الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ30%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88079 / تحميل: 5515
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الاخرى، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضاعليه‌السلام ينشر آراء مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام العقائدية منها والفقهية، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي، فكان الإمام الرضاعليه‌السلام يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى(١) . وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية، كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد(٢) .

وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمامعليه‌السلام - كما سيأتي في الفصل الخامس - أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب، الذي عاصره الإمامعليه‌السلام كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي، ملائماً للحوار

__________________

(١) انظر: أعيان الشيعة ٢: ١٤.

(٢) انظر: الأنوار البهية: ١٧٩.

٢١

وعرض الافكار، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام ( ٢١٢ ه- )، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.

* * *

٢٢

٢٣

الفصل الثانى

الامام الرضاعليه‌السلام قبل تولي الإمامة

المبحث الأول: الولادة والنشأة

أولاً: الولادة

يوجد اختلاف بين المحدثين الشيعة في تحديد اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها الإمام الرضاعليه‌السلام: فقيل إن مولده كان بالمدينة سنة ١٤٨ ه-(١) وروى الصَّدوق أنه ولد بالمدينة يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ١٥٣ ه- بعد وفاة أبي عبد اللّهعليه‌السلام بخمس سنين(٢) . أما المحقق الأربلي فيساند هذا الرأي، ولكن يذكر أنه ولد في الحادي عشر من ذي الحجّة(٣) . وأشار الشيخ الطبرسي إلى القولين ولكن لم يرجح أحدهما(٤) .

وذكر الذهبي: أنه ولد بالمدينة في سنة ١٤٨ ه- عام وفاة جدّه الإمام

__________________

(١) انظر: الإرشاد ٢: ٢٤٧، والكافي ١: ٤٨٦ / ١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٨، ح ١، باب (٣).

(٣) كشف الغمّة ٣: ٥٣.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤١.

٢٤

الصادقعليه‌السلام (١) ، وهو الموافق للقول الأول.

من جانب آخر وردت روايات عن جدّه الإمام الصادقعليه‌السلام مفعمة بشحنة عاطفية كبيرة، تبشر بولادته المباركة وتكشف عن المكانة المرموقة التي سيحتلها في العالم الإسلامي، فعن يزيد بن سليط، قال: لقينا أبا عبد اللّهعليه‌السلام في طريق مكة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون والموت لايعرى منه أحد، فاحدث اليّ شيئا القيه إلى من يخلفني، فقال لي: « نعم هؤلاء ولدي، وهذا سيدهم » وأشار إلى ابنه موسىعليه‌السلام « يخرج اللّه تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها، خير مولود وخير ناشى ء يحقن اللّه به الدماء ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث(٢) ويشعب به الصدع(٣) ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد، خير كهل وخير ناشى ء، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه، قوله حكم وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه »(٤) .

ثانياً: النشأة

نشأ الإمام الرضاعليه‌السلام بين أحضان بيت أذهب اللّه تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فهو ابن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام الذي كان

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) أي يسد به الخلل.

(٣) أي يجمع به الشقّ والفرقة.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤٨، وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٣، ح ٩٦، باب (٤).

٢٥

( أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّا، وأكرمهم نفسا وكان الناس بالمدينة يُسمونه زين المتهجِّدين، ويعرف بالعبد الصالح )(١) .

ولما كانت الفروع تتبع الأصول، والأصل الطيب يعطي ثمرا طيبا فمن الطبيعي والحال هذه أن يتحلى الابن بتلك الصفات الطيبة والخصال الحميدة، يقول الشيخ المفيد: « كان - أي الرضاعليه‌السلام - أفضل ولد أبي الحسن موسى: وأنبهَهُم وأعظمهُم قدرا وأعلمهم وأجمعهم فضلاً»(٢) .

أما أمه فعلى الرغم من وجود الاختلاف في اسمها وكنيتها، فهناك اتفاق على كونها من أفضل نساء زمانها من حيث العقل والدين.

قيل: تسمى الخيزران، وقيل: أروى، وتلقب بشقراء النوبية. وقيل أمّه أم ولد يقال لها أمّ البنين وقيل: اسمها تكتم، وقد يرجَّح ان الأخير هو اسمها، وما سبقه ألقاب لها، ويستدل لهذا بقول بعض مادحي الإمام:

ألا إن خير الناس نفسا ووالدا

ورهطا وأجدادا علي المعظم

أتتنا به للعلم والحلم ثامنا

إماما يؤدّي حجة اللّه (تكتم)(٣)

والشيخ الصدوق يشير إلى القول الأخير برواية عن محمد بن يحيى الصولي ويقول: إن أمه هي أم ولد تسمى تكتم. ثم يروي عن عون بن محمد الكندي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن ميثم يقول: ما رأيت أحدا قط أعرف بأمور الأئمةعليهم‌السلام وأخبارهم ومناكحهم منه، قال: اشترت حميدة

__________________

(١) انظر: الارشاد ٢: ٢٣١، ٢٣٥.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٤.

(٣) راجع: الارشاد ٢: ٢٤٧، اعلام الورى ٢: ٤١، دلائل الإمامة: ٣٤٨.

٢٦

المصفاة وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفر - وكانت من أشراف العجم - جارية مولدة(١) واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى انها ما جلست بين يديها منذ ملكتها اجلالاً لها، فقالت لابنها موسىعليه‌السلام : يا بني ان تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن اللّه تعالى سيظهر نسلها ان كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوصِ خيرا بها، فلما ولدت له الرضاعليه‌السلام سماها الطاهرة(٢) .

ولقد تناهت شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام في السمو والجلال حتى تطرزت بألقاب لامعة، تعكس جوانب مختلفة من أخلاقه وآدابه، منها: الصابر والرضي، والوفي، والزكي، والولي، ونور الهدى، وسراج اللّه، والفاضل، وقرّة عين المؤمنين، ومكيد الملحدين، وأشهر ألقابهعليه‌السلام هو الرّضا(٣) .

قيل: إن المأمون العباسي هو الذي أطلق عليه لقب «الرّضا» حين عهد إليه ولاية العهد، ولكن الإمام أبا جعفر الجوادعليه‌السلام قد نفى ذلك بشدة، فعن البزنطي، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام ان قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك انما سمّاه المأمون الرّضا لما رضيه لولاية عهده، فقال: « كذبوا واللّه وفجروا بل اللّه تبارك وتعالى سمّاه الرضا لأنه كان رضيّ اللّه

__________________

(١) المولدة: هي التي ولدت بين العرب، ونشأت مع أولادهم.

(٢) اعلام الورى / الطبرسي ٢: ٤٠، ح ٢، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٤، باب (٢)، كشف الغمة ٣: ٩٠.

(٣) دلائل الإمامة: ٣٥٩، الإمام الرضاعليه‌السلام ، لقبه.

٢٧

عزّوجلّ ورضي رسوله والأئمة بعده في أرضه ». قال: فقلت له: الم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضيّ اللّه عزّوجلّ ورسوله والأئمة بعده؟ فقال: « بلى »، فقلت: فلم سمّي أبوكعليه‌السلام من بينهم الرضا؟ قال: « لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائهعليهم‌السلام فلذلك سمّي من بينهم الرضا »(١) .

كان يكنى بأبي الحسن، وورد على لسان بعض الرواة أبو الحسن الثاني، قال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح - يعني الإمام الكاظمعليه‌السلام - فقال: « يا علي بن يقطين، هذا علي سيد ولدي، اما أنه قد نحلته كنيتي »(٢) .

معاصرته لمدرسة جدّه

قد تقدّم أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد ولد في نفس السنة التي توفي فيها جدّه الامام الصادقعليه‌السلام - أي في سنة ١٤٨ ه- - على قول جمع كبير من العلماء والمؤرخين مثل الشيخ المفيد في الإرشاد(٣) ، والكليني في الكافي(٤) ، والطبرسي في أعلام الورى(٥) وغير هؤلاء كثير.

وهناك من يذهب أبعد من ذلك، فيرى أنه ولد بعد وفاة جدّه بخمسة

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٢، ح١، باب (١).

(٢) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري ١: ٢٢٢.

(٣) الإرشاد ٢: ٢٤٧.

(٤) أصول الكافي ١: ٤٠٦.

(٥) اعلام الورى ٢: ٤٠.

٢٨

أعوام(١) . وعليه يصح القول بأنه لم يعاصر مدرسة جدّه، وقد أشرنا إلى أن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يتمنى أن يدرك حفيده الرضاعليه‌السلام ، مع ذلك فاننا لانتجاوز الحقيقة إذا ما ادعينا بأن الإمام الرضاعليه‌السلام قد عاصر مدرسة جدّه من الناحية العلمية، فإذا تأملنا الحقبة الزمنية التي تأسست فيها مدرسة الامام الصادقعليه‌السلام في مطلع القرن الثاني الهجري، تلك المدرسة الكبرى التي امتدّت اشعاعاتها إلى عصور ما بعد التأسيس، وانتشر شذاها إلى جميع البلدان.

يقول الشيخ المفيد: نقل الناس عن الإمام الصادقعليه‌السلام من العلوم ما سارت به الرُّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نُقل عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرُّواة عنه من الثِّقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعةَ آلاف رجلٍ(٢) .

لقد اغتنم الإمام الصادقعليه‌السلام فترة الصراع الدائر بين الأمويين والعباسيين، فشمّر عن ساعد الجدّ، وقام بجهد علمي كبير من أجل التعريف بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وغدا مظلّة رحبة يأوى إليها طلاب العلم والمعرفة الحقّة.

ولما قوي ساعد العباسيين وخلا لهم الجو بعد انتصارهم على الأمويين، استشعروا الخطر المحدق بهم من العلويين هذه المرّة، فأخذوا

__________________

(١) أعيان الشيعة ٢: ١٢.

(٢) الارشاد ج ٢: ١٧٩.

٢٩

يضيقون الخناق عليهم، ولم يقتصر التضييق على الأرزاق، وحرية التعبير، بل سدّوا عليهم المنافذ والمجالات من جهاتها، ومن هذه المنافذ نافذة العلم والتدريس، فبينما كان الطريق العلمي يكاد يكون مفتوحا على مصراعيه أمام الإمام الصادقعليه‌السلام حتى وصلت مدرسته إلى أوج مجدها العلمي، وجد نفسه أمام عاصفة التحول السياسي التي أطاحت بالحكم الأموي وجاءت بالحكم العباسي، الذي وقف بعنف تجاه كل التيارات التي يشمّ من ورائها رائحة السياسة، وفي مقدمتها التيار العلوي الذي كان بعض رجاله يقودون حركات تمرّد على السلطة العباسية هنا أو هناك ..

وجاء دور أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، فلم يستطع تحمّل ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام فمنذ تولّي السلطة (لم يهدأ خاطره، فلم يزل يقلب وجوه الرأي، ويدير الحيل للتخلص من الامام الصادقعليه‌السلام لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علمية بعيدة المدى فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة)(١) .

ومن الشواهد على ذلك ما رواه نقلة الآثار من خبره مع المنصور لما أمر الرَّبيع باحضار أبي عبد اللّهعليه‌السلام فأحضره، فلما بصر به المنصور، قال له: قتلني اللّه إن لم أقتلك، أتلحدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل؟! فقال له أبو عبد اللّهعليه‌السلام : « واللّه ما فعلتُ ولا أردتُ، فإن كان بلغك فمن كاذب »(٢) . فاتجه الى التضييق على الإمام الصادقعليه‌السلام مدّة حياته.

__________________

(١) الإمام الصادق / د. حسين الحاج: ٨.

(٢) الارشاد ٢: ١٨٢.

٣٠

المدرسة السرية

نهل الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام من فيض غدير هذه المدرسة المباركة مدة عقدين من الزمن، فقد ولد سنة ١٢٨ ه- أو ١٢٩ ه- - على اختلاف الروايتين - وتُوفي أبوه الصادقعليه‌السلام عام ١٤٨ ه-، فكان من الطبيعي - بعد انتقال الإمامة إليه - أن يشغل كرسي الاستاذية مكان أبيه، ( ..واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتّعظيم لحقِّه والتسليم لأمره، ورووا عن أبيهعليه‌السلام نصوصا عليه بالإمامة، وإشارات إليه بالخلافة، وأخذوا عنه معالم دينهم، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يُقطع به على حجّته وصواب القول بإمامته)(١) .

من أجل ذلك كان الاستاذ الأكبر بعد أبيه في هذه المدرسة الكبرى (فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما ملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم)(٢) .

قال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه(٣) .

كان هذا في أجواءٍ قد تعرّضعليه‌السلام فيها لضغط متزايد من حكام عصره العباسيين، ولكنه وعى المتغيرات السياسية جيدا، فأخذ يبثّ

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٢١٤.

(٢) الارشاد ٤: ٨٤.

(٣) الارشاد ٢: ٢٣٥.

٣١

علومه ومعارفه بصورة سرية، ويتصرف في حدود الهامش الضيق المتاح له، وقد أشرنا لرواية هشام بن سالم التي ذكر فيها أن الإمام الكاظمعليه‌السلام دعاه إلى التمسك بالسرية التامة، فإذا أذاع فهو الذبح! وأشار بيده إلى حلقه.

وقد وصل الأمر في زمانه الى حد (أن الراوي إذا روى الحديث عنه لايسنده إليه بصريح اسمه، بل بكناه: مرة بأبي ابراهيم، وأبي الحسن، وبألقابه الاخرى ؛ العبد الصالح، والعالم وأمثالهما، وبالإشارة إليه تارة كقوله عن رجل، اذ قلما تجد اسمه الشريف صريحا في حديث، لشدة التقية في أيامه ولكثرة التضييق عليه ممن عاصره من العباسيين كالمنصور والمهدي والهادي، وبقي سلام اللّه عليه يحمل إلى السجن مرة ويطلق منه أخرى أربعة عشر سنة، وهي مدة أيامه مع الرشيد)(١) إلى أن انتهت رحلة العذاب التي قطعها بوفاته مسجونا مسموما.

المدرسة السّيارة

مع كل ذلك واصلت مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام عطاءها العلمي ولكن في الخفاء والتستر، وقد قيض اللّه تعالى لها رائدا جديدا، وعلما خفاقا، ذاع صيته في جميع الآفاق، ألا وهو الإمام الرضاعليه‌السلام .

صحيح أن امامنا الرضاعليه‌السلام لم يعاصر جدّه تاريخيا، ولكن الصحيح أيضا أنه عاصره علميا، وذلك لأن والده الكاظمعليه‌السلام كان قد عاش مع أبيه الصادقعليه‌السلام مدة عقدين من الزمن، والامام الرضاعليه‌السلام - بدوره - قد عاصر

__________________

(١) جهاد الشيعة: ٣٠٠.

٣٢

أباه ثلاثة عقود من الزمن.

وقد استغل إمامنا فترة الصراع بين الأخوة - الأعداء (الأمين والمأمون) فرفع راية الهدى واستخدم أسلوباً جديداً لتفعيل مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام يمكن أن نطلق عليه أسلوب «المدرسة السّيارة» بعد أن وجد أن مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام قد حوصرت في المدينة المنورة. هذا الاستنتاج لا نذهب إليه جزافا، فهناك أقوال وروايات تشهد على أن الإمام الرضاعليه‌السلام - عميد هذه المدرسة - كانت له جهود قيّمة في عدةٍ من بلدان العالم الاسلامي ومدنه الهامّة وترك فيها آثاراً جليلة، ولعل من أهمها:

أولاً: المدينة المنورة

كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بحركة علمية نشطة، حتى أن بعض الشيعة - كما أسلفنا - قد حذره من سيف هارون الذي يقطر دما - حسب تعبيرهم - ودعوه إلى مراعاة التقية والتبليغ بسرية.

ومما يعكس مدى نشاطه العلمي في المدينة، ما ورد من أقوال أبرز علماء التراجم والرجال بحقّه، أكد «الواقدي» على أن الإمام الرضاعليه‌السلام كان يفتي بمسجد رسول اللّه رغم حداثة سنّه، قال: « سمع عليٌ الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة، يفتي بمسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة »(١) .

أما الحافظ الذهبي فقد أشاد بمكانة الرضاعليه‌السلام العلمية ومنزلته الدينية معا، عندما قال: « كان من العلم والدِّين والسُّودد بمكان يقال: أفتى وهو

__________________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي: ٣٥١ - ٣٥٢.

٣٣

شابٌ في أيام مالك »(١) .

ثانياً: البصرة

جاء في بعض الروايات أن الإمام الرضاعليه‌السلام سافر إلى البصرة بعد وفاة أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام للتدليل على إمامته، وإبطال شبهة المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفا في دار الحسن بن محمد العلوي، وعقد في داره مؤتمرا عاما ضمّ جمعا من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

« إني انما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الامامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا » وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، فبهر القوم وعجبوا(٢) والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.

ثالثاً: الكوفة

وقصد الإمام الرضاعليه‌السلام الكوفة، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً يليق بشأنه، ونزل ضيفا في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، كان بمثابة «مؤتمر عام» حضره بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي ١: ٣٤٢ - ٣٤٣، ح ٦، باب (٩).

٣٤

وبينهم مناظرات عرض فيها حججاً مجلجلة تقرع آذانهم وتفحم ألسنتهم(١) .

رابعاً: نيسابور

وفي مروره بنيسابور قاصدا مرو انساب صوته الهادى ء يلف أرجاء هذه المدينة ليلامس الاسماع برفق، ويلج القلوب المتعطشة إلى المعرفة الحقة، فقد عمت الفرحة والبهجة أرجاء المدينة حين قدومه إليها، وقد استقبل استقبالاً شعبيا منقطع النظير، فلم تشاهد نيسابور في جميع تاريخها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وعرض له أشهر حفاظ الحديث من أهل السنة في ذلك الزمان كأبي زرعة الرازي(٢) ، ومحمد بن أسلم الطوسي(٣) ومعهما خلائق لايحصون من طلبة العلم مع اقطاب كل فن فالتمسوا منه أن يتحفهم بحديث سمعه من آبائه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتحفهم بحديثه الذي عرف اسناده بسلسلة الذهب(٤) ، وفي ذلك يقول عبد السلام بن صالح أبو الصلت

__________________

(١) اُنظر: الخرائج والجرائح ١: ٢٠٤ - ٢٠٦.

(٢) أبو زرعة الرازي، يطلق على ثلاثة، والظاهر أن المراد هنا أبو زرعة الكبير الإمام الحافظ عبيد اللّه بن عبد الكريم، لكن قيل في ولادته أنها كانت بعد نيف ومائتين، وذكر ابن ابي حاتم أن أبا زرعة هذا سمع من عبد اللّه بن صالح العجلي، والحسن بن عطية بن نجيح وهما ممّن توفي سنة ٢١١ ه-، وبذلك تثبت معاصرته للإمام الرضاعليه‌السلام . راجع: سير اعلام النبلاء ١٣: ٦٥ / ٤٨ و ١٧: ٥١ / ٢٠.

(٣) محمد بن أسلم الطوسي: هو ابن سالم بن يزيد، الإمام الحافظ الرباني، شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. مولده حدود ١٨٠ وتوفي سنة ٢٤٢ ه- بنيسابور. سير أعلام النبلاء: ١٢: ١٩٥ / ٧٠.

(٤) اُنظر: الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ٢٥٠.

٣٥

الهروي: كنت مع علي بن موسى الرضاعليه‌السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء فإذا محمد بن رافع(١) وأحمد بن الحرث(٢) ويحيى بن يحيى(٣) واسحاق بن راهويه(٤) وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته في المربعة، فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك فاخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف خزّ ذو وجهين، وقال: « سمعت أبي العبد الصالح موسى بن جعفر - وعدد سلسلة آبائه - ثم قال: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سمعت جبرئيل يقول: قال اللّه جل جلاله: اني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي »(٥) .

وعن إسحاق بن راهويه، أنه قال: فلما مرت الراحلة نادانا « بشروطها وأنا من شروطها »(٦) .

__________________

(١) محمد بن رافع، ابن أبي زيد، واسمه سابور، الإمام الحافظ الحجة القدوة، بغية الاعلام، أبو عبد اللّه القشيري مولاهم النيسابورين ولد سنة نيِّف وسبعين ومئة في أيام الإمام مالك، ورحل سنة نيف وتسعين. سير أعلام النبلاء: ١٢: ٢١٤ / ٧٤.

(٢) كذا في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، ولعلّه أحمد بن حرب بن فيروز، شيخ نيسابور، أبو عبد اللّه النيسابوري، كان من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة ٢٣٤ ه- وقد قارب الستين. راجع: سير أعلام النبلاء ١١: ٣٢ / ١٤.

(٣) هو يحيى بن يحيى بن بكر، شيخ الإسلام، وعالم خراسان، أبو زكريا المنقري النيسابوري الحافظ المتوفي سنة ٢٢٦ ه. سير أعلام النبلاء ١٠: ٥١٢ / ١٦٧.

(٤) هو الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفّاظ، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، مولده ١٦١ ه-، توفي سنة ٢٣٨ ه. سير أعلام النبلاء ١١: ٣٥٨ / ٧٩.

(٥) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١٤٣، ح ١، باب (٣٧).

(٦) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٤٥، ح ٤، باب (٣٧).

٣٦

وحدّث أبو الصلت الهروي أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال في نيسابور بعد أن ذكر الإسناد المتقدم عن آبائهعليهم‌السلام أن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال: « سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان »، قال: وقال أحمد بن حنبل: لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه(١) .

خامساً: مرو

تحرك الإمام من نيسابور ليتابع رحلته إلى مرو حيث المأمون يستعد لاستقباله والحفاوة به، ولما دخلها أنزله منزلاً كريما محاطا بكل مظاهر التقدير والاحترام. وهناك حيث استقر الإمام الرضاعليه‌السلام صرف معظم وقته لبثّ العلوم، وعقد العديد من المجالس العلمية الكبيرة التي كان يحضرها جلّ علماء المصر، فعاش حياته القصيرة في مرو معلّماً ناشراً للعلوم، حيث سنرى لاحقاً أنه قد انصرف عن دوره السياسي كولي للعهد ومارس دوره العلمي من موقعه الديني الرفيع.

وهناك حظي العديد من أهل العلم ورواة الحديث بلقائه والنقل عنه والاستماع إلى أحاديثه، فعرفه من لم يكن يعرفه، وذاع صيته أكثر فأكثر في أصقاع البلاد، كأبرز رجال العلم وأوسعهم معرفة وأكثرهم جلالة وشرفاً ..

قال أبو الصلت عبد السلام الهروي، وهو من أعلام عصره: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل

__________________

(١) اُنظر: كشف الغمة ٣: ١٠٠.

٣٧

شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور(١) . فقد قام هؤلاء العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقا في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرِّس فيها، يقول الرواة: أنه سئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مختلفة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الإمام وعبقريته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الامام من طاقات هائلة من العلم والفضل، كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته(٢) .

هذه الجولة العلمية وما رافقها من جهد علمي كبير تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - بأن امامنا قد اتبع أسلوبا جديدا ومبتكرا في بث علوم آل البيتعليهم‌السلام وهو ما أطلقنا عليه تعبير «المدرسة السّيارة»، ويبدو أن الظروف السياسية هي التي حملته على اتباع هذا الأسلوب.

روى الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت وكان من رجال الحسن ابن سهل: أن مسير الإمام الرضاعليه‌السلام كان عن طريق البصرة والأهواز وفارس، قال: فكتب إليه المأمون لا تأخذه على طريق الكوفة وقم، فحمل على طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وافى مرو(٣) . ومنذ أن

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٦٤، الفصل الرابع.

(٢) حياة الإمام علي الرضاعليه‌السلام / القرشي: ١٠٢.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦١ ح ٢١، باب (٤٠).

٣٨

غادر الإمام الرضاعليه‌السلام بيت اللّه الحرام متوجها إلى خراسان قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والاجلال في كل بلد أو حي يمرّ به، وكان الناس يسألونه عن أحكام دينهم وهو يجيب عنها.

لقد أراد المأمون أن يكون سفر الإمامعليه‌السلام غامضا عبر الطريق الصحراوي القاحل، ولكن امامنا استغل هذه الفرصة المناسبة لنشر علوم مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وادامة عطائها العلمي والمعرفي.

المبحث الثاني: الإمام الرضا في ظل أبيهعليهما‌السلام

لازم الإمام أباهعليهما‌السلام ملازمة الظل منذ نعومة أظفاره إلى أن فرّق الأجل بينهما، وكان الأب العظيم يصب في اذن ولده الأغر أعذب الألفاظ وأرق المعاني، ويغذيه من علوم آبائه وأجدادهعليهم‌السلام ويشيد دائما بفضله ويقدمه على جميع ولده، ومن مصاديق ذلك، ماقاله الإمام الكاظمعليه‌السلام لسليمان بن حفص المروزي الذي سأل الكاظمعليه‌السلام عن الحجّة على الناس بعده، قال: « يا سليمان، إن عليا ابني ووصيي والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي »(١) .

وروى الصدوق عن نُعيم القابوسي، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام أنه قال: « ابني عليّ أكبر ولدي وآثرهم عندي، وأحبَّهم إليَّ »(٢) .

تكلّم الإمام الرضاعليه‌السلام ذات يوم بين يدي أبيهعليه‌السلام فأجاد وأحسن أيّما

__________________

(١) دلائل الإمامة: ٣٩٦.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٩.

٣٩

إجادة وإحسان، فتهلّل وجه أبيهعليه‌السلام فرحا، قائلاً: « يا بني الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء، وسرورا من الأبناء، وعوضا عن الأصدقاء »(١) .

كان يجلسه في حجره يقبله ويمص لسانه، ويقعده على عاتقه، يسبغ عليه عطفه وحنانه، ويرعاه من دون إخوته رعاية خاصة فقد كان يعلم بأنه سوف يخلفه للامامة من بعده، وكان يهمس في أذنه عبارات الود والثناء، ويقول له: « ما أطيب ريحك، وأطهر خلقك، وأبين فضلك! »(٢) .

ولكن حياة الرضاعليه‌السلام بجنب أبيه الهادئة والهانئة، قد عكرت صفوها دسائس بلاط بني العباس، الذين يتربصون بالعلويين الدوائر، فقد (بقي الامام الرضاعليه‌السلام مع أبيه نحوا من ثلاثين عاما أو تزيد، شاهد فيها ضروب المحن والبلايا التي أحاطت بأبيه الإمام موسى بن جعفر الذي كان وجوده، رغم وقوفه موقف المسالم للحكم بعيدا عن مواطن المجابهة معه، يثير قلق الحكام ويقض مضاجعهم، فلقد كان المنصور يتحراه ويراقب جميع تحركاته وتصرفاته حتى اضطره إلى أن يحتجب عن شيعته وخلّص أصحابه، وبعث إليه المهدي العباسي يستدعيه لبغداد، وألقاه في سجنه لمدة من الزمن وبوفاة المهدي والهادي الذي لم تطل أيامه ارتقى الرشيد سدة الخلافة وبدأت بخلافته بوادر المأساة التي حلّت بالبيت العلوي الذي كان يتزعمه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام وكان له منها القسط الأوفر، فقد اعتقله وضيق عليه في ظلمات سجونه المرعبة مدة أحد عشر

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٣٥، ح ٤ باب (٣٥).

(٢) اُنظر: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٨، باب (٤).

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199