الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107443
تحميل: 4050


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107443 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) حجّة ثالثة على وجوب اتّخاذه تعالى وليّاً دون غيره، و محصّله أنّ من الواجب في باب الولاية أن يكون للوليّ قدرة على ما يتولّاه من شؤن من يتولّاه و اُموره، و الله سبحانه على كلّ شي‏ء قدير و لا قدرة لغيره إلّا مقدار ما أقدره الله عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره فهو الوليّ لا وليّ غيره تعالى و تقدّس.

و قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) حجّة رابعة على كونه تعالى وليّاً لا وليّ غيره، و حكم الحاكم بين المختلفين هو أحكامه و تثبيته الحقّ المضطرب بينهما بسبب تخالفهما بالإثبات و النفي، و الاختلاف ربّما كان في عقيدة كالاختلاف في أنّ الإله واحد أو كثير، و ربّما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في اُمور المعيشة و شؤن الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقاً و إن اختلفاً مفهوماً.

ثمّ الحكم و القضاء إنّما يتمّ إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك و الولاية و إن كان بتمليك المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعاً إلى ثالث فاتّخذاه حكماً ليحكم بينهما و يتسلّماً ما يحكم به فقد ملّكاه الحكم بما يرى و أعطياه من نفسهما القبول و التسليم فهو وليّهما في ذلك.

و الله سبحانه هو المالك لكلّ شي‏ء لا مالك سواه لكون كلّ شي‏ء بوجوده و آثار وجوده قائماً به تعالى فله الحكم و القضاء بالحقّ قال تعالى:( كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) القصص: 88، و قال:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ ) المائدة: 2 و قال:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ) آل عمران: 60.

و حكمه تعالى إمّا تكوينيّ و هو تحقيقه و تثبيته المسبّبات قبال الأسباب المجتمعة عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسمّيه سبباً تامّاً على غيره قال تعالى حاكياً عن يعقوبعليه‌السلام :( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) يوسف: 67 و إمّا تشريعيّ كالتكاليف الموضوعة في الدين الإلهيّ الراجعة إلى الاعتقاد و العمل قال تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) يوسف: 40.

٢١

و هناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعدّ من كلّ من القسمين السابقين بوجه و هو حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه و هو إعلانه و إظهاره الحقّ يوم القيامة لأهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان و إيقان فيسعد به و بآثاره من كان مع الحقّ و يشقى بالاستكبار عليه و تبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى:( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) البقرة: 113.

ثمّ إنّ اختلاف الناس في عقائدهم و أعمالهم اختلاف تشريعيّ لا يرفعه إلّا الأحكام و القوانين التشريعيّة و لو لا الاختلاف لم يجود قانون كما يشير إليه قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: 213، و قد تبيّن أنّ الحكم التشريعيّ لله سبحانه فهو الوليّ في ذلك فيجب أن يتّخذ وحده وليّاً فيعبد و يدان بما أنزله من الدين.

و هذا معنى قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) و محصّل الحجّة أنّ الوليّ الّذي يعبد و يدان له يجب أن يكون رافعاً لاختلافات من يتولّونه مصلحاً لما فسد من شؤن مجتمعهم سائقاً لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم و هو الدين، و الحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الوليّ الّذي يجب أن يتّخذ وليّاً لا غير.

و للقوم في تفسير الآية أعني قوله:( وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ) تفاسير اُخر فقيل: هو حكاية قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين أي ما خالفكم فيه الكفّار من أهل الكتاب و المشركين فاختلفتم أنتم و هم فيه من أمر من اُمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إلى الله و هو إثابة المحقّين فيه من المؤمنين و معاقبة المبطلين ذكره صاحب الكشّاف.

و قيل معناه ما اختلفتم فيه و تنازعتم في شي‏ء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ

٢٢

فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَ الرَّسُولِ ) .

و قيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية و اشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى محكم كتاب الله و ظاهر سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل: المعنى و ما اختلفتم فيه من العلوم ممّا لا يتّصل بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) . و الآية على جميع هذه الأقوال من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا بنحو الحكاية و إما بتقدير( قُل ) في أوّلها.

و أنت بالتدبّر في سياق الآيات ثمّ الرجوع إلى ما تقدّم لا ترتاب في سقوط هذه الأقوال.

قوله تعالى: ( ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) كلام محكيّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الإشارة بذلكم إلى من اُقيمت الحجج في الآيتين على وجوب اتّخاذه وليّاً و هو الله سبحانه، و لازم ولايته ربوبيّته.

لمّا اُقيمت الحجج على أنّه تعالى هو الوليّ لا وليّ غيره اُمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلام أنّه الله و أنّه اتّخذه وليّاً بالاعتراف له بالربوبيّة الّتي هي ملك التدبير ثمّ عقّب ذلك بالتصريح بما للاتّخاذ المذكور من الآثار و هو قوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

و ذلك أنّ ولاية الربوبيّة تتعلّق بنظام التكوين بتدبير الاُمور و تنظيم الأسباب و المسبّبات بحيث يتعيّن بها للمخلوق المدبّر كالإنسان مثلاً ما قدّر له من الوجود و البقاء، و تتعلّق بنظام التشريع و هو تدبير أعمال الإنسان بجعل قوانين و أحكام يراعيها الإنسان بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته.

و لازم اتّخاذه تعالى ربّاً وليّاً من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن الأسباب الظاهريّة و الركون إليه من حيث إنّه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كلّ سبب و هذا هو التوكّل، و من جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كلّ واقعة يستقبله الإنسان في مسير حياته و هذا هو الإنابة فقوله:( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ ) أي أرجع في جميع اُموري، تصريح بإرجاع الأمر إليه تكويناً و تشريعاً.

٢٣

قوله تعالى: ( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية لمّا صرّح بأنّه تعالى هو ربّه لقيام الحجج على أنّه هو الوليّ وحده عقّب ذلك بإقامة الحجّة في هذه الآية و الّتي بعدها على ربوبيّته تعالى وحده.

و محصّل الحجّة: أنّه تعالى موجد الأشياء و فاطرها بالإخراج من كتم العدم إلى الوجود و قد جعلكم أزواجاً فكثّركم بذلك و جعل من الأنعام أزواجاً فكثّرها بذلك لتنتفعوا بها، و هذا خلق و تدبير، و هو سميع لما يسأله خلقه من الحوائج فيقضي لكلّ ما يستحقّه من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الأعمال فيجازيهم بما عملوا و هو الّذي يملك مفاتيح خزائن السماوات و الأرض الّتي ادّخر فيها ما لها من خواصّ وجودها و آثاره ممّا يتألّف منها بظهورها النظام المشهود و هو الّذي يرزق المرزوقين فيوسّع في رزقهم و يضيّق عن علم منه بذلك. و هذا كلّه من التدبير فهو الربّ المدبّر للاُمور.

فقوله:( فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) أي موجدها من كتم العدم على سبيل الإبداع.

و قوله:( جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) و ذلك بخلق الذكر و الاُنثى اللّذين يتمّ بتزاوجهما أمر التوالد و التناسل و تكثّر الأفراد( وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً ) أي و جعل من الأنعام أزواجاً( يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ) أي يكثّركم في هذا الجعل، و الخطاب في( يَذْرَؤُكُمْ ) للإنسان و الأنعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشريّ.

و قوله:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ ) أي ليس مثله شي‏ء، فالكاف زائدة للتأكيد و له نظائر كثيرة في كلام العرب.

و قوله:( وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير لأعمال خلقه قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: 29، و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: 34، و قال:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الحديد: 4.

قوله تعالى: ( لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية المقاليد المفاتيح و في إثبات المقاليد للسماوات و الأرض دلالة على أنّها خزائن لما يظهر في الكون من

٢٤

الحوادث و الآثار الوجوديّة.

و قوله:( يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ ) بسط الرزق توسعته و قدره تضييقه و الرزق كلّ ما يمدّ به البقاء و يرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره.

و تذييل الكلام بقوله:( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) للإشارة إلى أنّ الرزق و اختلافه في موارده بالبسط و القدر ليس على سبيل المجازفة جهلاً بل عن علم منه تعالى بكلّ شي‏ء فرزق كلّ مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله و الرزق بحسب حاله و ما يحفّ بهما من الأوضاع و الأحوال الخارجيّة، و هذا هو الحكمة فهو يبسط و يقدر بالحكمة.

٢٥

( سورة الشورى الآيات 13 - 16)

شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ  اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ( 13 ) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ  وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ  وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ( 14 ) فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ  وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ  وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ  وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللهُ مِن كِتَابٍ  وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ  اللهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ  لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ  لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ  اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا  وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 15 ) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 16 )

( بيان‏)

فصل ثالث من الآيات يعرّف الوحي الإلهيّ بأثره الّذي هو مفاده و ما احتوى عليه من المضمون و هو الدين الإلهيّ الواحد الّذي يجب على الناس أن يتّخذوه سنّة في الحياة و طريقة مسلوكة إلى سعادتهم.

و قد بيّن فيها بحسب مناسبة المقام أنّ الشريعة المحمّديّة أجمع الشرائع المنزلة و أنّ الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماويّ و إنّما هي من بغي الناس بعد علمهم، و في الآيات فوائد اُخر اُشير إليها في خلالها.

٢٦

قوله تعالى: ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) يقال: شرع الطريق شرعاً أي سوّاه طريقاً واضحاً بيّناً. قال الراغب: الوصيّة التقدّم إلى الغير بما يعمل مقترناً بوعظ من قولهم: أرض واصية متّصلة النبات و يقال: أوصاه و وصّاه انتهى. و في معناه إشعار بالأهميّة فما كلّ أمر يوصى به و إنّما يختار لذلك ما يهتمّ به الموصي و يعتني بشأنه.

فقوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) أي بيّن و أوضح لكم من الدين و هو سنّة الحياة ما قدّم و عهد إلى نوح مهتمّاً به، و اللّائح من السياق أنّ الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اُمّته، و أنّ المراد ممّا وصّى به نوحاً شريعة نوحعليه‌السلام .

و قوله:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) ظاهر المقابلة بينه و بين نوحعليهما‌السلام أنّ المراد بما أوحي إليه ما اختصّت به شريعته من المعارف و الأحكام، و إنّما عبّر عن ذلك بالإيحاء دون التوصية لأنّ التوصية كما تقدّم إنّما تتعلّق من الاُمور بما يهتمّ به و يعتنى بشأنه خاصّة و هو أهمّ العقائد و الأعمال، و شريعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جامعة لكلّ ما جلّ و دقّ محتوية على الأهمّ و غيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهمّ المناسب لحال اُممهم و الموافق لمبلغ استعدادهم.

و الالتفات في قوله:( وَ الَّذِي أَوْحَيْنا ) من الغيبة إلى التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة فإنّ العظماء يتكلّمون عنهم و عن خدمهم و أتباعهم.

و قوله:( وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) عطف على قوله:( ما وَصَّى بِهِ ) و المراد به ما شرع لكلّ واحد منهمعليهم‌السلام .

و الترتيب الّذي بينهمعليهم‌السلام في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و إنّما قدّم ذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتشريف و التفضيل كما في قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) الأحزاب: 7 و إنّما قدّم نوحاً و بدأ به للدلالة على قدم هذه الشريعة و طول عهدها.

٢٧

و يستفاد من الآية اُمور:

أحدها: أنّ السياق بما أنّه يفيد الامتنان و خاصّة بالنظر إلى ذيل الآية و الآية التالية يعطي أنّ الشريعة المحمّديّة جامعة للشرائع الماضية و لا ينافيه قوله تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) المائدة: 48 لأنّ كون الشريعة شريعة خاصّة لا ينافي جامعيّتها.

الثاني: أنّ الشرائع الإلهيّة المنتسبة إلى الوحي إنّما هي شريعة نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّدعليهم‌السلام إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحقّ الجامعيّة المذكورة.

و لازم ذلك أوّلاً: أن لا شريعة قبل نوحعليه‌السلام بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الإنسانيّ الرافعة للاختلافات الاجتماعيّة و قد تقدّم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) الآية البقرة: 213.

و ثانياً: أنّ الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم و بعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى و هكذا.

الثالث: أنّ الأنبياء أصحاب الشرائع و اُولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء و يدلّ على تقدّمهم أيضاً قوله:( وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) الأحزاب: 7.

و قوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا ) أن تفسيريّة، و إقامة الدين حفظه بالاتّباع و العمل و اللّام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، و عدم التفرّق فيه حفظ وحدته بالاتّفاق عليه و عدم الاختلاف فيه.

لمّا كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعاً باتّباعه و العمل به من غير اختلاف فسّره بالأمر بإقامة الدين و عدم التفرّق فيه فكان محصّله أنّ عليهم جميعاً إقامة الدين جميعاً و عدم التفرّق و التشتّت فيه بإقامة بعض و ترك بعض، و إقامته الإيمان بجميع ما أنزل الله و العمل بما يجب عليه العمل به.

فجميع الشرائع الّتي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته و عدم التفرّق

٢٨

فيه فأمّا الأحكام السماويّة المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الإقامة فيها ظاهر و أمّا الأحكام المشرّعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة الحكم المنسوخ أنّه حكم ذو أمد خاصّ بطائفة من الناس في زمن خاصّ و معنى نسخه تبيّن انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى:( وَ اللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) الأحزاب: 4 فالحكم المنسوخ حقّ دائماً غير أنّه خاصّ بطائفة خاصّة في زمن خاصّ يجب عليهم أن يؤمنوا به و يعملوا به و يجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل و هذا معنى إقامته و عدم التفرّق فيه.

فتبيّن أنّ الأمر بإقامة الدين و عدم التفرّق فيه في قوله:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) مطلق شامل لجميع الناس في جميع الأزمان.

و بذلك يظهر فساد قول جمع إنّ الأمر بالإقامة و عدم التفرّق إنّما يشمل الأحكام المشتركة بين الشرائع دون المختصّة فإنّها أحكام متفاوتة مختلفة باختلاف الاُمم من حيث أحوالها و مصالحها.

و ذلك أنّه لا موجب لتقييد إطلاق قوله:( أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) و لو كان كما يقولون كان الأمر بالإقامة مختصّاً باُصول الدين الثلاثة: التوحيد و النبوّة و المعاد، و أمّا غيرها من الأحكام الفرعيّة فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه في جميع خصوصيّاته بين جميع الشرائع و هذا ممّا يأباه قطعاً سياق قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ ) إلخ، و مثل قوله:( وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ) المؤمنون: 53 و قوله:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) آل عمران: 19.

و قوله:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) المراد بقوله:( ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ) دين التوحيد الّذي كان يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد به الآية التالية، و المراد بكبره على المشركين تحرّجهم من قبوله.

و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) الاجتباء هو الجمع

٢٩

و الاجتلاب، و مقتضى اتّساق الضمائر أن يكون ضمير( إِلَيْهِ ) الثاني و الثالث راجعاً إلى ما يرجع إليه الأوّل و المعنى الله يجمع و يجتلب إلى دين التوحيد - و هو ما تدعوهم إليه - من يشاء من عباده و يهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله:( كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ) في معنى قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) الحجّ: 78.

و قيل: الضميران لله تعالى، و لا بأس به لكن ما تقدّم هو الأنسب، و على أيّ حال قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان المشركين المستكبرين للإيمان نظير قوله تعالى:( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: 38.

و قيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الإيمان به و هو الرسالة أي إنّ رسالتك كبرت عليهم، و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي ) إلخ في معنى قوله:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الأنعام: 124 و هو خلاف الظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآية ضمير( تَفَرَّقُوا ) للناس المفهوم من السياق، و البغي الظلم أو الحسد، و تقييده بقوله:( بَيْنَهُمْ ) للدلالة على تداوله، و المعنى و ما تفرّق الناس الّذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم و تركهم الاتّفاق إلّا حال كون تفرقهم آخذاً - أو ناشئاً - من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحقّ ظلماً أو حسداً تداولوه بينهم.

و هذا هو الاختلاف في الدين المؤدّي إلى الانشعابات و التحزّبات الّذي ينسبه الله سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، و أمّا الاختلاف المؤدّي إلى نزول الشريعة و هو الاختلاف في شؤن الحياة و التفرّق في اُمور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف طبائع الناس في مقاصدهم و هو الذريعة إلى نزول الوحي و تشريع الشرع لرفعه كما يشير إليه قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: 213 كما تقدّم في تفسير الآية.

و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) المراد

٣٠

بالكلمة مثل قوله: حين إهباط آدمعليه‌السلام إلى الأرض:( وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ ) البقرة: 36.

و المعنى: و لو لا أنّ الله قضى فيهم الاستقرار و التمتّع في الأرض إلى أجل سمّاه و عيّنه لقضي بينهم إثر تفرّقهم في دينه و انحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا الذنب العظيم.

و قول القائل: إنّ الله قد قضى و أهلك كما يقصّه في قصص نوح و هود و صالحعليهم‌السلام و قد قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ) يونس: 47.

مدفوع بأنّ ما قصّه تعالى من القضاء و الإهلاك إنّما هو في اُمم الأنبياء في زمانهم من المكذّبين بين الرادّين عليهم و ما نحن فيه من قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) الآية في اُممهم بعدهم و هو واضح من السياق.

و قوله:( وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) ضمير( مِنْ بَعْدِهِمْ ) لاُولئك الّذين تفرّقوا من بعد علم بغياً بينهم و هم الأسلاف، و الّذين اُورثوا الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الآية أنّ البادئين بالاختلاف المؤسّسين للتفرقة كانوا على علم من الحقّ و إنّما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، و أخلافهم الّذين اُورثوا الكتاب من بعدهم في شكّ مريب - موقع في الريب - منه.

و ما أوردناه في معنى الآية هو الّذي يعطيه السياق، و لهم في تفسيرها أقاويل كثيرة لا جدوى في إسقاطها فليرجع في الوقوف عليها إلى كتبهم.

قوله تعالى: ( فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) إلى آخر الآية. تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الأنبياء و اُممهم ثمّ انقسام اُممهم إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغياً، و إلى أخلاف شاكّين مرتابين فيما اُورثوه من الكتاب أي فلأجل أنّه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع و لأجل ما ذكر من تفرّق بعضهم بغياً و ارتياب آخرين فاستقم كما اُمرت و لا تتّبع أهواءهم.

و اللّام في قوله:( فَلِذلِكَ ) للتعليل، و قيل: اللّام بمعنى إلى أي إلى ما شرع

٣١

لكم من الدين فادع و استقم كما اُمرت، و الاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج المستقيم، و قوله:( وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) كالمفسّر له.

و قوله:( وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) تسوية بين الكتب السماويّة من حيث تصديقها و الإيمان بها و هي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع.

و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) قيل: اللّام زائدة للتأكيد نظير قوله:( وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) الأنعام: 71، و المعنى: و اُمرت أن أعدل بينكم أي اُسوّي بينكم فلا اُقدّم قويّاً على ضعيف و لا غنيّاً على فقير و لا كبيراً على صغير، و لا اُفضّل أبيض على أسود و لا عربيّاً على عجميّ و لا هاشميّاً أو قرشيّاً على غيره فالدعوة متوجّهة إلى الجميع، و النّاس قبال الشرع الإلهي سواء.

فقوله:( آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ ) تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها، و قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) تسوية بين الناس من حيث الدعوة و توجّه ما جاء به من الشرع.

و قيل: اللّام في( لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) للتعليل، و المعنى: و اُمرت بما اُمرت لأجل أن أعدل بينكم، و كذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، و قيل: العدل في القضاء بينكم، و قيل غير ذلك، و هذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.

و قوله:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ) إلخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب و الشرائع في الإيمان بها و بين الناس في دعوتهم و شمول الأحكام لهم، و لذا جي‏ء في الكلام بالفصل من غير عطف.

فقوله:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ) يشير إلى أنّ ربّ الكلّ هو الله الواحد تعالى فليس لهم أرباب كثيرون حتّى يلحق كلّ بربّه و يتفاضلوا بالأرباب و يقتصر كلّ منهم بالإيمان بشريعة ربّه بل الله هو ربّ الجميع و هم جميعاً عباده المملوكون له المدبّرون بأمره و الشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده فلا موجب للإيمان ببعضها دون بعض كما يؤمن اليهود بشريعة موسى دون من بعده و كذا النصارى بشريعة عيسى دون محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل الواجب الإيمان بكلّ كتاب نازل من عنده لأنّها جميعاً من عنده.

٣٢

و قوله:( لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) يشير إلى أنّ الأعمال و إن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيّئة و من حيث الجزاء ثواباً أو عقاباً إلّا أنّها لا تتعدّى عاملها فلكلّ امرئ ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر و لا يتضرّر بعمل غيره فليس له أن يقدّم امرأ للانتفاع بعمله أو يؤخّر امرأ للتضرّر بعمله نعم في الأعمال تفاضل تختلف به درجات العاملين لكنّ ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبيّ فمن دونه - الّذين هم جميعاً عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئاً، و هذا هو الّذي ذكره تعالى في محاورة نوحعليه‌السلام قومه:( قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى‏ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ) الشعراء: 113، و كذا قوله يخاطب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: 52.

و قوله:( لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ ) لعلّ المراد أنّه لا حجّة تدلّ على تقدّم بعض على بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدّمه عليه.

و يمكن أن يكون نفي الحجّة كناية عن نفي لازمها و هو الخصومة أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات لأنّ ربّنا واحد و نحن في أنّنا جميعاً عباده واحد و لكلّ نفس ما عملت فلا حجّة في البين أي لا خصومة حتّى تتّخذ لها حجّة.

و من هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج و لا خصومة لأنّ الحقّ قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة و لا للمخالفة محمل سوى المكابرة و العناد انتهى. إذ الكلام مسوق لبيان ما اُمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه و في اُمّته من سنّة التسوية لا لإثبات شي‏ء من اُصول المعارف حتّى تحمل الحجّة على ما حملها عليه.

و قوله:( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) المراد بضمير التكلّم فيه مجموع المتكلّم و المخاطب في الجمل السابقة، و المراد بالجمع جمعه تعالى إيّاهم يوم القيامة للحساب و الجزاء على ما قيل.

٣٣

و غير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبيّة فهو ربّ الجميع و الجميع عباده فيكون قوله:( اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ) تأكيداً لقوله السابق:( اللهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ )

و توطئة و تمهيداً لقوله:( وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) و يكون مفاد الجملتين أنّ الله هو مبدؤنا لأنّه ربّنا جميعاً و إليه منتهانا لأنّه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلّا هو عزّ اسمه.

و كان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: الله ربّي و ربّكم لي عملي و لكم أعمالكم لا حجّة بيني و بينكم على محاذاة قوله:( آمَنْتُ ) ( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ ) لكن عدل عن المتكلّم وحده إلى المتكلّم مع الغير لدلالة قوله السابق:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) إلخ، و قوله:( اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) أنّ هناك قوماً يؤمنون بما آمن به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يلبّون دعوته و يتّبعون شريعته.

فالمراد بالمتكلّم مع الغير في( رَبُّنا ) و( لَنا أَعْمالُنا ) و( بَيْنَنا ) هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون به، و بالمخاطبين في قوله:( وَ رَبُّكُمْ ) و( أَعْمالُكُمْ ) و( بَيْنَكُمُ ) سائر الناس من أهل الكتاب و المشركين، و الآية على وزان قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: 64.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ) الحجّة هي القول الّذي يقصد به إثبات شي‏ء أو إبطاله من الحجّ بمعنى القصد، و الدحض البطلان و الزوال.

و المعنى: - على ما قيل - و الّذين يحاجّون في الله أي يحتجّون على نفي ربوبيّته أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب النّاس له و دخلوا في دينه لظهور الحجّة و وضوح المحجّة حجّتهم باطلة زائلة عند ربّهم و عليهم غضب منه تعالى و لهم عذاب شديد.

و الظاهر أنّ المراد بالاستجابة له ما هو حقّ الاستجابة و هو التلقّي بالقبول عن علم لا يداخله شكّ تضطرّ إليه الفطرة الإنسانيّة السليمة فإنّ الدين بما فيه من المعارف فطريّ تصدّقه و تستجيب له الفطرة الحيّة قال تعالى:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ

٣٤

يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ اللهُ ) الأنعام: 36، و قال:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8، و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) الروم: 30.

و محصّل الآية: على هذا أنّ الّذين يحاجّون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجّتهم باطلة زائلة عند ربّهم و عليهم غضب منه و لهم عذاب شديد لا يقادر قدره.

و يؤيّد هذا الوجه بعض التأييد سياق الآيات السابقة حيث تذكر أنّ الله شرع ديناً و وصّى به أنبياءه و اجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجّة في أنّ لله ديناً يستعبد به عباده داحضة و من الممكن حينئذ أن يكون قوله:( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) في مقام التعليل و حجّة مدحضة لحجّتهم فتدبّر فيه.

و قيل: ضمير( اللهِ ) للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المستجيب أهل الكتاب، و استجابتهم له اعترافهم بورود أوصافه و نعوته في كتبهم و المراد أنّ محاجّتهم في الله بعد اعترافهم له بما اعترفوا حجّتهم باطلة عند ربّهم.

و قيل: الضمير لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، و دعاءه على أهل مكّة فابتلاهم بالقحط و السنة، و دعاءه على المستضعفين حتّى خلّصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاته، و المعنيان بعيدان من السياق.

( بحث روائي‏)

في روح المعاني في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) الآية: عن ابن عبّاس و مجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همّت بردّ الناس عن الإسلام و إضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم و نبيّنا قبل نبيّكم فديننا أفضل من دينكم و في رواية بدل( فديننا) إلخ فنحن أولى بالله منكم.

٣٥

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لمّا نزلت( إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَ الْفَتْحُ ) قال المشركون بمكّة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت:( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) الآية.

أقول: مضمون الآية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجّة في القصّة، و كذا الخبر السابق لا يفي بتوجيه قوله:( مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ ) .

٣٦

( سورة الشورى الآيات 17 - 26)

اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ  وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ( 17 ) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا  وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ  أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ( 18 ) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ  وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 19 ) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ  وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ( 20 ) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ  وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ  وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 21 ) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ  وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ  لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ( 22 ) ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ  قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ  وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ( 23 ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا  فَإِن يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ  وَيَمْحُ اللهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ  إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 24 ) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( 25 ) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ  وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ( 26 )

٣٧

( بيان‏)

فصل رابع من الآيات يعرّف الوحي الإلهيّ بأنّ الدين النازل به كتاب مكتوب على الناس و ميزان يوزن به أعمالهم فيجزون بذلك يوم القيامة، و الجزاء الحسن من الرزق ثمّ يستطرد الكلام في ما يستقبلهم يوم القيامة من الثواب و العقاب، و فيها آية المودّة في القربى و ما يلحق بذلك.

قوله تعالى: ( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) إلخ، كان مفتتح الفصول السابقة في سياق الفعل إخباراً عن الوحي و غرضه و آثاره( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ ) ( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ) و قد غيّر السياق في مفتتح هذا الفصل فجيي‏ء بالجملة الاسميّة المتضمّنة لتوصيفه تعالى بإنزال الكتاب و الميزان( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ ) إلخ، و لازمه تعريف الوحي بنزول الكتاب و الميزان به.

و لعلّ الوجه فيه ما تقدّم في الآية السابقة من ذكر المحاجّة في الله( وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ) فاستدعى ذلك تعريفه تعالى للمحاجّين فيه بأنّه الّذي أنزل الكتاب بالحقّ و الميزان، و لازمه تعريف الوحي بأثره كما عرفت.

و كيف كان فالمراد بالكتاب هو الوحي المشتمل على الشريعة و الدين الحاكم في المجتمع البشري، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ) الآية البقرة: 213 أنّ هذا المعنى هو المراد بالكتاب في الكتاب، و كون إنزاله بالحقّ نزوله مصاحباً للحقّ لا يخالطه اختلاف شيطانيّ و لا نفسانيّ.

و الميزان ما يوزن و يقدّر به الأشياء، و المراد به بقرينة ذيل الآية و الآيات التالية هو الدين المشتمل عليه الكتاب حيث يوزن به العقائد و الأعمال فتحاسب عليه و يجزي بحسبه الجزاء يوم القيامة فالميزان هو الدين باُصوله و فروعه، و يؤيّده قوله تعالى:( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ ) الحديد: 25، على ما هو ظاهر قوله:( مَعَهُمُ ) .

و قيل: المراد به العدل و سمّي العدل ميزاناً لأنّ الميزان آلة الإنصاف و التسوية

٣٨

بين الناس و العدل كذلك و اُيّد بسبق ذكر العدل في قوله:( وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ) .

و فيه أنّه لا شاهد يشهد عليه من اللفظ، و قد تقدّم أنّ المراد بالعدل في( لِأَعْدِلَ ) هو التسوية بين الناس في التبليغ و في جريان الحكم دون عدل الحاكم و القاضي.

و قيل: المراد به الميزان المعروف المقدّر للأثقال. و هو كما ترى.

و قيل: المراد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يمكن إرجاعه إلى ما قدّمناه من الوجه لأنّ النبيّ مصداق كامل و مثل أعلى للدين باُصوله و فروعه و لكلّ فرد من اُمّته من الزنة الدينية قدر ما يشابهه و يماثله لكن لا يلائم هذا الوجه ما تقدّم نقله آنفاً من آية سورة الحديد كثير ملاءمة.

و قوله:( وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ) لمّا كان الميزان المشعر بالحساب و الجزاء يومئ إلى البعث و القيامة انتقل إلى الكلام فيه و إنذارهم بما سيستقبلهم فيه من الأهوال و التبشير بما اُعدّ فيه للصالحين.

و الادراء الاعلام، و المراد بالساعة - على ما قيل - إتيانها و لذا جي‏ء بالخبر مذكّراً، و المعنى: ما الّذي يعلمك لعلّ إتيان الساعة قريب و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان أنّه سامع فيشمل كلّ من له أن يسمع و يعمّ الإنذار و التخويف.

قوله تعالى: ( يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ) إلخ المراد استعجالهم استعجال سخريّة و استهزاء و قد تكرّر في القرآن نقل قولهم:( مَتى‏ هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

و الإشفاق نوع من الخوف، قال الراغب: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و قوله:( أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) المماراة الإصرار على الجدال، و المراد إلحاحهم على إنكارها بالجدال، و إنّما كانوا في ضلال بعيد لأنّهم أخطؤا طريق الحياة الّتي أصابتها أهمّ ما يتصوّر للإنسان فتوهّموها حياة مقطوعة فانية

٣٩

انكبّوا فيها على شهوات الدنيا و إنّما هي حياة خالدة باقية يجب عليهم أن يتزوّدوا من دنياهم لاُخراهم لكنّهم ضلّوا عن سبيل الرشد فوقعوا في سبيل الغيّ.

قوله تعالى: ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) في معنى اللطف شي‏ء من الرفق و سهولة الفعل و شي‏ء من الدقّة في ما يقع عليه الفعل فإذا تمّ الرفق و الدقّة و كان الفاعل يفعل برفق و سهولة و يقع فعله على الاُمور الدقيقة كان لطيفاً كالهواء النافذ في منافذ الأجسام برفق و سهولة المماسّ لدقائق أجزائها الباطنة. و إذا اُلقيت الخصوصيّات المادّيّة عن هذا المعنى صحّ أن يتّصف به الله سبحانه فإنّه تعالى ينال دقائق الاُمور بإحاطته و علمه و يفعل فيها ما يشاء برفق فهو لطيف.

و قد رتّب الرزق في الآية على كونه تعالى لطيفاً بعباده قويّاً عزيزاً دلالة على أنّه تعالى بلطفه لا يغيب عنه أحد ممّن يشاء أن يرزق و لا يعصيه و بقوّته عليه لا يعجز عنه و بعزّته لا يمنعه مانع عنه.

و المراد بالرزق ما يعمّ موهبة الدين الّذي يتلبّس بها من يشاء من عباده على ما يشهد به الآية التالية، و لذا اُلحق القول فيه بقوله:( اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ ) .

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ) إلخ، الحرث الزرع و المراد به نتيجة الأعمال الّتي يؤتاها الإنسان في الآخرة على سبيل الاستعارة كأنّ الأعمال الصالحة بذور و ما تنتجه في الآخرة حرث.

و المراد بالزيادة له في حرثه تكثير ثوابه و مضاعفته، قال تعالى:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) الأنعام: 160، و قال:( وَ اللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ) البقرة: 261.

و قوله:( وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) أي و من كان يريد النتائج الدنيويّة بأن يعمل للدنيا و يريد نتيجة ما عمله فيها دون الآخرة نؤته من الدنيا و ما له في الآخرة نصيب، و في التعبير بإرادة الحرث إشارة إلى اشتراط العمل لما يريده من الدنيا و الآخرة كما قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) النجم: 39.

٤٠