الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ40%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88095 / تحميل: 5516
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أنحاء العالم الإسلامي بإحضار كبار العلماء من المتمرّسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الإمام عن أعقد المسائل العلمية، ولمّا حضروا عنده عرض عليهم الأمر، ووعد بالثراء العريض كل مَن يسأل الإمامعليه‌السلام سؤالاً يعجز عن إجابته، والسبب في ذلك - فيما نحسب - يعود إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضاعليه‌السلام فإنّه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع أنواع العلوم، ومن الطبيعي أنّ ذلك يؤدّي إلى زعزعة كيان التشيّع، وبطلان عقيدتهم في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: إنّ الإمام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فإنّ المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها، فقد أظهر للناس في بداية الأمر أنّه إنّما رشّح الإمام لهذا المنصب الخطير لأنّه أعلم الأمّة، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله، وفي نفس الوقت تقوم وسائل إعلامه بإذاعة ذلك، والحط من شأن الإمام، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للإمام لولاية العهد.

فعمدت إلى عزله، ومبايعة المغني إبراهيم - كما سنتحدث عن ذلك - وعلى إي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرّس فيها، ويقول الرواة: إنّه سُئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية، وهي مليئة بالإعجاب والإكبار بمواهب الإمام وعبقرياته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته، ممّا اضطر المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء خوفاً أن يفتتنوا له ولم يذكر الرواة إلا كوكبة يسيرة منها، نعرض لها ولبعض ما أثر عنه هذا الموضوع، وفيما يلي ذلك:

1 - أسئلة عمران الصابئ:

وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمامعليه‌السلام كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيداً وغموضاً. وقد شرحها وعلّق عليها المحقّق الشيخ

١٠١

محمد تقي الجعفري، قال: وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها، وهي على إطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربّما تكون أغمض من نفس الأسئلة، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ثامن حجج الله على عباده وأُمنائه في أرضه، وما بيّنه الإمام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة، هكذا ينكشف عند المتمسّكين بأذيال أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.

( ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها... لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل، وبعدما أجاب الإمامعليه‌السلام عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى، واليهود والصابئة، قال لهم: ( يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم... )

فانبرى إليه عمران الصابئ، وكان متطلّعاً بصيراً في علم الكلام فخاطب الإمام بأدب وإكبار قائلا: ( يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك، لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة، والشام، والجزيرة ولقيت المتكلّمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً - يعني أنّ الله تعالى واحد لا ثاني له - ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك... )

عرض الصابئ إلى عمق مسألته، وأنّه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ويطلب من الإمامعليه‌السلام حلها، فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: ( إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو... ).

( أنا هو )

١٠٢

سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل(1) والجور... ).

وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض، وقال بنبرات تقطر أدباً وإجلالاً للإمام: ( والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه... )

لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وأنّه يريد الحقيقة، والوصول إلى الواقع، ولا صلة له بغير ذلك، فقالعليه‌السلام : ( سل عمّا بدا لك... ).

وكان المجلس مكتظاً بالعلماء والقادة، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها، وتقدّم الصابئ بأسئلته.

س1: ( أخبرني عن الكائن الأوّل، وعمّا خلق... ) أمّا المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشيء الأوّل والمادة الأُولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنّه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته، فإنّ جميع ما في الكون تدلّل على وجود خالقها فإنّه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علّته... ولنستمع إلى جواب الإمامعليه‌السلام عن هذه المسألة.

ج 1: ( أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائنا، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حده، ولا على شيء حذاه، ومثله له، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة، وغير صفوة، واختلافاً وائتلافاً، وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً... ).

وحكى هذا المقطع من جواب الإمامعليه‌السلام ما يلي:

أوّلاً: إنّ الله تعالى واحد لا شيء معه، وهو مجرّد من الحدود والأعراض التي هي من صفات الممكن، فهو كائن واحد، ما زال ولا يزال، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية، وإنّما بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شيء من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع، فتبارك الله.

ثانياً: إنّ النظرة البدوية في الأشياء أنّ كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل

___________________________

(1) الخطل: المنطق الفاسد.

١٠٣

بها، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أمّا هو فإنّه يخلق الأشياء لا من شيء كان، ولا من شيء خلق، وإنّما يقول للشيء كن فيكون، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شيء حذاه، ومثله له، فهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( تعقل هذا يا عمران...؟ ).

( نعم والله يا سيدي... ).

( اعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى؛ ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل... ).

وهذا الكلام متمّم لما قبله من أنّ الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والإحسان على جميع الموجودات والكائنات، وكان من فضله أنّه فضّل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل.

س 2: ( يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه..؟ ).

وهذا السؤال عميق للغاية، وتوضيحه - حسبما ذكره الشيخ الجعفري - أن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشيء ينحل إلى هوية نفسه، وطارديته لغيره، وبذلك يكون محدوداً، فإنّ الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصّل تحصلاً علمياً... فإنّ النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأنّ هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوماً عند نفسه، فحينئذٍ لو أجاب الإمام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازماً لطرد غيره من المعقولات أم لا؟.

ج 2: قالعليه‌السلام : ( إنّما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه، وليكن الشيء نفسه، بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه، فتدعوه الحاجة إلى

١٠٤

نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها... والتفت الإمام إلى عمران فقال له: ( أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم والله يا سيدي... ).

وحاصل ما أجاب به الإمامعليه‌السلام أنّ ما ذكره الصابئ إنّما يصح فيما لو كان المعلوم مقارناً بعدّة أشياء تخالفه فيلزم حينئذٍ نفي تلك الأشياء لتحصيل المعلوم إلاّ أنّ الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ما لم يكن هناك شيء يقارنه فلا حاجة إلى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي.

س 3: أخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ضمير؟

أراد الصابئ بهذا السؤال إلزام الإمام بالقول بالتركيب في ذاته تعالى، من جهة أنّه ذو ضمير.

ج 3: أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة؟ أراد الإمام أنّ ذلك الضمير لا بد أن يعرف حقيقته وماهيته، وقد وجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( فما ذلك الضمير؟... ).

فانقطع الصابئ عن الكلام ولم يستطع أن يقول شيئاً، فقد سد الإمام عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات ما يذهب إليه، والتفت الإمام إليه قائلاً: ( لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه فتعرفه بضمير آخر؟ فإن قلت: نعم، أفسدت عليك قولك... ).

وأقام الإمام الحجّة الكاملة والبرهان القاطع على بطلان ما التزم به الصابئ من أنّه تعالى يعلم بواسطة الضمير، وعلى هذا فلا بد من ضمير آخر يقع به الإدراك لذاته تعالى، وهذا الضمير الآخر يتوقّف على ضمير غيره، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو ما لا نهاية له، وإن توقف الضمير الثاني على الضمير الأول فيلزم منه الدور والأمران ممّا أجمع على فسادهما، لترتب الأمور الفاسدة عليها حسبما ذكره الفلاسفة والمنطقيون وتمم الإمامعليه‌السلام حجته وبرهانه بقوله: ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له: أكثر من فعل وعمل وصنع، وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم، فاعقل ذلك، وابن عليه ما علمت صواباً... ).

١٠٥

أراد لإمامعليه‌السلام أنّ صدور الأفعال والأعمال المختلفة من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج إلى العلل والأسباب كالعقل، وغيره من سائر الجوارح الظاهرية، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك.

س 4: ( يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟... ).

واستفسر عمران عن حدود المخلوقات التي تميز بعضها عن بعض فأجابه الإمام:

ج 4: ( قد سألت فاعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس، وموزون، ومنظور إليه، وما لا ذوق له، وهو الروح، ومنها منظور إليه، وليس له وزن، ولا لمس، ولا حس، ولا لون، ولا ذوق، والتقدير والأعراض، والصور، والطول، والعرض، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها، وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها، وتنقصها، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة، وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره... ).

وحفل جواب الإمامعليه‌السلام بذكر الخواص والصفات التي تتميّز بها الأشياء سواء أكانت من الكائنات الحيّة أم من غيرها.

س 5: يا سيدي: ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره، ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق... ).

ومعنى هذا السؤال أنّ الحقائق الطبيعية، التي أوجدها الله تعالى، أنّها توجب تغير الخالق العظيم بتغييرها، وهذا إنّما يلزم على القول باتحادها معه تعالى ذاتاً، وهذا مستحيل.

ج 5: ( قديم لم يتغيّر عزّ وجل بخلقه الخلق، ولكن الخلق يتغيّر، بتغييره... ).

وحاصل جواب الإمامعليه‌السلام أنّ الخالق العظيم لما كان هو الصانع والموجد للأشياء، وهو قديم فلا يلزم منه التغيير بتغيير الممكنات والكائنات.

س 6: ( يا سيدي فبأي شيء عرفناه؟... ).

ج 6: ( بغيره... إنّ جميع ما في الكون ممّا يرى، وممّا لا يرى يدلل على وجود الخالق العظيم،

١٠٦

لقد عرفناه بمخلوقاته، وآمنا به بما نشاهده من بدائع صنعته، وقد استبان بصورة واضحة لا غموض فيها في هذه العصور التي غزا الإنسان فيها الفضاء الخارجي، فقد ظهر للبشرية عظيم صنعته تعالى بما أودعه في هذا الفضاء من الكواكب التي لا تحصى ولا تعد، وكلّها تسير بانتظام، ودقّة، ولو اختلفت في مسيرها لحظة لتصادمت، وتلاشت، ولم يبق لها اثر، فسبحان الله المبدع الحكيم.

س 7: أي شيء غيره؟

ج 7: ( مشيئته، واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث، مخلوق، مدبّر... ).

لقد عرفنا الله بمشيئته واسمه وصفاته التي دلّت عليه سبحانه، ففي دعاء الصباح: ( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ).

وكل ما في الكون من موجودات تستند إليه استناد المصنوع إلى الصناع.

س 8: يا سيدي أي شيء هو؟

ج 8: ( هو نور، بمعنى أنّه هادٍ خلقه من أهل السماء، وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه... ).

لقد أراد عمران بسؤاله معرفة حقيقة الله تعالى، متوهّماً أنّه تعالى كسائر الممكنات والموجودات، ولمّا كان ذلك مستحيلاً، إذ كيف يحيط الإنسان الذي لا يعرف ذاته وما فيها من الأجهزة الدقيقة، كيف يعرف حقيقة الخالق العظيم المصور والمبدع للأكوان، وقد أجاب الإمامعليه‌السلام أنّه يعرف بأوصافه الظاهرية من هدايته لخلقه وغير ذلك من الأدلة الصريحة الواضحة التي تنادي بوجود خالقها العظيم.

س 9: يا سيدي: أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق، ثم نطق...

ج 9: ( لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إنّ السراج ليضيء، فما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه، ولا كون، وإنّما هو ليس شيء غيره، فلمّا استضاء لنا، قلنا: قد أضاء لنا، حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك... ).

ومعنى جواب الإمامعليه‌السلام أنّ السكوت والنطق إنّما يعرضان موضوع قابل لهما، توارد العدم والملكة وحيث إنّ نطق الله تعالى ليس على غرار ما يتصف به الناطقون من الممكنات، فيصح عليه النطق، كما يصح عليه السكوت وقد ذهبت

١٠٧

الشيعة إلى أنّ التكلّم من صفات الأفعال، لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية، فإنّه تعالى هو الذي خلق النطق والكلام إذا أراده، وقد مثّل الإمامعليه‌السلام لذلك بالسراج فإنّه لا يقال له إنّه ساكت لا ينطق، كما أنّ إسناد الإضافة إلى السراج ليس اختياريا له، هذه بعض الاحتمالات في تفسير كلام الإمامعليه‌السلام .

س 10: ( يا سيدي: فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق... ).

ج 10: ( يا عمران في قولك إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه، حتى يصيب الذات منه ما يغيره، هل تجد النار تغيرها تغير نفسها، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟... ).

إنّ هذا السؤال من عمران قد تقدّم، وقد أجابه الإمامعليه‌السلام وقد زادهعليه‌السلام توضيحاً، فقال له إنّ الكائن لا يتغيّر بوجه من الوجوه، فأفعال النفس - مثلاً - التي تصدر منها لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً، وهناك مثال آخر وهو البصر، فإن صدر الرؤية منه لا توجب زيادة فيه ولا نقصانا.

س 11: ( ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق، أم الخلق فيه؟... )

ج 11: ( أجل هو يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق، ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه، ولا قوّة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها، أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران...؟ ).

لقد أحال الإمامعليه‌السلام حلول الله تعالى في خلقه، وحلولهم فيه، ومثّل لذلك بالصورة التي تنعكس في المرآة فإنّها لا تحل فيها، وكذلك المرآة لا تحل في الصورة، وإنّما النور هو الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة، وهو غير حال في شيء منهما، يقول ابن الفارض:

بوحدته دامت لها كل كثرة

فصحت وقد آنت لها كل علة

فقد صار عين الكل فردا لذاته

وإن دخلت أفراده تحت عدة

نظرت فلم أبصر سوى محض وحدة

بغير شريك فد تغطّت بكثرة

وهنا بحوث فلسفية عميقة أعرضنا عن ذكرها إيثاراً للإيجاز.

س 12: ( بضوء بيني وبينها... ).

١٠٨

وهذا السؤال مرتبط بما قبله، وقد أوضحناه.

ج 12: هل ترى من ذلك الضوء أكثر ممّا تراه في عينك؟

عمران: نعم.

الإمام: فأرناه.

وسكت عمران، ولم يدر ما يقول، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وواصل الإمام حديثه قائلاً: ( فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك، ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى ).

تأجيل المناظرة:

وحضر وقت الصلاة، ولم يجد الإمام بدّاً من تأجيل المناظرة فالتفت إلى المأمون، فقال له: الصلاة حضرت، وخاف عمران من عدم استئناف الحوار بينه وبين الإمام، فقال له: ( يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي، فقد رقّ قلبي... ).

فأوعده الإمامعليه‌السلام بالعودة إلى مناظرته، ونهض الإمام فأدّى فريضة الصلاة.

استئناف المناظرة:

وعادت الجلسة، وقد حضرها المأمون، وكبار العلماء والقادة، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( سل يا عمران... ).

س 13: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجل، هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟... ).

ج 13: إنّ الله المبدأ، الواحد الكائن الأول، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً - يعني بحقيقته - ولا مجهولاً، ولا محكماً، ولا متشابهاً، ولا مذكوراً، ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل لخلق(1) إذ لا شيء غيره، وما أوقعت عليه من الكل

____________________

(1) في نسخة قبل خلقه الخلق.

١٠٩

فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها مَن فهم. واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها أصلاً لكل شيء، ودليلاً على كل شيء مدرك، وفاصلاً لكل مشكل، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها، تتناهى ولا وجود لها؛ لأنّها مبدعة بالإبداع. والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام، والعبادات كلّها من الله عزّ وجل علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة في ساير اللغات من العجم والأقاليم، واللغات كلها، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً، فأمّا الخمسة المختلفة ( فيتجنح ) لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثم جعل الحروف بعد إحصائها، وأحكام عدتها فعلامته كقوله عزّ وجل:( كن فيكون ) وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع لا بوزن له، ولا حركة، ولا سمع، ولا لون، ولا حس، والخلق الثاني الحروف، لا وزن لها، ولا لون، وهي مسموعة موصوفة، غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً، ملموساً، ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف، والحروف لا تدل على غير نفسها. وبهر المأمون، ولم يفهم أكثر محتويات هذه الكلمات العميقة التي تحتاج إلى وقت طويل لبيانها، وقال للإمام: ( كيف لا تدل - أي الحروف - على غير أنفسها؟... ). فأجابه الإمام موضحاً له الأمر قائلاً:

( إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة، أو ستة، أو أكثر من ذلك، أو أقل لم يؤلّفها بغير معنى ولم يكن إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً... ).

س 14: كيف لنا بمعرفة ذلك؟...

ج 14: أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه: إنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير

١١٠

نفسها ذكرتها فرداً، فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، وإذا ألفتها وجعلت منها أحرفاً، وجعلتها اسماً وصفة لمعنى، ما طلبت، ووجه ما عنيت، كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟

( نعم ).

وواصل الإمام حديثه في بيان معاني الحروف عند تركيبها قائلاً: ( واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف، ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال، والوجود ولا مثال على الإحاطة، كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث، والتسديس؛ لأنّ الله عزّ وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد، بالطول والعرض، والقلّة والكثرة، واللون والوزن، وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله، وتقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا. ولكن يدل على الله عزّ وجل بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن، ولا لمس كف، ولا إحاطة بقلب، ولو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدل عليه، وأسماؤه لا تدعو إليه، والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله لأنّ صفاته وأسماءه غيره... أفهمت يا عمران؟ )

( نعم يا سيدي زدني... )

وواصل الإمام حديثه الممتع، وقد استولى على مَن حضر من العلماء والقادة، قائلاً: ( إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عزّ وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكن القوم تاهوا وعموا، وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عزّ وجل:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) .

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 72.

١١١

يكون إلاّ بما ها هنا، ومَن أخذ علم ذلك برأيه، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً؛ لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون... ).

س 15: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟... ).

علّق الشيخ الجعفري على هذه المسألة بقوله: إنّ هذه المسألة أيضاً ممّا أعيى الأذهان والعقول البشرية؛ لأنّها التي أوجبت افتراق المسالك والفرق المختلفة فمنهم مَن قال: باستحالة الإبداع مطلقاً أكان من الواجب، أم من الممكن، ومن قبيل المواد والصور أو العقول والنفوس وغيرها، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من حصر إمكان الإبداع على الله تعالى على نحو العموم أي إنّه تعالى قادر على أن يبدع أي موجود شاء دون مادة سابقة له، وقع التغير عليه، وقد قالوا: إنّه مقتضى قدرته المطلقة وقابلية الموضوع ومنهم من ذهب مذاهب أخرى(1) .

ج 15: بل خلق ساكن، لا يدرك بالسكون، وإنّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له، وإنّما هو الله عزّ وجل خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فيما خلق الله عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس، وكل حاسة تدل عل ما جعل الله عزّ وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله، واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدر، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن، ولا ذوق، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه واثبات وجوده فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه، ولا يعضده، ولا يكنه، والخلق ممّا يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته، وإنّما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم، فازدادوا من الحق بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجل بصفاته،

____________________

(1) تحف العقول (ص 527).

١١٢

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين، ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه، ارتبكوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... )

س 16: ( أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة... ).

( سل عمّا أردت... ).

( أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحوّل من شيء إلى شيء؟ أو به حاجة إلى شيء...؟ ).

ج 16: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنّه مَن أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم، وليس يفهم المتفاوت عقله، العازب حلمه، ولا معجز عن فهمه أولو العقل المنصفون، أمّا أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجة إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء، ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه،

والله جلّ وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك؟ إلاّ الله عزّ وجل، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سره، والمستحفظين لأمره وخزانه، القائمين بشريعته، وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنّما يقول له( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته وليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد منه من شيء... أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم يا سيدي... ).

إنّ الإنسان مهما أوتي من علم فهو عاجز عن معرفة نفسه وما فيها من الأجهزة الدقيقة المذهلة، فكيف ليعرف أو يحيط علماً بالخالق العظيم، مبدع الأكوان، وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر عليلا

فكري كلّما دان شبراً منك راح ميلا

أنت حيّرت ذوي اللب، وبلبلت العقولا

إنّ فكر الإنسان محدود فكيف يعرف حقيقة الله تعالى، نعم عرفناه وآمنّا به بمخلوقاته، فكل ذرّة في هذا الوجود تنادي بوجود الخالق العظيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض.

١١٣

إسلام الصابئ:

ولمّا رأى عمران الصابئ الطاقات الهائلة من العلم التي يتمتع بها الإمامعليه‌السلام ، والتي منها أجوبته الحاسمة من أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي لحلّها إلاّ أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: ( أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحدت، وأشهد أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى، ودين الحق... ). ثم خرّ ساجداً لله تعالى وأسلم، وبهر العلماء والمتكلمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقرياته، وراحوا يحدثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه، وانصرف المأمون وهو غارق بالألم، قد أترعت نفسه بالحقد والحسد للإمام:

خوف محمد على الإمام:

وخاف عمّ الإمام محمد بن جعفر عليه من المأمون، وكان حاضرا في المجلس، ورأى كيف تغلب على عمران الصابئ الذي هو في طليعة فلاسفة العصر، فاستدعى الحسن بن محمد النوفلي، وكان من أصحاب الإمام فقال له: ( يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك - يعني الإمام -؟

لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى الرضا خاض في شيءٍ قط، ولا عرفناه به، إنّه كان يتكلّم بالمدينة، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام؟...

( وراح النوفلي يعرفه بعلم الإمام وفضله قائلاً: ( قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربّما كلم مَن يأتيه يحاججه... ).

وراح محمد يبدي مخاوفه من المأمون على ابن أخيه قائلاً: ( إنّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... ).

وكان النوفلي يظن خيراً بالمأمون، ولا يخاف منه على الامام، فقال لمحمد: ) ما أراد الرجل - يعني المأمون - إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟... ).

ولم يقنع محمد بكلام النوفلي، فقد كان يظن السوء بالمأمون وراح يقول له: ( قل له: إنّ عمّك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء

١١٤

لخصال شتّى... ).

وكان عمّ الإمام مصيباً في حدسه، عالماً بما تكنّه الأسرة العباسية من العداء والحقد لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثارت أسئلة الصابئ وإسلامه على يد الإمام أحقاد المأمون فقدم اغتيال الإمام كما سنوضّح ذلك في غضون هذا الكتاب.

ونقل النوفلي كلمات محمد إلى الإمامعليه‌السلام فشكره على ذلك، ودعا له بالخير.

تكريم الإمام لعمران:

وكسب الإمامعليه‌السلام في مناظرته إسلام عمران الذي هو في طليعة علماء عصره، فقد بعث خلفه، فلمّا مثل عنده رحّب به وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا له بكسوة فخلعها عليه وأعطاه عشرة آلاف درهم، ففرح عمران بذلك وأخذ يدعو للإمام ويشكره على ذلك قائلاً: ( جُعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ).

وجعل عمران يتردد على الإمام ويكتسب من فيض علومه وصار بعد ذلك فيما يقول المؤرّخون داعية من دعاة الإسلام، وجعل المتكلمون من أصحاب المقالات والبدع يفدون عليه، ويسألونه عن مهام المسائل وهو يجيبهم عنها، حتى اجتنبوه، وأوصله المأمون بعشرة آلاف درهم، كما أعطاه الفضل بن سهل مالاً، وولاه الإمام على صدقات بلخ فأصاب الرغائب(1) .

أسئلة سليمان المروزي:

أمّا سليمان المروزي فكان متضلّعاً بالفلسفة، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضاعليه‌السلام وقد قابله بحفاوة وتكريم، وقال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا، قدم علي من الحجاز، وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته... ).

وخاف سليمان من ذلك، فقد ظن أنّ الإمام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون، وراح يعتذر من المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 168 - 178، وذكر الطبرسي ما يقرب من ذلك في الاحتجاج، والمجلسي في البحار، والحسن بن شعبة في تحف العقول.

١١٥

( إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الانتقاص عليه... ).

وتعهّد له المأمون، ووعده أن لا يصيبه أي أذى أو مكروه قائلاً: ( إنّما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلاّ تقطعه عن حجّة واحدة فقط... ).

وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للإمام، وما يكنّه له من الحقد والعداء، واطمأن سليمان، من أي اعتداء عليه، وراح يقول للمأمون: ( حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلّني والذم... ).

ووجّه المأمون في الوقت رسوله إلى الإمام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الإمام إلى ذلك، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء، فأنكره سليمان، وأثبته عمران، وطلب سليمان رأي الإمام فيه فأقره، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم، والتفت المأمون إلى سليمان فقال له: سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمامعليه‌السلام :

س 1: ( ما تقول فيمَن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي، وسميع، وبصير وقدير؟... ).

ج 1: إنّما تقول: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّهما - أي الإرادة والمشيئة - ليستا مثل سميع، ولا بصير، ولا قدير.

وانبرى سليمان قائلاً: ( فإنّه لم يزل مريداً... ).

ورد عليه الإمام: ( يا سليمان فإرادته غيره؟... ).

( نعم... ).

وذهب سليمان إلى التعدد مع أنّ الله تعالى متحد مع إرادته، وأبطل الإمام شبهته قائلاً: ( قد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل؟... ).

( ما أثبت... ).

١١٦

( أهي - أي الإرادة - محدثة؟... ).

( لا ما هي محدثة... ).

وضيق الإمام على سليمان الخناق، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة، وأخرى يقول بحدوثها، فصاح به المأمون، وطلب منه عدم المكابرة، والإنصاف في حديثه قائلاً: ( عليك بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟. )

والتفت المأمون إلى الإمام قائلاً: ( كلّمه يا أبا الحسن، فإنّه متكلّم خراسان ).

وسأله الإمام قائلاً: ( أهي محدثة؟... ).

فأنكر سليمان حدوث الإرادة، فردّ عليه الإمام: ( يا سليمان هي محدثة، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً... ).

وانبرى سليمان قائلاً:

( إرادته - أي الله - منه؟ كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه ).

وأبطل الإمام عليه قوله، وقائلاً: ( فأراد نفسه؟... ).

( لا... ).

وأخذ الإمام يفند مقالته قائلاً له: ( فليس المريد مثل السميع والبصير ).

وراح سليمان يتخبّط خبط عشواء فقد ضيّق الإمام عليه، وسد كل نافذة يسلك منها، قائلاً: ( إنّما أراد نفسه، كما سمع نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه... ).

وانبرى الإمام فأبطل مقالته، قائلاً له: ( ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حياً، أو سميعاً، أو بصيرا أو قديراً؟... ).

ولم يدر سليمان ماذا يقول، فأجاب: ( نعم... ).

١١٧

فقال له الإمام: ( أفبإرادته كان ذلك؟... ).

( نعم... )

وطفق الإمام يبطل مقالته، ويبدي ما فيها من التناقض قائلاً: ( فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً، بصيراً معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟... ).

والتبس الأمر على سليمان، وراح يقول: ( بلى قد كان ذلك بإرادته... ). وعجّ المجلس بالضحك، وضحك المأمون والرضاعليه‌السلام من تناقض كلام سليمان، والتفت الإمام إلى الجماعة، وطلب منهم الرفق بسليمان، ثم قال له: ) يا سليمان، فقد حال - أي الله تعالى - عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله به... ).

وبان العجز على سليمان، وانقطع الكلام، والتفت الإمام إليه ليقيم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان أسألك عن مسألة...؟ ).

( سل جعلت فداك... ).

( اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون، ولا تعرفون... ).

( بل بما نفقه ونعلم... ).

وأخذ الإمام يقيم الحجّة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد... ).

وطفق سليمان قائلاً: ( جعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون؟ ).

واندفع الإمام يبطل ما ذهب إليه قائلاً: ( فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف، ولا يعقل... ).

وحار سليمان ولم يطق جواباً أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها

١١٨

الإمامعليه‌السلام ، واستأنف الإمام حديثه ليتم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟... ).

وأسرع سليمان قائلاً: ( نعم ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟... ).

( نعم... ).

( فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء، إلاّ كان يزيدهم أو يطويه عنهم؟... )

فأجاب سليمان: ( بل يزيدهم... ).

وأبطل الإمام قوله: ( فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه، أنّه يكون... ).

وطفق سليمان يقول: ( جعلت فداك فالمريد لا غاية له... ).

ومضى الإمام يفنّد شبه سليمان قائلاً:

( فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله: ( إنّما قلت: لا يعلمه، لأنه لا غاية لهذا، لان الله عزّ وجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً... ).

وراح الإمامعليه‌السلام يفنّد شبهه وأوصافه قائلاً: ( ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنّه قد يعلم ذلك، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجل في كتابه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (1) وقال لأهل الجنّة:( عَطَاءً غَيْرَ

____________________

(1) سورة النساء / آية 56.

١١٩

مجذوذ ) (1) وقال عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (2) فهو عزّ وجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة... أرأيت ما أكل أهل الجنة، وما شربوا يخلف مكانه؟... ).

( بلى... ).

( أفيكون يقطع ذلك عنهم، وقد أخلف مكانه؟... ).

( لا... ).

ومضى الإمامعليه‌السلام يقرّر ما ذهب إليه قائلاً: ( فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الإمام قائلاً: ( بلى يقطعه عنهم، ولا يزيدهم... ).

وانبرى الإمام فأبطل ذلك بقوله: ( إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف الكتاب؛ لأنّ الله عزّ وجل يقول:( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (3) .

ويقول عزّ وجل: (عطاء غير مجذوذ) ويقول عزّ وجل:( وما هم عنها بمخرجين ) (4).

ويقول عزّ وجل:( خالدين فيها أبداً ) (5)

ويقول عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

ووجم سليمان، وحار في الجواب، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات شبهة قائلاً له: ( يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل...؟ ).

( بل هي فعل... ).

ورد الإمام عليه: ( فهي محدثة لأنّ الفعل كله محدث... ). إنّ كل ممكن معلول ومصنوع وحادث إمّا واجب الوجود تعالى فهو عارٍ عن

____________________

(1) سورة هود / آية 108

(2) سورة الواقعة / آية 33.

(3) سورة ق / آية 35.

(4) سورة الحجر / آية 48.

(5) سورة البينة / آية 8.

١٢٠

يفعلُ »(٣) .

واستمر الإمامعليه‌السلام في إيراد الأدلة على جواز البداء حتى أذعن سُليمان المروزي للمأمون، قائلاً: يا أمير المؤمنين لا اُنكرُ بعد يومي هذا البَداء ولا اُكذِّب به إن شاء اللّه(٤) .

ثم تطرّقا في المناظرة إلى مواضيع أخرى منها ما كان حول الإرادة، وهل هي اسم أم صفة، وهل يعلم اللّه تعالى جميع ما في الجنة والنار، وما إلى ذلك إلى أن انقطع سليمان عن الإجابة، وعندها قال المأمون: «يا سليمان هذا أعلم هاشميٍ».

وهكذا نجد أن إمامناعليه‌السلام قد استطاع الصمود وسط العواصف الفكرية التي أثارها المأمون من حوله بما امتلكه من عمق علمي وبصيرة ثاقبة.

وهو في الوقت نفسه كان يدافع - بقوة - عن العقيدة الإسلامية، يذبّ عنها حملات المشكّكين والمنكرين، ويصحّح رؤى بعض علماء المسلمين، وعموما فقد أحدث هزة عنيفة في قناعات العديد من الشخصيات التي ناظرها، وقد لاحظنا كيف أن البعض منهم قد اعترف بقصوره وخطأ تصوراته، بينما اكتفى من لم يمتلك الشجاعة الكافية ومن لم يبصر نور الحقيقة بالسكوت.

* * *

__________________

(١) التوحيد / الصّدوق: ٤٤١، باب (٦٦).

(٢) التوحيد / الصّدوق: ٤٤١، باب (٦٦).

١٢١

المبحث الثالث: أدوار أخرى في خدمة الفكر والعقيدة

إذا ما حاولنا تتبع أبرز المعطيات الإيجابية التي قدمها الإمام الرضاعليه‌السلام للفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية، نجدها كثيرة جداً، ومع هذا يمكن الإشارة إلى بعضها بالعناوين التالية:

أولاً: ايجاد الحلول الشافية في مسائل الخلاف

نظرا لما امتاز به الإمام الرضاعليه‌السلام من عمق علمي فقد أعطى قواعد فكرية تعصم من تمسك بها من الوقوع في مهاوي الضلال أو الانحراف العقيدي وخاصة في القضايا العويصة أو المسائل الخلافية التي تثير الجدل بين الفرق الإسلامية، وعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر، قد ذكر عند الإمام الرضاعليه‌السلام الجبر والتفويض، فقال: «ألا أعطيكم في هذه أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاّ كسرتموه ؟ » قلنا: إن رأيت ذلك.

فقالعليه‌السلام : «إنّ اللّه عزَّوجلَّ لم يطع بإكراه، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه، وهو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بالطاعة لم يكن اللّه عنها صادا، ولا منها مانعا، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، فإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيها - ثم قال عليه‌السلام - من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من

١٢٢

خالفه »(١) .

ثانيا: تصحيح المفاهيم

قاد إمامناعليه‌السلام حملة تصحيحية واسعة على الصعيد الفكري، كان لها الأثر البالغ في فضح وتعرية المفاهيم المغلوطة، ومواجهة السذاجة الفكرية، وهنا نود التعجيل بإيراد الشواهد على ذلك:

دخل على علي بن موسى الرضاعليه‌السلام قوم من الصوفية فقالوا: إن أمير المؤمنين المأمون لما نظر فيما ولاه من الأمور فرآكم أهل البيت أولى من قام بأمر الناس، ثم نظر في أهل البيت فرآك أولى بالناس عن كل واحد منهم، فرد هذا الأمر إليك، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الخشن ويلبس الخشن ويركب ويعود المريض ويشيع الجنائز، وكان الرضا متكئا فاستوى جالسا، ثم قال: « كان يوسف بن يعقوب نبيا فلبس أقبية الديباج المزركشة بالذهب والقباطي المنسوجة بالذهب وجلس على متكآت آل فرعون، وحكم وأمر ونهى، وإنما يراد من الإمام قسط وعدل، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز، إن اللّه لم يحرّم ملبوسا ولا مطعوما » وتلا قوله:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (١) (٢) .

وبهذا تلقى المتصوفة درسا بليغا في الزهد حريا بأن يكون موعظة

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٨٢، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٢) سورة الأعراف: ٧ / ٣٢.

(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ٢٥١، الفصل الثامن.

١٢٣

لادعياء الزهد والزاهدين معا. علما بأن إمامنا الرضاعليه‌السلام كان من الزاهدين، كان جلوسه في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح(٣) .

ومن الشواهد الأخرى التي نستدل من خلالها على حملة تصحيح المفاهيم هذه، نظرة الإمامعليه‌السلام العميقة لمفهومي «الجود والبخل» علما بان الجود يمثل أحد الخصال العربية الأصيلة، التي يتباهى بها البعض دون أن يعرف أبعادها وما تنطوي عليه من بُعد عبادي:

سأله رجل وهو في الطواف: أخبرني عن الجواد؟

فقال: «إن لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه. وان تكن تعني الخالق فهو الجواد ان أعطى، وهو الجواد إن منع، إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له، وان منع منع ما ليس له »(١) .

وقد شملت حملة التصحيح هذه بعض المفاهيم ذات العلاقة بطبائع الناس كمفهوم «الحمية»؟

عن إسماعيل الخراساني، عن الرضاعليه‌السلام قال: « ليس الحمية من الشيء تركه، إنما الحمية من الشيء الإقلال منه »(٢) .

ثالثا: كشف التحريف في الحديث

لقد قام الرضاعليه‌السلام بدور مشرّف في كشف وتعرية التحريف الذي

__________________

(١) اُنظر: الفصول المهمة: ٢٤٨، الفصل الثاني.

(٢) كشف الغمة ٣: ٨١، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٧٦، ح ٧٢، باب (٢٨).

١٢٤

حصل في الأحاديث، والذي أثر بشكل مباشر على العقيدة الإسلامية وأفقدها نقاءها وأوقع الالتباس في فهم النصوص، ولسنا بحاجة هنا لاستعراض جميع مظاهر التحريف، ولكن يكفينا الاستشهاد على ذلك بما ورد عن ابراهيم بن محمود، قال: قلت للرضاعليه‌السلام : يا بن رسول اللّه ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: ان اللّه تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟(٣)

قالعليه‌السلام : «لعن اللّه المحرّفين للكلم عن مواضعه، واللّه ما قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك، إنّما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان اللّه تعالى يُنزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل، فيأمره فينادي: هل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فاتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبِل، يا طالب الشرّ أقصر، فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء. حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

والملاحظ أن تأكيد الإمامعليه‌السلام على سند هذا الحديث - وأنه عن أبيه وأجدادهعليهم‌السلام عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - جاء في مقابل من يسند كذباً إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال بخلاف ذلك.

ومن الشواهد على تصدي الإمامعليه‌السلام لهذا اللّون من التحريف الذي طال الأحاديث، ما جاء عن الحسين بن خالد، قال: قلت للرضاعليه‌السلام :

__________________

(١) أخرجه البخاري عن أبي هريرة، اُنظر: صحيح البخاري ١: ٣٨٤، ح ١٠٩٤، باب (١٤) كتاب التهجّد

(٢) كشف الغمة ٢: ٧٨ - ٧٩، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

١٢٥

يا بن رسول اللّه إن قوما يقولون: ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « إن اللّه خلق آدم على صورته » فقال: قاتلهم اللّه! لقد حذفوا أول الحديث، إن رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك فقال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك! فإن اللّه عزَّوجلَّ خلق آدم على صورته »(٢) .

رابعا: التأويل السليم لما دلّ بظاهرة على التشبيه والتجسيم:

من المعلوم أن هناك فريقاً من المسلمين قد جمد على ظواهر القرآن، الأمر الذي أساء إلى العقيدة الإسلامية، وخاصة في مسألة التوحيد التي تعتبر حجر الزاوية فيها، فقد أدّى الجمود على ظواهر الألفاظ إلى التشبيه والتجسيم تعالى اللّه عن ذلك، فتصوّروا مثلاً أن للّه يدا، وعرشا يجلس عليه، وأن بالإمكان النظر إليه، وأن له مكانا يُحجَب عنه الكافرون، وأنه يتحرك ويجيء مع المَلَك، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع سكة العقل السوية، وتتنافى مع تنزيه اللّه تبارك وتعالى.

ومن هنا قام إمامنا الرضاعليه‌السلام بواجبه المقدس وأزاح غبش العيون لترى حقائق القرآن صافية، مؤكدا أن لتلك الظواهر القرآنية معنىً تكشف عنه آيات اُخر، وثوابت العقيدة أيضاً، ومن الشواهد على ذلك: قال الرضاعليه‌السلام : في قول اللّه عزَّوجلَّ:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) قال: يعني - مشرقة - تنتظر ثواب ربها(٢) .

__________________

(١) الاحتجاج / الطبرسي ٢: ١٩٢.

(٢) سورة القيامة: ٧٥ / ٢٢ - ٢٣.

(٣) الاحتجاج ٢: ١٩١، اُنظر: أجوبة الإمامعليه‌السلام على أسئلة أبي الصلت الهروي.

١٢٦

ويؤكد هذا المعنى ما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام لأحد الزنادقة عندما سأل الإمامعليه‌السلام قائلاً: أجد اللّه يقول:( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وأجده يقول:( لاَتُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ ) (١) .

فقالعليه‌السلام : «إنَّ المؤمنين يُؤمَرون بدخول الجنّة، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم أي: النظر إلى ما وعدهم - عزَّوجلَّ - فذلك قوله تعالى: ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) .والناظرة: المنتظرة ». ثمّ قال عليه‌السلام : « ألم تسمع قوله تعالى: ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (٢) أي منتظرة »(٣) .

وأيضا: سُئل عن قوله عزَّوجلَّ:( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا ) (٤) فقال: «إن اللّه لا يُوصف بالمجيء والذهاب والانتقال، إنما يعني بذلك: وجاء أمر ربّك »(٥) .

وسئل عن قوله عزَّوجلَّ:( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَ-حْجُوبُونَ ) (٦) فقال: «إن اللّه تعالى لا يُوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عن عباده، ولكنّه يعني: عن ثواب ربّهم محجوبين »(٧) .

__________________

(١) سروة الأنعام: ٦ / ١٠٣.

(٢) سورة النمل: ٢٧ / ٣٥.

(٣) التوحيد / الصدوق: ٢٦١ / ٥.

(٤) سورة الفجر: ٨٩ / ٢٢.

(٥) الاحتجاج ٢: ١٩٣.

(٦) سورة المطففين: ٨٣ / ١٥.

(٧) الاحتجاج ٢: ١٩٣.

١٢٧

خامسا: بيان سرّ أخبار الغلو والتقصير ومصدرها

ليس خافيا بأن أهل البيتعليهم‌السلام هم رموز العقيدة وأعلامها، وبعد أن فشل الأعداء في النيل من العقيدة أخذوا يثيرون الشبهات والشكوك حول رموزها، بأساليب وطرق مختلفة، مرّة من خلال وضع الأحاديث التي ينم ظاهرها عن إظهار فضائل آل البيت ولكنها في الحقيقة تُسيء إليهم بما تتضمنه من غلو أو تقصير في أمرهم، أو التصريح بمثالب أعدائهم بأسمائهم بغية تأجيج نار الفتنة ورفع وتيرة العداء معهم.

والإمام الرضاعليه‌السلام قد كشف عن هذه الأساليب التي يراد منها الإساءة إلى أهل البيتعليهم‌السلام يتضح لنا ذلك من هذه الرواية: قال ابراهيم ابن أبي محمود، قلت للرضاعليه‌السلام يابن رسول اللّه، إن عندنا أخبارا في فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام وفضلكم أهل البيت، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم، أفندين بها؟

فقال: « يا بن أبي محمود، لقد أخبرني أبي، عن أبيه، عن جدّهعليه‌السلام : ان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فان كان الناطق عن اللّه عزَّوجلَّ فقد عبد اللّه، وان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ..

يا بن أبي محمود، إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كَفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، واذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال اللّه عزَّوجلَّ:( وَلاَتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ

١٢٨

مِن دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (١) .

يابن أبي محمود، إذا أخذ الناس يمينا وشمالاً فالزم طريقتنا، فانه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه، ان أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة: هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرء ممن خالفه، يابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به، فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة »(٢) .

وهكذا نجد إمامنا يقوم بتعرية وفضح أساليب أعداء أهل البيتعليهم‌السلام وتقويم اعوجاج الأذهان وقشع غيوم الشبهات المثارة.

ومن الشواهد ذات الدلالة على ذلك ما روي عن محمد بن زيد الطبريِ، قال: كنت قائما على رأس الرِّضاعليه‌السلام بخراسان، وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العباس بن موسى فقالعليه‌السلام له: « يا اسحاق بلغني أنَّكم تقولون: إنّا نقول: إنَّ الناس عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قلته قطّ، ولا سمعته من أحد من آبائي، ولا بلغني عن أحد منهم قاله، ولكنّا نقول: النّاس عبيد لنا في الطاعة، مدال لنا في الدِّين، فليبلّغ الشاهد الغائب »(٣) .

سادساً: الآثار العلمية المنسوبة إلى الإمام الرضاعليه‌السلام

من المبحث السابق اتضح لنا مقدار الجهد العلمي الكبير الذي بذله إمامناعليه‌السلام من أجل الذود عن العقيدة والفكر الإسلامي، وكان

__________________

(١) سورة الأنعام: ٦ / ١٠٨.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٧٢، ح ٦٣، باب (٢٨).

(٣) أمالي الشيخ المفيد: ٢٥٣، المجلس الثلاثون.

١٢٩

من نتيجة ذلك ظهور بعض الآثار العلمية المنسوبة إلى إمامنا الرضاعليه‌السلام ، وقد اُثير الجدل والنقاش بين العلماء حول صحة نسبة بعضها إليهعليه‌السلام ، وهي:

١- كتاب الفقه الرضوي.

٢- الطب الرضوي أو (الرسالة الذهبية).

٣- الصحيفة الرضوية.

٤- أجوبة مسائل ابن شاذان.

٥- العلل لابن شاذان.

ولا نرى حاجة بتتبّع هذه الآثار وبيان من شكك في نسبة بعضها للإمامعليه‌السلام سيما كتاب الفقه الرضوي وكتاب العلل لابن شاذان، سيّما وهدفنا من هذه الدراسة تربوي محض ..

المبحث الرابع: أساليبه التربوية وتعاليمه الراقية

خلّف لنا الإمام الرضاعليه‌السلام مجموعة قيمة من التعاليم والوصايا التربوية والحضارية لكي تنير لنا الطريق، وتصنع في النفوس المؤمنة صنيع الغيث في التربة الكريمة، وتساعد الإنسان المسلم عند مراعاتها على إرتقاء سلَّم القيم أو على الأقل ترميم ماتهدم منها.

ارتأينا تقسيم التعاليم التربوية والحضارية التي وردت عن الإمامعليه‌السلام إلى أربعة دوائر كل دائرة منها تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه ونبيه أو إمامه وأبناء جنسه كالآتي:

١٣٠

أولاً: علاقة الإنسان بنفسه

للإمامعليه‌السلام تعاليم تربوية وحضارية تساعد الإنسان المسلم على السيطرة على نفسه وكبح جماحها، وإيقاظ خير ما في النفس البشرية من قيم ومشاعر وأحاسيس، وتسعى إلى استئصال كل جذور الشرّ في نفوس البشر.

ومن مجموعها يستفاد أن الإمامعليه‌السلام يريد للإنسان من خلال السيطرة على نفسه الارتفاع إلى مستوى إيماني أعلى، إنطلاقا من تعدّد مراتب الإيمان كما جاء في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام بأن الإيمان: يزيد وينقص ويشتدّ ويضعف.

عن أبي عمر الزبيدي: قال الإمام الصادقعليه‌السلام : «الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التامّ المنتهي، ومنه الناقص البيّن نقصانه، ومنه الراجح الزائد » قلت: إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال: « نعم »(١) .

وقد نسج الإمام الرضاعليه‌السلام على منوال جده الصادقعليه‌السلام فحثّ الإنسان المسلم على الارتقاء إلى مراحل إيمانية عالية والتحليق في مدارات روحية أسمى ..

روى الفضيل بن يسار عن الإمام الرضاعليه‌السلام قوله: «إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجةٍ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين »(٢) .

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٣٣، ح ١، كتاب الإيمان والكفر.

(٢) اُصول الكافي ٢: ١٦، ح ٦، باب: فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان.

١٣١

فإمامناعليه‌السلام يريد للمؤشر الإيماني أن يرتفع لدينا وأن نصل إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بالقضاء ..

عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن الرّضا، عن أبيهعليهما‌السلام قال: « رفع إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم في بعض غزواته فقال: من القوم؟ فقالوا: مؤمنون يا رسول اللّه، قال: وما بلغ من إيمانكم؟ قالوا: الصبر عند البلاء، والشكر عند الرّخاء، والرضا بالقضاء، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلماء علماء، كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء، إن كنتم كما تصفون، فلا تبنوا ما لا تسكنون، ولا تجمعوا ما لا تأكلون، واتّقوا اللّه الذي إليه ترجعون »(١) .

من جانب آخر نجد أن الإمام الرضاعليه‌السلام يدعو الإنسان إلى أن يضع نصب عينه دائما حقائق أساسية في الحياة، هي: الموت وأنه لابدّ منه، والقدر وتحكّمه فيه، والحياة وتحولها من حال إلى حال، فمن تيقن بالموت فسوف يحسب ألف حساب لما بعده من البعث والجزاء، وعندها سيسيطر على سلوكه ويهذبه خوفا من الحساب المرتقب.

ومن يدرك قوة القدر الجبارة التي تتحكم فيه، لايحزن لما يصيبه من مصائب ونوازل، ولا يفقد توازنه إزاءها.

ومن يعي بأنَّ الدنيا متقلبة الأحوال لا يركن إليها، ويوطن نفسه مسبقا على ما يصيبه منها من خيرٍ أو شرٍ، وحينئذ لا يبطر عند السرَّاء ولا يجزع في الضَّراء.

وللإمام وصايا وإرشادات تربوية وحضارية تسلك بالإنسان المسلم قصد السبيل، وتستأصل شأفة الشر من نفسه الأمّارة بالسوء، وتساهم

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ٤٨، ح ٤، باب: خصال المؤمن، كتاب الإيمان والكفر.

١٣٢

في طهارة نفسه وبدنه يمكننا الإشارة إليها بالفقرات التالية:

١- إلتزام الصمت:

لا يخفى بأن أكثر مشاكلنا تتأتى من اطلاقنا العنان لألسنتنا بدون ضابط، وأن الكثير منا يرغب في الكلام أكثر من الاستماع، وهنا تستدعي الضرورة في أحيان كثيرة أن نتربى على الاعتصام بالصمت فى حالات الانفعال أو المواقف الحرجة، أو من أجل الحفاظ على الأسرار، من هنا يشيد إمامناعليه‌السلام بالصمت، فهو عنده من علامات الفقه، وباب من أبواب الحكمة، ويرى بأن له معطيات اجتماعية عديدة.

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قال أبو الحسن الرّضاعليه‌السلام : « من علامات الفقه: الحلم والعلم والصمت، إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة، إنَّ الصمت يكسب المحبة، إنه دليل على كل خير »(١) .

ومن المفيد التذكير أن هناك علاقة وثيقة بين العبادة والصمت، فالعبادة عادةً تحتاج إلى صفاء وتفرغ عن المشاكل، واللسان المهذار أحد الأسباب التي تكدر صفو العبادة، وقد تسهم في إبطالها كما إذا تفوّه الإنسان بكلمات كبيرة كالقذف والسّباب والفسوق وما إلى ذلك.

وعموما فإطلاق العنان للِّسان، وهو المعروف بعثراته وزلاته، يوقع الإنسان في شرك الشيطان الذي يوحي له بالسوء والفحشاء، الأمر الذي ينعكس سلبا على العبادة. من هنا ينبه الإمامعليه‌السلام إلى حقيقة منطقية، هي: أن السيطرة على النفس لا تتمّ إلاّ من خلال عقل اللِّسان عن عبارات

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ١١٣، ح ١ باب: الصمت وحفظ اللسان، وكشف الغمة ٣: ٨٥، باب: ذكر طرف من دلائله وأخباره.

١٣٣

السوء والفحشاء:

عن الوشّاء، قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول: «كان الرجَّل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين »(١) .

٢- الحلم:

يحثّ الإمامعليه‌السلام على الحلم ويعتبره من علامات الفقه كالعلم والصمت، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قال أبو الحسن الرّضاعليه‌السلام : «من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت »(٢) .

ويحدّد لنا قاعدتين تربويتين، هما: السكوت عن الجاهل، وعدم عتاب الصديق، فكثيرا ما تكون البيئة التي تربّى فيها والتربية الخاطئة التي تلقاها، هي السبب في بعض تصرفاته غير السليمة، وهنا لابدّ من السكوت وغضّ النظر عن الهفوات غير المهمة التي تصدر منه بصورة عفوية، وعدم معاتبته عليها، لأن العتاب قد يتطوّر إلى جدال بالباطل، الأمر الذي قد يتسبّب في قطع عروق العلائق بين الجانبين. وهنا يصبّ إمامناعليه‌السلام هذه القواعد التربوية في قالب جميل من الشعر، قال له المأمون(٣) : هل رويت من الشعر شيئا، فقالعليه‌السلام : قد رويت منه الكثير، فقال: أنشدني أحسن ما رويته في الحلم، فقالعليه‌السلام :

إذا كان دوني من بليت بجهله

أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل

وإن كان مثلي في محلي من النهى

أخذت بحلميكياجل عن المثل

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ١١٦، ح ١٩، باب: الصمت وحفظ اللِّسان.

(٢) اُصول الكافي ٢: ١١٣، ح ١، باب: الصمت وحفظ اللِّسان.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٨٧، ح ١، باب (٤٣).

١٣٤

وإن كنت أدنى منه فيالفضل والنهى

عرفت له حق التق-دم والفضل

 فقال له المأمون: ما أحسن هذا، من قاله؟! فقال بعض فتياننا، قال: فأنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل وترك عتاب الصديق، فقالعليه‌السلام :

إني ليهجرني الصديق تجنّبا

فأريه أنَّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا بليت بجاهل مستحكم

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت وربما

كان السكوت عن الجواب عتابا

 ثمّ قال المأمون: أنشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدو حتى يكون صديقا، فقالعليه‌السلام :

ومن لايدافع سيئات عدوه

بإحسانه لم يأخذ الطَول من عَلِ

ولم أرَ في الأشياء أسرع مهلكا

لغمر(١) قديم من وداد معجّلِ

 فالإمام هنا ونتيجة للأفق الاجتماعي الرّحب الذي يتمتع به يدعو ليس فقط إلى السكوت عن الصديق وإنما إلى أبعد من ذلك بكثير إلى استجلاب العدو حتى يكون صديقا! ..إنها النفس الكبيرة.

٣- الحياء:

وهو رأس الخصال الكريمة، وأصل المروءة وسبب العفّة. والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء، فكلما زاد حياء الإنسان دل على مدى عمق إيمانه، وأما من خلع ثوب الحياء فلا إيمان له، يقول الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه

__________________

(١) الغمر: الحقد.

١٣٥

صاحبه »(١) .

وقد أكّد الإمام الرضاعليه‌السلام على هذه الحقيقة المهمة، حقيقة التلازم بين الإيمان والحياء، فقالعليه‌السلام : « الحياء من الإيمان »(٢) . ومن هنا فمن يخلع حزام العفة وينطلق مع شهواته ولا يبالي بما قيل له أو فيه لا إيمان له واقعاً ؛ لأن الإيمان التزام وشعور متغلغل في أعماق النفس يحكي عنه الحياء بجلاء.

٤- التواضع:

وهو خصلة أخلاقية جميلة احتلت مكانا واضحا في فكر وسلوك إمامنا الرضاعليه‌السلام ؛ فعلى صعيد الفكر كشف عن المفهوم العميق للتواضع، وبيّن حدَّه ودرجاته، ومن يتمعّن في الرواية التالية يكتشف نفاذ رؤية الإمامعليه‌السلام وشمول نظرته وعمق تناوله.

عن الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن الرِّضاعليه‌السلام قال: « التواضع أن تعطي النّاس ما تحبُ أن تُعطاه ».

وفي حديث آخر قال: « التواضع درجات؛ منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحبّ أن يأتي إلى أحد إلاّ مثل ما يؤتى إليه، إن رأى سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس، واللّه يحب المحسنين »(٣) .

فهو يقدم لنا قراءة عظيمة لمفهوم التواضع، تنطلق من رؤيا دقيقة

__________________

(١) كنز العمال / المتقي الهندي ٣: ١٢١ / ٥٧٥٥.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٥٦، ح ٢٣، باب (٢٦) حول الحياء.

(٣) اُصول الكافي ٢: ١٢٤، ٧ باب التواضع.

١٣٦

وموضوعية مفادها أن يعرف المرء أولاً وقبل كل شيء قدر نفسه ومنزلتها، ولا يرتفع بها فوق مقامها، كي لا يلام على ذلك، وقد يكون عِرضةً للسخرية والاستهزاء. وأن لا يحبّ لنفسه ما لا يحبّ لغيره، بل عليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه، إضافة إلى ذلك يشير إمامنا إلى بُعد أبعد للتواضع فيه جنبة اجتماعية، ويتمثّل بدرأ السيئة بالحسنة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.

هذا على صعيد الفكر أمّا على صعيد العمل فنجده في سلوكهعليه‌السلام يتواضع إلى الدرجة القصوى في تعامله مع الناس، ومن الأمثلة الحية على مقدار تواضعه، أنه دخل الحمام، فقال له بعض الناس: دلّكني يا رجل، فجعل يدلّكه، فعرّفوه، فجعل الرجل يستعذر منه وهوعليه‌السلام يُطيب قلبه ويدلكه(١) .

فهو يرى أن الشرف والكرامة تتحقّق من خلال القيم والمقاييس المعنوية المتمثلة بالتقوى والطاعة للّه تعالى وليس من خلال القيم والمقاييس المادية المتمثلة بالحسب والنسب، أو المال والقدرة وما إلى ذلك.

وكان عندما يكيلون له أو لآبائهعليهم‌السلام المديح والثناء يتواضع جدا ويكشف لهم عن المفهوم القرآني للشرف والخيرية المتمثّل بالتقوى:

عن محمد بن موسى بن نصر الرازي، قال(٢) : سمعت أبي، يقول: قال رجل للرضاعليه‌السلام : واللّه ما على وجه الأرض أشرف منك أبا، فقالعليه‌السلام : «التقوى شرفتهم، وطاعة اللّه أحظتهم »، فقال له آخر: أنت واللّه خير

__________________

(١) المناقب ٤: ٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٦١، ح ١٠، باب (٥٨).

١٣٧

الناس، فقال له: « لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى للّه تعالى وأطوع له، واللّه ما نسخت هذه الآية:( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ) (١) ».

حاول بذلك التنبيه على أن الاعتماد على محض القرابة ليس يستحسن في العقول، وإنما الشرف في الكمال العلمي والعملي ورأسهما التقوى.

وعن ابن ذكوان قال: سمعت إبراهيم بن العباس يقول: سمعت عليَ بن موسى الرضاعليه‌السلام يقول: « حلفت بالعتق ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك إن كان يرى أنه خير من هذا - وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه - بقرابتي من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه »(٢) .

٥ - العمل لوجه اللّه تعالى:

العمل شعار المؤمن، وهو الذي يسهم في إيصاله إلى أعلى الدرجات، قال تعالى: « ومن يأته مؤمنا قد عَمِلَ الصّالحاتِ فأُولئِكَ لهمُ الدَّرجات العُلى »(٣) والعمل هو الذي يفجّر طاقات النفس الإبداعية، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيى حياة طيبة، يقول عزَّوجلَّ:( ومن عَملَ صالحا من ذكر أو أُنثى وهو مؤمنٌ فلنُحيينّهُ حياةً طيبة ) (١) .

ومعلومٌ أن مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام تركز على «الثنائي الحضاري»

__________________

(١) سورة الحجرات: ٤٩ / ١٣.

(٢) بحار الأنوار ٤٩: ٩٥، باب (٧).

(٣) سورة طه: ٢٠ / ٧٥.

١٣٨

المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل، يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل »(١) .

والإمام الرضاعليه‌السلام يدعو المؤمن إلى سبر أغوار نفسه ومعرفة دافع العمل الذي يقوم به هل هو خالص للّه أم لا؟ فليس العمل المجرّد في الإسلام هو المطلوب، وإنما العمل المقترن بدوافع نبيلة ونية خالصة، والبعيد عن الرياء والسمعة، بتعبير آخر أن يكون خالصا للّه. وفي هذا الصدد يصوغ لنا إمامنا قاعدة عبادية، هي: «من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل ».

عن محمد بن عرفة قال: قال لي الإمام الرضاعليه‌السلام : «ويحك يا بن عرفة، اعملوا لغير رياء ولا سُمعة، فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل، ويحك! ما عمل أحد عملاً إلاّ ردّاه اللّه، إن خيرا فخيرٌ، وإن شرّا فشر »(٣) .

ثمّ ان الاستتار بالعمل يبعده عن الرياء والسمعة، ويوجب مضاعفة الثواب:

عن العباس مولى الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: «المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له »(٤) .

وفي جانب آخر يصوغ لنا إمامنا قاعدة تتعلّق بالقناعة بالرزق وعلاقته بالعمل، ومفادها: «من يقتنع بالقليل من الرزق يكفيه القليل من العمل ».

__________________

(١) سورة النحل: ١٦ / ٩٧.

(٢) نهج البلاغة: ٤٩٧، حكمة رقم / ١٥٠.

(٣) اُصول الكافي ٢: ٢٩٤ باب الرياء.

(٤) اُصول الكافي ٢: ٤٢٨ / ١ باب ستر الذنوب.

١٣٩

قالعليه‌السلام : «من لم يقنعه من الرّزق إلاّ الكثير لم يكفه من العمل إلاّ الكثير ومن كفاه من الرّزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل »(١) .

فالإمام يذمّ - بصورة ضمنية - التكالب على الدنيا، ويرى بأن القناعة كتربة خصبة ينمو فيها العمل ولو كان قليلاً ما دام خالصا للّه تعالى. أما حرص الإنسان على الحصول على فوق ما يكفيه من الرزق فقد يشغله بملذّات ومغريات الدنيا، فيحتاج - والحال هذه - إلى عمل عبادي أكثر يتناسب وحجم ما يسعى لتحصيله كما هو مفاد الحديث.

٦ - الاستغناء عن الناس:

يدعو الإمامعليه‌السلام في تعاليمه التربوية على الاعتماد على النفس والامتناع عن طلب الحوائج من الآخرين وخاصة إذا كانوا مخالفين، صيانة لماء الوجه، وتنزيها للنفس عما يشينها:

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : جعلت فداك اكتب لي إلى إسماعيل بن داود الكاتب لعلّي اُصيب منه، قال: «أنا أضنّ بك أن تطلب مثل هذا وشبهه، ولكن عوّل على مالي »(٢) . فالإمام يريد العزة والكرامة للمسلم، وأن لا يكون كلاًّ على غيره، وإن كان ولا بُد من الطلب فينبغي أن تُطلب الحاجة من الأفراد الصالحين، وأن لاتكون الحاجة خسيسة وغير ذات قيمة.

٧ - الاهتمام بالمظهر:

وهو أمر حضاري يعبّر عن درجة الرّقي لأفراد أي أمة. علما بأن

__________________

(١) اُصول الكافي ٢: ١٣٨ / ٥ باب القناعة.

(٢) اُصول الكافي ٢: ١٤٩ / ٥ باب الاستغناء عن الناس.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199