيا بالباء فإذا عدّي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، و على المعنى نحو: رضيت أمارة زيد، قال تعالى:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) المائدة: 3، و إذا عدّي بعن دخل على الذات كقوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) البينة: 8، و إذا عدّي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى:( أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

و لمّا كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة و الجزاء، و الجزاء إنّما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات و عدّي بعن كما في الآية( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) نوع عناية استدعى عدّ الرضا و هو متعلّق بالعمل متعلّقاً بالذات و هو أخذ بيعتهم الّتي هي متعلّقة الرضا ظرفاً للرضى فلم يسع إلّا أن يكون الرضا متعلّقاً بهم أنفسهم.

فقوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة.

و قد كانت البيعة يوم الحديبيّة تحت شجرة سمرة بها بايعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معه من المؤمنين و قد ظهر به أنّ الظرف في قوله:( إِذْ يُبايِعُونَكَ ) متعلّق بقوله:( لَقَدْ رَضِيَ ) و اللّام للقسم.

قوله تعالى: ( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) تفريع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ ) إلخ، و المراد بما في قلوبهم حسن النيّة و صدقها في مبايعتهم فإنّ العمل إنّما يكون مرضيّاً عندالله لا بصورته و هيئته بل بصدق النيّة و إخلاصها.

فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النيّة و إخلاصها في مبايعتهم لك.

و قيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان و صحّته و حبّ الدين و الحرص عليه، و قيل: الهمّ و الأنفة من لين الجانب للمشركين و صلحهم. و السياق لا يساعد على شي‏ء من هذين الوجهين كما لا يخفى.

فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيّتهم الصادقة المخلصة

٣١٠

في المبايعة كما ذكر، و علمه تعالى بنيّتهم الموصوفة بالصدق و الإخلاص سبب يتفرّع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبّب متفرّع على الرضا، و لازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.

قلت: كما أنّ للمسبّب تفرّعاً على السبب من حيث التحقّق و الوجود كذلك للسبب - سواء كان تامّاً أو ناقصاً - تفرّع على المسبّب من حيث الانكشاف و الظهور، و الرضا كما تقدّم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح و ما يثيب به و يجزي صاحب العمل، و الّذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم و إنزاله السكينة عليهم و إثابتهم فتحاً قريباً و مغانم كثيرة يأخذونها.

فقوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ ) إلخ، تفرّع على قوله:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) للدلالة على حقيقة هذا الرضا و الكشف عن مجموع الاُمور الّتي بتحقّقها يتحقّق معنى الرضا.

ثمّ قوله:( فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) متفرّع على قوله:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ ) و كذا ما عطف عليه من قوله:( وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) إلخ.

و المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق و كذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، و قيل: المراد بالفتح القريب فتح مكّة، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) أي غالباً فيما أراد متقناً لفعله غير مجازف فيه.

قوله تعالى: ( وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم الّتي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبيّة أعمّ من مغانم خيبر و غيرها فتكون الإشارة بقوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة و هي مغانم خيبر نزّلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.

هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، و أمّا على ما قيل: إنّ الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله:( فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ ) ظاهر لكنّ المعروف نزول السورة

٣١١

بتمامها في مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الحديبيّة بينها و بين المدينة.

و قيل: الإشارة بهذه إلى البيعة الّتي بايعوها تحت الشجرة و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ) قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد و غطفان هموا بعد مسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب و كفّ أيديهم.

و قيل: المراد مالك بن عوف و عيينة بن حصين مع بني أسد و غطفان جاؤا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، و قيل: المراد بالناس أهل مكّة و من والاها حيث لم يقاتلوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رضوا بالصلح.

و قوله:( وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) عطف على مقدّر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح و الغنائم الكثيرة المعجّلة و المؤجّلة لمصالح كذا و كذا و لتكون آية للمؤمنين أي علامة و أمارة تدلّهم على أنّهم على الحقّ و أنّ ربّهم صادق في وعده و نبيّهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق في إنبائه.

و قد اشتملت السورة على عدّة من أنباء الغيب فيها هدى للمتّقين كقوله:( سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا ) إلخ، و قوله:( سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ ) إلخ، و قوله:( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ) إلخ، و ما في هذه الآيات من وعد الفتح و المغانم، و قوله بعد:( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) إلخ، و قوله بعد:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) إلخ.

و قوله:( وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) عطف على( لِتَكُونَ ) أي و ليهديكم صراطاً مستقيماً و هو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحقّ و بسط الدين، و قيل: هو الثقة بالله و التوكّل عليه في كلّ ما تأتون و تذرون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.

قوله تعالى: ( وَ أُخْرى‏ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَ كانَ اللهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيراً ) أي و غنائم اُخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة و كان الله على كلّ شي‏ء قديراً.

فقوله:( أُخْرى) مبتدأ و( لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها ) صفته و قوله:( قَدْ أَحاطَ اللهُ

٣١٢

بِها ) خبره الثاني و خبره الأوّل محذوف، و تقدير الكلام: و ثمّت غنائم اُخرى قد أحاط الله بها.

و قيل: قوله:( أُخْرى) في موضع نصب بالعطف على قوله:( هذِهِ ) و التقدير: و عجّل لكم غنائم اُخرى، و قيل: في موضع نصب بفعل محذوف، و التقدير: و قضى غنائم اُخرى، و قيل: في موضع جرّ بتقدير ربّ و التقدير: و ربّ غنائم اُخرى و هذه وجوه لا يخلو شي‏ء منها من وهن.

و المراد بالاُخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، و قيل: المراد غنائم فارس و الروم، و قيل: المراد فتح مكّة و الموصوف محذوف، و التقدير: و قرية اُخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، و أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) خبر آخر ينبّئهم الله سبحانه ضعف الكفّار عن قتال المؤمنين بأنفسهم و أن ليس لهم وليّ يتولّى أمرهم و لا نصير ينصرهم، و يتخلّص في أنّهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم و لا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، و هذا في نفسه بشرى للمؤمنين.

قوله تعالى: ( سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) ( سُنَّةَ اللهِ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي سنّ سنّة الله أي هذه سنّة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه و المؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم و أخلصوا نيّاتهم على أعدائهم من الّذين كفروا( وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا ) كما قال تعالى:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) المجادلة: 21. و لم يصب المسلمون في شي‏ء من غزواتهم إلّا بما خالفوا الله و رسوله بعض المخالفة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏ ) إلخ، الظاهر أنّ المراد بكفّ أيدي كلّ من الطائفتين عن الاُخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبيّة و هي بطن مكّة لقربها منها و اتّصالها بها حتّى قيل إنّ بعض أراضيها من الحرم و ذلك أنّ كلّاً من الفئتين كانت أعدى عدوّ للاُخرى و قد اهتمّت قريش بجمع المجموع من أنفسهم و من الأحابيش، و بايع

٣١٣

المؤمنون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يقاتلوا، و عزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يناجز القوم، و قد أظفر الله النبيّ و الّذين آمنوا على الكفّار حيث دخلوا أرضهم و ركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهّم بينهم إلّا القتال لكنّ الله سبحانه كفّ أيدي الكفّار عن المؤمنين و أيدي المؤمنين عن الكفّار بعد إظفار المؤمنين عليهم و كان الله بما يعملون بصيراً.

قوله تعالى: ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) العكوف على أمر هو الإقامة عليه، و المعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، و منه الاعتكاف و هو الإقامة في المسجد للعبادة.

و المعنى: المشركون مشركوا مكّة هم الّذين كفروا و منعوكم عن المسجد الحرام و منعوا الهدي - الّذي سقتموه - حال كونه محبوساً من أن يبلغ محلّه أي الموضع الّذي ينحر أو يذبح فيه و هو مكّة الّتي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أنّ هدي الحجّ ينحر أو يذبح في منى، و قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الوطء الدوس، و المعرّة المكروه، و قوله:( أَنْ تَطَؤُهُمْ ) بدل اشتمال من مدخول لو لا، و جواب لو لا محذوف، و التقدير: ما كفّ أيديكم عنهم.

و المعنى: و لو لا أن تدوسوا رجالاً مؤمنين و نساء مؤمنات بمكّة و أنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم و إهلاكهم مكروه لما كفّ الله أيديكم عنهم.

و قوله:( لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ ) اللّام متعلّق بمحذوف، و التقدير: و لكن كفّ أيديكم عنهم ليدخل في رحمته اُولئك المؤمنين و المؤمنات غير المتميّزين بسلامتهم من القتل و إيّاكم بحفظكم من أصابه المعرّة.

و قيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفّار بعد الصلح.

٣١٤

و قوله:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) التزيّل التفرّق و ضمير( تَزَيَّلُوا ) لجميع من تقدّم ذكره من المؤمنين و الكفّار من أهل مكّة أي لو تفرّقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفّار لعذّبنا الّذين كفروا من أهل مكّة عذاباً أليما لكن لم نعذّبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.

قوله تعالى: ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) إلى آخر الآية قال الراغب: و عبّر عن القوّة الغضبيّة إذا ثارت و كثرت بالحميّة فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى:( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) و عن ذلك أستعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.

و الظرف في قوله:( إِذْ جَعَلَ ) متعلّق بقوله سابقاً:( وَ صَدُّوكُمْ ) و قيل: متعلق بقوله:( لَعَذَّبْنَا ) و قيل: متعلّق باُذكر المقدّر، و الجعل بمعنى الإلقاء و( الَّذِينَ كَفَرُوا ) فاعله و الحميّة مفعوله و( حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ) بيان للحميّة و الجاهليّة وصف موضوع في موضع الموصوف و التقدير الملّة الجاهليّة.

و لو كان( جَعَلَ ) بمعنى صيّر كان مفعوله الثاني مقدّراً و التقدير إذ جعل الّذين كفروا الحميّة راسخة في قلوبهم و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) للدلالة على سبب الحكم.

و معنى الآية: هم الّذين كفروا و صدّوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحميّة حميّة الملّة الجاهليّة.

و قوله:( فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) تفريع على قوله:( جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و يفيد نوعاً من المقابلة كأنّه قيل: جعلوا في قلوبهم الحميّة فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين فاطمأنّت قلوبهم و لم يستخفّهم الطيش و أظهروا السكينة و الوقار من غير أن يستفزّهم الجهالة.

و قوله:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) أي جعلها معهم لا تنفكّ عنهم، و هي على ما اختاره جمهور المفسّرين كلمة التوحيد و قيل: المراد الثبات على العهد و الوفاء به و قيل: المراد بها السكينة و قيل: قولهم: بلى في عالم الذرّ، و هو أسخف الأقوال.

٣١٥

و لا يبعد أن يراد بها روح الإيمان الّتي تأمر بالتقوى كما قال تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: 22، و قد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله:( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: 171.

و قوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أمّا كونهم أحقّ بها فلتمام استعدادهم لتلقّي هذه العطيّة الإلهيّة بما عملوا من الصالحات فهم أحقّ بها من غيرهم، و أمّا كونهم أهلها فلأنّهم مختصّون بها لا توجد في غيرهم و أهل الشي‏ء خاصّته.

و قيل: المراد و كانوا أحقّ بالسكينة و أهلها، و قيل: إنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً و الأصل و كانوا أهلها و أحقّ بها و هو كما ترى.

و قوله:( وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) تذييل لقوله:( وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها ) أو لجميع ما تقدّم، و المعنى على الوجهين ظاهر.

قوله تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) إلخ، قيل: إنّ صدق و كذب مخفّفين يتعدّيان إلى مفعولين يقال: صدقت زيداً الحديث و كذبته الحديث، و إلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث و كذبته فيه، و مثقّلين يتعدّيان إلى مفعول واحد يقال: صدّقته في حديثه و كذّبته في حديثه.

و اللّام في( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ ) للقسم، و قوله:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) جواب القسم.

و قوله:( بِالْحَقِّ ) حال من الرؤيا و الباء فيه للملابسة، و التعليق بالمشيّة في قوله:( إِنْ شاءَ اللهُ ) لتعليم العباد و المعنى: اُقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا الّتي أراه لتدخلنّ أيّها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شرّ المشركين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون المشركين.

و قوله:( فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( ذلِكَ ) إشارة إلى ما تقدّم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، و المراد بقوله:( مِنْ دُونِ ذلِكَ ) أقرب من ذلك و المعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه

٣١٦

و لم تعلموه، و لذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحاً قريباً ليتيسّر لكم الدخول كذلك.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبيّة فهو الّذي سوّى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين و يسّر لهم ذلك و لو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلّا بالقتال و سفك الدماء و لا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبيّة و ما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.

و من هنا تعرف أن قول بعضهم: إنّ المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، و أمّا القول بأنّه فتح مكّة فأبعد.

و سياق الآية يعطي أنّ المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دخولهم المسجد آمنين محلّقين رؤسهم و مقصّرين، أنّهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلمّا خرجوا قاصدين مكّة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبيّة و صدّوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.

و محصّله: أنّ الرؤيا حقّة أراها الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد صدق تعالى في ذلك، و ستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون، لكنّه تعالى اُخره و قدّم عليه هذا الفتح و هو صلح الحديبيّة ليتيسّر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنّه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلّقين رؤسكم و مقصّرين لا تخافون إلّا بهذا الطريق.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) إلخ، تقدّم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، و قوله:( وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) أي شاهداً على صدق نبوّته و الوعد أنّ دينه سيظهر على الدين كلّه أو على أنّ رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.

٣١٧

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور في قوله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى:( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) فبايع لعثمان إحدى يديه على الاُخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت و نحن ههنا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو مكث كذا و كذا سنة- ما طاف حتّى أطوف.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و مسلم و ابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبايع الناس و أنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه و نحن أربع عشرة مائة و لم نبايعه على الموت- و لكن بايعناه على أن لا نفرّ.

أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مرويّ في روايات اُخرى، و في بعض الروايات ألف و ثلاثمائة و في بعضها إلى ألف و ثمان مائة، و كذا كون البيعة على أن لا يفرّوا و في بعضها على الموت.

و فيه، أخرج أحمد عن جابر و مسلم عن اُمّ بشر عنه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشجرة.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) قال: إنّما اُنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.

أقول: و الرواية تخصّص ما تقدّم عليها و يدلّ عليه قوله تعالى فيما تقدّم:( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى‏ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) فاشترط في الأجر - و يلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء و عدم النكث، و قد أورد القميّ هذا المعنى في تفسيره و كأنّه رواية.

٣١٨

و في الدرّ المنثور، أيضاً: في قوله تعالى:( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) الآية: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن جرير و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن سهل بن حنيف أنّه قال يوم صفّين: اتّهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبيّة نرجئ الصلح الّذي كان بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين المشركين و لو نرى قتالاً لقاتلنا.

فجاء عمر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا؟ و نرجع و لمّا يحكم الله بيننا و بينهم؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّي رسول الله و لن يضيّعني الله أبداً.

فرجع متغيّظاً فلم يصبر حتّى جاء أبابكر فقال: يا أبابكر أ لسنا على الحقّ و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنّة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطّاب إنّه رسول الله و لن يضيّعه الله أبداً فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر فأقرأه إيّاها فقال: يا رسول الله أ و فتح هو؟ قال: نعم.

و في كمال الدين، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذّبنا الّذين كفروا.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في روايات اُخر.

و بإسناده عن جميل قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله تعالى:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: هو الإيمان.

و في الدرّ المنثور، أخرج الترمذيّ و عبدالله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و الدارقطنيّ في الإفراد و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ ) قال: لا إله إلّا الله.

٣١٩

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً بطرق اُخرى عن عليّ و سلمة بن الأكوع و أبي هريرة، و روي أيضاً من طرق الشيعة كما في العلل، بإسناده عن الحسن بن عبدالله عن آبائه عن جدّه الحسن بن عليّعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حديث يفسّر فيه( سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر ) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و قوله: لا إله إلّا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلّا بها، و هي كلمة التقوى- يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.

و في المجمع، في قصّة فتح خيبر قال: و لمّا قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة من الحديبيّة مكث بها عشرين ليلة ثمّ خرج منها غادياً إلى خيبر.

ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلميّ عن أبيه عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر حتّى إذا كنا قريباً منها و أشرفنا عليها قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قفوا فوقف الناس فقال اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن و ربّ الشياطين و ما أضللن إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها. أقدموا بسم الله.

و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: أ لا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلاً شاعراً فجعل يقول:

لا همّ لو لا أنت ما حجينا

و لا تصدّقنا و لا صلّينا

فاغفر فداء لك ما اقتنينا

و ثبّت الأقدام إن لاقينا

و أنزلن سكينة علينا

إنّا إذا صيح بنا أتينا

و بالصياح عولوا علينا

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال عمر و هو على جمل له وجيب(1) : يا رسول الله لو لا أمتعتنا به، و ذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) وجب البعير أعيى، و وجب برك و ضرب بنفسه الأرض.

٣٢٠