بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١١

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 608

  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48559 / تحميل: 7268
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

و منها : عقبة الرّحم و منها : عقبة الأمانة و منها : عقبة الصلاة و باسم كلّ فرض أو أمر أو نهي عقبة يحبس عندها العبد فيسأل عن كلّ واحدة )١ و في الخبر :

جاء عيسى إلى قبر يحيى و كان سأل ربّه أن يجيبه فدعاه فقال له : ما تريد منّي ؟ قال : تؤنسني كما كنت فقال : ما سكنت عنّي حرارة الموت و أنت تريد تن تعيدني إلى الدّنيا و تعود عليّ حرارة الموت فتركه فعاد إلى قبره٢ .

« و منازل مخوفة مهولة لابدّ من الورود عليها و الوقوف عندها » و من تلك المنازل الموت ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : إنّ الميّت إذا حضر الموت أوثقه ملك الموت و لو لا ذلك ما استقر٣ ، و مرّ خبر عيسى عليه السلام مع يحيى عليه السلام ،

و منها : دخول القبر ، و في ( الكافي ) عن يونس ، قال : حديث سمعته عن الكاظم عليه السلام ما ذكرته و أنا في بيت إلاّ ضاق عليّ ، يقول : إذا أتيت بالميّت إلى شفير قبره فأمهله ساعة فإنّه يأخذ أهبته للسّؤال٤ ، و منها : ضغطة القبر ، و في ( الكافي ) : سئل أبو عبد اللّه عن المصلوب يصيبه عذاب القبر ؟ فقال : إنّ ربّ الأرض هو ربّ الهواء ، فيوحي إلى الهواء فيضغطه ضغطة هي أشدّ من ضغطة القبر٥ ، و عنه عليه السلام : خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في جنازة سعد بن معاذ و قد شيّعه سبعون ألف ملك فرفع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأسه إلى السّماء ثمّ قال : مثل سعد يضمّ ، قال أبو بصير للصادق عليه السلام : أكان يستخفّ بالبول ؟ فقال : معاذ اللّه انّما كان زعارة في خلقه على أهله٦ و عنه عليه السلام : إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان قال

ــــــــــــ

 ( ١ ) الاعتقادات للصدوق : ٤٩ .

 ( ٢ ) الكافي ٣ : ٢٦٠ ح ٣٧ .

 ( ٣ ) المصدر نفسه ٣ : ٢٥٠ ح ٢ .

 ( ٤ ) المصدر نفسه ٣ : ١٩١ ح ٢ .

 ( ٥ ) المصدر نفسه ٣ : ٢٤١ ح ١٧ .

 ( ٦ ) المصدر نفسه ٣ : ٢٣٦ ح ٦ .

٢٠١

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رافعا رأسه إلى السماء ذكرت هذه و ما لقيت فرققت لها و استوهبتها من ضمّة القبر ، و منها : الخروج إلى المحشر ، و من شدّة هوله يقولون : يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون١ .

و روى ( الكافي ) : أن فتية من أولاد ملوك بني اسرائيل كانوا متعبّدين و كانت العبادة في أولاد ملوكهم ، فخرجوا يسيرون ليعتبروا فمرّوا بقبر على ظهر الطريق قد سفى عليه السّافي فقالوا : لو دعونا اللّه الساعة فينشر لنا صاحب هذا القبر فسألناه إلى أن قال فخرج من ذلك القبر رجل أبيض الرأس و اللحية ينفض رأسه من التراب فزعا شاخصا بصره إلى السماء فقالوا له : متّ يوم متّ و أنت على ما نرى ؟ قال : لا ، و لكن لمّا سمعت الصيّحة ( اخرج ) اجتمعت تربة عظامي فخرجت فزعا شاخصا بصري مهطعا إلى صوت الدّاعي فابيضّ لذلك رأسي و لحيتي٢ .

و منها : طول يوم القيامة و شدّته ، ففي سورة المعارج تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة فاصبر صبرا جميلا إنّهم يرونه بعيدا و نراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل و تكون الجبال كالعهن و لا يسأل حميم حميما يبصّرونهم يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته التي تؤويه و من في الأرض جميعا ينجيه٣ قال القمي في تفسير الآية الأولى : في القيامة خمسين موقفا كلّ موقف ألف سنة٤ .

ــــــــــــ

 ( ١ ) الكافي ٣ : ٢٣٦ ح ٦ ، و الآية ٥٢ من يس .

 ( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٢٦١ ح ٣٨ .

 ( ٣ ) المعارج : ٤ ١٤ .

 ( ٤ ) تفسير القمي ٢ : ٣٨٦ .

٢٠٢

« و اعلموا أنّ ملاحظ المنيّة منكم دانية » هكذا في ( المصرية )١ و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) : ( دائبة )٢ ، فهو الصحيح ، و في ( الكافي ) : عن جابر سألت أبا جعفر عليه السلام عن لحظة ملك الموت فقال : أما رأيت الناس يكونون جلوسا فتعتريهم السكتة فما يتكلّم منهم أحد فتلك لحظة ملك الموت حيث يلحظهم٣ .

« و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم » و المخلب للسباع بمنزلة الظفر للإنسان و نشب الشي‏ء فيه : علق فيه ، قال طرفة :

لعمرك انّ الموت ما أخطأ الفتى

لكا الطّول المرخى و ثنياه باليد٤ .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : ما من أهل بيت شعر و لا وبر إلاّ و يتصفّحهم كلّ يوم خمس مرّات٥ ، و عنه عليه السلام الأرض بين يدي ملك الموت كالقصعة يمدّ يده منها حيث يشاء٦ .

« و قد دهمتكم مفظعات الامور » مرّت الفقرة في سابقه .

« و معضلات المحذور » هكذا في ( المصرية )٧ و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم )٨ « و مضلعات المحذور » و في ( الصحاح ) : ( الضلع بالتحريك :

الإعوجاج خلقة تقول : منه ضلع بالكسر ، و ضلع بالفتح ، أي : مال ، و جمل مضلع

ــــــــــــ

 ( ١ ) الطبعة المصرية : ٤٦٢ .

 ( ٢ ) ابن أبي الحديد ١١ : ٥ ( دائبة ) و ابن ميثم ٤ : ٧ ( دائبة ) .

 ( ٣ ) الكافي ٣ : ٢٥٩ ح ٣١ .

 ( ٤ ) ابن منظور ، لسان العرب ٢ : ١٤٨ .

 ( ٥ ) الكافي ٣ : ١٣٧ ح ٣ .

 ( ٦ ) المصدر نفسه ٣ : ٢٥٦ ح ٢٤ .

 ( ٧ ) المصرية : ٤٦٢ .

 ( ٨ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ٥ و شرح ابن ميثم ٤ : ٧ ( معضلات ) .

٢٠٣

أي : مثقل١ ، و المضلعات من ضلع بالفتح لا بالكسر كما توهّمه ابن أبي الحديد فإنّه لا يتعدّى ، و ظلع أي : صار أعرج و أعضل أي : أشكل و في ( الكافي ) في قوله تعالى : كلاّ إذا بلغت التّراقي و قيل من راق٢ ، ذلك ابن آدم إذا حلّ به الموت ، قال : هل من طبيب ؟ و في قوله تعالى : و ظنّ أنّه الفراق٣ أيقن بمفارقة الأحبّة ، و في قوله تعالى : و التفّت السّاق بالسّاق٤ التفّت الدنيا بالآخرة و في قوله تعالى : إلى ربّك يومئذ المساق٥ المصير إلى ربّ العالمين٦ .

« فقطعوا علائق الدّنيا » يا أيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم و لا أولادكم عن ذكر اللّه و من يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون٧ قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحبّ اليكم من اللّه و رسوله و جهاد في سبيله فتربّصوا حتّى يأتي اللّه بأمره و اللّه لا يهدي القوم الفاسقين٨ و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضّوا اليها و تركوك قائما قل ما عند اللّه خير من اللّهو و من التجارة و اللّه خير الرازقين٩ .

ــــــــــــ

 ( ١ ) الصحاح : ( ضلع ) .

 ( ٢ ) القيامة : ٢٦ ٢٧ .

 ( ٣ ) القيامة : ٢٨ .

 ( ٤ ) القيامة : ٢٩ .

 ( ٥ ) القيامة : ٣٠ .

 ( ٦ ) الكافي ٣ : ٢٥٩ ح ٣٢ .

 ( ٧ ) المنافقون : ٩ .

 ( ٨ ) التوبة : ٢٤ .

 ( ٩ ) الجمعة : ١١ .

٢٠٤

« بزاد التقوى » تلك الجنّة التي نورث من عبادنا من كان تقيّا١ .

قول المصنّف : و قد مضى شي‏ء من هذا الكلام في ما تقدّم بخلاف هذه الرواية أشار إلى قوله في ( ٨١ ) « فكأن قد علقتكم مخاليب المنيّة و انقطعت منكم علائق الأمنية و دهمتكم مفظعات الامور » . كما مرّ في سابقه٢

٧

في الخطبة ( ١٣٠ ) منها :

فَإِنَّهُ وَ اَللَّهِ اَلْجِدُّ لاَ اَللَّعِبُ وَ اَلْحَقُّ لاَ اَلْكَذِبُ وَ مَا هُوَ إِلاَّ اَلْمَوْتُ قَدْ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ اَلنَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ اَلْمَالَ وَ حَذِرَ اَلْإِقْلاَلَ وَ أَمِنَ اَلْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اِسْتِبْعَادَ أَجَلٍ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ اَلْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ اَلْمَنَايَا يَتَعَاطَى بِهِ اَلرِّجَالُ اَلرِّجَالَ حَمْلاً عَلَى اَلْمَنَاكِبِ وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ أَ مَا رَأَيْتُمُ اَلَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً وَ مَا جَمَعُوا بُوراً وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لاَ فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ وَ لاَ مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ فَمَنْ أَشْعَرَ اَلتَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا وَ اِعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا فَإِنَّ اَلدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا اَلْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ اَلْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ وَ قَرِّبُوا اَلظُّهُورَ لِلزِّيَالِ

ــــــــــــ

 ( ١ ) مريم : ٦٣ .

 ( ٢ ) راجع صفحة ٦٨ .

٢٠٥

أقول : قوله : « فإنّه و اللّه الجدّ لا اللّعب » فيه من التأكيد ما لا مزيد عليه لكون المخاطبين عملهم عمل المنكر أشدّ الإنكار و ( الجدّ ) هنا بالكسر لأنّه نقيض الهزل و اللّعب ، و امّا الجدّ بالفتح فهو الحطّ ، و الجدّ بالضّمّ : البئر .

« و الحقّ لا الكذب » في الخبر : لم يخلق اللّه يقينا أقرب إلى الشّك من الموت١ .

أؤمّل أن أعيش و انّ يومي

بأوّل أو بأهون أو جبار

أو التالي دبار أو فيومي

بمونس أو عروبة أو شبار٢

و هي أسماء الأسبوع من أحد إلى السبت في الجاهلية .

« و ما هو إلاّ الموت قد اسمع داعيه » هكذا في ( المصرية )٣ و الظاهر زيادة ( قد ) لخلوّ ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي ) عنه٤ ، و في ( الكافي ) عن أبي جعفر عليه السلام : ينادي مناد في كلّ يوم ( ابن آدم لد للموت و اجمع للفناء و ابن للخراب )٥ هذا و واضح ان ( أسمع ) و ( أعجل ) ماضيان و ( داعيه ) و ( حاديه ) بسكون الياء فيهما فاعلان لهما ، و المفعول مقدّر أي : أسمع داعي الموت النّاس و أعجلهم حاديه و قال ( الخوئي ) : « أسمع » و « أعجل » منصوبان على الحال امّا لفظا لو كان ( أفعل ) بصيغة التفضيل فيكون « داعيه » و « حاديه » مجرورين بإضافة ( أفعل ) إليهما من باب اضافة الصفة إلى مفعوله و لو كان

ــــــــــــ

 ( ١ ) وردت الرواية في الخصال : لم يخلق اللّه ( عزّ و جلّ ) يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ، الخصال ١ : ١٤ و نقله المجلسي في البحار ١ : ١٢٧ .

 ( ٢ ) بحار الأنوار للمجلسي ٥٩ : ٥٢ كذلك لسان العرب ٤ : ٢٨٥ .

 ( ٣ ) الطبعة المصرية المصححة بلا ( قد ) : ٣٠١ .

 ( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ و شرح ابن ميثم ٣ : ١٥ ( قد ) ، و شرح الخوئي ٨ : ٢٩٣ ح ١٣٢ .

 ( ٥ ) الكافي ٣ : ٢٥٥ ح ١٩ .

٢٠٦

« أسمع » فعلا ماضيا ف « داعيه » منصوب بالمفعولية١ . و في كلامه كما ترى أوهام فاحشة ، فأيّ معنى للتفضيل هنا فهل يصحّ أن يقال : الموت أسمع من داعيه و أعجل من حاديه ؟ كما أنّه على الماضي لا معنى لأن يقال : أسمع الموت داعيه و اعجل حاديه ، و في ( الأغاني ) : اصطبح نبيه المغني عند عبيد اللّه بن غسان فقال له : أيّ شي‏ء تشتهي ؟ قال كبد غزال فأطعمه فلما استوفى أكله استلقى لينام فحرّكوه ، فإذا هو ميّت فجزعوا ، و بعث عبيد اللّه إلى أمّه فجاءت فأخبرها بخبره فقالت : لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا و ميتة أبيهم من قبلهم٢ . و قيل بالفارسيّة ( ناگهان بانگى برامد خواجه مرد ) و في ( الحلية ) ، عن زيد بن السلمي : أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان إذا أنس غفلة أو غرة نادى فيهم بصوت رفيع : أتتكم المنيّة راتبة لازمة امّا بشقاوة و امّا بسعادة٣ .

« و أعجل حاديه » في ( الصحاح ) : ( الحدو ) سوق الإبل و الغناء لها و يقال للشّمال حدواء لأنّها تحدوا السّحاب أي : تسوقه٤ ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى : إنّما نعدّلهم عدّا٥ المراد تعداد عدد الأنفاس لا الأيّام فالآباء و الامّهات يحصون أيّام ولدهما .

« فلا يغرّنّك سواد الناس من نفسك » في ( اسد الغابة ) : عاش حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام هو و أباؤه كلّ منهم مائة و عشرين سنة ، و لا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد و عاش كلّ منهم مائة و عشرين سنة ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح الخوئي ٨ : ٢٩٣ .

 ( ٢ ) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٦ : ١٦٢ .

 ( ٣ ) حلية الأولياء لأبي نعيم الاصفهاني ٧ : ٣٠٤ .

 ( ٤ ) الصحاح : ( حدد ) .

 ( ٥ ) مريم : ١٨ .

٢٠٧

و ذكر عند عبد الرحمن بن حسّان عمر أبيه و أجداده فاستلقى على فراشه و ضحك فمات و هو ابن ثمان و أربعين سنة١ و في ( الكافي ) : أنّ السجّاد و الباقر عليهما السّلام كانا إذا رأيا جنازة قالا : ( الحمد للّه الذي لم يجعلني من السواد المخترم ) و قال تعالى حاكيا عن المؤمنين قولهم في القيامة للمنافقين :

و غرَّتكم الأماني حتّى جاء أمر اللّه و غرّكم باللّه الغرور .٢ و في ( الطبري ) :

لما احتضر المعتصم جعل يقول : انّي أخذت من بين هذا الخلق لو علمت أنّ عمري هكذا قصير ما فعلت ما فعلت و جعل يقول : ذهبت الحيل ليست حيلة ،

حتّى أصمت ، و سمع الحسن البصري جارية تبكي على قبر أبيها و هي تقول :

يا أبه لم أر مثل يومك فقال : الذي لم يرو اللّه مثل يومه أبوك و سمع عمر بن عبد العزيز خصيّا للوليد على قبره و هو يقول : يا مولاي ماذا لقينا من بعدك فقال له عمر : أما و اللّه لو اذن له في الكلام لأخبر أنّه لقي بعدكم أكثر ممّا لقيتم بعده٣ ، هذا و قال ابن ميثم : يعني لا يغرّنك من نفسك الأمّارة بالسوء وسوستها و استغفالها لك عن ملاحظة الموت سواد الناس٤ ، و قال ابن أبي الحديد : « من » في « من نفسك » بمعنى الباء ، أي : لا يغرّنّك النّاس بنفسك و صحتك و شبابك ، و اما متعلّقة بمحذوف تقديره متمكنا من نفسك و راكنا إليها٥ ، و كلّ منهما كما ترى بلا محصّل ، و واضح أنّ المراد دفع الوهم ، بأنّ الإنسان في كلّ وقت يرى عددا لا يحصون فيقول ، كما لم يمت هؤلاء الجمع الكثير لا أموت أنا بأنّ ذلك لا يصير سببا لاغتراره لأنّ السواد يحصل

ــــــــــــ

 ( ١ ) اسد الغابة لابن الأثير ٢ : ٧ .

 ( ٢ ) الحديد : ١٤ .

 ( ٣ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٧ : ٣١٤ .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٣ : ١٥١ .

 ( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ .

٢٠٨

من كثير من الناشئين الّذين نشأوا بعده و قليل من الّذين كانوا في سنّه أو أكثر منهم بقليل ، و لو بدّل توجّه بصره إلى السّواد الكلّي بتوجّه بصيرته إلى أشخاص أهل بيته ، و عشيرته ، و أصدقائه ، و أهل حرفته ، و ساير طبقات بلده لتوحّش و تبدّل اغتراره بالاعتبار .

« فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال » مأخوذ من قوله تعالى : الذي جمع مالاً و عدّده يحسبُ أن ماله أخلده١ قال ابن ميثم و تبعه الخوئي٢ :

أنّه بيان لقوله : ( فلا يغرّنّك ) و الصّواب : كونه بياناً لقوله : ( ما هو إلاّ الموت ) كما أنّ قوله : ( لا يغرّنّك ) دفع توهّم يرد على قوله : ( ما هو إلاّ الموت ) .

« و حذر الأقلال » أي : الافتقار .

« و أمن العواقب طول أمل و استبعاد أجل » ( طول و استبعاد ) ، منصوبان تعليلا فإنّه المتبادر ، لا بدل ( من ) كما احتمله ابن أبي الحديد٣ .

قال أبو العتاهية :

كلّنا نأمل مدّا في الأجل

و المنايا هنّ آفات الأمل

لا يغرنّك أباطيل المنى

و الزم القصد وضع عنك العلل

انّما الدّنيا كظلّ زائل

حلّ فيها راكب ثمّ رحل٤

« كيف نزل به الموت فازعجه عن وطنه » في ( الصحاح ) : أزعجه : أقلقه و قلعه عن مكانه٥ .

« و أخذه من مأمنه » قال تعالى حاكيا عن قول صالح لقومه : أتتركون في

ــــــــــــ

 ( ١ ) الهمزة : ٢ ٣ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم في ٣ : ١٥١ و شرح الخوئي في ٨ : ٣٠٠ .

 ( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ .

 ( ٤ ) البيت الأخير منسوب للإمام علي عليه السلام الديوان : ١٢٥ .

 ( ٥ ) الصحاح : ( زعج ) .

٢٠٩

ما هاهنا آمنين في جناتٍ و عيونٍ و زروعٍ و نخلٍ طلعها هضيم١ قال المخبل السعدي :

و لئن بنيت لي المشقر في

عنقاء تقصر دونها العصم

لتنقّبن عنّي المنيّة

انّ اللّه ليس كحكمه حكم٢

« محمولا على أعواد المنايا » :

كلّ ابن انثى و ان طالت سلامته

يوما على آلة الحدباء محمول٣

« يتعاطى به الرّجال الرّجال حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل » في ( الكافي ) عن الكاظم عليه السلام : السنّة في حمل الجنازة أن تستقبل السرير بشقّك الأيمن فتلزم الأيسر بكفّك الأيمن ثم تمرّ عليه إلى الجانب الآخر ، و تدور من خلفه إلى الجانب الثالث من السرير ، ثمّ تمرّ عليه إلى الجانب الرابع ممّا يلي يسارك٤ و عن الصادق عليه السلام : تبدأ في حمل السرير من الجانب الأيمن ثمّ تمرّ عليه من خلفه إلى الجانب الآخر ثمّ تمرّ حتى ترجع إلى المتقدّم كذلك دوران الرّحى عليه٥ هذا و الظّاهر أنّ « حملا » و « إمساكا » حالان من الفاعل و المفعول ليتعاطى و أفرادهما لكونهما مصدرين ، و المصدر لا يثنّى و لا يجمع و ان كان بمعنى الوصف ، كما هنا فإنّ الأصل حاملين له على المناكب و ممسكين له بالأنامل و لا مجال لكونهما مفعولا له كما احتمله٦ الخوئي لأنّ التعاطي لا يكون للحمل و الإمساك بل للإشتراك في فضل الحمل أو لرفع

ــــــــــــ

 ( ١ ) الشعراء : ١٤٦ ١٤٨ .

 ( ٢ ) لسان العرب ٧ : ١٦٣ .

 ( ٣ ) المصدر نفسه ٣ : ٧٣ .

 ( ٤ ) الكافي ٣ : ١٦٨ ح ١ .

 ( ٥ ) المصدر نفسه ٣ : ١٦٩ ح ٤ .

 ( ٦ ) شرح الخوئي ٨ : ٢٩٧ .

٢١٠

التعب عمّن حمله قبل١ .

« أما رأيتم الذين يأملون بعيدا و يبنون مشيدا » في ( الصحاح ) : المشيد :

المعمول بالشيد ، و الشّيد بالكسر كلّ شي‏ء طليت به الحائط من جصّ أو بلاط و المشيّد بالتشديد : المطوّل ، و قال الكسائي المشيد للواحد من قوله تعالى :

و قصرٍ مشيدٍ٢ و المشيّد للجمع من قوله تعالى : في بروجٍ مشيّدةٍ٣ .

« و يجمعون كثيرا » كلاّ إنّها لظى نزّاعة للشّوى تدعو من أدبر و تولّى و جمع فأوعى٤ و قال تعالى في قارون : فخسفنا به و بداره الأرض فما كان له من فئةٍ ينصرونه من دون اللّه و ما كان من المنتصرين٥ .

« كيف » هكذا في ( المصرية )٦ و الكلمة زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية )٧ .

« أصبحت بيوتهم قبورا و ما جمعوا بورا » أي : هالكا قال الأسود بن يعفر :

ماذا أؤمّل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم و بعد اياد

أهل الخورنق و السدير و بارق

و القصر ذي الشّرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيي‏ء من أطواد

أرض تخيّرها لطيب مقيلها

كعب بن مامة و ابن امّ دواد

جرت الرياح على محلّ ديارهم

فكأنّهم كانوا على ميعاد

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح الخوئي ٨ : ٢٩٧ .

 ( ٢ ) الحج : ٤٤ .

 ( ٣ ) الصحاح : ( شيد ) و الآية ٨٢ من سورة النساء .

 ( ٤ ) المعارج : ١٥ ١٨ .

 ( ٥ ) القصص : ٨١ .

 ( ٦ ) المصرية المصححة لا وجود لهذا اللفظ : ٣٠٢ .

 ( ٧ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ و شرح ابن ميثم ٣ : ١٥٠ ( كيف ) و الخطية : ١١١ .

٢١١

فأرى النعيم و كلّ ما يلهى به

يوما يصير إلى بلى و نفاد١

« و صارت أموالهم للوارثين » قال تعالى في فرعون و قومه : كم تركوا من جنّاتٍ و عيونٍ و زروع و مقامٍ كريم و نعمةٍ كانوا فيها فاكهين كذلك و أورثناها قوماً آخرين فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين٢ هذا و في ( المعمّرين لأبي حاتم ) : سئل عبيد الجرهمي ، و كان عاش ثلاثمائة سنة ، عن أعجب شي‏ء رآه فقال : انّي نزلت بحيّ من قضاعة فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له حريث بن جبلة فخرجت معهم حتّى إذا واروه انتدبت جانبا و عيناي تذر فان ، ثمّ تمثّلت شعرا كنت رويته قبل :

و بينما المرء في الأحياء مغتبطا

إذ صار في الأمس تعفوه الأعاصير

حتّى إذا لم يكن الاّ تذكّره

و الدهر أيّة ما حال دهارير

يبكي الغريب عليه ليس يعرفه

و ذو قرابته في الحيّ مسرور

و ذاك آخر عهدي من أخيك إذا

ما المرء ضمّنه اللحد الخناسير

الخناسير : المشيّعون ، فقال رجل : من قائلها ؟ قلت : لا أدري ، قال : قائلها هذا الّذي دفنّاه و إنّ هذا ذو قرابته أسرّ الناس بموته ، و انّك الغريب لا تعرفه تبكي عليه٣ .

« و أزواجهم لقوم آخرين » في ( المعجم ) : كان المتوكّل وهب جارية من جواريه حسنة كاملة يقال لها : ( صاحب ) أحمد بن حمدون ، فلمّا مات تزوجّت ،

قال أبو علي بن يحيى المنجّم : فرأيته في النّوم و هو يقول :

أبا عليّ ما ترى العجائبا

أصبح جسمي في التّراب غائبا

ــــــــــــ

 ( ١ ) ذكرها الأصفهاني في الأغاني ١٣ : ١٦ ١٧ ، و ابن عبد ربه في العقد الفريد ٣ : ٢٩ ، و بعضه ابن منظور في لسان العرب ١ : ٣٨٤ .

 ( ٢ ) الدخان : ٢٥ ٢٨ .

 ( ٣ ) المعمّرون و الوصايا لأبي حاتم : ٥٢ .

٢١٢

و استبدلت ( صاحب ) بعدي صاحبا١

و في ( الأغاني ) تزوّج عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو امّ هشام بنت عبد اللّه بن عمر ، و كانت من أجمل نساء قريش و كان يجد بها و جدا شديدا فمرض مرضته التي هلك فيها فجعل يديم النّظر إليها و هي عند رأسه فقالت له :

انّك لتنظر نظر رجل له حاجة قال : أي و اللّه ، إنّي لي إليك حاجة لو ظفرت بها لهان عليّ ما أنا فيه قالت : و ما هي ؟ قال : أخاف أن تزوّجي بعدي قالت : فما يرضيك ؟ قال : أن توثقي لي بالأيمان المغلّظة فحلفت له بكلّ يمين سكنت إليها نفسه ثمّ هلك فلّما قضت عدّتها خطبها عمر بن العزيز و هو أمير المدينة فأرسلت إليه ما أراك إلاّ و قد بلغتك يميني ، فأرسل إليها : لك مكان كلّ عبد و أمة عبدان و أمتان ، و مكان كلّ علق علقان ، و مكان كلّ شي‏ء ضعفه فتزوجته٢ .

« لا في حسنة يزيدون » حتّى إذا جاء أحدهم الموتُ قال ربِّ ارجعونِ لعلّي أعمل صالحا فيما تركت كلاّ إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون٣ ، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الّذي كنّا نعمل قد خسروا أنفسهم و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون٤ ، و هم يصطرخون فيها ربّنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنّا نعمل أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكّر و جاءكم النّذير فذوقوا فما للظالمين من نصير٥ .

« و لا من سيئة يستعتبون » أي : يسترجعون قال تعالى : و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النّار و مالكم من ناصرين ذلكم

ــــــــــــ

 ( ١ ) معجم الادباء للحموي ٢ : ٢٠٨ ترجمة ( أحمد بن حمدون ) .

 ( ٢ ) الأغاني للأصفهاني ١٣ : ٣٩ ٣٨ .

 ( ٣ ) المؤمنون : ٩٩ ١٠٠ .

 ( ٤ ) الأعراف : ٥٣ .

 ( ٥ ) فاطر : ٣٧ .

٢١٣

بأنّكم اتّخذتم آيات اللّه هزوا و غرّتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون١ ، فيومئذ لا ينفع الّذين ظلموا معذرتهم و لا هم يستعتبون٢ .

« فمن اشعر التقوى قلبه » أي : جعل التقوى شعار قلبه ، و الشعار ما ولي الجسد من الثّياب .

« برّز مهله » قال ابن أبي الحديد : المهل : شوط الفرس٣ و إنّما قال الجوهري : ( برّز الرجل : فاق على أصحابه و كذلك الفرس إذا سبق )٤ و هو كما ترى لا يفهم منه أكثر من أنّ ( برّز الفرس ) بمعنى سبق الفرس و الصّواب : أنّ المهل : التقدّم في الخير ، ففي ( المغرب ) : المهل بالتحريك : التقدّم ، و به كنّى أبو مهل عروة بن عبد اللّه ابن قشير الجعفي٥ ، و في ( النهاية ) : فلان ذو مهل ، أي :

تقدّم في الخير ، و لا يقال في الشّرّ ، ثمّ لا وجه لنصب « مهله » بعد كون قوله بعد ذلك : « و فاز عمله » بالرّفع٦ .

« و فاز عمله » و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنّهم إلى ربّهم راجعون اولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون٧ .

« فاهتبلوا هبلها » أي : اغتنموا غنيمتها فيكون « هبلها » مفعولا به و يكون « اهتبلوا هبلها » مساوقا لقوله تعالى : و أعدّوا له عدّة و ممّا ذكرنا يظهر لك

ــــــــــــ

 ( ١ ) الجاثية : ٣٤ ٣٥ .

 ( ٢ ) الروم : ٥٧ .

 ( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ .

 ( ٤ ) الصحاح : ( برز ) .

 ( ٥ ) المغرب لأبي الفتح ٢ : ١٩٤ .

 ( ٦ ) النهاية لابن الأثير ٤ : ٣٣٥ ( مهل ) .

 ( ٧ ) المؤمنون : ٦٠ ٦١ .

٢١٤

ما في قول ابن أبي الحديد : هبلها منصوب على المصدر كأنّه من هبل مثل غضب غضبا١ و ما في قول ابن ميثم : هبلها مصدر مضاف إلى ضمير التقوى مؤكّد للفعل أي : أحكموها إحكامها٢ فلو كان « هبلها » مفعولا مطلقا لقال : فاهتبلوا لها اهتبالا ، و بالجملة لا ريب أن هبلها مثل عملها في قوله بعد :

« و اعملوا للجنّة عملها » و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى فانّ الجنّة هي المأوى٣ الّذين هم في صلاتهم خاشعون و الّذين هم عن اللّغو معرضون و الّذين هم للزّكاة فاعلون و الّذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم فإنّهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون و الّذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون و الذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون٤ ، في جنّة عالية قطوفها دانية ،

كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية٥ و في الخبر : من أحبّ أن تكون الجنّة مسكنه و مأواه فلا يدع زيارة المظلوم٦ .

« فإنّ الدنيا لم تخلق لكم دار مقام » بالضمّ أي : إقامة .

« بل خلقت لكم مجازا » في ( الصحاح ) : ( جعل الأمر مجازا إلى حاجته ، أي :

طريقا و مسلكا٧ .

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ٨ : ٢٦٩ .

 ( ٢ ) شرح ابن ميثم .

 ( ٣ ) النازعات : ٤٠ ٤١ .

 ( ٤ ) المؤمنون : ٢ ١١ .

 ( ٥ ) الحاقة : ٢٢ ٢٤ .

 ( ٦ ) كامل الزيارات للصدوق : ٢ و نقله المجلسي في البحار ٩٨ : ٦٦ ح ٥٧ .

 ( ٧ ) الصحاح : ( جوز ) .

٢١٥

« لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار » يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا اللّه و لتنظر نفس ما قدّمت لغد و اتّقوا اللّه إنّ اللّه خبير بما تعملون١ .

« فكونوا منها على أوفاز » في ( الصحاح ) : الوفز : العجلة ، يقال : نحن على أو فاز ، أي : على سفر٢ .

« و قرّبوا الظهور للزّيال » في ( المغرب ) : يستعار الظهر للدّابّة و الرّاحلة ،

و منه ( و لا ظهرا بقى ) ، و الزّيال : مصدر زايل كالمزايلة و هو المفارقة٣ ، قال النبي صلّى اللّه عليه و آله : مالي و للدّنيا إنّما مثلي و مثلها كمثل راكب رفعت له شجرة في يوم صائف ، فقال من القيلولة تحتها ، ثمّ راح و تركها .

٨

الخطبة ( ٢١٦ ) و من كلام له عليه السلام بعد تلاوته ألهاكم التّكاثر حتّى زرتم المقابر :

يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ لَقَدِ اِسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ أَمْ بِعَدِيدِ اَلْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ اَلْعَشْوَةِ وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ وَ لَوِ اِسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ اَلدِّيَارِ اَلْخَاوِيَةِ وَ اَلرُّبُوعِ اَلْخَالِيَةِ لَقَالَتْ ذَهَبُوا

ــــــــــــ

 ( ١ ) الحشر : ١٨ .

 ( ٢ ) الصحاح : ( وفز ) .

 ( ٣ ) المغرب لأبي الفتح ٢ : ٢٥ .

٢١٦

فِي اَلْأَرْضِ ضُلاَّلاً وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالاً تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا وَ إِنَّمَا اَلْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ اَلَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ اَلْعِزِّ وَ حَلَبَاتُ اَلْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً سَلَكُوا فِي بُطُونِ اَلْبَرْزَخِ سَبِيلاً سُلِّطَتِ اَلْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لاَ يَنْمُونَ وَ ضِمَاراً لاَ يُوجَدُونَ لاَ يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ اَلْأَهْوَالِ وَ لاَ يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ اَلْأَحْوَالِ وَ لاَ يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لاَ يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ غُيَّباً لاَ يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لاَ يَحْضُرُونَ وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلاَّفاً فَافْتَرَقُوا وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لاَ بُعْدِ مَحَلِّهِمْ عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً فَكَأَنَّهُمْ فِي اِرْتِجَالِ اَلصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ جِيرَانٌ لاَ يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لاَ يَتَزَاوَرُونَ بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا اَلتَّعَارُفِ وَ اِنْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ اَلْإِخَاءِ فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ وَ بِجَانِبِ اَلْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلاَّءُ لاَ يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لاَ لِنَهَارٍ مَسَاءً أَيُّ اَلْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا فَكِلْتَا اَلْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ اَلْخَوْفِ وَ اَلرَّجَاءِ فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ اِنْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ اَلْعِبَرِ وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ اَلْعُقُولِ وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ اَلنُّطْقِ فَقَالُوا كَلَحَتِ اَلْوُجُوهُ اَلنَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ اَلْأَجْسَامُ اَلنَّوَاعِمُ وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ اَلْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا

٢١٧

ضِيقُ اَلْمَضْجَعِ وَ تَوَارَثْنَا اَلْوَحْشَةَ وَ تَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا اَلرُّبُوعُ اَلصُّمُوتُ فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ اَلْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لاَ مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ اَلْغِطَاءِ لَكَ وَ قَدِ اِرْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ وَ اِكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ وَ تَقَطَّعَتِ اَلْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلاَقَتِهَا وَ هَمَدَتِ اَلْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا وَ سَهَّلَ طُرُقَ اَلْآفَةِ إِلَيْهَا مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلاَ أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لاَ قُلُوبٌ تَجْزَعُ لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لاَ تَنْتَقِلُ وَ غَمْرَةٌ لاَ تَنْجَلِي فَكَمْ أَكَلَتِ اَلْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ كَانَ فِي اَلدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ وَ يَفْزَعُ إِلَى اَلسَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى اَلدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ اَلدُّنْيَا إِلَيْهِ فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ اَلدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ وَ نَقَضَتِ اَلْأَيَّامُ قُوَاهُ وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ اَلْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ فَخَالَطَهُ بَثٌّ لاَ يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ اَلْأَطِبَّاءُ مِنْ تَسْكِينِ اَلْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ اَلْبَارِدِ بِالْحَارِّ فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلاَّ ثَوَّرَ حَرَارَةً وَ لاَ حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلاَّ هَيَّجَ بُرُودَةً وَ لاَ اِعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ اَلطَّبَائِعِ إِلاَّ أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ اَلسَّاِئِلينَ عَنْهُ وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى

٢١٨

فَقْدِهِ يُذَكِّرُهُمْ أُسَى اَلْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْيَا وَ تَرْكِ اَلْأَحِبَّةِ إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ اَلدُّنْيَا أقول : قول المصنّف : ( و من كلام له عليه السلام بعد تلاوته ألهاكم التكاثر حتّى زرتم المقابر في ( أسباب نزول الواحدي ) : قال مقاتل و الكلبي : نزلت في حيّين من قريش بني عبد مناف و بني سهم ، كان بينهم لحافتعاند السادة و الأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف : نحن أكثر سيّدا و عزّا و أعظم نفرا ،

و قال بنوسهم مثل ذلك فكثّرهم بنو عبد مناف ثمّ قالوا : نعدّ موتانا حتّى زاروا القبور ، فعدّوا موتاهم فكثّرهم بنو سهم لأنّهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية .

و قال قتادة : نزلت في اليهود ، قالوا : نحن أكثر من بني فلان و بنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتّى ماتوا ضلالا١ ، هذا و قال ابن أبي الحديد بعد عنوان هذه الخطبة : هذا موضع المثل ( ضلعا يا ظليم و إلاّ فالتّخوية ) من أراد أن يعظ و يخوّف و يقرع صفاة القلب ، و يعرّف النّاس قدر الدّنيا و تصرّفها بأهلها ،

فليأت بمثل هذه الموعظة في مثل هذا الكلام الفصيح و إلاّ فليمسك ، فإنّ السّكوت أستر ، و العيّ خير من منطق يفضح صاحبه و من تأمّل هذا الفصل علم صدق معاوية في قوله فيه عليه السلام : ( و اللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره ) و ينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس ، و تلي عليهم أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عديّ بن الرّقاع في قوله : ( قلم أصاب من الدّواة

ــــــــــــ

 ( ١ ) أسباب النزول للواحدي : ٣٤١ .

٢١٩

مدادها ) فقيل لهم في ذلك ، فقالوا : ( إنّا نعرف موضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن ) و إنّي لأطيل التعجّب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدلّ على أنّ طبعه مناسب لطباع الأسود و النمور ، ثمّ يخطب في ذلك الموضع بعينه ، إذا أراد الموعظة بكلام يدلّ على أنّ طبعه مشاكل لطباع الرّهبان اللابسي المسوح الّذين لم يأكلوا لحما ، و لم يريقوا دما ، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس الشيباني و عتيبة بن الحارث اليربوعي ،

و عامر بن الطفيل العامري ، و تارة يكون في صورة سقراط الحبر اليوناني ،

و يوحنّا المعمدان الإسرائيلي ، و المسيح بن مريم الإلهي و أقسم بما يقسم به الامم كلّها به ، لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة و إلى الآن أكثر من ألف مرّة ، ما قرأتها قطّ إلاّ و أحدثت عندي روعة و خوفا و عظة ، و أثّرت في قلبي وجيبا و في أعضائي رعدة ، و لا تأمّلتها إلاّ و ذكرت الموتى من أهلي و أقاربي و أرباب ودّي ، و خيّلت في نفسي انّي أنا ذلك الشخص الذي وصف حاله و كم قد قال الواعظون و الخطباء و الفصحاء في هذا المعنى ، و كم وقفت على ما قالوه و تكرّر وقوفي عليه ، فلم أجد لشي‏ء منه مثل تأثير هذا الكلام في نفسي ،

فإمّا أن يكون ذلك لعقيدتي في قائله ، أو نيّة القائل كانت صالحة ، و يقينه كان ثابتا ، و إخلاصه كان محضا خالصا١ .

« يا له مراما ما أبعده » جمع عليه السلام بين نداء التعجّب في قوله : « يا له مراما » و فعل التعجّب في قوله « ما أبعده » تنبيها على أنّ هذا المرام و هذا المقصد من التفاخر بالموتى في غاية التعجّب .

« و زورا ما أغفله » قال ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي ، يعني عليه السلام

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١١ : ١٥٢ .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608