بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١١

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة12%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 608

  • البداية
  • السابق
  • 608 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 48577 / تحميل: 7272
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١١

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

بدليّة فجمعت الطبعة المصرية بينهما فاقتصر ( ابن ميثم )١ على الأول ،

و القمّي على الثاني ، و لا معنى للجمع بينهما لأنّه لا مناسبة في أن يقال : « نسينا كلّ رجل واعظ و امرأة واعظة » ثم الظاهر أصحّيتة « واعظة » لكونها قرينة « جائحة » في الفقرة بعدها ، و المراد : كلّ صفة و خصلة واعظة .

« و رمينا بكلّ جائحة » أي : رمينا بكلّ خصلة مهلكة ، و الجائحة : الشدّة التي يحتاج المال ، أي : يستأصله من سنة أو فتنة .

هذا و في ( العيون ) : ( كان الحسن يعني البصري إذا شيّع جنازة لم ينتفع به أهله و ولده و اخوانه ثلاثا )٢ .

هذا ، و في ( ابن أبي الحديد٣ و ابن ميثم٤ و الخطية )٥ جعل ( طوبى لمن ذلّ في نفسه . ) الذي في ( المصرية )٦ بعد هذا العنوان ، جزء هذا العنوان فهو الصحيح و يشهد له مستنده خبر ( تفسير القمي ) أيضا .

١٩

الحكمة ( ١٣٠ ) و قال عليه السلام و قد رجع من صفّين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة :

يَا أَهْلَ اَلدِّيَارِ اَلْمُوحِشَةِ وَ اَلْمَحَالِّ اَلْمُقْفِرَةِ وَ اَلْقُبُورِ اَلْمُظْلِمَةِ يَا أَهْلَ اَلتُّرْبَةِ وَ يَا أَهْلَ اَلْغُرْبَةِ وَ يَا أَهْلَ اَلْوَحْشَةِ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَ نَحْنُ

ــــــــــــ

 ( ١ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٠٦ بلفظ « واعظة » .

 ( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٣٦٢ .

 ( ٣ ) ابن أبي الحديد ١٨ : ٣١١ .

 ( ٤ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٦ .

 ( ٥ ) النسخة الخطية : ٣١٩ .

 ( ٦ ) الطبعة المصرية المصححة أعطته رقما جديدا هو ( ١٢٤ ) لفصلها عمّا سبقها راجع صفحة : ٦٨٥ من الطبعة المصرية

٣٢١

لَكُمْ تَبَعٌ لاَحِقٌ أَمَّا اَلدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ وَ أَمَّا اَلْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ وَ أَمَّا اَلْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي اَلْكَلاَمِ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ اَلزَّادِ اَلتَّقْوَى أقول : رواه نصر بن مزاحم في ( صفينه ) ، و ( الطبري في تاريخه ) مع اختلاف ، روى الأوّل في طيّ ذكر رجوعه عليه السلام من صفّين ، عن عبد الرحمن بن جندب قال ثم مضى عليه السلام حتّى جزنا دور بني عوف ، فإذا نحن عن أيماننا بقبور سبعة أو ثمانية ، فقال عليه السلام : ما هذه القبور ؟ فقال له قدامة بن عجلان الأزدي : إنّ خبّاب بن الأرت توّفي بعد مخرجك ، فأوصى أن يدفن في الظّهر ،

و كان الناس يدفنون في دورهم و أفنيتهم ، فقال عليه السلام : رحم اللّه خبّابا إلى أن قال فجاء عليه السلام حتى وقف عليهم ثم قال : « السلام عليكم يا أهل الدّيار الموحشة و المحالّ المقفرة ، من المؤمنين و المؤمنات ، و المسلمين و المسلمات ، أنتم لنا سلف و فرط ، و نحن لكم تبع ، و بكم عمّا قليل لاحقون .

اللّهم اغفر لنا و لهم ، و تجاوز عنّا و عنهم » ثم قال : « الحمد للّه الذي جعل الأرض كفاتا ، أحياء و أمواتا ، الحمد للّه الذي جعل منها خلقنا ، و فيها يعيدنا ، و عليها يحشرنا ، طوبى لمن ذكر المعاد ، و عمل للحساب ، و قنع بالكفاف ، و رضي عن اللّه بذلك » ثمّ أقبل حتّى دخل سكّة الثّوريين١ .

و مثله الثاني مع أدنى اختلاف٢ و رواه ( عقد ابن عبد ربه ) و ( بيان الجاحظ ) فقالا : « كان عليّ كرّم اللّه وجهه إذا دخل المقبرة قال : أما المنازل فقد سكنت ، و أمّا الأزواج فقد نكحت ، فهذا خبر ما عندنا فليت شعري ما عندكم ، ثم

ــــــــــــ

 ( ١ ) صفين لنصر بن مزاحم : ٥٣١ .

 ( ٢ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ٤٥ .

٣٢٢

قال : و الذي نفسي بيده لو اذن لهم في الكلام لقالوا : انّ خير الزّاد التقوى ، و كان يقول عليه السلام إذا دخل المقبرة : « السلام عليكم أهل الدّيار الموحشة ، و المحالّ المقفرة ، من المؤمنين و المؤمنات اللّهمّ اغفر لنا و لهم ، و تجاوز بعفوك عنّا و عنهم ، ثم يقول : الحمد للّه الذي جعل الأرض كفاتا احياء و أمواتا ، و الحمد للّه الذي منها خلقنا و إليها يعيدنا و عليها يحشرنا ، طوبى لمن ذكر المعاد و عمل الحسنات و قنع بالكفاف و رضي عن اللّه عزّ و جل »١ و رواه ( الفقيه )٢ مختصرا .

قوله : « و قال عليه السلام و قد رجع من صفّين » بين دور بني عوف و سكّة الثوريّين .

« فأشرف على القبور بظاهر الكوفة » قد عرفت من رواية نصر أنّها قبور حدثت بعد شخوصه عليه السلام إلى الشام و الأوّل منها قبر خبّاب .

و في ( تفسير القمي ) : نظر عليه السلام في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال :

« هذه كفات الأموات » أي : مساكنهم ثمّ نظر إلى بيوت الكوفة فقال : « هذه كفات الأحياء » ثم تلا قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء و أمواتا٣ .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام ، قال أمير المؤمنين عليه السلام : زوروا موتاكم فإنّهم يفرحون بزيارتكم ، و ليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه و عند قبر امّه بما يدعو لهما٤ و عن عليّ بن بلال : و كان مشى إلى قبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع ، قال : قال لي صاحب هذا القبر عن الرضا عليه السلام : من أتى قبر

ــــــــــــ

 ( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٣ : ١٦٥ ، و البيان و التبيين للجاحظ ٣ : ١٥٥ .

 ( ٢ ) الفقيه ١ : ١٧٩ .

 ( ٣ ) تفسير القمي ٢ : ٤٠٠ ، و الآية ٢٥ ، ٢٦ من سورة المرسلات .

 ( ٤ ) الكافي ٣ : ٢٣٠ ح ١٠ .

٣٢٣

أخيه ثم وضع يده على القبر و قرأ إنّا أنزلناه في ليلة القدر١ سبع مرّات أمن يوم الفزع الأكبر٢ و عن عمرو بن أبي المقدام : مررت مع أبي جعفر عليه السلام بالبقيع فمررنا بقبر رجل من أهل الكوفة من الشيعة فوقف عليه فقال : « اللّهمّ ارحم غربته ، وصل وحدته ، و آنس وحشته ، و اسكن إليه من رحمتك ما يستغني به عن رحمة من سواك و ألحقه بمن كان يتولاّه »٣ .

« يا أهل الديار الموحشة » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام في التسليم على أهل القبور : السلام على أهل الديار من المسلمين و المؤمنين ، رحم اللّه المستقدمين منّا و المستأخرين ، و انّا إن شاء اللّه بكم لاحقون٤ .

« و المحال المقفرة » من ( أقفرت الدّار ) : خلت ، و القفر : مفازة لا نبات فيها و لا ماء .

« و القبور المظلمة يا أهل التربة و يا أهل الغربة و يا أهل الوحشة » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : ما من موضع قبر إلاّ و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات : « أنا بيت التّراب ، أنا بيت البلى ، أنا بيت الدّود و زاد في خبر آخر : أنا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران »٥ .

« أنتم لنا فرط سابق » في ( الصحاح ) : الفرط بالتحريك الذي يتقدّم الواردة فيهيّئ لهم الأرسان و الدّلاء ، و يمدر الحياض ، و يستقي لهم ، و هو فعل بمعنى فاعل مثل تبع بمعنى تابع٦ ، يقال رجل فرط و قوم فرط ، و في الخبر :

ــــــــــــ

 ( ١ ) القدر : ١ .

 ( ٢ ) الكافي ٣ : ٢٢٩ ح ٩ .

 ( ٣ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٢٩ ح ٦ .

 ( ٤ ) الكافي ٣ : ٢٢٩ ح ٨ .

 ( ٥ ) الكافي ٣ : ٢٤٢ ح ٣ .

 ( ٦ ) الصحاح : ( فرط ) .

٣٢٤

« أنا فرطكم على الحوض » و منه قيل للطفل الميّت : « اللّهم اجعله لنا فرطا » أي :

اجرا يتقدّمنا حتّى نرد عليه١ .

« و نحن لكم تبع لاحق » في ( الفقيه ) : في التسليم على أهل القبور : السلام على أهل الديار من المؤمنين و المسلمين ، رحم اللّه المتقدّمين منكم و المتأخّرين ، و إنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون٢ .

و في ( المعجم ) : عزّى المازني بعض الهاشميين فقال :

انّي أعزّيك لا أنّي على ثقة

من الحياة و لكن سنّة الدّين

ليس المعزّي بباق بعد ميّته

و لا المعزّى و إن عاشا إلى حين٣

و في ( الأغاني ) : خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد ، و معه عديّ بن زيد ،

فمرّوا بشجرة ، فقال عديّ : أتدري أيّها الملك ما تقول هذه الشجرة ؟ قال : لا .

قال : تقول :

ربّ ركب قد أناخوا عندنا

يشربون الخمر بالماء الزّلال

عصف الدهر بهم فانقرضوا

و كذاك الدّهر حالا بعد حال

ثم جاوز الشجرة فمرّ بمقبرة ، فقال : أتدري أيّها الملك ما تقول هذه المقبرة ؟ قال : لا قال : تقول :

أيها الرّكب المخبّون

على الأرض المجدّون

فكما أنتم كنّا

و كما نحن تكونون٤

و في ( العقد ) : قيل للرّقاشي ، و كان قد جلس بين المدينة و المقبرة : ما أجلسك هاهنا ؟ قال : « أنظر إلى هذين العسكرين ، فعسكر يقذف الأحياء

ــــــــــــ

 ( ١ ) الصحاح مادة ( فرط ) .

 ( ٢ ) الفقيه ١ : ١٧٩ .

 ( ٣ ) معجم الادباء للحموي ٧ : ١١٠ ترجمة ( بكر بن محمد ) .

 ( ٤ ) الأغاني ٢ : ٩٥ ٩٦ .

٣٢٥

و عسكر ، يلتقم الموتى »١ .

« أمّا الدّور فقد سكنت » هذه الفقرة إلى آخر العنوان جعلها المصنّف جزء كلامه عليه السلام في زيارة القبور بعد رجوعه من صفّين مع أنّها ليست في ( كتاب نصر ) و ( تاريخ الطبري ) اللّذين عرفت أنّهما مستندة ، و ( البيان ) و ( العقد ) قد عرفت أنّهما نقلا هذا مستقلاّ كذاك ، و الصواب ، كون هذا جزء كلامه عليه السلام بعد الجمل ، فروى ابن أبي شعبة في ( تحفه ) : قال جابر الأنصاري : كنّا مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة فلمّا فرغ من قتال من قاتله أشرف علينا في آخر الليل فقال : ما أنتم فيه ؟ فقلنا : في ذمّ الدّنيا ، فقال : علام تذمّ الدّنيا يا جابر ؟ إلى أن قال :

قال : يا جابر امض معي ، فمضيت معه حتّى أتينا القبور ، فقال : يا أهل التّربة ،

و يا أهل الغربة ، أمّا المنازل فقد سكنت و امّا المواريث فقد قسّمت و أمّا الأزواج فقد نكحت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ؟ » ثمّ أمسك عنّي مليّا ثمّ رفع رأسه ، فقال : و الذي أقلّ السماء فعلت ، و سطح الأرض فدحت ، لو أذن للقوم في الكلام لقالوا : إنّا وجدنا خير الزّاد التقوى ثمّ قال : يا جابر إذا شئت فارجع٢ .

و ممّا قلنا يظهر أنّ المصنّف جمع بين كلاميه عليه السلام بعد صفّين و بعد الجمل في عنوان الأول لكونهما في موضوع واحد .

هذا ، و قوله : « فعلت » و « فدحت » في خبر ( التحف ) الفاء فيهما فاء التعقيب و « علت » و « دحت » فعلان من العلوّ و الدّحو .

« و أمّا الأزواج فقد نكحت » و مرّ في سابع الفصل قوله عليه السلام : « و صارت أموالهم للوارثين و أزواجهم لقوم آخرين » مع شرحه .

ــــــــــــ

 ( ١ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٣ : ٢٣٦ .

 ( ٢ ) تحف العقول لابن شعبة الحراني : ١٨٦ .

٣٢٦

و في ( نفحة اليمن ) قيل : إنّ الهادي العبّاسي كان مغرما بجارية تسمّى غادر ، و كانت من أحسن النساء وجها و أكثرهنّ أدبا و ألطفهنّ طبعا و أطيبهنّ غناء ، فبينا هي ذات ليلة تنادمه ، و تغنّيه ، إذ تغيّر لونه و ظهر أثر الحزن عليه فقالت : ما بالك لا أراك اللّه ما تكره فقال : وقع في فكري السّاعة أنّي أموت و أنّ أخي هارون يلي الخلافة بعدي ، و إنّك تكونين معه كما أنت معي الآن فقالت : لا أبقاني اللّه بعدك أبدا و أخذت تلاطفه و تزيل هذا الخيال من خاطره ، فقال : لابدّ أن تحلفي لي أيمانا مغلّظة ألاّ تقربي إليه بعدي ، فحلفت على ذلك و أخذ عليها العهود و المواثيق ، ثمّ خرج و أرسل إلى أخيه هارون و أحلفه ألاّ يخلو بغادر ،

و أخذ عليه من المواثيق الغليظة ما أخذ عليها ، فلم يمض إلاّ شهر حتى مات الهادي ، و انتقلت الخلافة إلى هارون فطلبت الجارية فحضرت ، فأمرها بالأخذ في المنادمة ، فقالت : و كيف تصنع بتلك الأيمان و العهود ؟ فقال : قد كفّرت عنك و عن نفسي ثمّ خلا بها و وقعت من قلبه موقعا عظيما بحيث لم يكن يصبر عنها ساعة ، فبينا هي ذات ليلة نائمة في حجره إذ استيقظت مذعورة فقال : ما بالك فدتك نفسي قالت : رأيت أخاك ينشد :

أخلفت عهدي بعد ما

جاورت سكّان المقابر

و نسيتني و حنثت في

أيمانك الزّور الفواجر

و نكحت غادرة أخي

صدق الّذي سمّاك غادر

لا يهنك الألف الجديد

و لا تدر عنك الدوائر

فقال : فدتك نفسي انّما هي أضغاث أحلام ، فقالت كلاّ ثم ارتعدت و اضطربت بين يديه حتّى ماتت١ .

و في ( العيون ) ، قال المدائني : احتضر رجل من العرب و له ابن يدبّ بين

ــــــــــــ

 ( ١ ) نفحة اليمن للشرواني : ٢٤ .

٣٢٧

يديه و امّ الصبّيّ جالسة عند رأسه ، و اسم الصبّيّ معمر ، فقال :

و انّي لأخشى أن أموت فتنكحي

و يقذف في أيدي المراضع معمّر

و ترخي ستور دونه و قلائد

و يشغلكم عنه خلوق و مجمر

فما لبث أن مات ثمّ تزوّجت ثمّ صار ابنه معمر إلى ما ذكر١ .

و وهب المتوكّل لأحمد بن حمدون جارية يقال لها ( صاحب ) من جواريه ، حسنة كاملة ، و حمل كلّ ما كان لها و كان شيئا كثيرا عظيما فلمّا مات ابن حمدون تزوّجت صاحب ، قال أبو علي بن المنجّم : فرأيته في النوم و هو يقول :

أبا عليّ ما ترى العجائبا

أصبح جسمي في التّراب غائبا

و استبدلت ( صاحب ) بعدي صاحبا

و كان أبوه حمدون ينادم المعتصم ، ثم الواثق ، و كان يعاتب المتوكّل في أيّام أخيه ، و لمّا مات الواثق نادم المتوكّل ، فلما كان في بعض الأيام أمر المتوكّل بإحضار فريدة جارية أخيه الواثق مكرهة ، و دفع إليها عود فغنّت غناء كالنّدبة ، فغضب المتوكّل ، فغنّت بتحزّن و شجى ، فزاد ذلك في طيب غنائها فوجم حمدون للرقّة التي تداخلته ، فغضب المتوكّل و رأى أنّه فعل ذلك بسبب أخيه ، و كان يبغض كلّ من مال إلى أخيه ، فأمر بنفيه إلى السّند و ضربه ثلاثمائة سوط و تزوّج المتوكّل فريدة بعد ذلك٢ .

و في ( الأغاني ) و العهدة عليه أعطى عبد اللّه بن أبي بكر ، عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل حديقة على ألاّ تتزوّج بعده ، و لما مات من السهم الذي أصابه بالطائف أنشأت تقول :

ــــــــــــ

 ( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ١١٥ ١١٦ .

 ( ٢ ) معجم الادباء للحموي ٢ : ٢٠٨ .

٣٢٨

فأقسمت لا تنفكّ عيني سخينة

عليك و لا ينفكّ جلدي أغبرا

مدى الدّهر ما غنّت حمامة أيكة

و ما طرد الليل الصباح المنوّرا

فخطبها عمر فقالت : قد كان أعطاني حديقة على ألاّ أتزوّج ، قال عمر :

فاستفتي ، فاستفتت أمير المؤمنين عليه السلام فقال عليه السلام لها : ردي الحديقة على أهله ،

فتزوّجها عمر ، فلما بنى لها دعا عدّة منهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال عليه السلام لعمر :

مرها تستتر اكلّمها ، فاستترت فقال عليه السلام لها :

فأقسمت لا تنفكّ عيني سخينة

عليك و لا ينفكّ جلدي أغبرا

فقال عمر : و ما أردت إلى هذا ؟ فقال عليه السلام : و ما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل ؟١ قال تعالى : كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون٢ .

هذا ، و في ( زنبيل القاجاري ) : أوصى أحد تجّار البصرة إلى الشيخ عليّ بن كاشف الغطاء مصرف ثلثه ، فأنفذ الشيخ وكيله فأخذ الثلث و أوصله إليه و صرفه إلى المستحقين لكنّه نسي محى الدّين النجفي ، و كان شاعرا أديبا و كان الوكيل تزوّج بزوجة البصريّ أيضا ، فاتفق حضور الوكيل و محيى الدين في درس الشيخ ، و كان دأب الشيخ أن يعطي ( الشرايع ) من كان من الطّلاب جيّد الأدب ليقرأ مسألة ، ثم يشرح هو ، فأعطى ( الشرائع ) محي الدين ليقرأ ، فأخذ الكتاب و فتحه و قرأ إنشاء من نفسه : « مسائل ، الأولى : تركة الميّت حبوة للوصيّ ، و في زوجته تردد ، و الأشبه أنّها جعالة للوكيل » فقال الشيخ : ما تقرأ ؟ فأعاد . فضحك الطّلاّب . و فهم الشيخ مراده فأرضى خاطره٣ .

« و أمّا الأموال فقد قسمت » في ( كنايات الجرجاني ) : قال الخليل مشيرا

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأغاني ١٨ : ٦٠ .

 ( ٢ ) الصف : ٣ .

 ( ٣ ) معتمد الدولة ، زنبيل : ٢٦١ .

٣٢٩

إلى الأيام و الليالي :

و ينكحن أزواج الغيور عدوّه

و يقسمن ما يحوي الشّحيح من الوفر١

و في ( صفّين نصر ) : سمع أمير المؤمنين عليه السلام قائلا ينشد أبيات الأسود بن يعفر في أيوان كسرى :

ما ذا أؤمّل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم و بعد إياد٢

فقال عليه السلام : هلاّ قرأتم : كم تركوا من جنّات و عيون و زروع و مقام كريم و نعمة كانوا فيها فاكهين كذلك و أورثناها قوما آخرين٣ و قال الحارث بن حلّزة :

بينا الفتى يسعى و يسعى له

تاح له من أمره خالج

يترك ما رقح من عيشه

يعيث فيه همج هامج

لا تكسع الشول باغبارها

إنّك لا تدري من النّاتج٤

« هذا خبر ما عندنا » « هذا » اشارة إلى ما مرّ من خبر دورهم و ازواجهم و أموالهم و ما قاله عليه السلام من أخبار الأحياء لهم هو الأكثر ، و عامّ لجميع الناس ،

و قد يخبرون موتاهم بأمور أخرى قال مهلهل في أخيه كليب الّذي يرميه بكونه زيرا لمّا طلب ثأره :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب أيّ زير٥

و قال آخر :

ــــــــــــ

 ( ١ ) الكنايات للجرجاني : ٢٣ .

 ( ٢ ) صفين لنصر بن مزاحم : ١٤٢ ١٤٣ ، و كذلك في العقد الفريد ٣ : ٢٨٩ .

 ( ٣ ) الدخان : ٢٥ ٢٨ .

 ( ٤ ) لسان العرب ١٤ : ٣٢ و ١٥ : ١٢٩ .

 ( ٥ ) المصدر نفسه ٥ : ٦٥ و كذا الأصمعيات .

٣٣٠

قد كان بعدك أنباء و هنبثة

لو كنت شاهدها لم يكثر الخطب١

« ثمّ التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم إنّ خير الزاد التقوى » روى ( أمالي ابن الشيخ ) مسندا عن صهيب بن عباد عن جعفر بن محمد عليه السلام : أنّ عليا عليه السلام مرّ بمقبرة فسلّم ثم قال : السلام عليكم يا أهل المقبرة و التربة ، اعلموا أنّ المنازل بعدكم قد سكنت ، و أنّ الأموال بعدكم قد قسّمت ، و أنّ الأزواج بعدكم قد نكحت ، فهذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟ فأجاب هاتف يسمع صوته و لا يرى شخصه : و عليك السلام يا أمير المؤمنين و رحمة اللّه و بركاته ، أما خبر ما عندنا فقد وجدنا ما عملنا ، و ربحنا ما قدّمنا ، و خسرنا ما خلّفنا ، فالتفت عليه السلام إلى أصحابه فقال : أسمعتم ؟ قالوا :

نعم قال : فتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التقوى٢ .

و في ( الفقيه ) : وقف النبي صلّى اللّه عليه و آله على القتلى ببدر و قد جمعهم في قليب فقال : يا أهل القليب انّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا ؟ فقال المنافقون : إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكلّم الموتى ، فنظر اليهم فقال : لو اذن لهم في الكلام ، لقالوا : نعم و إنّ خير الزّاد التقوى٣ .

و في ( جمل المفيد ) بعد ذكر هزيمة أهل الجمل : ثمّ سار عليه السلام حتى وقف على كعب بن سور القاضي و هو مجدّل بين القتلى ، و في عنقه المصحف فقال عليه السلام : نحّو المصحف و ضعوه في مواضع الطّهارة ، ثم قال : أجلسوا إليّ كعبا فأجلس ، فقال : يا كعب قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا ؟ ثمّ قال : أضجعوه ، و تجاوز عليه السلام فمرّ على طلحة صريعا ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) المصدر نفسه ١٥ : ١٤٤ و قد نسبه إلى الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام .

 ( ٢ ) الأمالي : ٥٥ المجلس ٢ رقم ٧٦ .

 ( ٣ ) الفقيه ١ : ١٨٠ ح ٥٣٦ .

٣٣١

فقال : أجلسوه فأجلس ، فقال يا طلحة قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ، فهل وجدت ما وعدك ربّك حقّا ؟ ثمّ قال : أضجعوه ، فقال رجل من القرّاء : يا أمير المؤمنين ما كلامك ؟ هذه الهامّ قد صديت ، لا تسمع لك كلاما ، و لا تردّ جوابا ،

فقال عليه السلام : إنّهما ليسمعان كلامي ، كما سمع أصحاب القليب كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله و لو اذن لهما في الجواب لرأيت عجبا١ و روى ( محاسن البرقي ) : أنّ سلمان في جمعة مرّ على مقبرة فقال : السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين و المسلمين هل علمتم أنّ اليوم جمعة ؟ فلمّا رجع و نام أتاه آت ، فقال : و عليك السلام يا أبا عبد اللّه ، تكلّمت فسمعنا ، و سلّمت فرددنا ، و قلت : هل تعلمون أنّ اليوم جمعة ؟ و قد علمنا ما يقول الطير في يوم الجمعة قال : و ما يقول ؟ قال :

يقول : ( قدّوس قدّوس ربّنا الرحمن الملك و ما يعرف عظمة ربّنا من يحلف باسمه كاذبا ) و ذكروا انّ عمر بن عبد العزيز سمع خصيا للوليد بن عبد الملك على قبره و هو يقول : يا مولاي ماذا لقينا بعدك ؟ فقال له : اما و اللّه لو اذن له في الكلام لأخبر أنّه لقي أكثر٢ .

٢٠

الحكمة ( ١٣٢ ) و قال عليه السلام :

إِنَّ لِلَّهِ مَلَكاً يُنَادِي فِي كُلِّ يَوْمٍ لِدُوا لِلْمَوْتِ وَ اِجْمَعُوا لِلْفَنَاءِ وَ اِبْنُوا لِلْخَرَابِ أقول : « إن للّه ملكا ينادي في كلّ يوم » ينبغي أن يحمل هذا النّداء على لسان الحال لا المقال ، و مثله ما في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : إنّ للقبر كلاما في كلّ

ــــــــــــ

 ( ١ ) الجمل للمفيد : ٢١٠ .

 ( ٢ ) المحاسن للبرقي ١ : ١١٩ .

٣٣٢

يوم ، يقول : أنا بيت الغربة ، أنا بيت الوحشة ، أنا بيت الدّود ، أنا القبر ، أنا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النّار ، فكلام القبر أيضا بلسان الحال١ .

« لدوا للموت » اللاّم فيه لام العاقبة كما في « للفناء » و « للخراب » في ما بعد .

قيل لرجل : لم مات فلان ؟ قال : لأنّه ولد و لكلّ سبع قوت ، و ابن آدم قوت سبع الموت ، و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : إنّ النّطفة إذا وقعت في الرّحم ،

بعث اللّه تعالى ملكا فأخذ من التربة التي يدفن فيها ، فماثها في النطفة فلا يزال قلبه يحنّ إليها حتّى يدفن فيها٢ .

« و اجمعوا للفناء » و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم .٣ .

و قيل بالفارسية :

اندك اندك خانمان آراستن

پس بيكبار از سرش برخاستن٤

و في الخبر : أنّ ابن آدم يمثّل له ماله في آخر يوم من دنياه و أوّل يوم من عقباه ، فيقول له : إنّي و اللّه كنت عليك حريصا شحيحا فمالي عندك ؟ فيقول : خذ منّي كفنك٥ .

« و ابنوا للخراب » :

ما أنت معتبر بمن خربت

منه غداة قضى دساكره٦

قيل ليحيى البرمكيّ بعد قتل الرشيد لابنه جعفر : أمر بتخريب ديارك ،

ــــــــــــ

 ( ١ ) الكافي ٣ : ٢٤٢ ح ٢ .

 ( ٢ ) الكافي للكليني ٣ : ٢٠٣ ح ٢ .

 ( ٣ ) الأنعام : ٩٤ .

 ( ٤ ) الكشكول للشيخ البهائي : ١٢٢ و ذكر في الديوان أنّه لمولوي : ٤٥ .

 ( ٥ ) الكافي ٣ : ٢٣١ ح ١ .

 ( ٦ ) لأبي العتاهية ، ذكره المسعودي في مروج الذهب ٣ : ٣٦٧ .

٣٣٣

فقال : كذلك تخرّب دياره ، فصار كما قال في قتل الأمين١

٢١

الحكمة ( ١٦٨ ) و قال عليه السلام :

اَلْأَمْرُ قَرِيبٌ وَ اَلاِصْطِحَابُ قَلِيلٌ أقول : « الأمر قريب » ، في ( مطالب سؤول ابن طلحة الشافعي ) قال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام : أخبرني عن واجب و أوجب ، و عجب و أعجب ، و صعب و أصعب ، و قريب و أقرب ، فقال عليه السلام :

توب ربّ الورى واجب

و ترك الذّنوب أوجب

و الدهر في صرفه عجيب

و غفلة الناس عنه أعجب

و الصبر في النائبات صعب

لكن فوت الثّواب أصعب

و كلّ ما يرتجى قريب

و الموت من ذاك أقرب٢

و في ( الكافي ) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : سئل أيّ المؤمنين أكيس ؟ فقال : أكثرهم ذكرا للموت ، و أشدّهم له استعدادا٣ .

« و الإصطحاب قليل » :

و كلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلاّ الفرقدان٤

و في الخبر : نزل جبرئيل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال له : يا محمّد عش ما شئت فانّك ميّت ، و أحبب من شئت فإنّك مفارقه ، و اعمل ما شئت فإنّك لاقيه٥

ــــــــــــ

 ( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٩٤ .

 ( ٢ ) مطالب السؤول ابن طلحة الشافعي : ٦٢ .

 ( ٣ ) الكافي ٣ : ٢٥٨ ح ٢٧ .

 ( ٤ ) العقد الفريد ٣ : ٩٢ ، و الكامل للمبرد : ١٢٤٠ و هو بلفظ الفرقدان .

 ( ٥ ) الكافي ٣ : ٢٥٥ ح ١٧ .

٣٣٤

٢٢

الحكمة ( ١٨٢ ) و قال عليه السلام :

اَلرَّحِيلُ وَشِيكٌ الوشيك : ما كان سرعته عجيبا ، قال الشاعر في قتل خالد بن الوليد ، مالك بن نويرة و زناه بإمرأته :

أ تقتلهم ظلما و تنكح فيهم ؟

لو شكان هذا و الدّماء تصبب١

و في ( الصحاح ) : يقال عجبت من وشك ذاك الأمر و من وشكه بفتح الواو و ضمّها و ( وشكان ذاك الأمر )٢ كذلك أيضا ، في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام : عجب لقوم حبس أوّلهم عن آخرهم ثمّ نودي فيهم بالرّحيل و هم يلعبون٣ .

و قيل بالفارسية : تا بار نهادى كه صداى كوچ است .

أيضا :

مرا در منزل جانان چه جاى امن چون هر دم

جرس فرياد ميدارد كه بربنديد محملها٤

٢٣

الحكمة ( ٤١٩ ) و قال عليه السلام :

مِسْكِينٌ اِبْنُ آدَمَ مَكْتُومُ اَلْأَجَلِ مَكْنُونُ اَلْعِلَلِ مَحْفُوظُ اَلْعَمَلِ تُؤْلِمُهُ اَلْبَقَّةُ وَ تَقْتُلُهُ اَلشَّرْقَةُ وَ تُنْتِنُهُ اَلْعَرْقَةُ

ــــــــــــ

 ( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٣٠٩ .

 ( ٢ ) الصحاح : ( و شك ) .

 ( ٣ ) الكافي ٣ : ٢٥٨ ح ٢٩ .

 ( ٤ ) ديوان حافظ : ١٠ .

٣٣٥

أقول : روى الفقرات الثلاث الأخيرة الدّميري في كتابه عن ( كامل ابن عدي ) عن الأصبغ عنه عليه السلام هكذا : قال عليه السلام في خطبة : ابن آدم و ما ابن آدم تؤلمه بقّة و تنتنه عرقة و تقتله شرقة١ .

« مسكين ابن آدم » تقديم الخبر للحصر لإختصاصه دون ساير الحيوانات بمجموع هذه الصفات و لأنّه عليه السلام في مقام بيان مسكنته فتقديم الخبر أهمّ .

« مكتوم الأجل » حتّى الأنبياء إذا لم يعلمهم اللّه تعالى قبل ذلك ، فمات داود عليه السلام فجأة ، خطيبا على المنبر ، و مات سليمان عليه السلام فجأة متّكئا على عصاه ناظرا في ملكه ، فأيّ مسكنة أشدّ منه و الأصل في كلامه عليه السلام قوله تعالى : و أجل مسمّى عنده٢ فلا يعلمه غيره و لنعم ما قيل بالفارسية :

ناگهان بانگى برآمد خواجه مرد .

« مكنون العلل » قال ابن معروف مشيرا إلى قوله عليه السلام هذا ، و قوله :

« مكتوم الأجل » :

يا بؤس للإنسان في

الدّنيا و إن نال الأمل

يعيش مكتوم العلل

فيها و مكتوم الأجل

بينا يرى في صحّة

مغتبطا قيل اعتلل

و بينما يوجد في

ها ثاويا قيل ارتحل

فأوفر الحظّ لمن

يتبعه حسن العمل

و في ( المعجم ) : كان إسحاق الموصلي يسأل اللّه أن لا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه فأري في منامه كأنّ قائلا يقول له : قد أجيبت

ــــــــــــ

 ( ١ ) حياة الحيوان للدميري ١ : ٢١٨ .

 ( ٢ ) الأنعام : ٢ .

٣٣٦

دعوتك و لست تموت بالقولنج و لكن تموت بضدّه ، فأصابه ذرب ، فمات منه سنة ( ٢٣٥ ) في خلافة المتوكّل١ .

و في ( المعجم ) أيضا : حدّث يموت بن المزرع قال وجّه المتوكّل في السنّة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة ، فقال لمن أراد حمله :

و ما يصنع بامرى‏ء ليس بطائل ، ذي شقّ مائل ، و لغاب سائل ، و فرج بائل ، و عقل حائل٢ و قال المبرّد دخلت على الجاحظ في آخر أيّامه و قلت له : كيف أنت ؟

فقال : كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر ، و نصفه الآخر منقرس لو طار الذّباب بقربه لآلمه و قال لمتطبّب يشكو إليه علّته : اصطلحت هذه الأضداد على جسدي إن أكلت باردا أخذ برجلي ، و إن أكلت حارّا أخذ برأسي٣ .

« محفوظ العمل » و كلّ صغير و كبير مستطر٤ ، ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد٥ ، يومئذ يصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره٦ ، . و ان كان مثقال حبّة من خردل آتينا بها و كفى بنا حاسبين٧ و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلاّ أحصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا .٨ يا بنيّ إنّها إن تك مثقال حبّة من خردل فتكن في صخرة أو

ــــــــــــ

 ( ١ ) معجم الادباء للحموي ٦ : ٥٣ ترجمة إسحاق الموصلي .

 ( ٢ ) معجم الادباء للحموي ١٦ : ١١٢ .

 ( ٣ ) المصدر نفسه ١٦ : ١١٢ ترجمة الجاحظ .

 ( ٤ ) القمر : ٥٣ .

 ( ٥ ) ق : ١٨ .

 ( ٦ ) الزلزال : ٦ ٨ .

 ( ٧ ) الأنبياء : ٤٧ .

 ( ٨ ) الكهف : ٤٩ .

٣٣٧

في السماوات أو في الأرض يأت بها اللّه انّ اللّه لطيف خبير١ .

« تولمه البقّة » أي : البعوضة ، روي أنّ المنصور آذاه بعوض فكلّما دفعه عنه عاد إليه ، و كان عنده الصادق عليه السلام فقال له : لم خلق اللّه هذا البعوض ؟ قال :

ليذلّ به الجبابرة مثلك .

و قال الدّميري : يقال أنّ البقّ يتولّد من النّفس الحارّ و لشدّة رغبته في الإنسان لا يتمالك إذا شمّ رائحته إلاّ رمى نفسه عليه٢ .

و قال وهب بن منبّه : لمّا أرسل اللّه تعالى البعوض على النمرود اجتمع منه في عسكره ما لا يحصى ، فانفرد النمرود عن جيشه ، و دخل بيته ، و أغلق الأبواب ، و أرخى السّتور ، و نام على قفاه مفكّرا ، فدخلت بعوضة في أنفه و صعدت إلى دماغه فعذّب بها أربعين يوما حتّى أنّه كان يضرب برأسه الأرض ، و كان أعزّ النّاس عنده من يضرب رأسه ، ثم سقطت منه كالفرخ و هي تقول كذلك يسلّط اللّه رسله على من يشاء من عباده . ثم هلك حينئذ ، قال الطبرخزي :

و بعوضة قتلت بني كنعان٣

و كان بعض الجبابرة بالعراق يأخذ من يريد قتله ، فيخرجه مجرّدا إلى بعض الآجام التي بالبطائح و يتركه فيها مكتوفا تقتله البعوض في أسرع وقت .

« و تقتله الشّرقة » ( شرق بريقه ) غصّ به ، قال عديّ بن زيد :

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصّان بالماء اعتصاري٤

و في ( الأغاني ) : نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشّام و معه

ــــــــــــ

 ( ١ ) لقمان : ١٦ .

 ( ٢ ) حياة الحيوان للدميري ١ : ٢١٧ .

 ( ٣ ) الدميري ، حياة الحيوان ١ : ١٨٢ .

 ( ٤ ) لسان العرب ٧ : ٩٧ .

٣٣٨

حبّابة فقال : زعموا أنّه لا تصفوا عيشة لأحد يوما إلى الليل إلاّ يكّدرها شي‏ء عليه و سأجرّب ذلك ، ثمّ قال لمن معه : إذا كان غد فلا تخبروني بشي‏ء و لا تأتوني بكتاب ، و قد خلا هو و حبّابة فأتيا بما يأكلان فأكلت حبّابة رمّانة فشرقت بحبّة منها فماتت فأقام لا يدفنها ثلاثا حتّى تغيّرت و أنتنت و هو يشمّها و يرشفها فعابوا عليه ما يصنع حتّى اذن في دفنها فما مضت إلاّ خمس عشرة ليلة حتّى دفن إلى جنبها١ .

« و تنتّنه العرقة » « تنتّنه » من باب التفعيل لا الإفعال ، ففي ( الصحاح ) : نتن الشي‏ء و أنتن بمعنى ، و نتّنه : غيره ، تنتينا : جعله منتنا ، و النتن : الرائحة الكريهة٢ .

و في ( الفقيه ) : قال الصادق عليه السلام : علّة غسل الجمعة أنّ الأنصار كانت تعمل في أموالها فإذا حضروا المسجد تأذّى الناس بأرواح آباطهم و أجسادهم ، فأمرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالغسل فجرت بذلك السّنّة٣ .

٢٤

الحكمة ( ٣٣٤ ) و قال عليه السلام :

لَوْ رَأَى اَلْعَبْدُ اَلْأَجَلَ وَ مَصِيرَهُ لَأَبْغَضَ اَلْأَمَلَ وَ غُرُورَهُ رواه ( الكافي )٤ و ( أمالي المفيد )٥ عنه هكذا : لو رأى العبد أجله و سرعته إليه لأبغض الأمل و ترك طلب الدّنيا .

ــــــــــــ

 ( ١ ) الأغاني ١٥ : ١٤٣ .

 ( ٢ ) الصحاح : ( نتن ) .

 ( ٣ ) الفقيه ١ : ١١٢ ح ٢٣ .

 ( ٤ ) الكافي ٣ : ٢٥٩ ح ٣٠ .

 ( ٥ ) الأمالي للمفيد : ٣٠٩ ح ٨ .

٣٣٩

و في ( بيان الجاحظ ) : وجد في حجر مكتوب : يابن آدم لو أنّك رأيت يسير ما بقى من أجلك ، لزهدت في طول ما ترجو من أملك ، و لرغبت في الزّيادة في عملك ، و لأقصرت من حرصك و حيلك ، و انّما يلقاك غدا ندمك لو قد زلّت بك قدمك و أسلمك أهلك و حشمك ، و تبرأ منك القريب ، و انصرف عنك الحبيب ، فلا أنت إلى أهلك بعائد ، و لا في عملك بزائد١ .

و في ( المعجم ) : قال فضل بن حباب أبو خليفة :

و متعب السّفر مرتاح إلى بلد

و الموت يرصده في ذلك البلد

و ضاحك المنايا فوق هامته

لو كان يعلم غيبا مات من كمد

آماله فوق ظهر النّجم شامخة

و الموت من تحت اطليه على الرّصد

من كان لم يعط علما في بقاء غد

ماذا تفكّره في رزق بعد غد٢

٢٥

الحكمة ( ٣٦ ) و قال عليه السلام :

مَنْ أَطَالَ اَلْأَمَلَ أَسَاءَ اَلْعَمَلَ أقول : رواه ( الكافي ) هكذا : ( ما أطال عبد الأمل إلاّ أساء العمل )٣ قال بعضهم :

و منتظر للموت في كلّ ساعة

يشيّد بيتا دائما و يحصّن

له حين يتلوه حقيقة موقن

و أفعاله أفعال من ليس يوقن

عيان و انكار و كالجهل علمه

بمذهبه في كلّ ما يتيقّن٤

ــــــــــــ

 ( ١ ) البيان و التبيين للجاحظ ٣٥ : ١٦٦ .

 ( ٢ ) الحموي ، معجم الادباء ١٦ : ٢٠٧ .

 ( ٣ ) الكافي ٣ : ٢٥٩ ح ٣٠ .

 ( ٤ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ٣ : ٢٠٧ لابن أبي حازم .

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608