الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107398
تحميل: 4047


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107398 / تحميل: 4047
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإيمان و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان.

و المراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوباً عندهم و بتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلّقون به و يعرضون عمّا يلهيهم عنه.

و قوله:( وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ ) عطف على( حَبَّبَ ) و تكريه الكفر و ما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفّر عنها نفوسهم، و الفرق بين الفسوق و العصيان - على ما قيل - أنّ الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، و العصيان نفس المعصية و إن شئت فقل: جميع المعاصي، و قيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة و العصيان سائر المعاصي.

و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) بيان أنّ حبّ الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان هو سبب الرشد الّذي يطلبه الإنسان بفطرته و يتنفّر عن الغيّ الّذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان و يتجنّبوا الكفر و الفسوق و العصيان حتّى يرشدوا و يتّبعوا الرسول و لا يتّبعوا أهواءهم.

و لمّا كان حبّ الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و نحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرّح به الآية السابقة، و قد وصف بذلك جماعتهم تحفّظاً على وحدتهم و تشويقاً لمن لم يتّصف بذلك منهم غير السياق و التفت عن خطابهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال:( أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ) و الإشارة إلى من اتّصف بحبّ الإيمان و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان، ليكون مدحاً للمتّصفين بذلك و تشويقاً لغيرهم.

و اعلم أنّ في قوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) إشعاراً بأنّ قوماً من المؤمنين كانوا مصرّين على قبول نبأ الفاسق الّذي تشير إليه الآية السابقة، و هو الوليد بن عقبة أرسله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلمّا رآهم هابهم و رجع إلى المدينة و أخبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم ارتدّوا فعزم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قتالهم فنزلت الآية فانصرف و في القوم بعض من يصرّ على أن يغزوهم. و سيجي‏ء القصّة في البحث الروائي التالي.

٣٤١

قوله تعالى: ( فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ نِعْمَةً وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) تعليل لما تقدّم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان و تزيينه و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان أي إنّ ذلك منه تعالى مجرّد عطيّة و نعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلاً جزافيّاً فإنّه تعالى عليهم بمورد عطيّته و نعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافاً كما قال:( وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏ وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً ) الفتح: 26.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) إلى آخر الآية الاقتتال و التقاتل بمعنى واحد كالاستباق و التسابق، و رجوع ضمير الجمع في( اقْتَتَلُوا ) إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإنّ كلّاً من الطائفتين جماعة و مجموعهما جماعة كما أنّ رجوع ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.

و نقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنّهم أوّلاً في حال القتال مختلطون فلذا جمع أوّلاً ضميرهم، و في حال الصلح متميّزون متفارقون فلذا ثنّى الضمير.

و قوله:( فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللهِ ) البغي الظلم و التعدّي بغير حقّ، و الفي‏ء الرجوع، و المراد بأمر الله ما أمر به الله، و المعنى: فإن تعدّت إحدى الطائفتين على الاُخرى بغير حقّ فقاتلوا الطائفة المتعدّية حتّى ترجع إلى ما أمر به الله و تنقاد لحكمه.

و قوله:( فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) أي فإن رجعت الطائفة المتعدّية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحاً بوضع السلاح و ترك القتال فحسب بل إصلاحاً متلبّساً بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدّت به المتعدّية من دم أو عرض أو مال أو أيّ حقّ آخر ضيّعته.

و قوله:( وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) الإقساط إعطاء كلّ ما يستحقّه من القسط و السهم و هو العدل فعطف قوله:( وَ أَقْسِطُوا ) على قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ ) من عطف المطلق على المقيّد للتأكيد، و قوله:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) تعليل يفيد تأكيداً على تأكيد كأنّه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل و أعدلوا دائماً و في

٣٤٢

جميع الاُمور لأنّ الله يحبّ العادلين لعدالتهم.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) استئناف مؤكّد لما تقدّم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، و قصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الاُخوّة مقدّمة ممهّدة لتعليل ما في قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) من حكم الصلح فيفيد أنّ الطائفتين المتقاتلتين لوجود الاُخوّة بينهما يجب أن يستقرّ بينهما الصلح، و المصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.

و قوله:( فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) و لم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام و ألطفه حيث يفيد أنّ المتقاتلتين بينهما اُخوّة فمن الواجب أن يستقرّ بينهما الصلح و سائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) موعظة للمتقاتلتين و المصلحين جميعاً.

( كلام في معنى الاُخوّة)

و اعلم أنّ قوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) جعل تشريعيّ لنسبة الاُخوّة بين المؤمنين لها آثار شرعيّة و حقوق مجعولة، و قد تقدّم في بعض المباحث المتقدّمة أنّ من الاُبوّة و البنوّة و الاُخوّة و سائر أنواع القرابة ما هو اعتباريّ مجعول يعتبره الشرائع و القوانين لترتيب آثار خاصّة عليه كالوراثة و الإنفاق و حرمة الازدواج و غير ذلك، و منها ما هو طبيعيّ بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.

و الاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربّما يجتمعان كالأخوين المتولّدين بين الرجل و المرأة عن نكاح مشروع، و ربّما يختلفان كالولد الطبيعيّ المتولّد من زنا فإنّه ليس ولداً في الإسلام و لا يلحق بمولده و إن كان ولداً طبيعيّاً، و كالداعيّ الّذي هو ولد في بعض القوانين و ليس بولد طبيعيّ.

و اعتبار المعنى الاعتباريّ و إن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأساً لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبّر أمر المجتمع و يحكم بينهم و فيهم كما يحكم الرأس على البدن.

٣٤٣

لكن لمّا كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعاً للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبّت عليه جميعاً و إن اقتضت بعضها كان المترتّب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أنّ القراءة مثلاً جزء من الصلاة و الجزء الحقيقيّ ينتفي بانتفائه الكلّ مطلقاً لكنّ القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهواً و إنّما تبطل الصلاة إذا تركت عمداً.

و لذلك أيضاً ربّما اختلفت آثار معنى اعتباريّ بحسب الموارد المختلفة كجزئيّة الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته و نقيصته عمداً و سهواً بخلاف جزئيّة القراءة كما تقدّم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتّبة على معنى اعتباريّ بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتّب الآثار الاعتباريّة إلّا على موضوع اعتباريّ كالإنسان يتصرّف في ماله لكن لا بما أنّه إنسان بل بما أنّه مالك و الأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنّه أخ طبيعيّ يشارك الميّت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك و لا يرث أخاه الطبيعيّ - بل يرثه لأنّه أخ في الشريعة الإسلاميّة.

و الاُخوّة من هذا القبيل فمنها اُخوّة طبيعيّة لا أثر لها في الشرائع و القوانين و هي اشتراك إنسانين في أب أو اُمّ أو فيهما، و منها اُخوّة اعتباريّة لها آثار اعتباريّة و هي في الإسلام اُخوّة نسبيّة لها آثار في النكاح و الإرث، و اُخوّة رضاعيّة لها آثار في النكاح دون الإرث، و اُخوّة دينيّة لها آثار اجتماعيّة و لا أثر لها في النكاح و الإرث، و سيجي‏ء قول الصادقعليه‌السلام : المؤمن أخو المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه، و لا يظلمه و لا يغشه، و لا يعده عدة فيخلفه.

و قد خفي هذا المعنى على بعض المفسّرين فأخذ إطلاق الإخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقاً مجازيّاً من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأنّ كلّا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، و الإيمان منشأ البقاء الأبديّ في الجنان، و قيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للبقاء الأبديّ.

٣٤٤

( بحث روائي‏)

في المجمع: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) : روى زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: ما سلّت السيوف، و لا اُقيمت الصفوف في صلاة و لا زحوف، و لا جهر بأذان، و لا أنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) حتّى أسلم أبناء قبيلة الأوس و الخزرج.

أقول: و عن ابن عبّاس أيضاً: ما نزل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا بالمدينة، و لا( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) إلّا بمكّة الخبر. و توقّف بعضهم في عموم ذيله، و اعلم أنّ هناك روايات في الدرّ المنثور، و تفسير القمّيّ، في سبب نزول قوله:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و أبويعلى و البغويّ في معجم الصحابة، و ابن المنذر و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، عن أنس قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ - إلى قوله -وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) و كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الّذي كنت أرفع صوتي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حبط عملي أنا من أهل النار، و جلس في بيته حزينا.

ففقده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لك؟ قال: أنا الّذي أرفع صوتي فوق صوت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أجهر له بالقول حبط عملي و أنا من أهل النار، فأتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنّة. فلمّا كان يوم اليمامة قتل.

أقول: قوله:( فلمّا كان يوم اليمامة قتل) من كلام الراوي يريد أنّه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرواية مرويّة بطرق مختلفة اُخرى باختلاف يسير.

و فيه، أخرج البخاريّ في الأدب، و ابن أبي الدنيا و البيهقيّ عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشّي من خارج بمسوح الشعر و أظنّ عرض الباب

٣٤٥

من باب الحجرة إلى باب البيت نحواً من ستّة أو سبعة أذرع و أخرر(1) البيت الداخل عشرة أذرع، و أظنّ سمكه بين الثمان و السبع.

أقول: و روي مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراسانيّ قال: أدركت حجر أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. الحديث.

و فيه، أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن منده و ابن مردويه بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعيّ قال: قدمت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه و أقررت به، و دعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام و أداء الزكاة فمن استجاب لي و ترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبّان كذا و كذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة.

فلمّا جمع الحارث الزكاة ممّن استجاب له و بلغ الإبّان الّذي أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظنّ الحارث أنّه قد حدث فيه سخطه من الله و رسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إلىّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة و ليس من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلف و لا أرى حبس رسوله إلّا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده ممّا جمع من الزكاة فلمّا أن سار الوليد حتّى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إنّ الحارث منعني الزكاة و أراد قتلي فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البعث إلى الحارث.

فأقبل الحارث بأصحابه حتّى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث‏ فقالوا: هذا الحارث فلمّا غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: و لم؟ قالوا: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنّك منعته الزكاة و أردت قتله. قال: لا و الّذي بعث محمّداً بالحقّ ما رأيته و لا أتاني.

فلمّا دخل الحارث على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: منعت الزكاة و أردت قتل رسولي؟ قال: لا و الّذي بعثك بالحقّ ما رأيته و لا رآني و ما أقبلت إلّا حين احتبس عليّ رسول

____________________

(1) كذا في الأصل و لعلّه جمع خرير بالخاء المعجمة و هو المكان المطمئن.

٣٤٦

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله و رسوله فنزل( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا - إلى قوله -حَكِيمٌ ) .

أقول: نزول الآية في قصّة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنّة و الشيعة و قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أنّ قوله عزّوجلّ:( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) نزلت في الوليد بن عقبة.

و في المحاسن، بإسناده عن زياد الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام في حديث له قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلّا الحبّ؟ أ لا ترى إلى قول الله:( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ؟ أ و لا ترون إلى قول الله لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) قال:( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) و قال: الحبّ هو الدين و الدين هو الحبّ.

أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادقعليه‌السلام ما في معناه و لفظه: و هل الإيمان إلّا الحبّ و البغض؟ ثمّ تلا هذه الآية:( حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ ) إلى آخر الآية.

و في المجمع، و قيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عبّاس و ابن زيد و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام ..

أقول: و في هذا المعنى بعض روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن عقبة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المؤمن أخو المؤمن عينه و دليله لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشّه و لا يعده عدة فيخلفه.

أقول: و في معناه روايات اُخر عنهعليه‌السلام و في بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه.

و في المحاسن، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: المؤمن أخو المؤمن لأبيه و اُمّه و ذلك أنّ الله تبارك و تعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، و أجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه و اُمّه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن

٣٤٧

مردويه و البيهقيّ في سننه عن أنس قال: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أتيت عبدالله بن اُبيّ فانطلق و ركب حماراً و انطلق المسلمون يمشون و هي أرض سبخة، فلمّا انطلق إليهم قال: إليك عنّي فوالله لقد آذاني ريح حمارك.

فقال رجل من الأنصار: و الله لحمار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكلّ منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد و الأيدي و النعال فأنزل فيهم( وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) .

أقول: و في بعض الروايات كما في المجمع، أنّ الّذي قال ذلك لعبد الله بن اُبيّ بن سلول هو عبدالله بن رواحة و أنّ التضارب وقع بين رهطه من الأوس و رهط عبدالله بن اُبيّ من الخزرج، و في انطباق الآية بموضوعها و حكمها على هذه الروايات خفاء.

٣٤٨

( سورة الحجرات الآيات 11 - 18)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ  وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ  بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ  وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 11 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ  وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا  أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ  وَاتَّقُوا اللهَ  إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ( 12 ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا  إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ  إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( 13 ) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا  قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ  وَإِن تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ  أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 15 ) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 16 ) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا  قُل لَّا تَمُنُّوا

٣٤٩

عَلَيَّ إِسْلَامَكُم  بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 17 ) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 18 )

( بيان‏)

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى‏ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى‏ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) إلخ، السخريّة الاستهزاء و هو ذكر ما يستحقر و يستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليداً بحيث يضحك منه بالطبع، و القوم الجماعة و هو في الأصل الرجال دون النساء لقيامهم بالاُمور المهمة دونهنّ، و هذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ) و( عَسى‏ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) حكمة النهي.

و المستفاد من السياق أنّ الملاك رجاء كون المسخور منه خيراً عند الله من الساخر سواء كان الساخر رجلاً أو امرأة و كذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخريّة القوم من القوم و سخريّة النساء من النساء لمكان الغلبة عادة.

و قوله:( وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، و تعليق اللمز بقوله:( أَنْفُسَكُمْ ) للإشارة إلى أنّهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله:( أَنْفُسَكُمْ ) إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله:( وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ ) النبز بالتحريك هو اللقب، و يختصّ - على ما قيل - بما يدلّ على ذمّ فالتنابز بالألقاب ذكر بعضهم بعضاً بلقب السوء ممّا يكرهه كالفاسق و السفيه و نحو ذلك.

٣٥٠

و المراد بالاسم في( بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ ) الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء و الجود، و على هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإنّ الحريّ بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير و لا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان كذا و يا من اُمّه كانت كذا.

و يمكن أن يكون المراد بالاسم السمة و العلامة و المعنى: بئست السمة أن يوسم الإنسان بعد الإيمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كأن يقال لمن اقترف معصية ثمّ تاب: يا صاحب المعصية الفلانيّة، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الإنسان نفسه بالفسوق بذكر الناس بما يسوؤهم من الألقاب، و على أيّ معنى كان ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي.

و قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) أي و من لم يتب عن هذه المعاصي الّتي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها و لم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فاُولئك ظالمون حقّاً فإنّهم لا يرون بها بأساً و قد عدّها الله معاصي و نهى عنها.

و في الجملة أعني قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ ) إلخ، إشعار بأنّ هناك من كان يقترف هذه المعاصي من المؤمنين.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) إلى آخر الآية المراد بالظنّ المأمور بالاجتناب عنه ظنّ السوء فإنّ ظنّ الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى:( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ) النور: 12.

و المراد بالاجتناب عن الظنّ الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كأن يظنّ بأخيه المؤمن سوء فيرميه به و يذكره لغيره و يرتّب عليه سائر آثاره، و أمّا نفس الظنّ بما هو نوع من الإدراك النفسانيّ فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلا يتعلّق به النهي اللّهمّ إلّا إذا كان بعض مقدّماته اختياريّاً.

و على هذا فكون بعض الظنّ إثماً من حيث كون ما يترتّب عليه من الأثر إثماً كإهانة المظنون به و قذفه و غير ذلك من الآثار السيّئة المحرّمة، و المراد بكثير

٣٥١

من الظنّ - و قد جي‏ء به نكرة ليدلّ على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظنّ - هو بعض الظنّ الّذي هو إثم فهو كثير في نفسه و بعض من مطلق الظنّ، و لو اُريد بكثير من الظنّ أعمّ من ذلك كأن يراد ما يعلم أنّ فيه إثماً و ما لا يعلم منه ذلك كان الأمر بالاجتناب عنه أمراً احتياطيّاً توقّياً من الوقوع في الإثم.

و قوله:( وَ لا تَجَسَّسُوا ) التجسّس بالجيم تتبّع ما استتر من اُمور الناس للاطّلاع عليها، و مثله التحسّس بالحاء المهملة إلّا أنّ التجسّس بالجيم يستعمل في الشرّ و التحسّس بالحاء يستعمل في الخير، و لذا قيل: معنى الآية لا تتّبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الاُمور الّتي سترها أهلها.

و قوله:( وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، و قد فسّرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة و ضيقاً في الفقه، و يؤل إلى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوؤه لو ذكر به و لذا لم يعدّوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.

و الغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحداً بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجوّ من الاجتماع و هو أن يخالط كلّ صاحبه و يمازجه في أمن و سلامة بأن يعرفه إنساناً عدلاً سويّاً يأنس به و لا يكرهه و لا يستقذره، و أمّا إذا عرفه بما يكرهه و يعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك و ضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة الّتي تأكل جثمان من ابتلي بها عضواً بعد عضو حتّى تنتهي إلى بطلان الحياة.

و الإنسان إنّما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهويّة اجتماعيّة أعني بمنزلة اجتماعيّة صالحة لأن يخالطه و يمازج فيفيد و يستفاد منه، و غيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة و تبطل منه هذه الهويّة، و فيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح و لا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتّى يأتي على آخره فيتبدّل الصلاح فساداً و يذهب الاُنس و الأمن و الاعتماد و ينقلب الدواء داء.

فهي في الحقيقة إبطال هويّة اجتماعيّة على حين غفلة من صاحبها و من حيث

٣٥٢

لا يشعر به، و لو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرّز منه و توقّي انهتاك ستره و هو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الإنسان و نواقصه ليتمّ به ما أراده من طريق الفطرة من تألّف أفراد الإنسان و تجمّعهم و تعاونهم و تعاضدهم، و أين الإنسان و النزاهة من كلّ عيب.

و إلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) و قد أتي بالاستفهام الإنكاريّ و نسب الحبّ المنفيّ إلى أحدهم و لم يقل: بعضكم و نحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعاباً و شمولاً و لذا أكّده بقوله بعد:( فَكَرِهْتُمُوهُ ) فنسب الكراهة إلى الجميع و لم يقل: فكرهه.

و بالجملة محصّله أنّ اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتا، و إنّما كان لحم أخيه لأنّه من أفراد المجتمع الإسلاميّ المؤلّف من المؤمنين و إنّما المؤمنون إخوة، و إنّما كان ميتا لأنّه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.

و في قوله:( فَكَرِهْتُمُوهُ ) و لم يقل: فتكرهونه إشعار بأنّ الكراهة أمر ثابت محقّق منكم في أن تأكلوا إنساناً هو أخوكم و هو ميت فكما أنّ هذا مكروه لكم فليكن مكروهاً لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنّه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا.

و اعلم أنّ ما في قوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ ) إلخ، من التعليل جار في التجسّس أيضاً كالغيبة، و إنّما الفرق أنّ الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصّل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، و التجسّس هو التوصّل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتّبع آثاره و لذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله:( أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ) إلخ، تعليلاً لكلّ من الجملتين أعني( وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ) .

و اعلم أنّ في الكلام إشعاراً أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، و من القرينة عليه قوله في التعليل:( لَحْمَ أَخِيهِ ) فالاُخوّة إنّما هي بين المؤمنين.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) ظاهره أنّه عطف على قوله:( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ) إن كان المراد بالتقوى هو التجنّب عن هذه الذنوب الّتي كانوا

٣٥٣

يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله:( إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أنّ الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.

و إن كان هو التجنّب عنها و التورّع فيها و إن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله:( إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) أنّ الله كثير الرجوع إلى عباده المتّقين بالهداية و التوفيق و الحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.

و ذلك أنّ التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى:( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: 118، و توبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة و قبول التوبة كما في قوله:( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ) المائدة: 39.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) إلخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون و هو على ما في المجمع الحيّ العظيم من الناس كربيعة و مضر، و القبائل جمع قبيلة و هي دون الشعب كتميم من مضر.

و قيل: الشعوب دون القبائل و سمّيت بها لتشعّبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حيّ واحد، و جمعه شعوب، قال تعالى:( شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) و الشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف و تفرّق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الّذي تفرّق أخذت في وهمك واحداً يتفرّق، و إذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، و شعبت إذا فرقت. انتهى.

و قيل: الشعوب العجم و القبائل العرب، و الظاهر أنّ مآله إلى أحد القولين السابقين، و سيجي‏ء تمام الكلام فيه(1) .

ذكر المفسّرون أنّ الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، و عليه فالمراد بقوله:( مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى) آدم و حوّاء، و المعنى: أنّا خلقناكم من أب و اُمّ تشتركون جميعاً فيهما من غير فرق بين الأبيض و الأسود و العربيّ و العجميّ و جعلناكم شعوباً و قبائل

____________________

(1) في البحث الروائي الآتي.

٣٥٤

مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضاً و يتمّ بذلك أمراً اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الإنسانيّة فهذا هو الغرض من جعل الشعوب و القبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتباهوا بالآباء و الاُمّهات.

و قيل: المراد بالذكر و الاُنثى مطلق الرجل و المرأة، و الآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض و الأسود و العرب و العجم و الغنيّ و الفقير و المولى و العبد و الرجل و المرأة، و المعنى: يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من رجل و امرأة فكلّ واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، و الاختلاف الحاصل بالشعوب و القبائل - و هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهيّ - ليس لكرامة و فضيلة و إنّما هو لأن تتعارفوا فيتمّ بذلك اجتماعكم.

و اعترض عليه بأنّ الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب و ذمّه كما يدلّ عليه قوله:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) و ترتّب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر، و يمكن أن يناقش فيه أنّ الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي و بناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي و كما يمكن نفي التفاخر بالأنساب و ذمّه استناداً إلى أنّ الأنساب تنتهي إلى آدم و حوّاء و الناس جميعاً مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه و ذمّه استناداً إلى أنّ كلّ إنسان مولود من إنسانين و الناس جميعاً مشتركون في ذلك.

و الحقّ أنّ قوله:( وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ ) إن كان ظاهراً في ذمّ التفاخر بالأنساب فأوّل الوجهين أوجه، و إلّا فالثاني لكونه أعمّ و أشمل.

و قوله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) استئناف مبيّن لما فيه الكرامة عندالله سبحانه، و ذلك أنّه نبّههم في صدر الآية على أنّ الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضاً لا اختلاف بينهم و لا فضل لأحدهم على غيره، و أنّ الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب و القبائل إنّما هو للتوصّل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتمّ ائتلاف و لا تعاون و تعاضد من غير تعرّف فهذا هو غرض الخلقة

٣٥٥

من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتفاضلوا بأمثال البياض و السواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضاً و يستخدم إنسان إنساناً و يستعلي قوم على قوم فينجرّ إلى ظهور الفساد في البرّ و البحر و هلاك الحرث و النسل فينقلب الدواء داء.

ثمّ نبّه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله:( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) على ما فيه الكرامة عنده، و هي حقيقة الكرامة.

و ذلك أنّ الإنسان مجبول على طلب ما يتميّز به من غيره و يختصّ به من بين أقرانه من شرف و كرامة، و عامّة الناس لتعلّقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف و الكرامة في مزايا الحياة المادّيّة من مال و جمال و نسب و حسب و غير ذلك فيبذلون جلّ جهدهم في طلبها و اقتنائها ليتفاخروا بها و يستعلوا على غيرهم.

و هذه مزايا وهميّة لا تجلب لهم شيئاً من الشرف و الكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة و الشقوة، و الشرف الحقيقيّ هو الّذي يؤدّي الإنسان إلى سعادته الحقيقيّة و هو الحياة الطيّبة الأبديّة في جوار ربّ العزّة و هذا الشرف و الكرامة هو بتقوى الله سبحانه و هي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، و تتبعها سعادة الدنيا قال تعالى:( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ) الأنفال: 67، و قال:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ ) البقرة: 197، و إذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عندالله أتقاهم كما قال تعالى.

و هذه البغية و الغاية الّتي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها و لا تدافع بين المتلبّسين بها على خلاف الغايات و الكرامات الّتي يتّخذها الناس بحسب أوهامهم غايات يتوجّهون إليها و يتباهون بها كالغنى و الرئاسة و الجمال و انتشار الصيت و كذا الأنساب و غيرها.

و قوله:( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) فيه تأكيد لمضمون الآية و تلويح إلى أنّ الّذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقيّة اختارها الله بعلمه و خبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة و شرفاً لأنفسهم فإنّها وهميّة باطلة فإنّها جميعاً من زينة الحياة الدنيا قال تعالى:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ

٣٥٦

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت: 64.

و في الآية دلالة على أنّ من الواجب على الناس أن يتّبعوا في غايات الحياة أمر ربّهم و يختاروا ما يختاره و يهدي إليه و قد اختار لهم التقوى كما أنّ من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.

قوله تعالى: ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) إلخ الآية و ما يليها إلى آخر السورة متعرّضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منّهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيمانهم، و سياق نقل قولهم و أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم بقوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) يدلّ على أنّ المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم، و يؤيّده قوله:( وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) التوبة: 99.

و قوله:( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ) أي قالوا لك آمنّا و ادّعوا الإيمان قل لم تؤمنوا و كذّبهم في دعواهم، و قوله:( وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ) استدراك ممّا يدلّ عليه سابق الكلام، و التقدير: فلا تقولوا آمنّا و لكن قولوا: أسلمنا.

و قوله:( وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، و لذلك لم يكن تكراراً لنفي الإيمان المدلول عليه بقوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) .

و قد نفي في الآية الإيمان عنهم و أوضحه بأنّه لم يدخل في قلوبهم بعد و أثبت لهم الإسلام، و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام بأنّ الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، و الإسلام أمر قائم باللسان و الجوارح فإنّه الاستسلام و الخضوع لساناً بالشهادة على التوحيد و النبوّة و عملاً بالمتابعة العمليّة ظاهراً سواء قارن الاعتقاد بحقّيّة ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن، و بظاهر الشهادتين تحقن الدماء و عليه تجري المناكح و المواريث.

و قوله:( وَ إِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً ) اللّيت النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، و المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، و طاعة الله استجابة ما دعي إليه من اعتقاد و عمل، و طاعة رسوله تصديقه

٣٥٧

و اتّباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من اُمور الاُمّة، و المراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.

و المعنى: و إن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتّباع دينه اعتقاداً، و تطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من اُجور أعمالكم شيئاً، و قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه و رسوله.

قوله تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) تعريف تفصيليّ للمؤمنين بعد ما عرّفوا إجمالاً بأنّهم الّذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله:( لَمْ تُؤْمِنُوا ) و( لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) .

فقوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ ) فيه قصر المؤمنين في الّذين آمنوا بالله و رسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفاً جامعاً مانعاً فمن اتّصف بها مؤمن حقّاً كما أنّ من فقد شيئاً منها ليس بمؤمن حقّاً.

و الإيمان بالله و رسوله عقد القلب على توحيده تعالى و حقّيّة ما أرسل به رسوله و على صحّة الرسالة و اتّباع الرسول فيما يأمر به.

و قوله:( ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ) أي لم يشكّوا في حقّيّة ما آمنوا به و كان إيمانهم ثابتاً مستقرّاً لا يزلزله شكّ، و التعبير بثمّ دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حيناً بعد حين كأنّه طريّ جديد دائماً فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأوّلىّ و لو قيل: و لم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أوّلاً مقارناً لعدم الارتياب مع السكوت عمّا بعد.

و قوله:( وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) المجاهدة بذل الجهد و الطاقة و سبيل الله دينه، و المراد بالمجاهدة بالأموال و الأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة و تبلغه الطاقة في التكاليف الماليّة كالزكاة و غير ذلك من الإنفاقات الواجبة، و التكاليف البدنيّة كالصلاة و الصوم و الحجّ و غير ذلك.

و المعنى: و يجدّون بإتيان التكاليف الماليّة و البدنيّة حال كونهم أو حال كون

٣٥٨

عملهم في دين الله و سبيله.

و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَ اللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنّا و لازمه دعوى الصدق في قولهم و الإصرار على ذلك، و قيل: لمّا نزلت الآية السابقة حلفت الأعراب أنّهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنّا، فنزل:( قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ ) الآية، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي يمنّون عليك بأن أسلموا و قد أخطأوا في منّهم هذا من وجهين أحدهما أنّ حقيقة النعمة الّتي فيها المنّ هو الإيمان الّذي هو مفتاح سعادة الدنيا و الآخرة دون الإسلام الّذي له فوائد صوريّة من حقن الدماء و جواز المناكح و المواريث، و ثانيهما أن ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر الدين إلّا أنّه رسول مأمور بالتبليغ فلا منّ عليه لأحد ممّن أسلم.

فلو كان هناك منّ لكان لهم على الله سبحانه لأنّ الدين دينه لكن لا منّ لأحد على الله لأنّ المنتفع بالدين في الدنيا و الآخرة هم المؤمنون دون الله الغنيّ على الإطلاق فالمنّ لله عليهم أن هداهم له.

و قد بدّل ثانياً الإسلام من الإيمان للإشارة إلى أنّ المنّ إنّما هو بالإيمان دون الإسلام الّذي إنّما ينفعهم في الظاهر فقط.

فقد تضمّن قوله:( قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ ) إلخ، الإشارة إلى خطاهم من الجهتين جميعاً:

إحداهما: خطأهم من جهة توجيه المنّ إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو رسول ليس له من الأمر شي‏ء، و إليه الإشارة بقوله:( لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ ) .

و ثانيهما: أنّ المنّ - لو كان هناك منّ - إنّما هو بالإيمان دون الإسلام، و إليه

٣٥٩

الإشارة بتبديل الإسلام من الإيمان.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) ختم للسورة و تأكيد يعلّل و يؤكّد به جميع ما تقدّم في السورة من النواهي و الأوامر و ما بيّن فيها من الحقائق و ما أخبر فيها عن إيمان قوم و عدم إيمان آخرين فالآية تعلّل بمضمونها جميع ذلك.

و المراد بغيب السماوات و الأرض ما فيها من الغيب أو الأعمّ ممّا فيهما و من الخارج منهما.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال و سلمان و عمّار و خبّاب و صهيب و ابن فهيرة و سالم مولى أبي حذيفة.

و في المجمع: نزل قوله:( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ) في ثابت بن قيس بن شماس و كان في اُذنه وقر و كان إذا دخل المسجد تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوماً و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم فجعل يتخطّى رقاب الناس و يقول: تفسّحوا تفسّحوا حتّى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلساً فاجلس فجلس خلفه مغضباً فلمّا انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر اُمّاً له كان يعيّر بها في الجاهليّة فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الآية. عن ابن عبّاس.

و فيه: و قوله:( وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) نزل في نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سخرن من اُمّ سلمة. عن أنس. و ذلك أنّها ربطت حقويها بسبيبة و هي ثوب أبيض و سدلت طرفيها خلفها فكانت تجرّه فقالت عائشة لحفصة: انظري ما ذا تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب

٣٦٠