الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ30%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88081 / تحميل: 5515
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

شرائطها التي منها الاعتماد على الحسّ دون الحدس. وهو شرط اتّفق عليه العلماء ، ومن المعلوم عدم تحقّق هذا الشَّرط ، لعدم تعاصر المعدِّل ( بالكسر ) والمعدَّل ( بالفتح ) غالباً.

والجواب أنَّه يشترط في الشهادة ، أن يكون المشهود به أمراً حسّياً أو تكون مبادئه قريبة من الحسّ وإن لم يكن بنفسه حسّياً ، وذلك مثل العدالة والشّجاعة فإنَّهما من الأُمور غير الحسيّة ، لكن مبادئها حسّية من قبيل الالتزام بالفرائض والنوافل ، والاجتناب عن اقتراف الكبائر في العدالة ، وقرع الأبطال في ميادين الحرب ، والاقدام على الأُمور الخطيرة بلا تريُّث واكتراث في الشجاعة.

وعلى ذلك فكما يمكن إحراز عدالة المعاصر بالمعاشرة ، اوبقيام القرائن والشَّواهد على عدالته ، أو شهرته وشياعه بين الناس ، على نحو يفيد الاطمئنان ، فكذلك يمكن إحراز عدالة الراوي غير المعاصر من الاشتهار والشياع والأمارات والقرائن المنقولة متواترة عصراً بعد عصر ، المفيدة للقطع واليقين أو الاطمئنان.

ولا شكَّ أنَّ الكشّي والنجاشي والشيخ ، بما أنَّهم كانوا يمارسون المحدِّثين والعلماء ـ بطبع الحال ـ كانوا واقفين على أحوال الرواة وخصوصيّاتهم ومكانتهم من حيث الوثاقة والضبط ، فلأجل تلك القرائن الواصلة اليهم من مشايخهم وأكابر عصرهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، شهدوا بوثاقة هؤلاء.

وهناك جواب آخر ؛ وهو أنَّ من المحتمل قويّاً أن تكون شهاداتهم في حق الرواة ، مستندة إلى السَّماع من شيوخهم ، إلى أن تنتهي إلى عصر الرواة ، وكانت الطّبقة النهائيَّة معاشرة لهم ومخالطة إيّاهم.

وعلى ذلك ، لم يكن التَّعديل أو الجرح أمراً ارتجاليّاً ، بل كان مستنداً ، إمّا إلى القرائن المتواترة والشواهد القطعية المفيدة للعلم بعدالة الراوي أو

٤١

ضعفه ، أو إلى السَّماع من شيخ إلى شيخ آخر.

وهناك وجه ثالث ؛ وهو رجوعهم إلى الكتب المؤلفة في العصور المتقدّمة عليهم ، التي كان أصحابها معاصرين للرواة ومعاشرين لهم ، فإنَّ قسماً مهمّاً من مضامين الأصول الخمسة الرجاليّة ، وليدة تلك الكتب المؤلّفة في العصور المتقدّمة.

فتبيَّن أنَّ الأعلام المتقدّمين كانوا يعتمدون في تصريحاتهم بوثاقة الرَّجل ، على الحسّ دون الحدس وذلك بوجوه ثلاثة :

1 ـ الرجوع إلى الكتب التي كانت بأيديهم من علم الرجال التي ثبتت نسبتها إلى مؤلّفيها بالطّرق الصحيحة.

2 ـ السَّماع من كابر عن كابر ومن ثقة عن ثقة.

3 ـ الاعتماد على الاستفاضة والاشتهار بين الأصحاب وهذا من أحسن الطّرق وأمتنها ، نظير علمنا بعدالة صاحب الحدائق وصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري وغيرهم من المشايخ عن طريق الاستفاضة والاشتهار في كل جيل وعصر ، إلى أن يصل إلى زمان حياتهم وحينئذ نذعن بوثاقتهم وإن لم تصل الينا بسند خاصّ.

ويدلّ على ذلك ( أي استنادهم إلى الحسّ في التوثيق ) مانقلناه سالفاً عن الشيخ ، من أنّا وجدنا الطائفة ميَّزت الرجال الناقلة ، فوثّقت الثّقات وضعَّفت الضعفاء ، وفرَّقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته ، ومن لا يعتمد على خبره ـ إلى آخر ما ذكره.(1)

ولاجل أن يقف القارئ على أنَّ أكثر ما في الأُصول الخمسة الرجالية ـ لا جميعها ـ مستندة إلى شهادة من قبلهم من الاثبات في كتبهم في حق الرواة ،

__________________

1 ـ لاحظ عدة الأُصول : 1 / 366.

٤٢

نذكر في المقام أسامي ثلّة من القدماء ، قد ألَّفوا في هذا المضمار ، ليقف القارئ على نماذج من الكتب الرجاليَّة المؤلَّفة قبل الأُصول الخمسة أو معها ولنكتف بالقليل عن الكثير.

1 ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر محمَّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ( المتوفّى 381 هـ ) ، ترجمه النجاشي ( الرقم 1049 ) وعدَّ من تصانيفه كتاب « المصابيح » في من روى عن النبي والأئمةعليهم‌السلام وله ايضاكتاب « المشيخة » ذكر فيه مشايخه في الرجال وهم يزيدون عن مائتي شيخ ، طبع في آخر « من لايحضره الفقيه »(1) .

2 ـ الشيخ أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف بـ « ابن عبدون » ( بضم العين المهملة وسكون الباء الموحدة ) ، كما في رجال النجاشي ( الرقم 211 ) وبـ « ابن الحاشر » كما في رجال الشيخ(2) ، والمتوفّى سنة 423 هـ وهو من مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي وله كتاب « الفهرس ». أشار إليه الشيخ الطوسي في الفهرس في ترجمة إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي(3) .

3 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بـ « ابن عقدة » ( بضم العين المهملة وسكون القاف ، المولود سنة 249 هـ والمتوفّى سنة 333 هـ ) له كتاب « الرجال » وهو كتاب جمع فيه أسامي من روى عن جعفر بن محمدعليهما‌السلام وله كتاب آخر في هذا المضمار جمع فيه أسماء الرواة عمن تقدم على الإمام الصّادق من الأئمّة الطاهرينعليهم‌السلام .(4)

__________________

1 ـ ترجمة الشيخ في الرجال ، في الصفحة 495 ، الرقم 25 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 156 ، تحت الرقم 695 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 184 ، تحت الرقم 709.

2 ـ رجال الشيخ : 450 ، ترجمه الشيخ بـ « أحمد بن حمدون ».

3 ـ الفهرس : 4 ـ 6 ، « الطبعة الأولى » ، تحت الرقم 7 و « الطبعة الثانية » : 27 ـ 29.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 44 ، الرقم 30 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » ص 28 ،

٤٣

4 ـ أحمد بن علي العلويّ العقيقيّ ( المتوفى عام 280 هـ ) له كتاب « تاريخ الرجال » وهو يروي عن أبيه ، عن إبراهيم بن هاشم القمي.(1)

5 ـ أحمد بن محمّد الجوهري البغدادي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 207 ) والشيخ الطوسي(2) وتوفّي سنة 401 هـ ، ومن تصانيفه « الاشتمال في معرفة الرجال ».

6 ـ الشيخ أبو العباس أحمد بن محمّد بن نوح ، ساكن البصرة له كتاب « الرجال الذين رووا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام »(3) .

7 ـ أحمد بن محمَّد القمي ( المتوفى سنة 350 هـ ) ترجمه النجاشي ( الرقم 223 ) ، له كتاب « الطبقات ».

8 ـ أحمد بن محمَّد الكوفي ، ترجمه النجاشي ( الرقم 236 ) وعدَّ من كتبه كتاب « الممدوحين والمذمومين »(4) .

9 ـ الحسن بن محبوب السرّاد ( بفتح السين المهملة وتشديد الراء ) أو الزرّاد ( المولود عام 149 هـ ، والمتوفّى عام 224 هـ ) روى عن ستّين رجلاً من

__________________

تحت الرقم 76 ، وفي « الطبعة الثانية » ص 52 ، تحت الرقم 86 ، وذكر في رجال النجاشي تحت الرقم 233.

1 ـ ترجمه النجاشي في رجاله ، تحت الرقم 196 ، والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 24 ، تحت الرقم 63 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 48 ، تحت الرقم 73 ، وفي الرجال في الصفحة 453 ، الرقم 90.

2 ـ رجال الشيخ : 449 ، الرقم 64 ، والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 33 ، تحت الرقم 89 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 57 ، تحت الرقم 99.

3 ـ ترجمه الشيخ في رجاله : 456 ، الرقم 108 وفي الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 37 ، تحت الرقم 107 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 61 ، تحت الرقم 117.

4 ـ ذكره الشيخ في الرجال : 454 ، وقال في الفهرس « الطبعة الأولى » بعد ترجمته في الصفحة 29 ، تحت الرقم 78 : « توفي سنة 346 هـ » ويكون في « الطبعة الثانية » من الفهرس في الصفحة 53 ، تحت الرقم 88.

٤٤

اصحاب الصادقعليه‌السلام وله كتاب « المشيخة » وكتاب « معرفة رواة الأخبار »(1) .

10 ـ الفضل بن شاذان ، الّذي يُعدُّ من أئمّة علم الرجال وقد توفّي بعد سنة 254 هـ ، وقيل 260 هـ ، وكان من أصحاب الرضا والجواد والهاديعليهم‌السلام وتوفّي في أيام العسكريعليه‌السلام (2) ينقل عنه العلاّمة في الخلاصة في القسم الّثاني في ترجمة « محمد بن سنان » ـ بعد قوله : والوجه عندي التوقّف فيما يرويه ـ « فإنَّ الفضل بن شاذان ـ رحمهما الله ـ قال في بعض كتبه : إنَّ من الكذّابين المشهورين ابن سنان »(3) .

إلى غير ذلك من التآليف للقدماء في علم الرِّجال وقد جمع أسماءها وما يرجع اليها من الخصوصيّات ، المتتبع الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتاب أسماه « مصفى المقال في مصنّفي علم الرجال »(4) .

والحاصل ، أنّ التتبّع في أحوال العلماء المتقدّمين ، يشرف الإنسان على الاذعان واليقين بأنَّ التوثيقات والتضعيفات الواردة في كتب الأعلام الخمسة وغيرها ، يستند إمّا إلى الوجدان في الكتاب الثّابتة نسبته إلى مؤلّفه ، أو إلى النّقل والسّماع ، أو إلى الاستفاضة والاشتهار ، أو إلى طريق يقرب منها.

__________________

1 ـ راجع رجال الشيخ الطوسي : 347 ، الرقم 9 والصفحة 372 ، الرقم 11 والفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 46 ، تحت الرقم 151 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 72 ، تحت الرقم 162.

2 ـ ذكره النجاشي في رجاله تحت الرقم 840 والشيخ في الفهرس « الطبعة الأولى » الصفحة 124 ، تحت الرقم 552 ، وفي « الطبعة الثانية » الصفحة 150 ، تحت الرقم 564 ، وفي الرجال في الصفحة 420 ، الرقم 1 ، والصفحة 434 ، الرقم 2.

3 ـ الخلاصة : 251 ، طبع النجف.

4 ـ طبع الكتاب عام 1378.

٤٥

السابع : التوثيق الإجمالي

إنَّ الغاية المُتوخّاة من علم الرجال ، هو تمييز الثِّقة عن غيره ، فلو كانت هذه هي الغاية منه ، فقد قام مؤلّف الكتب الأربعة بهذا العمل ، فوثَّقوا رجال أحاديثهم واسناد رواياتهم على وجه الاجمال دون التَّفصيل ، فلو كان التَّوثيق التفصيلي من نظراء النَّجاشي والشَّيخ وأضرابهما حجَّة ، فالتَّوثيق الاجمالي من الكليني والصَّدوق والشيخ أيضاً حجَّة ، فهؤلاء الأقطاب الثَّلاثة ، صحَّحوا رجال أحاديث كتبهم وصرَّحوا في ديباجتها بصحّة رواياتها.

يقول المحقّق الكاشاني في المقدّمة الثانية من مقدّمات كتابه « الوافي » في هذا الصَّدد ، ما هذا خلاصته(1) : « إنَّ أرباب الكتب الأربعة قد شهدوا على صحَّة الروايات الواردة فيها. قال الكليني في أوَّل كتابه في جواب من التمس منه التَّصنيف : « وقلت : إنَّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدّين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه مَنْ يُريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين ، والسنن القائمة التي عليها العمل وبها يؤدّي فرض الله وسنّة نبيّه إلى أن قالقدس‌سره : وقد يسَّر الله له الحمد تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخَّيت ». وقال الصَّدوق في ديباجة « الفقيه » : « إنّي لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما أفتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنَّه حجَّة فيما بيني وبين ربي ـ تقدَّس ذكره ـ ، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المُعوَّل وإليها المرجع ». وذكر الشيخ في « العدّة » أنَّ جميع ما أورده في كتابيه ( التهذيب والاستبصار ) ، إنَّما أخذه من الأُصول المعتمد عليها.

والجواب : أنَّ هذه التَّصريحات أجنبيَّة عمّا نحن بصدده ، أعني وثاقة

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ، المقدمة الثانية.

٤٦

رواة الكتب الأربعة.

أَمّا أوّلاً : فلأن المشايخ شهدوا بصحَّة روايات كتبهم ، لا بوثاقة رجال رواياتهم ، وبين الأمرين بون بعيد ، وتصحيح الروايات كما يمكن أن يكون مستنداً إلى إحراز وثاقة رواتها ، يمكن أن يكون مستنداً إلى القرائن المنفصلة التي صرّح بها المحقّق البهائي في « مشرق الشمسين » والفيض الكاشاني في « الوافي » ومع هذا كيف يمكن القول بأنَّ المشايخ شهدوا بوثاقة رواة أحاديث كتبهم؟ والظّاهر كما هو صريح كلام العَلَمين ، أنَّهم استندوا في التَّصحيح على القرائن لا على وثاقة الرواة ، ويدلّ على ذلك ما ذكره الفيض حول هذه الكلمات ، قالقدس‌سره بعد بيان اصطلاح المتأخّرين في تنويع الحديث المعتبر : « وسلك هذا المسلك العلاّمة الحلّيرحمه‌الله وهذا الاصطلاح لم يكن معروفاً بين قدمائنا ـ قدس الله أرواحهم ـ كما هو ظاهر لمن مارس كلامهم ، بل كان المتعارف بينهم إطلاق الصحيح على كلِّ حديث اعتضد بما يقتضي الاعتماد عليه ، واقترن بما يوجب الوثوق به ، والركون إليه (1) كوجوده في كثير من الأُصول الأربعمائة المشهورة المتداولة بينهم التي نقلوها عن مشايخهم بطرقهم المتّصلة بأصحاب العصمةعليهم‌السلام (2) وكتكرّره في أصل أو أصلين منها فصاعداً بطرق مختلفة ـ وأسانيد عديدة معتبرة (3) وكوجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الّذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ومحمَّد بن مسلم والفضيل بن يسار (4) ، أو على تصحيح مايصحّ عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبد الرّحمن ، وأحمد بن محمَّد بن أبي نصر البزنطي (5) ، أو العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ونظرائه (6) وكاندراجه في أحد الكتب التي عرضت على أحد الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام فأثنوا على مؤلّفيها ، ككتاب عبيد الله الحلبي الّذي عرض على الصّادقعليه‌السلام وكتابي يونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان المعروضين على العسكريعليه‌السلام (7) وكأخذه من أحد الكتب التي شاع

٤٧

بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد عليها ، سواء كان مؤلّفوها من الإماميّة ، ككتاب الصَّلاة لحريز بن عبد الله السجستاني وكتب ابني سعيد ، وعليّ بن مهزيار ، أو من غير الإماميّة ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، والحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري إلى أن قال : فحكموا بصحَّة حديث بعض الرواة من غير الإماميّة كعليّ بن محمد بن رياح وغيره لما لاح لهم من القرائن المقتضية للوثوق بهم والاعتماد عليهم ، وإن لم يكونوا في عداد الجماعة الَّذين انعقد الاجماع على تصحيح ما يصحّ عنهم إلى أن قال : فإن كانوا لا يعتمدون على شهادتهم بصحَّة كتبهم فلا يعتمدوا على شهادتهم وشهادة أمثالهم من الجرح والتعديل إلى أن قال : نعم ، إذا تعارض الخبران المعتمد عليهما على طريقة القدماء فاحتجنا إلى الترَّجيح بينهما ، فعلينا أن نرجع إلى حال رواتهما في الجرح والتعَّديل المنقولين عن المشايخ فيهم ونبني الحكم على ذلك كما اُشير إليه في الأخبار الواردة في التراجيح بقولهمعليهم‌السلام « فالحكم ما حكم به أعدلهما وأورعهما واصدقهما في الحديث » وهو أحد وجوه التّراجيح المنصوص عليها ، وهذا هو عمدة الأسباب الباعثة لنا على ذكر الأسانيد في هذا الكتاب »(1) .

وثانياً : سلَّمنا أنَّ منشأ حكمهم بصحَّتها هو الحكم بوثاقة رواتها ، لكن من أين نعلم أنَّهم استندوا في توثيقهم إلى الحسِّ ، إذ من البعيد أن يستندوا في توثيق هذا العدد الهائل من الرواة الواردة في هذه الكتب إلى الحسّ ، بل من المحتمل قويّاً ، أنَّهم استندوا إلى القرائن التي يستنبط وثاقتهم منها ، ومثله يكون حجَّة للمستنبط ولمن يكون مثله في حصول القرائن.

وثالثاً : نفترض كونهم مستندين في توثيق الرُّواة إلى الحسِّ ، ولكنَّ الأخذ بقولهم إنَّما يصحّ لو لم تظهر كثرة أخطائهم ، فإنَّ كثرتها تسقط قول

__________________

1 ـ الوافي : 1 / 11 ـ 12 ، المقدمة الثانية.

٤٨

المخبر عن الحجّية في الإخبار عن حسٍّ أيضاً ، فكيف في الاخبار عن حدس. مثلاً إنَّ كثيراً من رواة الكافي ضعّفهم النجاشي والشيخ ، فمع هذه المعارضة الكثيرة يسقط قوله عن الحجّية. نعم ، إن كانت قليلة لكان لاعتبار قوله وجه. وإنَّ الشيخ قد ضعَّف كثيراً من رجال « التهذيب والاستبصار » في رجاله وفهرسه ، فكيف يمكن أن يعتمد على ذلك التَّصحيح.

فظهر أنَّه لا مناص عن القول بالحاجة إلى علم الرجال وملاحظة أسناد الروايات ، وأنَّ مثل هذه الشهادات لا تقوم مكان توثيق رواة تلك الكتب.

الثامن : شهادة المشايخ الثلاثة

إذا شهد المشايخ الثلاثة على صحَّة روايات كتبهم ، وأنَّها صادرة عن الأئمّة بالقرائن التي أشار إليه المحقّق الفيض ، فهل يمكن الاعتماد في هذا المورد على خبر العدل أو لا؟

الجواب : أنَّ خبر العدل وشهادته إنَّما يكون حجَّة إذا أخبر عن الشَّيء عن حسٍّ لا عن حدس ، والاخبار عنه بالحدس لا يكون حجَّة إلا على نفس المخبر ، ولا يعدو غيره إلا في موارد نادرة ، كالمفتي بالنّسبة إلى المستفتي. وإخبار هؤلاء عن الصُّدور إخبار عن حدس لا عن حسٍّ.

توضيح ذلك ؛ أنَّ احتمال الخلاف والوهم في كلام العادل ينشأ من أحد أمرين :

الأوّل : التعمُّد في الكذب وهو مرتفع بعدالته.

الثاني : احتمال الخطأ والاشتباه وهو مرتفع بالأصل العقلائي المسلَّم بينهم من أصالة عدم الخطأ والاشتباه ، لكن ذاك الأصل عند العقلاء مختصٌّ بما إذا أخبر بالشيء عن حسٍّ ، كما إذا أبصر وسمع ، لا ما إذا أخبر عنه عن حدس ، واحتمال الخطأ في الإبصار والسَّمع مرتفع بالأصل المسلَّم بين العقلاء ، وأمّا احتمال الخطأ في الحدس والانتقال من المقدّمة إلى النتيجة ،

٤٩

فليس هنا أصل يرفعه ، ولأجل ذلك لا يكون قول المحدس حجَّة الا لنفسه.

والمقام من هذا القبيل ، فإنَّ المشايخ لم يروا بأعينهم ولم يسمعوا بآذانهم صدور روايات كتبهم ، وتنطّق أئمّتهم بها ، وإنَّما انتقلوا إليه عن قرائن وشواهد جرَّتهم إلى الاطمئنان بالصّدور ، وهو إخبار عن الشيء بالحدس ، ولا يجري في مثله أصالة عدم الخطأ ولايكون حجَّة في حق الغير.

وإن شئت قلت : ليس الانتقال من تلك القرائن إلى صحَّة الروايات وصدورها أمراً يشترك فيه الجميع أو الأغلب من النّاس ، بل هو أمر تختلف فيه الأنظار بكثير ، فرُبَّ إنسان تورثه تلك القرائن اطمئناناً في مقابل إنسان آخر ، لا تفيده إلا الظنَّ الضعيف بالصحَّة والصدور ، فإذن كيف يمكن حصول الاطمئنان لأغلب النّاس بصدور جميع روايات الكتب الأربعة التي يناهز عددها ثلاثين ألف حديث ، وليس الإخبار عن صحَّتها كالاخبار عن عدالة إنسان أو شجاعته ، فإنَّ لهما مبادئ خاصَّة معلومة ، يشترك في الانتقال عنها إلى ذينك الوصفين أغلب الناس أو جميعهم ، فيكون قول المخبر عنهما حجَّة وإن كان الإخبار عن حدس ، لأنَّه ينتهي إلى مبادئ محسوسة ، وهي ملموسة لكلّ من أراد أن يتفحَّص عن أحوال الإنسان. ولا يلحق به الإخبار عن صحِّة تلك الروايات ، مستنداً إلى تلك القرائن التي يختلف الناس في الانتقال عنها إلى الصحَّة إلى حدٍّ ربَّما لا تفيد لبعض الناس إلا الظّنَّ الضَّعيف. وليس كلُّ القرائن من قبيل وجود الحديث في كتاب عرض على الإمام ونظيره ، حتّى يقال إنَّها من القرائن الحسيّة ، بل أكثرها قرائن حدسية.

فان قلت : فلو كان إخبارهم عن صحَّة كتبهم حجَّة لأنفسهم دون غيرهم ، فما هو الوجه في ذكر هذه الشهادات في ديباجتها؟

قلت : إنَّ الفائدة لا تنحصر في العمل بها ، بل يكفي فيها كون هذا الإخبار باعثاً وحافزاً إلى تحريك الغير لتحصيل القرائن والشواهد ، لعلَّه يقف

٥٠

أيضاً على مثل ما وقف عليه المؤلِّف وهو جزء علَّة لتحصيل الرُّكون لا تمامها.

ويشهد بذلك أنَّهم مع ذاك التَّصديق ، نقلوا الروايات بإسنادها حتّى يتدبَّر الآخرون في ما ينقلونه ويعملوا بما صحَّ لديهم ، ولو كانت شهادتهم على الصحَّة حجَّة على الكلّ ، لما كان وجه لتحمّل ذاك العبء الثقيل ، أعني نقل الروايات بإسنادها. كلّ ذلك يعرب عن أنَّ المرمى الوحيد في نقل تلك التصحيحات ، هو إقناع أنفسهم وإلفات الغير إليها حتّى يقوم بنفس ما قام به المؤلّفون ولعلَّه يحصِّل ما حصَّلوه.

٥١
٥٢

الفصل الثالث

المصادر الاولية لعلم الرجال

1 ـ الاصول الرجالية الثمانية.

2 ـ رجال ابن الغضائري.

٥٣
٥٤

الاصول الرجالية الثمانية

* رجال الكشي.

* فهرس النجاشي.

* رجال الشيخ وفهرسه.

* رجال البرقي.

* رسالة أبي غالب الزراري.

* مشيخة الصدوق.

* مشيخة الشيخ الطوسي.

٥٥
٥٦

اهتم علماء الشيعة من عصر التابعين الى يومنا هذا بعلم الرجال ، فألفوا معاجم تتكفل لبيان أحوال الرواة وبيان وثاقتهم أو ضعفهم ، وأول تأليف ظهر لهم في أوائل النصف الثاني من القرن الاول هو كتاب « عبيد الله بن أبي رافع » كاتب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، حيث دون أسماء الصحابة الذين شايعوا علياً وحضروا حروبه وقاتلوا معه في البصرة وصفين والنهروان ، وهو مع ذلك كتاب تاريخ ووقائع.

وألف عبدالله بن جبلة الكناني ( المتوفى عام 219 هـ ) وابن فضّال وابن محبوب وغيرهم في القرن الثاني الى أوائل القرن الثالث ، كتباً في هذا المضمار ، واستمر تدوين الرجال الى أواخر القرن الرابع.

ومن المأسوف عليه ، أنه لم تصل هذه الكتب الينا ، وانما الموجود عندنا ـ وهو الذي يعد اليوم اصول الكتب الرجالية(1) ـ ما دوّن في القرنين الرابع والخامس ، واليك بيان تلك الكتب والاصول التي عليها مدار علم الرجال ، واليك اسماؤها وأسماء مؤلفيها وبيان خصوصيات مؤلفاتهم.

__________________

1 ـ المعروف أن الاصول الرجالية اربعة أو خمسة بزيادة رجال البرقي ، لكن عدها ثمانية بلحاظ أن الجميع من تراث القدماء ، وان كان بينها تفاوت في الوزن والقيمة ، فلاحظ.

٥٧

1 ـ رجال الكشّي

هو تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بالكشّي ، والكشّ ـ بالفتح والتشديد ـ بلد معروف على مراحل من سمرقند ، خرج منه كثير من مشايخنا وعلمائنا ، غير أن النجاشي ضبطه بضم الكاف ، ولكن الفاضل المهندس البرجندي ضبطه في كتابه المعروف « مساحة الارض والبلدان والاقاليم » بفتح الكاف وتشديد الشين ، وقال : « بلد من بلاد ما وراء النهر وهو ثلاثة فراسخ في ثلاثة فراسخ ».

وعلى كل تقدير ; فالكشي من عيون الثقات والعلماء والاثبات. قال النجاشي : « محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي أبو عمرو ، كان ثقة عيناً وروى عن الضعفاء كثيراً ، وصحب العياشي وأخذ عنه وتخرج عليه وفي داره التي كانت مرتعاً للشيعة وأهل العلم. له كتاب الرجال ، كثير العلم وفيه أغلاط كثيرة »(1) .

وقال الشيخ في الفهرست : « ثقة بصير بالاخبار والرجال ، حسن الاعتقاد ، له كتاب الرجال »(2) .

وقال في رجاله : « ثقة بصير بالرجال والأخبار ، مستقيم المذهب »(3) .

وأما اُستاذه العيّاشي أبو النَّضر محمّد بن مسعود بن محمّد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف بالعيّاشي ، فهو ثقة صدوق عين من عيون هذه الطائفة قال لنا أبو جعفر الزاهد : أنفق أبو النَّضر على العلم والحديث تركة أبيه وسائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو

__________________

1 ـ رجال النجاشي : الرقم 1018.

2 ـ فهرس الشيخ « الطبعة الاولى » الصفحة 141 ، الرقم 604 ، و : « الطبعة الثانية » ، الصفحة 167 الرقم 615.

3 ـ رجال الشيخ : 497.

٥٨

مقابل أو قارئ أو معلِّق ، مملوءة من الناس(1) وله كتب تتجاوز على مائتين.

قد أسمى الكشّي كتابه الرجال بـ « معرفة الرجال » كما يظهر من الشّيخ في ترجمة أحمد بن داود بن سعيد الفزاري(2) .

وربَّما يقال بأنه أسماه بـ « معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين » أو « معرفة الناقلين » فقط ، وقد كان هذا الكتاب موجوداً عند السيد ابن طاووس ، لأنه تصدّى بترتيب هذا الكتاب وتبويبه وضمِّه الى كتب أُخرى من الكتب الرجاليَّة وأسماه بـ « حلّ الاشكال في معرفة الرجال » وكان موجوداً عند الشهيد الثاني ، ولكن الموجود من كتاب الكشّي في هذه الاعصار ، هو الذي اختصره الشيخ مسقطاً منه الزوائد ، واسماه بـ « اختيار الرجال » ، وقد عدَّه الشيخ من جملة كتبه ، وعلى كل تقدير فهذا الكتاب طبع في الهند وغيره ، وطبع في النجف الاشرف وقد فهرس الناشر أسماء الرواة على ترتيب حروف المعجم. وقام اخيراً المتتبع المحقق الشيخ حسن المصطفوي بتحقيقه تحقيقاً رائعاً وفهرس له فهارس قيّمة ـ شكر الله مساعيه ـ.

كيفية تهذيب رجال الكشي

قال القهبائي : « إن الاصل كان في رجال العامة والخاصة فاختار منه الشيخ ، الخاصة »(3) .

والّظاهر عدم تماميّته ، لأنه ذكر فيه جمعاً من العامة رووا عن ائمّتنا

__________________

1 ـ راجع رجال النجاشي : الرقم 944.

2 ـ ذكره في « ترتيب رجال الكشي » الذي رتب فيه « اختيار معرفة الرجال » للشيخ على حروف التهجي ، والكتاب غير مطبوع بعد ، والنسخة الموجودة بخط المؤلف عند المحقق التستري دام ظله.

3 ـ راجع فهرس الشيخ : « الطبعة الاولى » الصفحة 34 ، الرقم 90 ، و : « الطبعة الثانية » الصفحة 58 ، الرقم 100.

٥٩

كمحمد بن اسحاق ، ومحمد بن المنكدر ، وعمرو بن خالد ، وعمرو بن جميع ، وعمرو بن قيس ، وحفص بن غياث ، والحسين بن علوان ، وعبد الملك بن جريج ، وقيس بن الربيع ، ومسعدة بن صدقة ، وعباد بن صهيب ، وأبي المقدام ، وكثير النوا ، ويوسف بن الحرث ، وعبد الله البرقي(1) .

والظاهر أن تنقيحه كان بصورة تجريده عن الهفوات والاشتباهات التي يظهر من النجاشي وجودها فيه.

ان الخصوصية التي تميز هذا الكتاب عن سائر ما ألف في هذا المضمار عبارة عن التركيز على نقل الروايات المربوطة بالرواة التي يقدر القارئ بالامعان فيها على تمييز الثقة عن الضعيف وقد ألفه على نهج الطبقات مبتدءاً بأصحاب الرسول والوصي الى أن يصل الى أصحاب الهادي والعسكريعليهما‌السلام ثم الى الذين يلونهم وهو بين الشيعة كطبقات ابن سعد بين السنة.

2 ـ رجال النجاشي

هو تأليف الثبت البصير الشيخ أبي العباس(2) أحمد بن علي بن أحمد بن العباس ، الشهير بالنجاسي ، وقد ترجم نفسه في نفس الكتاب وقال : « أحمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن النجاشي ، الذي ولي الاهواز وكتب الى أبي عبد اللهعليه‌السلام يسأله وكتب اليه رسالة عبد الله بن النجاشي المعروفة(3) ولم ير لأبي عبداللهعليه‌السلام مصنَّف غيره.

__________________

1 ـ قاموس الرجال : 1 / 17.

2 ـ يكنى بـ « أبي العباس » تارة وبـ « أبي الحسين » اخرى.

3 ـ هذه الرسالة مروية في كشف الريبة ونقلها في الوسائل في كتاب التجارة ، لاحظ : الجزء 12 ، الباب 49 من أبواب ما يكتسب به.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وفوق ذلك كانوا يبرهنون على صحة نبوتهم بالمعاجز الباهرة والبراهين القاطعة؟

خامسا: الردّ على الصابئة:

ثم وصلت النوبة إلى عمران الصابى ء، وكان واحدا من المتكلمين، فسأل الإمامعليه‌السلام عن الكائن الأول وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : «سألت فافهم، أمّا الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولايزال كذلك واعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنَّ الأعوان كلَّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يُحدث من الخلق شيئا إلاّ حدثت فيه حاجةٌ اُخرى، ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجةٍ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضَّل بعضهم على بعض، بلا حاجةٍ منه إلى من فَضَّل، ولا نقمةٍ منه على من أذلَّ، فلهذا خَلقَ.

وتطرق معه في النقاش لمسائل مختلفة في توحيد اللّه وأسفرت هذه المناظرة عن اعتراف عمران الصابى ء بصواب أجوبة الإمام الرضاعليه‌السلام على أسئلته الحساسة والمختلفة، وعلى إثر ذلك أعلن إسلامه أمام المأمون مخاطباً الإمام الرضاعليه‌السلام بقوله: قد فهمتُ وأشهدُ أنَّ اللّه على ما وصفتهُ ووحدتهُ، وأنَّ محمدا عبدهُ المبعوث بالهدى ودين الحقِّ، ثمّ خرَّ ساجدا نحو القبلة وأسلَمَ.

قال الحسنُ بن محمد النَّوفليّ: فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابى ء، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قط، لم يدنُ من الرِّضاعليه‌السلام

١٠١

أحد منهم ولم يسألوه عن شيءٍ، وأمسينا فنهض المأمون والرِّضاعليه‌السلام فدخلا وانصرف الناس(١) .

ويلاحظ أن الإمامعليه‌السلام قد اتبع المنهج العقلي مع غير أهل الكتاب كأصحاب زرادشت ورؤساء الصابئين، وذلك لأن هؤلاء لا يؤمنون بالنقل أو النصوص من حيث الأساس.

سادسا: الرَّد على الزنادقة

وإذا أمعنا النظر في طريقة حواره مع الزنادقة نجد أنه اتبع معهم ذات المنهج الأخير - أي المنهج العقلي - لعدم إيمان هؤلاء باللّه تعالى وكتبه وأنبيائه، وكان يتبع مع أمثال هؤلاء أسلوب (التداول الحرّ للأفكار)، يتّضح لنا ذلك من خلال حوار الإمامعليه‌السلام مع أحد الزنادقة:

عن محمد بن عبد اللّه الخراساني، خادم الرضاعليه‌السلام ، قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضاعليه‌السلام وعنده جماعة، فقال له أبو الحسنعليه‌السلام : «أرأيت إن كان القول قولكم، وليس هو كما تقولون، ألسنا وإياكم شرع سواء، ولا يضرّنا ما صلينا وزكينا وأقررنا؟ » فسكت، فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «وإن يكن القول قولنا، وهو قولنا، وكما نقول، ألستم قد هلكتم ونجونا؟ ».

قال: رحمك اللّه فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ قال: «ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط، وهو أيّن الأين ولا أين، وكيّف الكيف وكان ولا كيف، فلا يُعرف بكيفوفية، ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء ».

قال الرجل: فإذن انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس!

__________________

(١) التوحيد: ٤١٧ - ٤٤٠، باب (٦٥).

١٠٢

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انه ربنا، وأنه شيء بخلاف الأشياء ».

قال الرجل: فأخبرني متى كان؟!

قال أبو الحسنعليه‌السلام : «أخبرني متى لم يكن، فأخبرك متى كان؟! ».

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

قال أبو الحسنعليه‌السلام : «إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه، علمت أن لهذا البنيان بانيا، فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات، علمت أن لهذا مقدّرا ومنشأً ».

قال الرجل: فلم احتجب؟

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «إنّ الحجاب على الخلق، لكثرة ذنوبهم، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ».

قال: فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟

قال: «للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل ».

قال: فحده لي؟

قال: «لا حدّ له »، قال: ولم؟

قال: « لأن كل محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد

١٠٣

ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم »(١) .

نستخلص من هذا النص ومما سبقه أن الإمامعليه‌السلام كان يحاجج الخصوم بصدر رحب وطول نفس، وبأسلوب يتناسب مع عقلية الخصم سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

المبحث الثاني: حواراته مع أهل الإسلام

لم يهدف الإمام الرضاعليه‌السلام من مناظراته وخاصة مع أهل الإسلام إلى كسب المناظرة والحوار، وإنما إلى إيصال الحقيقة الدينية الصحيحة، وتنقية العقيدة الإسلامية من كل الشوائب التي لحقت بها والشبهات التي تثار حولها، خصوصا بعد أن اختلط الحقّ بالباطل، والتبست السنّة بالبدعة. والملاحظ أنه اعتمد في مناظراته مع أهل الإسلام على المنهج النقلي - من قرآن وسنّة نبوية - بصورة أساسية. وكان ينتزع إجاباته من هذين المصدرين بدون تكلف أو اعتساف في تحميل النصوص. علما بأن المأمون قد جهد منذ البداية على إحراج الإمام الرضاعليه‌السلام أمام أهل الأديان والملل المختلفة الذين حشدهم من كل ملة ومكان لأجل هذه الغاية.

ولكنه خابت ظنونه بأهل الأديان وخسر الصفقة، ومن هنا حاول أن يعيد التجربة، فحشد له - هذه المرّة - أبرز علماء الإسلام ومتكلميه، أمثال: علي بن محمد بن الجهم ويحيى بن الضحاك السمرقنديّ وسليمان المروزيّ، وكان العالمان الأخيران من أبرز علماء خراسان في ذلك الزمان.

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١ / ١٢٠، ح ٢٨، باب (١١).

١٠٤

وكان المأمون يأمرهم بإثارة مواضيع حساسة مع الإمام الرضاعليه‌السلام ، كمسألة عصمة الأنبياء، ومسألة الإمامة، والبداء، وما إلى ذلك.

أولاً: مناظرتهعليه‌السلام حول عصمة الأنبياءعليهم‌السلام

يعتقد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أن الأنبياء (صلى اللّه عليهم) معصومون، بمعنى عدم اقترافهم جريمة ولا ذنب ولا خطيئة حتى الغلط والخطأ والسهو والغفلة والنسيان. ومعصومون كذلك عن كل ما ينفي الحشمة والكرامة منذ ولادتهم وإلى وفاتهم. والشيعة الإمامية يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها، ويستدلّون على وجوب عصمتهم بأدلّة عقلية عديدة.

ولما كان بعض المسلمين يجوّز صغائر الذنوب على الأنبياء، كالمعتزلة، والبعض الآخر كالأشعرية والحشوية يُجوز ارتكابهم الكبائر فضلاً عن الصغائر، إلاّ الكفر والكذب، ويستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنية.

وجد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أن هذا الفهم يتصادم مع العقل ولا يليق بمكانة الأنبياءعليهم‌السلام ومنزلتهم، ويترك آثارا سلبية على العقيدة الإسلامية، فقاموا، وهم تراجم القرآن، ببيان شافٍ لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، وقد قام إمامنا الرضاعليه‌السلام بإماطة الستار عن المعاني القرآنية الحقيقية التي تتحدّث عن الأنبياء والرُّسل، وبدّد ضباب الغبش والتشويش وسوء الفهم الذي حجب دلالاتها.

عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام

١٠٥

أهل المقالات، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنه أُلقم حجرا، قام إليه علي بن محمد بن الجهم، فقال له: يابن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟

قال: «نعم ».

قال: فما تعمل في قول اللّه عزّوجلّ:( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) وفي قوله عزّوجلّ:( وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (٢) وفي قوله عزّوجلّ في يوسفعليه‌السلام :( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٣) وفي قوله عزّوجلّ في داودعليه‌السلام :( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٤) وقوله تعالى في نبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ ) ؟(٥) .

فقال الرضاعليه‌السلام : «ويحك يا علي، اتقِ اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش، ولا تتأوّل كتاب اللّه برأيك، فإنّ اللّه عزّوجلّ قال: ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦) .

وأما قوله عزّوجلّ في آدم عليه‌السلام : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فإن اللّه عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة

__________________

(١) سورة طه: ٢٠ / ١٢١.

(٢) سورة الأنبياء: ٢١ / ٨٧.

(٣) سورة يوسف: ١٢ / ٢٤.

(٤) سورة ص: ٣٨ / ٢٤.

(٥) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٣٧.

(٦) سورة آل عمران: ٣ / ٧.

١٠٦

عُصم بقوله عزّوجلّ:( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١) »(٢) .

وعلى هذا السياق أجابعليه‌السلام عن التهمة الشنيعة التي نسبت إلى داودعليه‌السلام من أنه اطلع في دار قائده «أوريا» فعشق امرأته فقدّمه أمام التابوت في المعركة فقُتِل وتزوّج بامرأته! فنسبوا داودعليه‌السلام - زورا وبهتانا - إلى الفاحشة ثمّ القتل.

كما كشف عن سبب إخفاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بنفسه من أمر زواجه بزينب بنت جحش فقد أطلعه اللّه تعالى على أسماء أزواجه فوجد اسم زينب مع أسمائهن وكانت تحت زيد بن حارثة فخشي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين إن أخبر عن ذلك، فعاتبه تعالى بقوله:( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (١) . وليس في هذا ذنب أو ارتكاب معصية.

ومن المناسب التذكير بأن أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تنزيه الأنبياء كثيرة مبثوثة في كتب الحديث والتفسير، ومنها استقى السيد الشريف المرتضى ردوده في كتابه (تنزيه الأنبياء).

وفي رواية أخرى أجاب الإمامعليه‌السلام على سؤال علق بذهن المأمون حول طلب موسىعليه‌السلام من ربه الرؤية، مع علمه باستحالة رؤيته تعالى بالأبصار؟!، فقال الرِّضاعليه‌السلام : «إنَّ كليمَ اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام عَلِمَ أنَّ اللّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار، ولكنه لمّا كلَّمه عزَّوجلَّ وقرَّبه نجيّا رجع إلى

__________________

(١) سورة آل عمران: ٣ / ٣٣.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩١ / ١ باب (١٤).

(٣) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٣٧.

١٠٧

قومه فأخبرهم أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ كلَّمه وقرَّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى سمع كلامهُ كما سمعت فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربِّه، فخرج بهم إلى طور سيناء، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسىعليه‌السلام إلى الطُّور وسأل اللّه تبارك وتعالى أن يُكلّمه ويُسمعهم كلامه، فكلَّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا من فوقٍ وأَسفلَ ويمينٍ وشمالٍ ووراءٍ وأمام، لأن اللّه عزَّوجلَّ أحدثهُ في الشَّجرةِ، ثم جعلهُ منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه.

فقالوا: لن نؤمنَ لكَ بأَنَّ هذا الَّذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرةً!! فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا، بعث اللّه عزَّوجلَّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظُلمهم فماتوا، فقال موسى: يا ربِّ ما أقولُ لبني إسرائيلَ إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنَّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنَّكَ لم تكن صادقا فيما ادَّعيت من مناجاة اللّه إياك؟ فأحياهم اللّه وبعثهم معه، فقالوا: إنك لو سألت اللّه أن يُريك أن تنظرَ إليه لأجابك وكنت تُخبرنا كيف هو فنعرفهُ حقَّ معرفته.

فقال موسىعليه‌السلام : يا قوم إنَّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيَّة له، وإنَّما يُعرفُ بآياته ويُعلم بأعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتّى تسألهُ، فقال موسىعليه‌السلام : يا ربِّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى اللّه جلَّ جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخِذكَ بجهلهم، فعند ذلك قال موسىعليه‌السلام :( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآيةٍ من آياته( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقولُ: رجعتُ إلى معرفتي بك عن جهلِ قومي( وَأَنا

١٠٨

أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ ) (١) منهم بأنّك لا تُرى »، فقال المأمون: للّه دَرُّك يا أبا الحسن(٢) .

ثانيا: مناظرتهعليه‌السلام حول الإمامة

تمثل الإمامة معلما أساسيا من معالم الإسلام، التي بينها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمة إكمالاً للدين وإتماما للنعمة. وهي تمثل - من جانب آخر - لبنة أساسية في بنية الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص، لا سيما إذا ما عرفنا بان التشيع هو تجسيد لمبدأ الإمامة.

وفي ظل التجميد المتعمد لإطروحة الإمامة، حاول الأئمةعليهم‌السلام الاحتفاظ بهذه الإطروحة حية في وعي الأمة ولو على المستوى النظري، لأن غيابها من ذاكرة الأمة تأكيد لحالة المصادرة وإلغاء لهذا المفهوم الهام من منظومة الأفكار والمفاهيم المتحركة في واقع التصور الإسلامي.

وكنا قد ذكرنا في الفصل الثالث موقف الإمام الرضاعليه‌السلام من الإمامة، ويهمّنا هنا أن نستشهد بنماذج من مناظراته حول موضوع الإمامة كشاهد على ذلك.

وصف الرّيان بن الصلت مجلساً للمأمون بمرو، وقد اجتمع فيه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان، وتطرّق الحديث لعدّة محاور تتعلّق بإمامة أهل البيتعليهم‌السلام وفضائلهم، هي:

__________________

(١) سورة الأعراف: ٧ / ١٤٣.

(٢) كتاب التوحيد، الصّدوق: ١٢١، ح ٢٤، باب (٨).

١٠٩

١ - الفرق بين العترة والأمة

دار الحوار حول تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدل على أفضلية ومكانة أهل البيتعليهم‌السلام وبالتالي أهليتهم للإمامة، ولكنها فُسِّرت على غير معناها الحقيقي، وضُرب حولها سور هائل من التعتيم، فأزال إمامنا سوء الفهم الحاصل، وحدّدَ المعنى المراد.

والملاحظ أنه استعمل المنهج «النقلي» معتمدا على القرآن والسنة، ومستعملاً في التفسير منهج «التفسير الموضوعي» وليس المنهج التجزيئي الذي ينظر للآية بمعزل عن الآيات الأخرى، وقد مرّ نص هذا الحوار في الفصل الثالث، وعرفنا كيف احتج الإمامعليه‌السلام بنصوص كثيرة من القرآن الكريم تلاها على مسامع المأمون ومن كان معه بكل بسالة ولم يأبه بالمأمون ولا بحاشيته أو مخالفيه في العقيدة.

٢ - استعراض الآيات الدالة على اصطفاء الأئمةعليهم‌السلام

ثمّ طلب منه العلماء أن يستشهد بآيات تدل على اصطفاء اللّه تعالى لآل البيتعليهم‌السلام في الكتاب، فذكر اثنتا عشرة آية تدل على ذلك: منها (آية الإنذار) و (آية التطهير) و (المباهلة) وعند آية (المودّة في القربى) قال: « وهذه خصوصية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم، وذلك ان اللّه عزّوجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه:( وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه ) (١) وحكى عزّوجلّ عن هود انه قال:( يَاقَوْمِ

__________________

(١) سورة هود: ١١ / ٢٩.

١١٠

لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) وقال عزّوجلّ لنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ ) يا محمد( لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) ولم يفرض اللّه تعالى مودّتهم إلاّ وقد علم انهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ »(٣) .

والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي يقرع فيه الإمامعليه‌السلام أسماعهم بهذه الاستدلالات والشواهد القرآنية البديعة التي لاينكرها إلاّ أعمى أو معاند، قالت العلماء: يا أبا الحسن، هذا الشرح وهذا البيان لايوجد إلاّ عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

فقال: « ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلاّ معاند للّه عزّوجلّ »(٤) .

٣ - مكانة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ربّهم عزّوجلّ

من اللفتات القرآنية البديعة التي تكشف عن عمق إمامنا المعرفي بالقرآن وكونه أحد تراجمته، جوابه البديع للمأمون عندما طلب منه أن يستدل على مكانة الآل في القرآن حتى يكون ألزم للخصم مما تقدم، فقال

__________________

(١) سورة هود: ١١ / ٥١.

(٢) سورة الشورى: ٤٢ / ٢٣.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٧، ح ١، باب (٢٣).

(٤) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٧، ح ١، باب (٢٣).

١١١

أبو الحسنعليه‌السلام : «نعم، أخبروني عن قول اللّه عزّوجلّ: ( يسآ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) فمن عني بقوله يس؟ ».

قالت العلماء: يس محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشك فيه أحد.

قال أبو الحسن: «فإن اللّه عزّوجلّ أعطى محمداً وآل محمد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلاّ مَن عقله، وذلك أن اللّه عزّوجلّ لم يُسلم على أحد إلاّ على الأنبياء صلوات اللّه عليهم، فقال تبارك وتعالى: ( سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (٢) وقال: ( سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٣) وقال: ( سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (٤) ولم يقل: سلام على آل نوح، ولم يقل: سلام على آل ابراهيم، ولا قال: سلام على آل موسى وهارون، وقال عزّوجلّ: ( سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) (٥) يعني آل محمد صلوات اللّه عليهم ».

فقال المأمون: لقد علمت ان في معدن النبوة شرح هذا وبيانه(٦) .

٤ - الأئمةعليهم‌السلام هم أهل الذكر:

ضمن سياق الحوار الذي دار في هذا المجلس كان حديث الإمام ينساب كنهر متدفق، فتطرق معهم إلى مفهوم «أهل الذكر» ولفت نظرهم

__________________

(١) سورة يآس: ٣٦ / ١ - ٤.

(٢) سورة الصافات: ٣٧ / ٧٩.

(٣) سورة الصافات: ٣٧ / ١٠٩.

(٤) سورة الصافات: ٣٧ / ١٢٠.

(٥) سورة الصافات: ٣٧ / ١٣٠.

(٦) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٤، ح ١، باب (٢٣).

١١٢

الى هذا المفهوم الهام الذي أريد له أن يغيب عن الأذهان ويمحى عن الذاكرة ويُسدل عليه ستار النسيان، من خلال التفسير القاصر، قال لهم: «فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ».

فقالت العلماء: إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ يدعونا إلى دينهم، ويقولون: انه أفضل من دين الإسلام! ».

فقال المأمون: فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام : «نعم، الذكر رسول اللّه، ونحن أهله، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّوجلّ حيث يقول في سورة الطلاق :( فَاتَّقُوا اللّه يَا أُوْلِي الاْءَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه مُبَيِّنَاتٍ ) (١) فالذكر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن أهله »(٢) .

وفي نهاية المطاف اعترف المأمون ومن معه من العلماء بمقدرة الإمام العلمية وأنه بحر زاخر، وأقرّوا بأفضلية أهل البيتعليهم‌السلام ، وقالوا: «جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ عندكم»(٣) .

٥ - في الواقع التاريخي للخلافة

من المعروف أن الإمامة كانت - ومازالت - موضوعا ساخنا يثير

__________________

(١) سورة الطلاق: ٦٥ / ١٠ - ١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢١٦، ح ١، باب (٢٣).

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٠٧ - ٢١٧، ح ١، باب (٢٣)، وأمالي الشيخ الصّدوق: ٦١٥، المجلس (٧٩).

١١٣

الجدل وتختلف حوله الأقوال وتتباين فيه وجهات النظر، وقد اعتبر البعض بأن ما حدث في السقيفة قد تجاوزه التاريخ وغدا حقيقة واقعة ليس من المناسب أن تمسّها يد المراجعة والتقييم، ولكن الرؤية الموضوعية تقرّر بأن هناك أحداثا تشكل انعطافة مهمة على صعيد التاريخ الإنساني تبقى تداعياتها حية مهما طالت الفترة الزمنية، وموضوع الإمامة واحد من هذه المواضيع الجسام التي ما زالت تبعات ما أحاط بها من أحداث تنعكس سلبا على كافة الاصعدة الإسلامية: الفكرية والسياسية والاجتماعية.

والمعالجة الجادة ينبغي أن تنطلق من التشخيص الدقيق لأسباب المشكلة، وهنا نجد أن إمامنا الرضاعليه‌السلام قد وضع إصبعه على موضع الداء، فالإمامة شغلها بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يكن لها أهلاً، ثم لم يحدث أن تدارك المسلمون ذلك، بل أمضوه حتى تلاحقت فصوله الأخرى، فتراكم الخطأ.

وصف محمد بن يحيى الصولي مجلساً للمأمون بحضرة الإمام الرضا وثلّة من كبار أهل العلم الذين دعاهم المأمون لمناظرة الإمامعليه‌السلام ، فأداروا أمر الإمامة، فتكلم متكلّمهم يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال: نتكلم في الإمامة، كيف ادعيت لمن لم يَؤم وتركت من أمّ ووقع الرضا به؟

فقال له: «يا يحيى أخبرني عمن صدّق كاذبا على نفسه، أو كذّب صادقا على نفسه، أيكون محقّا مصيبا أو مبطلاً مخطئا؟ » فسكت يحيى، فقال له المأمون: أجبه، فقال: يعفيني أمير المؤمنين من جوابه، فقال المأمون: يا أبا الحسن عرّفنا الغرض في هذه المسألة.

فقالعليه‌السلام : «لا بدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته؛ كذبوا على أنفسهم أو

١١٤

صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا، فلا أمانة لكذاب، وإن زعم أنهم صدقوا، فقد قال أولهم: ولّيتكم ولست بخيركم، وقال تاليه: كانت بيعته فلتة، فمن عاد لمثلها فاقتلوه، فواللّه مارضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل، فمن لم يكن بخير الناس، والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها: العلم، ومنها الجهاد، ومنها سائر الفضائل وليست فيه، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته؟! ثمّ يقول على المنبر: إنّ لي شيطانا يعتريني، فإذا مال بي فقوموني، وإذا أخطأت فارشدوني، فليسوا أئمة بقولهم، إن صدقوا، أو كذبوا، فما عند يحيى في هذا جواب ».

فعجب المأمون من كلامه، وقال: يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك(١) .

والملفت للنظر أن إمامناعليه‌السلام في هذا الحوار قد اتبع منهجا فريدا، فلم يستعمل في مناظرته الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الكثيرة التي يمكن الاستدلال بها على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، فلعلّه يعلم بأن الغوص في هذا قد يؤدي إلى تجريدات فكرية لا يلتزم القوم بمدلولاتها، لذلك درس مسألة الإمامة في إطارها التاريخي محاولاً إلقاء الضوء على الحقائق كما هي من خلال أقوال أقطاب السقيفة بدون تأويل أو تفسير، فكثيرا ما يتأثر الناس بالتفسير الذي يأتيهم لحدث أكثر ما يتأثرون بالحدث نفسه، وهنا وضعهم الإمامعليه‌السلام وجها لوجه أمام الحدث، عارضا بأمانة تصريحات القوم التي أدلوا بها في قلب الحدث ودلالاتها ؛ وحينئذ يكتشف كل منصف الحقيقة بنفسه.

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٥٥، ح ١، باب (٥٧).

١١٥

ثالثا: مناظرتهعليه‌السلام حول البداء

البداء من المسائل المعقدة التي كثر الجدل والنزاع حولها قديما وحديثا بين الفلاسفة والعلماء من السنة والشيعة، ولكل من الفريقين رأي واتجاه.

فما هو البداء؟

البَداء - لغةً: ظهور الشيء بعد خفائه وبدا له في هذا الأمر بداءً، أي: تغير رأيه عمّا كان عليه بعد أن ظهر له فيه رأي آخر(١) .

وقد اتُهم الشيعة بنسبة الجهل إلى اللّه تعالى استنادا إلى المعنى اللغوي المتقدم للبَداء، والحال أن الشيعة يتبرأون من هذه التهمة الشنيعة، وهم يكفّرون كل من ينسب الجهل إلى اللّه تعالى، ويرون بأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض، وأنه ليس محلاً للحوادث والتغيرات، لاستلزام ذلك خروجه - عزّوجلّ - عن حضيرة الوجوب إلى الإمكان، زد على ذلك أن الشيعة متفقون على أن اللّه تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود، وآراء الشيعة هذه مدونة في عشرات الكتب والرسائل والبحوث تحت عنوان «البَداء»(١) .

والحال أن حقيقة البَداء عندهم ليس ظهور الأمر للّه تعالى بعد أن كان خافيا عليه، تعالى اللّه عزّوجلّ عن ذلك علواً كبيراً بل هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقبا، يعد مساوقا لتغيير القضاء كما هو عند

__________________

(١) لسان العرب / ابن منظور ١٤: ٦٥، مفردات الراغب: ٤٠، مادة (بدا).

(٢) اُنظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني ٣: ٥١ - ٥٧ و ١٣١ - ١٥١.

١١٦

الجمهور، وعليه فالبداء عند الشيعة الإمامية هو البداء الواقع في (التكوينيات) كالنسخ المتعلق ب- (التشريعات)، فكما أن النسخ في التشريعات أمر جائز وسائغ، كذلك البداء في التكوينات أمر سائغ وممكن وجائز.

ثم إن البداء يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه ب- (لوح المحو والإثبات) والالتزام بجواز البداء فيه لايستلزم نسبة الجهل إلى اللّه سبحانه، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله(١) .

وهناك آيات قرآنية كثيرة تثبت بأن اللّه تعالى مبسوط اليدين في مجال التكوين، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء، منها: قوله تعالى:( يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢) .

وتوجد أحاديث في صحاح السنة تشير إلى حصول المحو والإثبات الإلهيين، وإمكانية التغيير والتبديل فيما كتبه اللّه وقدَّره وفقا لمشيئته وإرادته تعالى، منها ما أخرجه البخاري عن عبد اللّه بن مسعود، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (١) أنَّه قال: «إنَّ اللّه يحدث من أمره ما يشاء، وإنَّ مما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة »(٢) .

وبإسناد عن أنس بن مالك أن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صعد إلى السّماء واجتمع

__________________

(١) اُنظر: دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢: ٣٣ وما بعدها.

(٢) سورة الرعد: ١٣ / ٣٩.

(٣) سورة الرحمن: ٥٥ / ٢٩.

(٤) صحيح البخاري ٩: ١٨٧ - باب: قول اللّه تعالى:( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

١١٧

بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، نصحه موسىعليه‌السلام بأن يراجع ربّه لتخفيف الصلاة عن أمته فيما فرضه اللّه على أمته من خمسين صلاة في كل يوم، وبعد أن راجع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عدة مرات حسب نصيحة موسىعليه‌السلام خفّف اللّه تعالى الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات(٣) .

روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: «إن ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى بدا للّه أن يبتليهم ...»(٤) ثم ساق الخبر (الصحيح).

ومن هذه الأحاديث يظهر بوضوح دخول فكرة البداء عند أقطاب المحدثين ورواة المسلمين في دائرة المحو والاثبات المصرّح بها في القرآن الكريم، لكن المؤسف حقاً أنّها قد استغلت من قبل خصوم الشيعة للتشنيع والتشهير.

ويقتضي التنويه بأن «مصالح العباد متوقفة على القول بالبداء، إذ لو اعتقدوا أنَّ كل ما قُدّر في الأزل فلا بُدَّ من وقوعه حتما لما دعوا اللّه تعالى في شيء من مطالبهم، وما تضرَّعوا إليه، وما استكانوا لديه، ولا خافوا منه، ولا رجعوا إليه، وإذا انتفت هذه الأمور فلا يبقى مجال للصدقة وصلة الرحم، وبرّ الوالدين، وغير ذلك من صالح الأعمال ..

أضف إلى ذلك أن القول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم كله تحت سلطان اللّه وقدرته في حدوثه وبقائه، وان إرادة اللّه نافذة في الأشياء

__________________

(١) اُنظر: صحيح البخاري ١: ٩٨، كتاب الصلاة، وأيضا ٩٦: ١٨٢، باب قوله تعالى:( وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيماً ) .

(٢) صحيح البخاري ٤: ٢٠٨ - ٢٠٩، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.

١١٨

أزلاً وأبدا»(١) . من هنا دافع إمامنا الرضاعليه‌السلام عن مسألة البداء، وأولاها عناية خاصة وأعتبرها من المسائل الأساسية التي قامت عليها الأديان السماوية.

وجدير بالذكر هو أن أول من نفى القول بالبداء هم اليهود الذين قالوا - لعنهم اللّه -: إن يد اللّه مغلولة! غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا. بل هو سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.

ومما يكشف عن اهتمام الإمام الرضاعليه‌السلام بمسألة البداء حواراته ومناظراته مع أهل الإسلام، ومن أبرز الشواهد على ذلك مناظرته مع سليمان المروزي متكلم خُراسان الذي قدم على المأمون فأكرمه ووصله، ثم طلب منه أن يناظر الإمامعليه‌السلام .

وكان عمران الصابى ء الذي أسلم ببركة إمامنا الرضاعليه‌السلام وأصبح من تلاميذه قد التقى بالمروزي فتحاورا حول البداء وكان المروزي قد أنكره، فقال المأمون: يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟

قالعليه‌السلام : «وما أنكرت من البداءِ يا سليمان، واللّه عزَّوجلَّ يقول: ( أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٣) ويقول: ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) (٤) ويقول عزَّوجلَّ: ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاء ) (٥) ويقول: ( بَدَأَ خَلْقَ

__________________

(١) دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢: ١٦٠ وما بعدها.

(٢) سورة مريم: ١٩ / ٦٧.

(٣) سورة الروم: ٣٠ / ٢٧.

(٤) سورة البقرة: ٢ / ١١٧، وسورة الأنعام: ٦ / ١٠١.

(٥) سورة فاطر: ٣٥ / ١.

١١٩

الإنْسانِ مِنْ طِيْنٍ ) (١) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (٣) ؟!

قال سُليمان: هل رويتَ فيه شيئا عن آبائكَ؟ قال: نعم، رويتُ عن أبي عبداللّهعليه‌السلام أَنَّه قال: «إنَّ للّه عزَّوجلَّ علمين: علما مخزونا مكنونا لا يعلمهُ إلاّ هو، ومن ذلك يكونُ البَداءُ، وعلما علَّمهُ ملائكتهُ ورُسُلَهُ، فالعلماء من أهلِ بيت نبيِّه يعلمونه ».

قال سُليمان: اُحبُّ أن تَنزَعهُ لي من كتابِ اللّه عزَّوجلَّ.

قالعليه‌السلام : «قولُ اللّه عزَّوجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُ ومٍ) (٤) أراد هلاكهمُ ثمَّ بدا للّه - أي: عن علم - فقال: ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥) ».

قال سُليمان: زدني جُعلتُ فداك، قال الرضاعليه‌السلام : «لقد أخبرني أبي عن آبائه أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنَّ اللّه عزَّوجلَّ أوحى إلى نبيٍ من أنبيائه: أن أخبر فلان الملك أني متوفّيه إلى كذا وكذا، فقال: يا ربِّ أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى ذلك النَّبيِ أن ائت فُلانَ الملك فأعلمهُ أنِّي قد أنسيتُ في أجلهِ وزدتُ في عُمره خمس عشرةَ سنةً، ثمّ أوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه: إنَّما أنتَ عبد مأمور فأبلغهُ ذلك، واللّه لا يسألُ عمّا

__________________

(١) سورة السجدة: ٣٢ / ٧.

(٢) سورة التوبة: ٩ / ١٠٦.

(٣) سورة فاطر: ٣٥ / ١١.

(٤) سورة الذاريات: ٥١ / ٥٤.

(٥) سورة الذاريات: ٥١ / ٥٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199