الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٨

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 429

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 429
المشاهدات: 107432
تحميل: 4050


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 429 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107432 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 18

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و على تقدير أن يراد به الروح الأمريّ فالمراد بمن نشاء جميع الأنبياء و من آمن بهم من اُممهم فإنّه يهدي بالوحي الّذي نزل به، الأنبياء و المؤمنين من اُممهم و يسدّد الأنبياء خاصّة و يهديهم إلى الأعمال الصالحة و يشير عليهم بها.

و على هذا تكون الآية في مقام تصديق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدّقه في دعواه أنّ كتابه من عند الله بوحي منه، و تصدّقه في دعواه أنّه مؤمن بما يدعو إليه فيكون في معنى قوله تعالى:( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) يس: 5.

و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) إشارة إلى أنّ الّذي يهدي إليه صراط مستقيم و أنّ الّذي يهديه من الناس هو الّذي يهديه الله سبحانه، فهدايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداية الله.

قوله تعالى: ( صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) إلخ، بيان للصراط المستقيم الّذي يهدي إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و توصيفه تعالى بقوله:( الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) للدلالة على الحجّة على استقامة صراطه فإنّه تعالى لمّا ملك كلّ شي‏ء ملك الغاية الّتي تسير إليها الأشياء و السعادة الّتي تتوجّه إليها، فكانت الغاية و السعادة هي الّتي عيّنها، و كان الطريق إليها و السبيل الّذي عليهم أن يسلكوه لنيل سعادتهم هو الّذي شرعه و بيّنه، و ليس يملك أحد شيئاً حتّى ينصب له غاية و نهاية أو يشرع له إليها سبيلاً، فالسعادة الّتي يدعو سبحانه إليها حقّ السعادة و الطريق الّذي يدعو إليه حقّ الطريق و مستقيم الصراط.

و قوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) تنبيه على لازم ملكه لما في السماوات و ما في الأرض فإنّ لازمه رجوع اُمورهم إليه و لازمه كون السبيل الّذي يسلكونه - و هو من جملة اُمورهم - راجعاً إليه فالصراط المستقيم هو صراطه فالمضارع أعني قوله:( تَصِيرُ ) للاستمرار.

و فيه إشعار بلمّ الوحي و التكليم الإلهيّ، إذ لمّا كان مصير الأشياء إليه تعالى كان لكلّ نوع إليه تعالى سبيل يسلكه و كان عليه تعالى أن يهديه إليه و يسوقه إلى غايته كما قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: 9، و هو تكليم كلّ نوع بما يناسب ذاته

٨١

و هو في الإنسان التكليم المسمّى بالوحي و الإرسال.

و قيل: المضارع للاستقبال و المراد مصيرها جميعاً إليه يوم القيامة، و قد سيقت الجملة لوعد المهتدين إلى الصراط المستقيم و وعيد الضالّين عنه، و أوّل الوجهين أظهر.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و البيهقيّ عن عائشة أنّ الحارث بن هشام سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحياناً يأتيني الملك في مثل صلصلة الجرس فيفصم عنّي و قد وعيت عنه ما قال و هو أشدّه علي، و أحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول.

قالت عائشة: و لقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم و إنّ جبينه ليتفصّد عرقاً.

و في التوحيد، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك الغشية الّتي كانت تصيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نزل عليه الوحي؟ قال: فقال: ذلك إذا لم يكن بينه و بين الله أحد ذاك إذا تجلّى الله له. قال: ثمّ قال: تلك النبوّة يا زرارة و أقبل يتخشّع.

و في العلل، بإسناده عن ابن أبي عمير عن عمرو بن جميع عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان جبرئيل إذا أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قعد بين يديه قعدة العبد، و كان لا يدخل حتّى يستأذنه.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال بعض أصحابنا: أصلحك الله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: قال جبرئيل، و هذا جبرئيل يأمرني ثمّ يكون في حال اُخرى يغمى عليه، فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل- أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، و إذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك فقال: قال لي جبرئيل و هذا جبرئيل.

و في البصائر، عن عليّ بن حسّان عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام

٨٢

من الرسول؟ من النبيّ؟ من المحدّث؟ فقال: الرسول الّذي يأتيه جبرئيل فيكلّمه قبلاً فيراه كما يرى أحدكم صاحبه الّذي يكلّمه فهذا الرسول، و النبيّ الّذي يؤتى في النوم نحو رؤيا إبراهيمعليه‌السلام ، و نحو ما كان يأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السبات إذا أتاه جبرئيل في النوم فهكذا النبيّ، و منهم من يجمع له الرسالة و النبوّة فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسولاً نبيّاً يأتيه جبرئيل قبلاً فيكلّمه و يراه، و يأتيه في النوم، و أمّا المحدّث فهو الّذي يسمع كلام الملك فيحدّثه من غير أن يراه و من غير أن يأتيه في النوم.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

و في التوحيد، بإسناده عن محمّد بن مسلم و محمّد بن مروان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ جبرئيل من قبل الله إلّا بالتوفيق.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : كيف لم يخف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ قال: فقال: إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة و الوقار فكان يأتيه من قبل الله مثل الّذي يراه بعينه.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله تبارك و تعالى:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) قال: خلق من خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره و يسدّده، و هو مع الأئمّة من بعده.

أقول: و في معناها عدّة روايات و في بعضها أنّه من الملكوت، قال في روح المعاني: و نقل الطبرسيّ عن أبي جعفر و أبي عبدالله: أنّ المراد من هذا الروح ملك أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يصعد إلى السماء، و هذا القول في غاية الغرابة و لعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين. انتهى. و الّذي في مجمع البيان: عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: و لم يصعد إلى السماء و إنّه لفينا. انتهى. و استغرابه فيما لا دليل له على نفيه غريب. على أنّه يسلّم تسديد هذا الروح لبعض

٨٣

الاُمّة غير النبيّ كما هو ظاهر لمن راجع قسم الإشارات من تفسيره.

و في النهج: و لقد قرن الله بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبونعيم في الدلائل و ابن عساكر عن عليّ قال: قيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل عبدت وثناً قطّ؟ قال: لا. قالوا: فهل شربت خمراً قطّ؟ قال: لا. و ما زلت أعرف أنّ الّذي هم عليه كفر و ما كنت أدري ما الكتاب و ما الإيمان، و بذلك نزل القرآن( ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ ) .

و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث، و قال في نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: تدعو.

و في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سمعته يقول: وقع مصحف في البحر فوجدوه و قد ذهب ما فيه إلّا هذه الآية:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) .

٨٤

( سورة الزخرف مكّيّة و هي تسع و ثمانون آية)

( سورة الزخرف الآيات 1 - 14)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم ( 1 ) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 3 ) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ( 4 ) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ ( 5 ) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ( 6 ) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 7 ) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَىٰ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ( 8 ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ( 9 ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 10 ) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا  كَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ ( 11 ) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ( 12 ) لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ( 13 ) وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ( 14 )

( بيان‏)

السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها و خاتمتها و المقاصد المتخلّلة بينهما إلّا ما في قوله:( إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) إلى تمام ستّ آيات استطرادية.

٨٥

تذكر أنّ السنّة الإلهيّة إنزال الذكر و إرسال الأنبياء و الرسل و لا يصدّه عن ذلك إسراف الناس في قولهم و فعلهم بل يرسل الأنبياء و الرسل و يهلك المستهزئين بهم و المكذّبين لهم ثمّ يسوقهم إلى نار خالدة.

و قد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أوّلاً ثمّ سمّي منهم إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسىعليهم‌السلام ، و ذكرت من إسراف الكفّار أشياء و من عمدتها قولهم بأنّ لله سبحانه ولداً و أنّ الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصّة بنفي الولد عنه تعالى فكرّرت ذلك و ردّته و أوعدتهم بالعذاب، و فيها حقائق متفرّقة اُخرى.

و السورة مكّيّة بشهادة مضامين آياتها إلّا قوله:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ) الآية، و لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) ظاهره أنّه قسم و جوابه قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) إلى آخر الآيتين، و كون القرآن مبيناً هو إبانته و إظهاره طريق الهدى كما قال تعالى:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) النحل: 89، أو كونه ظاهراً في نفسه لا يرتاب فيه كما قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) البقرة: 2.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الضمير للكتاب، و( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) أي مقروّاً باللغة العربيّة و( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) غاية الجعل و غرضه.

و جعل رجاء تعقّله غاية للجعل المذكور يشهد بأنّ له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كلّ أمر فكريّ و إن بلغ من اللطافة و الدقّة ما بلغ فمفاد الآية أنّ الكتاب بحسب موطنه الّذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبيّ عن العقول البشريّة و إنّما جعله الله قرآناً عربيّاً و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلّم كما تقدّم غير مرّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) تأكيد و تبيين لما تدلّ عليه الآية السابقة أنّ الكتاب في موطنه الأصليّ وراء تعقّل العقول.

و الضمير للكتاب، و المراد باُمّ الكتاب اللّوح المحفوظ كما قال تعالى:( بَلْ

٨٦

هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: 22، و تسميته باُمّ الكتاب لكونه أصل الكتب السماويّة يستنسخ منه غيره، و التقييد باُمّ الكتاب و( لَدَيْنا ) للتوضيح لا للاحتراز، و المعنى: أنّه حال كونه في اُمّ الكتاب لدينا - حالاً لازمة - لعليّ حكيم، و سيجي‏ء في أواخر سورة الجاثية كلام في اُمّ الكتاب إن شاء الله.

و المراد بكونه عليّاً على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنّه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول، و بكونه حكيماً أنّه هناك محكم غير مفصّل و لا مجزّى إلى سور و آيات و جمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآناً عربيّاً كما استفدناه من قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: 1.

و هذان النعتان أعني كونه عليّاً حكيماً هما الموجبان لكونه وراء العقول البشريّة فإنّ العقل في فكرته لا ينال إلّا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أوّلاً و كان مؤلّفاً من مقدّمات تصديقيّة يترتّب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنيّة، و أمّا إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير متجزّ إلى أجزاء و فصول فلا طريق للعقل إلى نيله.

فمحصّل معنى الآيتين: أنّ الكتاب عندنا في اللّوح المحفوظ ذو مقام رفيع و إحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين و إنّما أنزلناه بجعله مقروّاً عربيّاً رجاء أن يعقله النّاس.

فإن قلت: ظاهر قوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) إمكان تعقّل الناس هذا القرآن العربيّ النازل تعقّلاً تامّاً فهذا الّذي نقرؤه و نعقله إمّا أن يكون مطابقاً لما في اُمّ الكتاب كلّ المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعاً كيف؟ و هو تعالى يقول:( وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ ) و( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: 22، و( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) الواقعة: 78، فتعيّن الأوّل و مع مطابقته لاُمّ الكتاب كلّ المطابقة ما معنى كون القرآن العربيّ الّذي عندنا معقولاً لنا و ما في اُمّ الكتاب عندالله غير معقول لنا؟

قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في اُمّ الكتاب نسبة المثل و الممثّل

٨٧

فالمثل هو الممثّل بعينه لكنّ الممثّل له لا يفقه إلّا المثل فافهم ذلك.

و بما مرّ يظهر ضعف الوجوه الّتي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إنّ المراد بكونه عليّاً أنّه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، و قول بعضهم: معناه أنّه يعلو كلّ كتاب بما اختصّ به من الإعجاز و هو ينسخ الكتب غيره و لا ينسخه كتاب، و قول بعضهم يعني أنّه يعظّمه الملائكة و المؤمنون.

و كقول بعضهم في معنى( حَكِيمٌ ) أنّه مظهر للحكمة البالغة، و قول بعضهم معناه أنّه لا ينطق إلّا بالحكمة و لا يقول إلّا الحقّ و الصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوّز لغرض المبالغة. و ضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبّر في مفاد الآية السابقة و ظهور أنّ جعله قرآناً عربيّاً بالنزول عن اُمّ الكتاب.

قوله تعالى: ( أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ) الاستفهام للإنكار، و الفاء للتفريع على ما تقدّم، و ضرب الذكر عنهم صرفه عنهم. قال في المجمع: و أصل ضربت عنه الذكر أنّ الراكب إذا ركب دابّة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصاً أو سوط ليعدل به إلى جهة اُخرى ثمّ وضع الضرب موضع الصرف و العدل. انتهى. و الصفح بمعنى الإعراض فصفحاً مفعول له، و احتمل أن يكون بمعنى الجانب( و أَنْ كُنْتُمْ ) محذوف الجارّ و التقدير لأن كنتم و هو متعلّق بقوله:( أَ فَنَضْرِبُ ) .

و المعنى: أ فنصرف عنكم الذكر - و هو الكتاب الّذي جعلناه قرآناً لتعقلوه - للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) ( كَمْ ) للتكثير، و الأوّلون هم الاُمم الدارجة و( ما يَأْتِيهِمْ ) إلخ، حال و العامل فيها( أَرْسَلْنا ) .

و الآيتان و ما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أنّ كونكم قوماً مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنّة الهداية من طريق الوحي فإنّا كثيراً ما أرسلنا من نبيّ في الاُمم الماضين و الحال أنّه ما يأتيهم من نبيّ إلّا استهزؤا به و انجرّ الأمر

٨٨

إلى أن أهلكنا من اُولئك من هو أشدّ بطشاً منكم.

فكما كانت عاقبة إسرافهم و استهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و وعيد لقومه.

قوله تعالى: ( فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: البطش تناول الشي‏ء بصولة. انتهى و في الآية التفات في قوله:( مِنْهُمْ ) من الخطاب إلى الغيبة، و كأنّ الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعدم اعتبارهم بهذه القصص و العبر و ليكون تمهيداً لقوله بعد:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و يؤيّده قوله بعد:( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ) خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و معنى قوله:( وَ مَضى‏ مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ) و مضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الاُمم الأوّلين و أنّه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ) في الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات احتجاج على ربوبيّته تعالى و توحّده فيها مع إشارة مّا إلى المعاد و تبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنّه تعالى هو خالق الكلّ ثمّ الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لاُمور العباد كجعل الأرض لهم مهداً و جعله فيها سبلاً و إنزال الأمطار فينتج أنّه تعالى وحده مالك مدبّر لاُمورهم فهو الربّ لا ربّ غيره.

و بذلك تبيّن أنّ الآية تقدّمة و توطئة لما تتضمّنه الآيات التالية من الحجّة و قد تقدّم في هذا الكتاب مراراً أنّ الوثنيّة لا تنكر رجوع الصنع و الإيجاد إليه تعالى وحده و إنّما تدّعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.

قوله تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أي جعل لكم الأرض بحيث تربّون فيها كما يربّى الأطفال في المهد، و جعل لكم في الأرض سبلاً و طرقاً تسلكونها و تهتدون بها إلى مقاصدكم.

و قيل: معنى( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله و توحيده في العبادة و الأوّل أظهر.

٨٩

و في الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لعلّ الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة و هو أنّ التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصّاً بالله سبحانه و قولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلاً فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) قيّد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنّه عن إرادة و تدبير لا كيف اتّفق و الإنشار الإحياء، و الميت مخفّف الميّت بالتشديد، و توصيف البلدة به باعتبار أنّها مكان لأنّ البلدة أيضاً إنّما تتّصف بالموت و الحياة باعتبار أنها مكان، و الالتفات عن الغيبة إلى التكلّم مع الغير في( فَأَنْشَرْنا ) لإظهار العناية.

و لمّا استدلّ بتنزيل الماء بقدر و إحياء البلدة الميّتة على خلقه و تدبيره استنتج منه أمراً آخر لا يتمّ التوحيد إلّا به و هو المعاد الّذي هو رجوع الكلّ إليه تعالى فقال:( كَذلِكَ تُخْرَجُونَ ) أي كما أحيا البلدة الميّتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.

قيل: في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الّذي هو إحياء الموتى و عن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات و تهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و اُنثى و أبيض و أسود و غيرها، و قيل: المراد الزوج من كلّ شي‏ء فكلّ ما سوى الله كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذكر و الاُنثى زوج.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه، و الركوب إذا نسب إلى الحيوان كالفرس و الإبل تعدّى بنفسه فيقال: ركبت الفرس و إذا نسب إلى مثل الفلك و السفينة تعدّى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى:( فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ) ففي قوله:( ما تَرْكَبُونَ ) أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام.

قوله تعالى: ( لِتَسْتَوُوا عَلى‏ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ

٩٠

تَقُولُوا - إلى قوله -لَمُنْقَلِبُونَ ) الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، و الضمير في( ظُهُورِهِ ) راجع إلى لفظ الموصول في( ما تَرْكَبُونَ ) ، و الضمير في قوله:( إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ) للموصول أيضاً فكما يقال: استويت على ظهر الدابّة يقال: استويت على الدابّة.

و المراد بذكر نعمة الربّ سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك و الأنعام ذكر النعم الّتي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى مكان و حمل الأثقال قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إبراهيم: 32، و قال:( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها - إلى أن قال -وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) النحل: 7، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه.

و قوله:( وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ) أي مطيقين و الإقران الإطاقة.

و ظاهر ذكر النعمة عند استعمالها و الانتفاع بها شكر منعمها و لازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول:( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ، فإنّ هذا القول تسبيح و تنزيه له عمّا لا يليق بساحة كبريائه و هو الشريك في الربوبيّة و الاُلوهيّة، و ذكر النعمة شكر - كما تقدم - و الشكر غير التنزيه.

و يؤيّد هذا ما ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإنّ الروايات على اختلافها تتضمّن التحميد وراء التسبيح يقول( سُبْحانَ الَّذِي ) إلخ.

و روي في الكشّاف، عن الحسن بن عليّعليهما‌السلام أنّه رأى رجلاً يركب دابّة فقال: سبحان الّذي سخّر لنا هذا فقال: أ بهذا اُمرتم؟ فقال: و بم اُمرنا؟ قال: إن تذكروا نعمة ربّكم.

و قوله:( وَ إِنَّا إِلى‏ رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ ) أي صائرون شهادة بالمعاد.

٩١

( سورة الزخرف الآيات 15 - 25)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا  إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ ( 15 ) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ( 16 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 17 ) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ( 18 ) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا  أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ  سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ( 19 ) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم  مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ  إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ( 20 ) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ( 21 ) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( 22 ) وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ( 23 ) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ  قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( 24 ) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ  فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 25 )

( بيان‏)

حكاية بعض أقوالهم الّتي دعاهم إلى القول بها الإسراف و الكفر بالنعم و هو قولهم بالولد و أنّ الملائكة بنات الله سبحانه، و احتجاجهم على عبادتهم الملائكة و ردّه عليهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) المراد بالجزء الولد فإنّ الولادة إنّما هي الاشتقاق فالولد جزء من والده منفصل منه متصوّر بصورته.

٩٢

و إنّما عبّر عن الولد بالجزء للإشارة إلى استحالة دعواهم، فإنّ جزئيّة شي‏ء من شي‏ء كيفما تصوّرت لا تتمّ إلّا بتركّب في ذلك الشي‏ء و الله سبحانه واحد من جميع الجهات.

و قد بان بما تقدّم أنّ( مِنْ عِبادِهِ ) بيان لقوله:( جُزْءاً ) و لا ضير في تقدّم هذا النوع من البيان على المبيّن و لا في جمعيّة البيان و إفراد المبيّن.

قوله تعالى: ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ ) أي أخلصكم للبنين فلكم بنون و ليس له إلّا البنات و أنتم ترون أنّ البنت أخسّ من الابن فتثبتون له أخسّ الصنفين و تخصّون أنفسكم بأشرفهما و هذا مع كونه قولاً محالاً في نفسه إزراء و إهانة ظاهرة و كفران.

و تقييد اتّخاذ البنات بكونه ممّا يخلق لكونهم قائلين بكون الملائكة - على ربوبيّتهم و اُلوهيّتهم - مخلوقين لله، و الالتفات في الآية إلى خطابهم لتأكيد الإلزام و تثبيت التوبيخ، و التنكير و التعريف في( بنات) و( البنين) للتحقير و التفخيم.

قوله تعالى: ( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ ) المثل هو المثل و الشبه المجانس للشي‏ء و ضرب الشي‏ء مثلاً أخذه مجانساً للشي‏ء( و بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ) الاُنثى، و الكظيم المملوء كرباً و غيظاً.

و المعنى: و حالهم أنّه إذا بشّر أحدهم بالاُنثى الّذي جعلها شبهاً مجانساً للرحمان صار وجهه مسوّداً من الغمّ و هو مملوء كرباً و غيظاً لعدم رضاهم بذلك و عدّه عاراً لهم لكنّهم يرضونه له.

و الالتفات في الآية إلى الغيبة لحكاية شنيع سيرتهم و قبيح طريقتهم للغير حتّى يتعجّب منه.

قوله تعالى: ( أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) أي أ و جعلوا لله سبحانه من ينشؤ في الحلية أي يتربّى في الزينة و هو في المخاصمة و المحاجّة غير مبين لحجّته لا يقدر على تقرير دعواه.

و إنّما ذكر هذين النعتين لأنّ المرأة بالطبع أقوى عاطفة و شفقة و أضعف

٩٣

تعقّلاً بالقياس إلى الرجل و هو بالعكس و من أوضح مظاهر قوّة عواطفها تعلّقها الشديد بالحلية و الزينة و ضعفها في تقرير الحجّة المبنيّ على قوّة التعقّل.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) إلخ، هذا معنى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله و قد كان يقول به طوائف من عرب الجاهليّة و أمّا غيرهم من الوثنيّة فربّما عدّوا في آلهتهم إلهة هي اُمّ إله أو بنت إله لكن لم يقولوا بكون جميع الملائكة إناثاً كما هو ظاهر المحكيّ في الآية الكريمة.

و إنّما وصف الملائكة بقوله:( الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ ) ردّاً لقولهم باُنوثتهم لأنّ الإناث لا يطلق عليهنّ العباد، و لا يلزم منه اتّصافهم بالذكورة بالمعنى الّذي يتّصف به الحيوان فإنّ الذكورة و الاُنوثة اللّتين في الحيوان من لوازم وجوده المادّيّ المجهّز للتناسل و توليد المثل، و الملائكة في معزل من ذلك.

و قوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ ) ردّ لدعواهم الاُنوثة في الملائكة بأنّ الطريق إلى العلم بذلك الحسّ و هم لم يروهم حتّى يعلموا بها فلم يكونوا حاضرين عند خلقهم حتّى يشاهدوا منهم ذلك.

فقوله:( أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ إلخ) استفهام إنكاريّ و وعيد على قولهم بغير علم أي لم يشهدوا خلقهم و ستكتب في صحائف أعمالهم هذه الشهادة عليهم و يسألون عنه يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) حجّة عقليّة داحضة محكيّة عنهم يمكن أن تقرّر تارة لإثبات صحّة عبادة الشركاء بأن يقال: لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء ما عبدناهم ضرورة لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم فهو لم يشأ ذلك و عدم مشيّته عدم عبادتهم إذنٌ في عبادتهم فلا منع من قبله تعالى عن عبادة الشركاء و الملائكة منهم، و هذا المعنى هو المنساق إلى الذهن من قوله في سورة الأنعام:( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: 148، على ما يعطيه السياق ما قبله و ما بعده.

٩٤

و تقرّر تارة لإبطال النبوّة القائلة أنّ الله يوجب عليكم كذا و كذا و يحرّم عليكم كذا كذا بأن يقال لو شاء الله أن لا نعبد الشركاء و لا نحلّ و لا نحرّم شيئاً لم نعبد الشركاء و لم نضع من عندنا حكماً لاستحالة تخلّف مراده تعالى عن إرادته لكنّا نعبدهم و نحلّ و نحرّم أشياء فلم يشأ الله سبحانه منّا شيئاً، فقول إنّ الله يأمركم بكذا و ينهاكم عن كذا و بالجملة إنّه شاء كذا باطل.

و هذا المعنى هو الظاهر المستفاد من قوله تعالى في سورة النحل:( وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) النحل: 35، بالنظر إلى السياق.

و قولهم في محكيّ الآية المبحوث عنها:( لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ) على ما يفيده سياق الآيات السابقة و اللاحقة مسوق للاحتجاج على المعنى الأوّل و هو تصحيح عبادتهم للملائكة فيكون في معنى آية سورة الأنعام و أخصّ منها.

و قوله:( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) أي هو منهم قول مبنيّ على الجهل فإنّه مغالطة خلطوا فيها بين الإرادة التكوينيّة و الإرادة التشريعيّة و أخذ الاُولى مكان الثانية، فمقتضى الحجّة أن لا إرادة تكوينيّة منه تعالى متعلّقة بعدم عبادتهم الملائكة و انتفاء تعلّق هذا النوع من الإرادة بعدم عبادتهم لهم لا يستلزم انتفاء تعلّق الإرادة التشريعيّة به.

فهو سبحانه لمّا لم يشأ أن لا يعبدوا الشركاء بالإرادة التكوينيّة كانوا مختارين غير مضطرّين على فعل أو ترك فأراد منهم بالإرادة التشريعيّة أن يوحّدوه و لا يعبدوا الشركاء، و الإرادة التشريعيّة لا يستحيل تخلّف المراد عنها لكونها اعتباريّة غير حقيقيّة، و إنّما تستعمل في الشرائع و القوانين و التكاليف المولوية، و الحقيقة الّتي تبتني عليها هي اشتمال الفعل على مصلحة أو مفسدة.

و بما تقدّم يظهر فساد ما قيل: إنّ حجّتهم مبنيّة على مقدّمتين: الاُولى أنّ عبادتهم للملائكة بمشيّته تعالى، و الثانية أنّ ذلك مستلزم لكونها مرضيّة عنده تعالى و قد أصابوا في الاُولى و أخطأوا في الثانية حيث جهلوا أنّ المشيّة عبارة عن ترجيح

٩٥

بعض الممكنات على بعض كائناً ما كان من غير اعتبار الرضا و السخط في شي‏ء من الطرفين.

وجه الفساد: أنّ مضمون الحجّة عدم تعلّق المشيّة على ترك العبادة و عدم تعلّق المشيّة بالترك لا يستلزم تعلّق المشيّة بالفعل بل لازمه الإذن الّذي هو عدم المنع من الفعل. ثمّ إنّ ظاهر كلامه قصر الإرادة في التكوينيّة و إهمال التشريعيّة الّتي عليها المدار في التكاليف المولويّة و هو خطأ منه.

و يظهر أيضاً فساد ما نسب إلى بعضهم أنّ المراد بقولهم:( لو شاء الرحمن ما عبدناهم) الاعتذار عن عبادة الملائكة بتعلّق مشيّة الله بها مع الاعتراف بكونها قبيحة.

و ذلك أنّهم لم يكونوا مسلّمين لقبح عبادة آلهتهم حتّى يعتذروا عنها و قد حكي عنهم ذيلاً قولهم:( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) .

و قوله:( إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ) الخرص - على ما يظهر من الراغب - القول على الظنّ و التخمين، و فسّر أيضاً بالكذب.

قوله تعالى: ( أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ) ضمير( مِنْ قَبْلِهِ ) للقرآن، و في الآية نفي أن يكون لهم حجّة من طريق النقل كما أنّ في الآية السابقة نفي حجّتهم من طريق العقل، و محصّل الآيتين أن لا حجّة لهم على عبادة الملائكة لا من طريق العقل و لا من طريق النقل فلم يأذن الله فيها.

قوله تعالى: ( بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى‏ آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) الاُمّة الطريقة الّتي تؤمّ و تقصد، و المراد بها الدين، و الإضراب عمّا تحصّل من الآيتين، و المعنى: لا دليل لهم على حقّيّة عبادتهم بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على دين و إنّا على آثارهم مهتدون أي إنّهم متشبّثون بتقليد آبائهم فحسب.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا ) إلخ، أي إنّ التشبّث بذيل التقليد ليس ممّا يختصّ بهؤلاء فقد كان ذلك دأب أسلافهم من الاُمم المشركين و ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير و هو النبيّ إلّا تشبّث متنعّموها بذيل التقليد و قالوا: إنّا وجدنا أسلافنا على دين و إنّا على آثارهم

٩٦

مقتدون لن نتركها و لن نخالفهم.

و نسبة القول إلى مترفيهم للإشارة إلى أنّ الإتراف و التنعّم هو الّذي يدعوهم إلى التقليد و يصرفهم عن النظر في الحقّ.

قوله تعالى: ( قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى‏ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ) إلخ، القائل هو النذير، و الخطاب للمترفين و يشمل غيرهم بالتبعيّة، و العطف في( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) على محذوف يدلّ عليه كلامهم، و التقدير إنّكم على آثارهم مقتدون و لو جئتكم بأهدى ممّا وجدتم عليه آباءكم؟ و المحصّل: هل أنتم لازمون لدينهم حتّى لو كان ما جئتكم به من الدين أهدى منه؟ و عدّ النذير ما جاءهم به أهدى من دينهم مع كون دينهم باطلاً لا هدى فيه من باب مجاراة الخصم.

و قوله:( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) جواب منهم لقول النذير:( أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ ) إلخ و هو تحكّم من غير دليل.

قوله تعالى: ( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) أي تفرّع على ذلك الإرسال و الردّ بالتقليد و التحكّم أنّا أهلكناهم بتكذيبهم فانظر كيف كان عاقبة اُولئك السابقين من أهل القرى و فيه تهديد لقوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٩٧

( سورة الزخرف الآيات 26 - 45)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ( 26 ) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( 27 ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( 28 ) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّىٰ جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ( 29 ) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ( 30 ) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( 31 ) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ  نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا  وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( 32 ) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ( 33 ) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ( 34 ) وَزُخْرُفًا  وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ( 35 ) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ( 36 ) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ( 37 ) حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ( 38 ) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ( 39 ) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ

٩٨

وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 40 ) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ( 41 ) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ( 42 ) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ  إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( 43 ) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ  وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ( 44 ) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( 45 )

( بيان‏)

لمّا انجرّ الكلام إلى ردّهم رسالة الرسول و كفرهم بها تحكّماً و تشبّثهم في الشرك بذيل تقليد الآباء و الأسلاف من غير دليل عقّب ذلك بالإشارة إلى قصّة إبراهيمعليه‌السلام و رفضه تقليد أبيه و قومه و تبرّيه عمّا يعبدونه من دون الله سبحانه و استهدائه هدى ربّه الّذي فطره.

ثمّ يذكر تمتيعه لهم بنعمه و كفرانهم بها بالكفر بكتاب الله و طعنهم فيه و في رسوله بما هو مردود عليهم. ثمّ يذكر تبعة الإعراض عن ذكر الله و ما تنتهي إليه من الشقاء و الخسران، و يعطف عليه إياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من إيمانهم و تهديدهم بالعذاب و يؤكّد الأمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستمسك بالقرآن و أنّه لذكر له و لقومه و سوف يسألون عنه، و أنّ الّذي فيه من دين التوحيد هو الّذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ) البراء مصدر من برى‏ء يبرأ فهو بري‏ء فمعنى( إِنَّنِي بَراءٌ ) إنّني: ذو براء أو بري‏ء على سبيل

٩٩

المبالغة مثل زيد عدل.

و في الآية إشارة إلى تبرّي إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان يعبده أبوه و قومه من الأصنام و الكواكب بعد ما حاجّهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الأنعام و الأنبياء و الشعراء و غيرها.

و المعنى: و اذكر لهم إذ تبرّأ إبراهيم عن آلهة أبيه و قومه إذ كانوا يعبدونها تقليداً لآبائهم من غير حجّة و قام بالنظر وحده.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلّا الّذي أوجدني و هو الله سبحانه، و في توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجّة على ربوبيّته و اُلوهيّته فإنّ الفطر و الإيجاد لا ينفكّ عن تدبير أمر الموجود المفطور فالّذي فطر الكلّ هو الّذي يدبّر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.

و قوله:( فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) أي إلى الحقّ الّذي أطلبه، و قيل: أي إلى طريق الجنّة، و في هذه الجملة إشارة إلى خاصّة اُخرى ربوبيّة و هي الهداية إلى السبيل الحقّ يجب أن يسلكه الإنسان فإنّ السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الربّ المدبّر لأمر مربوبه أن يهديه إلى كماله و سعادته، قال تعالى:( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: 50، و قال:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) النحل: 9، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) العنكبوت: 69.

و الاستثناء في قوله:( إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) منقطع لأنّ الوثنيّين لا يعبدون الله كما مرّ مراراً، فقول بعضهم: إنّه متّصل، و إنّهم كانوا يقولون: الله ربّنا مع عبادتهم الأوثان، كما ترى.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) الظاهر أنّ ضمير الفاعل المستتر في( جَعَلَها ) لله سبحانه، و الضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة الّتي تكلّم بها إبراهيمعليه‌السلام و معناها معنى كلمة التوحيد فإنّ مفاد لا إله إلّا الله

١٠٠