الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ20%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88083 / تحميل: 5516
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الاخرى، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضاعليه‌السلام ينشر آراء مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام العقائدية منها والفقهية، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي، فكان الإمام الرضاعليه‌السلام يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى(١) . وكانت شهرته قد طبقت الآفاق، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية، كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد(٢) .

وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمامعليه‌السلام - كما سيأتي في الفصل الخامس - أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب، الذي عاصره الإمامعليه‌السلام كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي، ملائماً للحوار

__________________

(١) انظر: أعيان الشيعة ٢: ١٤.

(٢) انظر: الأنوار البهية: ١٧٩.

٢١

وعرض الافكار، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضاعليه‌السلام بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام ( ٢١٢ ه- )، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.

* * *

٢٢

٢٣

الفصل الثانى

الامام الرضاعليه‌السلام قبل تولي الإمامة

المبحث الأول: الولادة والنشأة

أولاً: الولادة

يوجد اختلاف بين المحدثين الشيعة في تحديد اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها الإمام الرضاعليه‌السلام: فقيل إن مولده كان بالمدينة سنة ١٤٨ ه-(١) وروى الصَّدوق أنه ولد بالمدينة يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ١٥٣ ه- بعد وفاة أبي عبد اللّهعليه‌السلام بخمس سنين(٢) . أما المحقق الأربلي فيساند هذا الرأي، ولكن يذكر أنه ولد في الحادي عشر من ذي الحجّة(٣) . وأشار الشيخ الطبرسي إلى القولين ولكن لم يرجح أحدهما(٤) .

وذكر الذهبي: أنه ولد بالمدينة في سنة ١٤٨ ه- عام وفاة جدّه الإمام

__________________

(١) انظر: الإرشاد ٢: ٢٤٧، والكافي ١: ٤٨٦ / ١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٨، ح ١، باب (٣).

(٣) كشف الغمّة ٣: ٥٣.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤١.

٢٤

الصادقعليه‌السلام (١) ، وهو الموافق للقول الأول.

من جانب آخر وردت روايات عن جدّه الإمام الصادقعليه‌السلام مفعمة بشحنة عاطفية كبيرة، تبشر بولادته المباركة وتكشف عن المكانة المرموقة التي سيحتلها في العالم الإسلامي، فعن يزيد بن سليط، قال: لقينا أبا عبد اللّهعليه‌السلام في طريق مكة ونحن جماعة، فقلت له: بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون والموت لايعرى منه أحد، فاحدث اليّ شيئا القيه إلى من يخلفني، فقال لي: « نعم هؤلاء ولدي، وهذا سيدهم » وأشار إلى ابنه موسىعليه‌السلام « يخرج اللّه تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها، خير مولود وخير ناشى ء يحقن اللّه به الدماء ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث(٢) ويشعب به الصدع(٣) ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد، خير كهل وخير ناشى ء، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه، قوله حكم وصمته علم، يبين للناس ما يختلفون فيه »(٤) .

ثانياً: النشأة

نشأ الإمام الرضاعليه‌السلام بين أحضان بيت أذهب اللّه تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فهو ابن الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام الذي كان

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) أي يسد به الخلل.

(٣) أي يجمع به الشقّ والفرقة.

(٤) اعلام الورى ٢: ٤٨، وعيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٣، ح ٩٦، باب (٤).

٢٥

( أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّا، وأكرمهم نفسا وكان الناس بالمدينة يُسمونه زين المتهجِّدين، ويعرف بالعبد الصالح )(١) .

ولما كانت الفروع تتبع الأصول، والأصل الطيب يعطي ثمرا طيبا فمن الطبيعي والحال هذه أن يتحلى الابن بتلك الصفات الطيبة والخصال الحميدة، يقول الشيخ المفيد: « كان - أي الرضاعليه‌السلام - أفضل ولد أبي الحسن موسى: وأنبهَهُم وأعظمهُم قدرا وأعلمهم وأجمعهم فضلاً»(٢) .

أما أمه فعلى الرغم من وجود الاختلاف في اسمها وكنيتها، فهناك اتفاق على كونها من أفضل نساء زمانها من حيث العقل والدين.

قيل: تسمى الخيزران، وقيل: أروى، وتلقب بشقراء النوبية. وقيل أمّه أم ولد يقال لها أمّ البنين وقيل: اسمها تكتم، وقد يرجَّح ان الأخير هو اسمها، وما سبقه ألقاب لها، ويستدل لهذا بقول بعض مادحي الإمام:

ألا إن خير الناس نفسا ووالدا

ورهطا وأجدادا علي المعظم

أتتنا به للعلم والحلم ثامنا

إماما يؤدّي حجة اللّه (تكتم)(٣)

والشيخ الصدوق يشير إلى القول الأخير برواية عن محمد بن يحيى الصولي ويقول: إن أمه هي أم ولد تسمى تكتم. ثم يروي عن عون بن محمد الكندي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن ميثم يقول: ما رأيت أحدا قط أعرف بأمور الأئمةعليهم‌السلام وأخبارهم ومناكحهم منه، قال: اشترت حميدة

__________________

(١) انظر: الارشاد ٢: ٢٣١، ٢٣٥.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٤.

(٣) راجع: الارشاد ٢: ٢٤٧، اعلام الورى ٢: ٤١، دلائل الإمامة: ٣٤٨.

٢٦

المصفاة وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفر - وكانت من أشراف العجم - جارية مولدة(١) واسمها تكتم، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة، حتى انها ما جلست بين يديها منذ ملكتها اجلالاً لها، فقالت لابنها موسىعليه‌السلام : يا بني ان تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها، ولست أشك أن اللّه تعالى سيظهر نسلها ان كان لها نسل، وقد وهبتها لك فاستوصِ خيرا بها، فلما ولدت له الرضاعليه‌السلام سماها الطاهرة(٢) .

ولقد تناهت شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام في السمو والجلال حتى تطرزت بألقاب لامعة، تعكس جوانب مختلفة من أخلاقه وآدابه، منها: الصابر والرضي، والوفي، والزكي، والولي، ونور الهدى، وسراج اللّه، والفاضل، وقرّة عين المؤمنين، ومكيد الملحدين، وأشهر ألقابهعليه‌السلام هو الرّضا(٣) .

قيل: إن المأمون العباسي هو الذي أطلق عليه لقب «الرّضا» حين عهد إليه ولاية العهد، ولكن الإمام أبا جعفر الجوادعليه‌السلام قد نفى ذلك بشدة، فعن البزنطي، قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام ان قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك انما سمّاه المأمون الرّضا لما رضيه لولاية عهده، فقال: « كذبوا واللّه وفجروا بل اللّه تبارك وتعالى سمّاه الرضا لأنه كان رضيّ اللّه

__________________

(١) المولدة: هي التي ولدت بين العرب، ونشأت مع أولادهم.

(٢) اعلام الورى / الطبرسي ٢: ٤٠، ح ٢، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٤، باب (٢)، كشف الغمة ٣: ٩٠.

(٣) دلائل الإمامة: ٣٥٩، الإمام الرضاعليه‌السلام ، لقبه.

٢٧

عزّوجلّ ورضي رسوله والأئمة بعده في أرضه ». قال: فقلت له: الم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضيّ اللّه عزّوجلّ ورسوله والأئمة بعده؟ فقال: « بلى »، فقلت: فلم سمّي أبوكعليه‌السلام من بينهم الرضا؟ قال: « لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائهعليهم‌السلام فلذلك سمّي من بينهم الرضا »(١) .

كان يكنى بأبي الحسن، وورد على لسان بعض الرواة أبو الحسن الثاني، قال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح - يعني الإمام الكاظمعليه‌السلام - فقال: « يا علي بن يقطين، هذا علي سيد ولدي، اما أنه قد نحلته كنيتي »(٢) .

معاصرته لمدرسة جدّه

قد تقدّم أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد ولد في نفس السنة التي توفي فيها جدّه الامام الصادقعليه‌السلام - أي في سنة ١٤٨ ه- - على قول جمع كبير من العلماء والمؤرخين مثل الشيخ المفيد في الإرشاد(٣) ، والكليني في الكافي(٤) ، والطبرسي في أعلام الورى(٥) وغير هؤلاء كثير.

وهناك من يذهب أبعد من ذلك، فيرى أنه ولد بعد وفاة جدّه بخمسة

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٢، ح١، باب (١).

(٢) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري ١: ٢٢٢.

(٣) الإرشاد ٢: ٢٤٧.

(٤) أصول الكافي ١: ٤٠٦.

(٥) اعلام الورى ٢: ٤٠.

٢٨

أعوام(١) . وعليه يصح القول بأنه لم يعاصر مدرسة جدّه، وقد أشرنا إلى أن الإمام الصادقعليه‌السلام كان يتمنى أن يدرك حفيده الرضاعليه‌السلام ، مع ذلك فاننا لانتجاوز الحقيقة إذا ما ادعينا بأن الإمام الرضاعليه‌السلام قد عاصر مدرسة جدّه من الناحية العلمية، فإذا تأملنا الحقبة الزمنية التي تأسست فيها مدرسة الامام الصادقعليه‌السلام في مطلع القرن الثاني الهجري، تلك المدرسة الكبرى التي امتدّت اشعاعاتها إلى عصور ما بعد التأسيس، وانتشر شذاها إلى جميع البلدان.

يقول الشيخ المفيد: نقل الناس عن الإمام الصادقعليه‌السلام من العلوم ما سارت به الرُّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نُقل عنه، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرُّواة عنه من الثِّقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعةَ آلاف رجلٍ(٢) .

لقد اغتنم الإمام الصادقعليه‌السلام فترة الصراع الدائر بين الأمويين والعباسيين، فشمّر عن ساعد الجدّ، وقام بجهد علمي كبير من أجل التعريف بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وغدا مظلّة رحبة يأوى إليها طلاب العلم والمعرفة الحقّة.

ولما قوي ساعد العباسيين وخلا لهم الجو بعد انتصارهم على الأمويين، استشعروا الخطر المحدق بهم من العلويين هذه المرّة، فأخذوا

__________________

(١) أعيان الشيعة ٢: ١٢.

(٢) الارشاد ج ٢: ١٧٩.

٢٩

يضيقون الخناق عليهم، ولم يقتصر التضييق على الأرزاق، وحرية التعبير، بل سدّوا عليهم المنافذ والمجالات من جهاتها، ومن هذه المنافذ نافذة العلم والتدريس، فبينما كان الطريق العلمي يكاد يكون مفتوحا على مصراعيه أمام الإمام الصادقعليه‌السلام حتى وصلت مدرسته إلى أوج مجدها العلمي، وجد نفسه أمام عاصفة التحول السياسي التي أطاحت بالحكم الأموي وجاءت بالحكم العباسي، الذي وقف بعنف تجاه كل التيارات التي يشمّ من ورائها رائحة السياسة، وفي مقدمتها التيار العلوي الذي كان بعض رجاله يقودون حركات تمرّد على السلطة العباسية هنا أو هناك ..

وجاء دور أبي جعفر المنصور، ثاني خلفاء بني العباس، فلم يستطع تحمّل ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام فمنذ تولّي السلطة (لم يهدأ خاطره، فلم يزل يقلب وجوه الرأي، ويدير الحيل للتخلص من الامام الصادقعليه‌السلام لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علمية بعيدة المدى فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة)(١) .

ومن الشواهد على ذلك ما رواه نقلة الآثار من خبره مع المنصور لما أمر الرَّبيع باحضار أبي عبد اللّهعليه‌السلام فأحضره، فلما بصر به المنصور، قال له: قتلني اللّه إن لم أقتلك، أتلحدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل؟! فقال له أبو عبد اللّهعليه‌السلام : « واللّه ما فعلتُ ولا أردتُ، فإن كان بلغك فمن كاذب »(٢) . فاتجه الى التضييق على الإمام الصادقعليه‌السلام مدّة حياته.

__________________

(١) الإمام الصادق / د. حسين الحاج: ٨.

(٢) الارشاد ٢: ١٨٢.

٣٠

المدرسة السرية

نهل الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام من فيض غدير هذه المدرسة المباركة مدة عقدين من الزمن، فقد ولد سنة ١٢٨ ه- أو ١٢٩ ه- - على اختلاف الروايتين - وتُوفي أبوه الصادقعليه‌السلام عام ١٤٨ ه-، فكان من الطبيعي - بعد انتقال الإمامة إليه - أن يشغل كرسي الاستاذية مكان أبيه، ( ..واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتّعظيم لحقِّه والتسليم لأمره، ورووا عن أبيهعليه‌السلام نصوصا عليه بالإمامة، وإشارات إليه بالخلافة، وأخذوا عنه معالم دينهم، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يُقطع به على حجّته وصواب القول بإمامته)(١) .

من أجل ذلك كان الاستاذ الأكبر بعد أبيه في هذه المدرسة الكبرى (فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما ملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم)(٢) .

قال الشيخ المفيد: وقد روى الناس عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه(٣) .

كان هذا في أجواءٍ قد تعرّضعليه‌السلام فيها لضغط متزايد من حكام عصره العباسيين، ولكنه وعى المتغيرات السياسية جيدا، فأخذ يبثّ

__________________

(١) الإرشاد ٢: ٢١٤.

(٢) الارشاد ٤: ٨٤.

(٣) الارشاد ٢: ٢٣٥.

٣١

علومه ومعارفه بصورة سرية، ويتصرف في حدود الهامش الضيق المتاح له، وقد أشرنا لرواية هشام بن سالم التي ذكر فيها أن الإمام الكاظمعليه‌السلام دعاه إلى التمسك بالسرية التامة، فإذا أذاع فهو الذبح! وأشار بيده إلى حلقه.

وقد وصل الأمر في زمانه الى حد (أن الراوي إذا روى الحديث عنه لايسنده إليه بصريح اسمه، بل بكناه: مرة بأبي ابراهيم، وأبي الحسن، وبألقابه الاخرى ؛ العبد الصالح، والعالم وأمثالهما، وبالإشارة إليه تارة كقوله عن رجل، اذ قلما تجد اسمه الشريف صريحا في حديث، لشدة التقية في أيامه ولكثرة التضييق عليه ممن عاصره من العباسيين كالمنصور والمهدي والهادي، وبقي سلام اللّه عليه يحمل إلى السجن مرة ويطلق منه أخرى أربعة عشر سنة، وهي مدة أيامه مع الرشيد)(١) إلى أن انتهت رحلة العذاب التي قطعها بوفاته مسجونا مسموما.

المدرسة السّيارة

مع كل ذلك واصلت مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام عطاءها العلمي ولكن في الخفاء والتستر، وقد قيض اللّه تعالى لها رائدا جديدا، وعلما خفاقا، ذاع صيته في جميع الآفاق، ألا وهو الإمام الرضاعليه‌السلام .

صحيح أن امامنا الرضاعليه‌السلام لم يعاصر جدّه تاريخيا، ولكن الصحيح أيضا أنه عاصره علميا، وذلك لأن والده الكاظمعليه‌السلام كان قد عاش مع أبيه الصادقعليه‌السلام مدة عقدين من الزمن، والامام الرضاعليه‌السلام - بدوره - قد عاصر

__________________

(١) جهاد الشيعة: ٣٠٠.

٣٢

أباه ثلاثة عقود من الزمن.

وقد استغل إمامنا فترة الصراع بين الأخوة - الأعداء (الأمين والمأمون) فرفع راية الهدى واستخدم أسلوباً جديداً لتفعيل مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام يمكن أن نطلق عليه أسلوب «المدرسة السّيارة» بعد أن وجد أن مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام قد حوصرت في المدينة المنورة. هذا الاستنتاج لا نذهب إليه جزافا، فهناك أقوال وروايات تشهد على أن الإمام الرضاعليه‌السلام - عميد هذه المدرسة - كانت له جهود قيّمة في عدةٍ من بلدان العالم الاسلامي ومدنه الهامّة وترك فيها آثاراً جليلة، ولعل من أهمها:

أولاً: المدينة المنورة

كان الإمام الرضاعليه‌السلام يقوم بحركة علمية نشطة، حتى أن بعض الشيعة - كما أسلفنا - قد حذره من سيف هارون الذي يقطر دما - حسب تعبيرهم - ودعوه إلى مراعاة التقية والتبليغ بسرية.

ومما يعكس مدى نشاطه العلمي في المدينة، ما ورد من أقوال أبرز علماء التراجم والرجال بحقّه، أكد «الواقدي» على أن الإمام الرضاعليه‌السلام كان يفتي بمسجد رسول اللّه رغم حداثة سنّه، قال: « سمع عليٌ الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقة، يفتي بمسجد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة »(١) .

أما الحافظ الذهبي فقد أشاد بمكانة الرضاعليه‌السلام العلمية ومنزلته الدينية معا، عندما قال: « كان من العلم والدِّين والسُّودد بمكان يقال: أفتى وهو

__________________

(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي: ٣٥١ - ٣٥٢.

٣٣

شابٌ في أيام مالك »(١) .

ثانياً: البصرة

جاء في بعض الروايات أن الإمام الرضاعليه‌السلام سافر إلى البصرة بعد وفاة أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام للتدليل على إمامته، وإبطال شبهة المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفا في دار الحسن بن محمد العلوي، وعقد في داره مؤتمرا عاما ضمّ جمعا من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

« إني انما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الامامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا » وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، فبهر القوم وعجبوا(٢) والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.

ثالثاً: الكوفة

وقصد الإمام الرضاعليه‌السلام الكوفة، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً يليق بشأنه، ونزل ضيفا في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، كان بمثابة «مؤتمر عام» حضره بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٩: ٣٨٨، ترجمة ١٢٥.

(٢) الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي ١: ٣٤٢ - ٣٤٣، ح ٦، باب (٩).

٣٤

وبينهم مناظرات عرض فيها حججاً مجلجلة تقرع آذانهم وتفحم ألسنتهم(١) .

رابعاً: نيسابور

وفي مروره بنيسابور قاصدا مرو انساب صوته الهادى ء يلف أرجاء هذه المدينة ليلامس الاسماع برفق، ويلج القلوب المتعطشة إلى المعرفة الحقة، فقد عمت الفرحة والبهجة أرجاء المدينة حين قدومه إليها، وقد استقبل استقبالاً شعبيا منقطع النظير، فلم تشاهد نيسابور في جميع تاريخها مثل ذلك الاستقبال، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث، وعرض له أشهر حفاظ الحديث من أهل السنة في ذلك الزمان كأبي زرعة الرازي(٢) ، ومحمد بن أسلم الطوسي(٣) ومعهما خلائق لايحصون من طلبة العلم مع اقطاب كل فن فالتمسوا منه أن يتحفهم بحديث سمعه من آبائه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتحفهم بحديثه الذي عرف اسناده بسلسلة الذهب(٤) ، وفي ذلك يقول عبد السلام بن صالح أبو الصلت

__________________

(١) اُنظر: الخرائج والجرائح ١: ٢٠٤ - ٢٠٦.

(٢) أبو زرعة الرازي، يطلق على ثلاثة، والظاهر أن المراد هنا أبو زرعة الكبير الإمام الحافظ عبيد اللّه بن عبد الكريم، لكن قيل في ولادته أنها كانت بعد نيف ومائتين، وذكر ابن ابي حاتم أن أبا زرعة هذا سمع من عبد اللّه بن صالح العجلي، والحسن بن عطية بن نجيح وهما ممّن توفي سنة ٢١١ ه-، وبذلك تثبت معاصرته للإمام الرضاعليه‌السلام . راجع: سير اعلام النبلاء ١٣: ٦٥ / ٤٨ و ١٧: ٥١ / ٢٠.

(٣) محمد بن أسلم الطوسي: هو ابن سالم بن يزيد، الإمام الحافظ الرباني، شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. مولده حدود ١٨٠ وتوفي سنة ٢٤٢ ه- بنيسابور. سير أعلام النبلاء: ١٢: ١٩٥ / ٧٠.

(٤) اُنظر: الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي: ٢٥٠.

٣٥

الهروي: كنت مع علي بن موسى الرضاعليه‌السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء فإذا محمد بن رافع(١) وأحمد بن الحرث(٢) ويحيى بن يحيى(٣) واسحاق بن راهويه(٤) وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته في المربعة، فقالوا: بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك فاخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف خزّ ذو وجهين، وقال: « سمعت أبي العبد الصالح موسى بن جعفر - وعدد سلسلة آبائه - ثم قال: سمعت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سمعت جبرئيل يقول: قال اللّه جل جلاله: اني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي »(٥) .

وعن إسحاق بن راهويه، أنه قال: فلما مرت الراحلة نادانا « بشروطها وأنا من شروطها »(٦) .

__________________

(١) محمد بن رافع، ابن أبي زيد، واسمه سابور، الإمام الحافظ الحجة القدوة، بغية الاعلام، أبو عبد اللّه القشيري مولاهم النيسابورين ولد سنة نيِّف وسبعين ومئة في أيام الإمام مالك، ورحل سنة نيف وتسعين. سير أعلام النبلاء: ١٢: ٢١٤ / ٧٤.

(٢) كذا في عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ، ولعلّه أحمد بن حرب بن فيروز، شيخ نيسابور، أبو عبد اللّه النيسابوري، كان من كبار الفقهاء والعباد، توفي سنة ٢٣٤ ه- وقد قارب الستين. راجع: سير أعلام النبلاء ١١: ٣٢ / ١٤.

(٣) هو يحيى بن يحيى بن بكر، شيخ الإسلام، وعالم خراسان، أبو زكريا المنقري النيسابوري الحافظ المتوفي سنة ٢٢٦ ه. سير أعلام النبلاء ١٠: ٥١٢ / ١٦٧.

(٤) هو الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفّاظ، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي، نزيل نيسابور، مولده ١٦١ ه-، توفي سنة ٢٣٨ ه. سير أعلام النبلاء ١١: ٣٥٨ / ٧٩.

(٥) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ١٤٣، ح ١، باب (٣٧).

(٦) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٤٥، ح ٤، باب (٣٧).

٣٦

وحدّث أبو الصلت الهروي أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال في نيسابور بعد أن ذكر الإسناد المتقدم عن آبائهعليهم‌السلام أن علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، قال: « سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الإيمان معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان »، قال: وقال أحمد بن حنبل: لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه(١) .

خامساً: مرو

تحرك الإمام من نيسابور ليتابع رحلته إلى مرو حيث المأمون يستعد لاستقباله والحفاوة به، ولما دخلها أنزله منزلاً كريما محاطا بكل مظاهر التقدير والاحترام. وهناك حيث استقر الإمام الرضاعليه‌السلام صرف معظم وقته لبثّ العلوم، وعقد العديد من المجالس العلمية الكبيرة التي كان يحضرها جلّ علماء المصر، فعاش حياته القصيرة في مرو معلّماً ناشراً للعلوم، حيث سنرى لاحقاً أنه قد انصرف عن دوره السياسي كولي للعهد ومارس دوره العلمي من موقعه الديني الرفيع.

وهناك حظي العديد من أهل العلم ورواة الحديث بلقائه والنقل عنه والاستماع إلى أحاديثه، فعرفه من لم يكن يعرفه، وذاع صيته أكثر فأكثر في أصقاع البلاد، كأبرز رجال العلم وأوسعهم معرفة وأكثرهم جلالة وشرفاً ..

قال أبو الصلت عبد السلام الهروي، وهو من أعلام عصره: ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل

__________________

(١) اُنظر: كشف الغمة ٣: ١٠٠.

٣٧

شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور(١) . فقد قام هؤلاء العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقا في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرِّس فيها، يقول الرواة: أنه سئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مختلفة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الإمام وعبقريته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الامام من طاقات هائلة من العلم والفضل، كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته(٢) .

هذه الجولة العلمية وما رافقها من جهد علمي كبير تثبت - بما لا يدع مجالاً للشك - بأن امامنا قد اتبع أسلوبا جديدا ومبتكرا في بث علوم آل البيتعليهم‌السلام وهو ما أطلقنا عليه تعبير «المدرسة السّيارة»، ويبدو أن الظروف السياسية هي التي حملته على اتباع هذا الأسلوب.

روى الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت وكان من رجال الحسن ابن سهل: أن مسير الإمام الرضاعليه‌السلام كان عن طريق البصرة والأهواز وفارس، قال: فكتب إليه المأمون لا تأخذه على طريق الكوفة وقم، فحمل على طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وافى مرو(٣) . ومنذ أن

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٦٤، الفصل الرابع.

(٢) حياة الإمام علي الرضاعليه‌السلام / القرشي: ١٠٢.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٦١ ح ٢١، باب (٤٠).

٣٨

غادر الإمام الرضاعليه‌السلام بيت اللّه الحرام متوجها إلى خراسان قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والاجلال في كل بلد أو حي يمرّ به، وكان الناس يسألونه عن أحكام دينهم وهو يجيب عنها.

لقد أراد المأمون أن يكون سفر الإمامعليه‌السلام غامضا عبر الطريق الصحراوي القاحل، ولكن امامنا استغل هذه الفرصة المناسبة لنشر علوم مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام ، وادامة عطائها العلمي والمعرفي.

المبحث الثاني: الإمام الرضا في ظل أبيهعليهما‌السلام

لازم الإمام أباهعليهما‌السلام ملازمة الظل منذ نعومة أظفاره إلى أن فرّق الأجل بينهما، وكان الأب العظيم يصب في اذن ولده الأغر أعذب الألفاظ وأرق المعاني، ويغذيه من علوم آبائه وأجدادهعليهم‌السلام ويشيد دائما بفضله ويقدمه على جميع ولده، ومن مصاديق ذلك، ماقاله الإمام الكاظمعليه‌السلام لسليمان بن حفص المروزي الذي سأل الكاظمعليه‌السلام عن الحجّة على الناس بعده، قال: « يا سليمان، إن عليا ابني ووصيي والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي »(١) .

وروى الصدوق عن نُعيم القابوسي، عن أبي الحسن موسىعليه‌السلام أنه قال: « ابني عليّ أكبر ولدي وآثرهم عندي، وأحبَّهم إليَّ »(٢) .

تكلّم الإمام الرضاعليه‌السلام ذات يوم بين يدي أبيهعليه‌السلام فأجاد وأحسن أيّما

__________________

(١) دلائل الإمامة: ٣٩٦.

(٢) الارشاد ٢: ٢٤٩.

٣٩

إجادة وإحسان، فتهلّل وجه أبيهعليه‌السلام فرحا، قائلاً: « يا بني الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء، وسرورا من الأبناء، وعوضا عن الأصدقاء »(١) .

كان يجلسه في حجره يقبله ويمص لسانه، ويقعده على عاتقه، يسبغ عليه عطفه وحنانه، ويرعاه من دون إخوته رعاية خاصة فقد كان يعلم بأنه سوف يخلفه للامامة من بعده، وكان يهمس في أذنه عبارات الود والثناء، ويقول له: « ما أطيب ريحك، وأطهر خلقك، وأبين فضلك! »(٢) .

ولكن حياة الرضاعليه‌السلام بجنب أبيه الهادئة والهانئة، قد عكرت صفوها دسائس بلاط بني العباس، الذين يتربصون بالعلويين الدوائر، فقد (بقي الامام الرضاعليه‌السلام مع أبيه نحوا من ثلاثين عاما أو تزيد، شاهد فيها ضروب المحن والبلايا التي أحاطت بأبيه الإمام موسى بن جعفر الذي كان وجوده، رغم وقوفه موقف المسالم للحكم بعيدا عن مواطن المجابهة معه، يثير قلق الحكام ويقض مضاجعهم، فلقد كان المنصور يتحراه ويراقب جميع تحركاته وتصرفاته حتى اضطره إلى أن يحتجب عن شيعته وخلّص أصحابه، وبعث إليه المهدي العباسي يستدعيه لبغداد، وألقاه في سجنه لمدة من الزمن وبوفاة المهدي والهادي الذي لم تطل أيامه ارتقى الرشيد سدة الخلافة وبدأت بخلافته بوادر المأساة التي حلّت بالبيت العلوي الذي كان يتزعمه الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام وكان له منها القسط الأوفر، فقد اعتقله وضيق عليه في ظلمات سجونه المرعبة مدة أحد عشر

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ١٣٥، ح ٤ باب (٣٥).

(٢) اُنظر: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٨، باب (٤).

٤٠

عاماً كان ينقله فيها من حبس لحبس)(١) حتى لفظ آخر أنفاسه مسموما وهو في الحبس.

هذه الأحداث المؤسفة حركت سحابة قاتمة من الحزن داخل نفس الإمام الرضاعليه‌السلام . ومما يعظم الخطب أنه كان مغلوبا على أمره ليس له القدرة على الثأر أو الانتقام ممن عكروا صفو حياته، لقد (كتب له أن يعيش مأساة أبيه من بدايتها وحتى نهايتها، دون أن يملك القدرة على التخفيف من حدتها، حيث لاسبيل له إلى ذلك، وربما كان ينتظر المصير نفسه من عصابة الحكم)(٢) . كان يستشعر الخطر المحدق به، فقد كانت السلطة الحاكمة تضرب طوقا حديديا حوله، ترصد ردود فعله على اعتقال أبيه، فوجد أن الطريق الأسلم هو الاحتكام إلى السلم، منصرفا إلى نشر العلم والمعرفة.

المبحث الثالث: نسله الشريف

هناك اختلاف في كتب الأنساب والتراجم في عدد أولاده، وتحديد أسمائهم، ففي (عمدة الطالب) و (تهذيب الأنساب) نجد أن العقب من علي الرضا بن موسى الكاظمعليهما‌السلام في رجل واحد هو أبو جعفر محمد بن علي(٣) ، بينما نجد صاحب (المجدي في أنساب الطالبيين) يحصر عقبه في

__________________

(١) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني، القسم الثاني: ٣٤٢ - ٣٤٣.

(٢) الإمام الرضاعليه‌السلام / محمد جواد فضل اللّه، تاريخ ودراسة: ١٠.

(٣) اُنظر: عمدة الطالب / ابن عَنَبَة، وتهذيب الأنساب / العبيدي: ١٤٨.

٤١

ثلاثة، هم: موسى ومحمد وفاطمة - ويضيف: أما محمد هو أبو جعفر الثاني إمام الشيعة الاثني عشرية، لقبه التقيعليه‌السلام مات أبوه وله أربع سنين(١) . وفي كتاب (لباب الأنساب) أن للرضا ولدا اسمه علي بن علي الرضا(٢) .

ويذهب صاحب (الصواعق المحرقة) إلى أن الرضاعليه‌السلام : توفي عن خمسة ذكور وبنت، أجلُّهم محمد الجواد لكنه لم تطل حياته(٣) . ويذهب الصفدي والذهبي إلى هذا الرأي، ويسرد الصفدي وابن الصباغ أسماءهم، وهم: محمد، الحسن، جعفر، ابراهيم، الحسين، عائشة(٤) .

وعن (العُدد القوية): كان له ولدان محمد وموسى لم يترك غيرهما(٥) .

وقال الشيخ المفيد: مضى الرضاعليه‌السلام ولم يترك ولدا نعلمه إلاّ ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام (٦) .

والذي يترجح في النظر ما ذكره المفيد، وبه جزم ابن شهرآشوب(٧) ، والطبرسي(٨) ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري(٩) فالمعلوم لدينا من ابنائه هو الإمام محمد الجواد، واما غيره فلم يثبت، ويؤيد هذا الرأي

__________________

(١) المجدي في أنساب الطالبيين / علي بن محمد العلوي: ١٢٨.

(٢) لباب الأنساب والألقاب والأعقاب / ابن فندق ٢: ٤٤١.

(٣) الصواعق المحرقة / الهيتمي: ٣١١.

(٤) الوافي بالوفيات / الصفدي ٢٢: ٢٤٨، ترجمة رقم (١٨). سير أعلام النبلاء ٩: ٣٩٣، الترجمة ١٢٥، وأيضا: الفصول المهمة: ٢٦٠.

(٥) في رحاب أئمة أهل البيتعليهم‌السلام / السيد محسن الأمين ٤: ٢٦٤.

(٦) الإرشاد ٢: ٢٧١.

(٧) المناقب ٤: ٣٩٧.

(٨) اعلام الورى ٢: ٨٦.

(٩) دلائل الإمامة: ٣٥٩.

٤٢

الرواية الواردة عن حنان بن سدير، قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أيكون إمام ليس له عقب؟ فقال أبو الحسن: « اما أنه لا يولد لي إلاّ واحد، ولكن اللّه منشى ء منه ذرية كثيرة ». قال أبو خداش: سمعت هذا الحديث منذ ثلاثين سنة(١) .

واللّه أعلم بواقع الأمر.

* * *

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٩٥.

٤٣

الفصل الثالث

الإمام الرضاعليه‌السلام  بعد تول-يه الإمامة

تعتقد مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام أن الإمامة أمرٌ الهي وجعلٌ رباني لا رأي لأحد فيها من الأمة. وبأن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إذ الإمامةهي امتداد للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه أيضا يوجب نصب الإمام. وهي أيضاً لطف من اللّه كالنبوة فلابد من أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وظائفه في هداية البشر.

ولو تعمقنا في النظر قليلاً لوجدنا أن فكرة النص تقوم على دليلين:

الأول: عقلي: ويستدل به على استحالة أن يترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة فوضى من بعده، وهو الحريص عليها، وقد بيّن لها صغائر الأمور، فكيف يترك مسألة الإمامة أو القيادة دون تعيين؟!. علما بأن الخليفة الأول والثاني قد عينا أشخاصا قبيل وفاتهم لأمر الخلافة.

الثاني: شرعي: حيث استُدلّ بالكثير من الآيات والروايات على ثبوت الإمامة في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأحد عشر من ولده من بعده.

وعرض جميع الادلة العقلية والنقلية على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام بحث طويل وعريض لامجال هنا لاستقصائه، ومن شاء فليراجع كتاب (الشافي

٤٤

في الإمامة) للسيد المرتضىقدس‌سره ، إذ يعد هذا الكتاب بشهادة أعلام الطائفة فريداً في بابه، بل هو كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تقريظه: إنه صورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح - عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية واجتماعية، وأن علياًعليه‌السلام هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأنه من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت أو يمكن أن تُقال حول الإمامة وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة(١) .

لقد شغل موضوع الإمامة حيزا كبيرا من فكر أئمة أهل البيتعليهم‌السلام لكونها حجر الزاوية في الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص، إضافة إلى كثرة اختلاف الناس حولها، وحاجتهم الماسة إلى القول الفصل فيها، بغية الخروج من مرحلة الحيرة والتساؤل.

وقد حظيت هذه المسألة بأهمية استثنائية عند إمامنا الرضاعليه‌السلام فأجاب عن الاشكالات والشبهات المطروحة إجابةً شافيةً ووافية، نجدها في الرواية التالية: عن القاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، كنا في أيام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضاعليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسمعليه‌السلام ثم قال: « يا عبد العزيز، جهل القوم وخدعوا عن

__________________

(١) مقدمة تحقيق كتاب الشافي ١: ١٩ - ٢٠.

٤٥

أديانهم، ان اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملاً فقال عزّوجلّ:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وأنزل في حجة الوداع وفي آخر عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْءِسْلاَمَ دِيناً ) (٢) وأمر الإمامة في تمام الدين، ولم يمضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياعليه‌السلام علما وإماما، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلاّ بينه، فمن زعم أن اللّه عز وجل لم يكمل دينه، فقد ردّ كتاب اللّه عزّوجلّ، ومن ردّ كتاب اللّه تعالى فهو كافر، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم - إلى أن يقول - فقلّدها علياعليه‌السلام بأمر اللّه عزّوجلّ على رسم ما فرضها اللّه عزّوجلّ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم اللّه العلم والإيمان بقوله عز وجل:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاْءِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٣) فهي في ولد عليعليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة - إلى أن قال - ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء، ان الإمامة خلافة اللّه عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ان الإمامة زمام الدين ونظام

__________________

(١) سورة الأنعام: ٦ / ٣٨.

(٢) سورة المائدة: ٥ / ٣.

(٣) سورة الروم: ٣٠ / ٥٦.

٤٦

المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، ان الإمامة أُسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ».

ثمّ يورد تشبيهات بليغة وبديعة، فيقول: « الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالافق بحيث لاتنالها الأيدي والابصار، الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى والمنجي من الردى ».

ثمّ يضيف قائلاً: « فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ..فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولايدانيه ذو حسب، فالنسب من قريش والذروة من هاشم، والعترة من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

لقد حاول الإمام الرضاعليه‌السلام أن يعيد الوعي الإسلامي الصحيح بشأن الإمامة سيّما بعد تفريط القسم الأعظم من الأمة بها، بحيث أنهعليه‌السلام لم يترك فرصة إلاّ واستغلها في بيان ضرورتها وأدلتها وكشف أبعادها، والطريق اللاحب في انعقادها، ولعلّ أوضح مثل على ذلك، ما جاء عن الحسن بن جهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم، فقال له: يا ابن رسول اللّه بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال: « بالنص والدليل »،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩٥، ح ١، باب (٢٠).

٤٧

قال له: فدلالة الإمام فيما هي؟ قال: « في العلم واستجابة الدعوة »(١) .

ومن الواضح أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد تصدّى للإمامة علناً، وقال بإمامة نفسه وأذعنت له قاعدته، وشهد بذلك خصمه. الأمر الذي يستوجب استجلاء هذه الأمور في ثلاثة مباحث، وهي:

المبحث الأول: النص على الإمام الرضاعليه‌السلام بالإمامة

أولاً: من النصوص الدالة على إمامتهعليه‌السلام :

هناك روايات عديدة من طرق الشيعة الإمامية تؤكد على سلسلة أسماء السلالة الطاهرة للأئمةعليهم‌السلام واحدا بعد الآخر، ويأتي ذكر الإمام الرضاعليه‌السلام في الترتيب الثامن: أخرج الشيخ الصدوق بسند صحيح عن الثقة عبد اللّه بن جندب عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ما ينبغي أن يقال في سجدة الشكر وهذا نصّه: « اللهمّ إني أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت اللّه ربّي والإسلام سلام ديني ومحمداً نبيي وعلياً والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجّة بن الحسن بن علي أئمتي بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ »(٢) .

ويمكن الاستشهاد أيضاً بحديث اللوح المتواتر المروي من طرق

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢١٦، ح ١، باب (٤٦).

(٢) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١: ٢١٧ باب (٤٧).

٤٨

جمّة، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، وكذلك عن الإمام السجاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ، نكتفي منها برواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال: « قال أبيعليه‌السلام لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: إن لي إليك حاجة، فمتى يخف عليك أن أخلو بك، فأسألك عنها؟ قال له جابر: في أي الأوقات شئت، فخلا به أبيعليه‌السلام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أُمي فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أخبرتك به أُمي أنه في ذلك اللوح مكتوب.

قال جابر: أشهد باللّه، أني دخلت على أُمك فاطمة في حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهنئها بولادة الحسينعليه‌السلام فوجدت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنه زُمرّد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه نور الشمس، فقلت لها: بأبي أنتِ وأمي يا بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا اللوح أهداه اللّه عزّوجلّ إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنَيّ وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه أبيعليه‌السلام ليسرّني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة، فقرأته، وانتسخته فقال أبيعليه‌السلام : فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ، قال نعم، فمشى معه أبيعليه‌السلام حتى انتهى إلى منزل جابر، فأخرج أبيعليه‌السلام صحيفة من رق، قال جابر: فأشهد باللّه أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين، عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي إني لم أبعث نبياً فأكملتُ أيامه وانقضت مدّته، ألا جعلت له وصيّاً، وأني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك

٤٩

الحسن والحسين فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدّة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة عندي، وجعلت كلمتي التامة معه والحجّة البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب: أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الميامين، وابنه شبيه جدّه المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمي، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليّ، حق القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ولاسرنّه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، انتجبت بعده موسى وانتجبت بعده فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي، إن المذكب بالثامن مكذب كل أوليائي، وعلي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمنحه بالاضطلاع، يقتله عفريت مستكبر، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي، حقّ القول مني لاقرنَّ عينيه بمحمد ابنه وخليفته من بعده، فهو وارث علمي ومعدن حكمي وموضع سرّي وحجتي على خلقي وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن، ثم أكمل ذلك بابنه رحمةً للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب أُولئك أوليائي حقاً بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا الحديث لكفاك، فصنه إلاّ عن أهله»(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٨، ح ٢ باب (٦).

٥٠

ثانياً: أساليب الإمام الكاظمعليه‌السلام في النصّ على إمامة ولده الرضاعليه‌السلام

مرّت الشيعة بعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام بمنعطف خطير. فقد كانعليه‌السلام يمر بظروف خانقة كما أسلفنا، ولذلك تمسك بالتقية وكان تحركه بمنتهى السرية، ومن ثم غيبته الطويلة في السجون، كل ذلك ساعد على انقطاعه عن قاعدته الجماهيرية، وكان الإمام الكاظمعليه‌السلام يدرك المقطع الزمني الحساس والعصيب الذي ستمر به إمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، فهناك الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم من قبل الحكام، وهناك ذوو الاطماع من علماء السوء الذين سوف يصنعون سياجا هائلاً من التعتيم والتكتم أو التشكيك بإمامة ولده، لذلك لم يأل جهدا ولم يدّخر وسعا في التبليغ لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، مرة من خلال التلميح بفضائله وكمالاته وأهليته للإمامة، ومرة أخرى من خلال التصريح بها، وتارة يتصل مع أصحابه والثقات من شيعته بصورة فردية، وتارة أخرى يجتمع مع أقربائه وأهل المدينة بصورة جماعية، وأحيانا يشير إلى إمامة ولده بصورة شفوية، وأخرى بصورة كتب أو ألواح يشرح فيها أهلية ولده لمنصب الإمامة ويضمّنها وصاياه به. وبدا لنا من خلال البحث أن الإمام الكاظمعليه‌السلام قد سار حسب خطة مرسومة للتعريف بالرضاعليه‌السلام والإشادة بمنزلته، وقد هدد وأوعد كل من يسقط تحت حوافر الاطماع أو ينساق إلى مهاوي الضياع كالواقفية.

ونحن سوف نغوص في أعماق الروايات الدالة على إمامة الرضاعليه‌السلام ، نحاول أن ندرسها ونسبر أغوارها ونصنفها حسب الغاية التي توخيتْ منها.

٥١

وقد توصلنا من خلال البحث إلى أن الإمام الكاظمعليه‌السلام قد اتبع عدة أساليب للتعريف بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، هي:

أولاً: أسلوب التلميح الشفوي:

يجد الباحث في هذا الصدد عدداً من الروايات لم تصرح بإمامة الرضاعليه‌السلام ، ولكنها تلمح إلى ذلك من خلال عبارات دقيقة موحية، ويبدو أنها قيلت بظرف خاص لا يساعد على التصريح، كما سنرى في العناوين التالية:

١ - السيادة وانتحال الكنية:

نجد روايات يشيد فيها الكاظمعليه‌السلام بولده الرضاعليه‌السلام بأنه سيد ولده، أو أنه نحله كنيته، فهكذا عبارات توحي - بدون شك - ضمنا إلى استحقاقه للإمامة، لاسيما أن الكناية عند ذوي الألباب أبلغ من التصريح، ويبدو أن أصحاب الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كهشام بن الحكم، ممن يغنيهم التلميح عن التصريح قد أدركوا جيدا ماوراء هذه العبارات من دلالات ..

عن الحسين بن نعيم الصحاف، قال: كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي ابن يقطين ببغداد فقال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح موسى بن جعفرعليه‌السلام جالسا، فدخل عليه ابنه الرضاعليه‌السلام فقال: « يا علي، هذا سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي »، فضرب هشام براحته جبهته! ثم قال: ويحك! كيف قلت؟ فقال علي بن يقطين: سمعت واللّه منه كما قلت لك، فقال هشام: أخبرك واللّه أن الامر فيه من بعده(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣١، ح ٣، باب (٤).

٥٢

وقد استخدم الإمام الكاظمعليه‌السلام عبارات ايحائية أخرى، منتقاة بدقة:

عن زياد بن مروان القندي، قال: دخلت على أبي ابراهيمعليه‌السلام وعنده علي ابنه، فقال لي: « يا زياد، هذا كتابه كتابي، وكلامه كلامي، ورسوله رسولي، وما قال فالقول قوله »(١) .

قال الشيخ الصدوق بعد رواية الخبر: إن زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم انكره بعد مضي موسىعليه‌السلام وقال بالوقف، وحبس ماكان عنده من مال موسى بن جعفر!

٢ - بيان منزلتهعليه‌السلام :

أولى الإمام الكاظمعليه‌السلام عناية خاصة بولده الرضاعليه‌السلام وأحاطه باهتمام ملحوظ منذ نعومة أظفاره مما جعل الانظار تتجه إليه والألسن تتحدث عنه، ومن الروايات الواردة في هذا الشأن، ما أخرجه الشيخ الصدوق: عن المفضل بن عمر، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وعلي ابنه في حجره وهو يقبّله ويمصّ لسانه، ويضعه على عاتقه ويضمه اليه، ويقول: « بأبي أنت وأمي، ما أطيب ريحك وأطهر خلقك وأبين فضلك! » قلت: جعلت فداك، لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودة ما لم يقع لأحد إلاّ لك. فقال لي: « يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبيعليه‌السلام ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) »(٣) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٩، ح ٢٥، باب (٤)، أعلام الورى ٢: ٤٥.

(٢) سورة آل عمران: ٣ / ٣٤.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٨٦، ح ٢٨، باب (٤).

٥٣

٣ - الوصية بدفع الحقوق لهعليه‌السلام :

وهي قرينة أخرى على إمامته، لأن الحقوق تعطى - كما هو معروف - للإمام الشرعي لكي يصرفها في مواردها. ولانريد أن نسترسل في إيراد الامثلة على ذلك، ونكتفي بعرض الروايتين التاليتين:

الرواية الأولى : عن الحسن بن علي الخزاز، قال: خرجنا إلى مكة ومعنا علي بن أبي حمزة ومعه مال ومتاع، فقلنا: ما هذا؟ قال: هذا للعبد الصالحعليه‌السلام أمرني أن أحمله إلى علي ابنهعليه‌السلام وقد أوصى اليه.

قال الشيخ الصدوق: إن علي بن أبي حمزة أنكر ذلك بعد وفاة موسى ابن جعفرعليه‌السلام وحبس المال عن الرضاعليه‌السلام (١) !

الرواية الثانية : عن داود بن زربي، قال: جئت إلى أبي ابراهيمعليه‌السلام بمال فأخذ بعضه وترك بعضه، فقلت: أصلحك اللّه، لأي شيء تركته عندي؟! فقال: « إنّ صاحب هذا الأمر يطلبه منك ».

فلمّا جاء نعيهعليه‌السلام بعث إليّ أبو الحسنعليه‌السلام فسألني ذلك المال، فدفعته إليه(٢) .

٤ - الإشارة إلى كون الإمام الرضاعليه‌السلام من الأوصياء:

وهي قرينة إيحائية قوية تضاف إلى سائر القرائن والعلامات الأخرى السابقة، يتضح لنا ذلك من متن الرواية التالية: عن نعيم القابوسي، عن

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ٣٧، باب (٤).

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٦٨، الكافي ١: ٢٥٠ / ١٣.

٥٤

أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: « ابني عليّ أكبر ولدي، وآثرهم عندي، وأحبهم إليّ، وهو ينظر في الجفر ولم ينظر فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ »(١) .

فهنا لم يصرح الإمام الكاظمعليه‌السلام علنا بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ولكن ذكر «الجفر» وكون النظر فيه من اختصاص النبي أو الوصي، فهذه الجملة تعطي إيماءة مهمة على إمامته، وخاصة بعد سبقها بذكر علامات أخرى، ككونه أكبر ولده وأحبهم اليه، وآثرهم عنده، وهي من صفات الإمام الذي يخلف أباه في الإمامة كما جاءت بهذا أحاديث صريحة كثيرة لا حصر لها.

ثانيا: أسلوب التصريح الشفوي

وهنا نجد الإمام الكاظمعليه‌السلام يصرح بصورة لالبس فيها بإمامة ولده، ويحدد القول الفصل حول إمامته بوضوح لا يخفى، وهذا الأسلوب تتوضح خطوطه من خلال روايات عديدة، وبعد دراستنا لها، نلاحظ:

أولا: تصريحهعليه‌السلام بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام :

اذ نلاحظ أن الإمام الكاظمعليه‌السلام يغتنم كل مناسبة لكشف النقاب عن إمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، ويبدو أنه كان يركز على ثقات أصحابه وشيعته، من أجل تمهيد الطريق أمام إمامة ولده، حاملاً على كتفه عب ء إيصال هذه الأمانة الإلهية الخطيرة، ومدركا في الوقت نفسه بأن هناك من تسوّل له نفسه الخروج عن وصيته بإمامة ابنه، ففي اسناد ينتهي إلى غنام بن القاسم

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٤٤.

٥٥

قال: قال لي منصور بن يونس بن بزرج: دخلت على أبي الحسن - يعني موسى بن جعفرعليهما‌السلام - يوما، فقال لي: « يا منصور، أما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ » قلت: لا، قال: « قد صيّرت عليا ابني وصيي » وأشار بيده الى الرضاعليه‌السلام « وقد نحلته كنيتي، وهو الخلف من بعدي، فادخل عليه وهنّئه بذلك، واعلم أني أمرتك بهذا » قال: فدخلت عليه فهنّئته بذلك وأعلمته أنه أمرني بذلك ثمّ جحد منصور فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها!(١) .

ثانيا: جواب الإمام الكاظمعليه‌السلام على سؤال (عمن سيخلفه في الإمامة):

كان بعض الشيعة ونتيجة مباشرة لظروف التقية لم تسمع من إمامها الكاظمعليه‌السلام من يخلفه على الإمامة، ولم تطرق سمعها النصوص السابقة من آبائهعليهم‌السلام ، أو سمعت بها وأحبّت التأكد من شخص الإمام كما تحكيه بعض الروايات في هذا المقام، خصوصاً وإن حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » قد تواتر نقله عند الإمامية وصحّت طرقه عند غيرهم، الأمر الذي يؤدي إلى السؤال من الإمام عمن سيلي الأمر بعده ؛ لأجل قطع الظن الحاصل من السماع السابق أو عدمه، باليقين الحاصل من السماع من الإمام مباشرةً، ومن هنا وجهت بعض الشخصيات أسئلة صريحة للإمام الكاظمعليه‌السلام حول من سيخلفه بعد وفاته، فأجابهم الإمام بصورة صريحة لا لبس فيها أن الإمام من بعده علي الرضاعليه‌السلام ابنه، ومن الشواهد عليه، ما جاء عن داود الرقي، قال: قلت لأبي ابراهيم

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٢، ح ٥، باب (٤).

٥٦

- يعني موسى الكاظمعليه‌السلام : فداك أبي، إني قد كبرت وخفت أن يحدث بي حدثٌ ولا ألقاك، فأخبرني من الإمام من بعدك؟ فقال: « ابني عليعليه‌السلام »(١) .

ونظير هذه الرواية ما أسنده الصدوق إلى نصر بن قابوس. قال: قلت لأبي ابراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام : اني سألت أباكعليه‌السلام من الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو، فأخبرني من الذي يكون بعدك؟ قال: « ابني عليعليه‌السلام »(٢) .

٢ - توسيعهعليه‌السلام دائرة التصريح بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام :

لم تقتصر دعوة الإمام الكاظمعليه‌السلام لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام على اللقاءات والاتصالات الفردية التي تتم عادة تحت ستار كثيف من الكتمان والسرية، بل جهد في إعلان إمامته أمام الجموع أو الملأ العام، لاسيما وأنه قد أدرك أن حصرها في نطاق ضيق قد لايحقق النتيجة المرجوة، فمن المحتمل أن تكون عرضة للتشكيك أو الإنكار، وقد تعطي مبررا لتنصل أهل الأهواء وملتمسي الأعذار وأصحاب المطامع بالأموال.

من أجل ذلك أخذ الإمام الكاظمعليه‌السلام يجمع في بداية الأمر من يخصه بالقرابة القريبة من ولد علي وفاطمةعليهم‌السلام : عن حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا، فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه، فقلنا له: جعلنا اللّه فداك،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٣، ح ٨، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٦، باب (٤).

٥٧

ما حبسك؟ قال: دعانا أبو ابراهيمعليه‌السلام اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وأن أمره جائز عليه وله، ثم قال محمد بن زيد: واللّه يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم وليقولن الشيعة به من بعده، قال: حيدر، قلت: بل يبقيه اللّه، وأي شيء هذا؟ قال: يا حيدر، إذا أوصى إليه فقد عقد له الإمامة(١) .

ومن ثم وسع نطاق الوصية إلى دائرة القرابة الأبعد كولد جعفر بن أبي طالب من الرجال والنساء، فعن عبد اللّه بن الحارث وأمه من ولد جعفر بن أبي طالب، قال: بعث إلينا أبو ابراهيمعليه‌السلام فجمعنا ثم قال: « أتدرون لم جمعتكم؟ » قلنا: لا، قال: « اشهدوا أنّ عليا ابني هذا وصيّي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دَين فليأخذه من ابني هذا، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه »(٢) .

ويبدو من الرواية التالية أنه قد وسع من نطاق الدعوة لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، بحيث شملت المدينة بصورة عامة، وبذلك انتقل إلى مدار جديد من أجل إشهاد أكبر عدد ممكن من الأفراد على استحقاق ابنه للإمامة، ليقطع الطريق على كل الأعذار، ويزيل جميع الشكوك التي تساور الأذهان المريضة في هذا الشأن: عن حسين بن بشير، قال: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ابنه علياعليه‌السلام كما أقام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام يوم

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٦، باب (١).

(٢) اعلام الورى ٢: ٤٥، الكافي ١: ٢٤٩ / ٧، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٦، ح ١٤، باب (٤).

٥٨

غدير خم، فقال: « يا أهل المدينة » أو قال: « يا أهل المسجد، هذا وصيي من بعدي »(١) .

ثالثاً: أسلوب الكتابة

حشد الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام كل الحجج والادلة على إمامة ولده الرضاعليه‌السلام من بعده، ولم يقتصر على عرضها في اللقاءات الفردية والجماعية التي تكون عادة بصورة شفوية، من خلال كلامه المباشر مع الناس أفرادا أو جماعات، حيث يختار عبارات منتقاة بعناية حسب مايسمح به الظرف السياسي السائد، اذ يشير تلميحا أو تصريحا إلى إمامة الرضاعليه‌السلام ، ويظهر أنه لم يكتف بالأسلوب الشفوي كوسيلة اعلامية سائدة بل أردفه بأسلوب تحريري، من خلال كتابة الالواح والكتب، حتى تكون الحجة أبلغ. ولايخفى بان الكلام المكتوب يكون أكثر وقعا وتأثيرا في النفوس من الكلام الشفوي الذي يكون - احيانا - عرضة للتأويل والتزوير. يتضح لنا هذا الأسلوب من خلال الروايتين التاليتين:

الرواية الأولى : عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: أوصى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام إلى ابنه عليعليه‌السلام ، وكتب له كتابا أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة(٢) .

الرواية الثانية : عن الحسين بن المختار، قال: لما مرّ بنا أبو الحسنعليه‌السلام بالبصرة خرجت إلينا منه «ألواح» مكتوب فيها: « عهدي إلى أكبر

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٧، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٧، باب (٤).

٥٩

ولدي »(١) . ومعلوم أن الإمام الرضاعليه‌السلام أكبر ولد الإمام الكاظمعليه‌السلام .

أسلوب الوصية:

جارى الإمام الكاظمعليه‌السلام الاسلوب المتَّبَع عند الأئمةعليهم‌السلام في الوصية لأولادهم من بعدهم، ويبدو أن الإمام الكاظمعليه‌السلام في وصيته لولده الرضاعليه‌السلام كان يخشى عليه من حسد إخوته ومنافستهم إيّاه، أو كان يخشى عليه من السلطات الحاكمة التي ترصد بدقة من يخلفه في أمره، لذلك كانت وصيته له اتخذت أسلوبين:

الأسلوب العام:

عندما أوصى لولده الرضاعليه‌السلام في الظاهر، ولأجل التمويه أشرك معه بنيه، حتى لا يتحسّسوا منه، ولا تكشف السلطة من يخلفه.

الأسلوب الخاص:

فقد أوصى الإمام الكاظمعليه‌السلام للرضاعليه‌السلام خاصة، وأفرده بالوصية وحده، يظهر كل من الشكلين في الرواية التالية ذات الدلالة:

عن يزيد بن سليط قال: لقيت أبا ابراهيمعليه‌السلام ونحن نريد العمرة في بعض الطريق ...قال: « أخبرك يا أبا عمارة، اني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان وأشركت معه بنيّ في الظاهر، وأوصيته في الباطن، وأفردته وحده، ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم لحبّي إيّاه ورأفتي عليه، ولكن ذاك إلى اللّه يجعله حيث يشاء ».

عند التمعّن في هذه الرواية نكتشف أن السبب في انتخاب الإمام

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٩، ح ٢٤، باب (٤)، وفي اعلام الورى ٢: ٤٦، الفصل الثاني: أن الالواح خرجت وهو في الحبس.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199