الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ0%

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ مؤلف:
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 199

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 76939 / تحميل: 3530
الحجم الحجم الحجم
الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة و تاريخ

مؤلف:
العربية

الرضاعليه‌السلام للإمامة ليس هو الحب فحسب، والا فقد كان الكاظمعليه‌السلام - على حد قوله الشريف - يحب ولده «القاسم» ويرأف به، وانما الإمامة جعل إلهي، ينص اللّه تعالى على من يرتضيه لدينه، ويكون الاصلح من بين خلقه. ومن هنا نجد أن الإمام الكاظمعليه‌السلام عند قرب أجله أوصى صريحا بولده الرضاعليه‌السلام ، وبيّن أنه يجمع بين خصائص أو سمات إمامين يشاركونه في الاسم، قال الإمام الكاظم: « إني أُؤخَذ هذه السنّة، والأمر إلى ابني عليّ سميّ عليّ وعليّ، فأمّا عليّ الأول فعلي بن أبي طالبعليه‌السلام وأما عليّ الآخر فعلي بن الحسينعليهما‌السلام ، اُعطي فهم الأول وحكمته وبصره وودّه ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على مايكره، وليس له أن يتكلم إلاّ بعد موت هارون بأربع سنين »(١) .

خامساً: أسلوب الترغيب والترهيب

لقد استخدم الإمام الكاظمعليه‌السلام هذا الأسلوب في تثبيت إمامة ولده من بعده، لاسيما وأن النفس البشرية تسير على خطى الخوف والرجاء، فمن جانب حبب لشيعته طاعته، وافصح عن الثواب الجزيل الذي ينتظر من أقرّ بإمامته:

عن المفضل بن عمر، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وعلي ابنه في حجره قال: قلت هو صاحب هذا الأمر من بعدك؟ قال: « نعم، من أطاعه رشد، ومن عصاه كفر »(٢) .

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٥٠.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٨، باب (٤).

٦١

ومن جانب آخر نجد التهديد والوعيد لمن جحد إمامته وظلم حقه: عن محمد بن سنان، قال: دخلت على أبي الحسنعليه‌السلام قبل أن يحمل إلى العراق بسنة وعلي ابنهعليه‌السلام بين يديه قال: « من ظلم ابني هذا حقّه وجحد إمامته من بعدي، كان كمن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». فعلمت أنه قد نعى إليّ نفسه، ودلّ على ابنه(١) .

المبحث الثاني: بيان الإمام الرضاعليه‌السلام لحقيقة الإمامة

كنا قد أشرنا إلى الجهد المتعدد الجوانب الذي بذله الإمام الكاظمعليه‌السلام من أجل التعريف بإمامة الرضاعليه‌السلام ومزّق الأقنعة التي يختفي وراءها أصحاب المطامع من خلال ايراده ما يكفي في توضيح إمامة إمامنا الرضاعليه‌السلام .

وهنا يهمنا الاشارة إلى موقف الإمام الرضاعليه‌السلام من الإمامة بصورة عامة، بعد أن انتهت إليه أسرار الإمامة ومفاتيح كنوزها. واذا أمعنّا النظر في الآثار الواردة عنهعليه‌السلام في خصوص الإمامة نجدهعليه‌السلام ، قد تناول معظم المفردات التي تحتاجها الأمة في معرفة حقيقة الإمامة والإمام، ومن هذا القبيل بيانهعليه‌السلام للعلامات التي يُعرف بها الإمام.

عن علي بن الحسن بن علي بن فضال، عن أبيه عن أبي الحسن علي ابن موسى الرضاعليهما‌السلام ، قال: « للإمام علامات، يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٩، باب (٤).

٦٢

وأعبد الناس »(١) .

من جانب آخر كشف لنا عن الآثار الكونية للإمامة، وأن الأرض لا تخلو من إمام هدى: عن الحسن بن علي الوشا، قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : هل تبقى الأرض بغير إمام؟ فقال: « لا » فقلت: فإنّا نروي: أنها لا تبقى إلاّ أن يسخط اللّه على العباد، فقال: « لا تبقى، إذا لساخت »(٢) .

وتتبدّى لنا أهمية جعل اللّه أولي الأمر، والأمر بطاعتهم، من الرواية التي ذكرها الفضل بن شاذان، وقال أنه سمعها من الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأذن لعلي بن محمد بن قتيبة النيسابوري روايتها عنه عن الرضاعليه‌السلام ، ومن يقف طويلاً عندها يدرك عمق أغوار فكر الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهو فكر له السبق والريادة على علماء الاجتماع السياسي الذين انتقدوا النظرية «الفوضوية» القائلة بعدم حاجة الناس إلى الحكومة، وأكدوا على ضرورة وجود أولي الأمر لمصالح كثيرة ؛ دينية واجتماعية وسياسية، وقد اقتبسنا من هذه الرواية الأسطر ذات الدلالة الآتية: « ..فإن قال قائل: فلِمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة، منها: أن الخلق لما وقفوا على حد محدود، وأُمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم، لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لايترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام ».

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩٢، ح ١، باب (١٩)، كشف الغمة ٣: ٨٢.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٤٦، ح ٣، باب (٢٨).

٦٣

ومنها: « إنا لانجد فرقة من الفرق ولاملة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس، ولما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه، ولا قوام لهم إلاّ به، فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون فيئهم، ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم ».

ومنها: « أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والاحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبّهوا ذلك على المسلمين، لأنا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفسدوا على نحو مابينا، وغيرت الشرائع والسنن والاحكام والإيمان، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين »(١) .

إن هذه الرواية في الوقت الذي سيقت فيه لبيان أهمية أولي الأمر تكشف - من جانب آخر - عن فلسفة الحكومة في الإسلام وضرورة وجود القيادة في المجتمع، كما تحكي - ضمنيا - عن ضرورة سيادة الدين في جميع مرافق الحياة.

وبعد، فلم يقتصر الإمام الرضاعليه‌السلام على تبيان الأمور النظرية والعقلية المتعلقة بموضوع الإمامة، وانما كشف الادلة النقلية عن القيادة الربانية التي اختارتها العناية الإلهية لقيادة البشرية، وسنتطرق لها وفق العناوين الفرعية التالية:

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٠٦ - ١٠٨، ح ١، باب (٣٤).

٦٤

أولاً: إخبار الإمام الرضاعليه‌السلام بإمامته:

على الرغم من توفر النصوص الصحيحة الصريحة بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ، وعلى الرغم من الأساليب العديدة التي استخدمها الإمام الكاظمعليه‌السلام في تأكيد إمامة الإمام الرضاعليه‌السلام من بعده، فقد وجدنا بعض ذوي المطامع والنفوس الضعيفة التي ألقت بظلال كثيفة من الشك حول إمامة الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه، ولكن امامنا بدد تلك الاوهام وقشع غيوم الشك، وقد نوهنا بأن هناك من يحاول حجب الحقيقة بستار من ضباب الطمع أو الحسد. حتى لكأنه يريد إخفاء الشمس الساطعة بالغربال، ومن هنا تمسكوا بحجج واهية وأقوال مكذوبة ما أنزل اللّه بها من سلطان نظير قولهم إن أباهعليه‌السلام لم يوصِ بإمامته(١) أو أنه ليس له ولد، والإمامة لا تكون لمن ليس له ولد وكان زعيم هذه المقولة زعيم الغلاة، الحسين بن قياما الواسطي الذي زعم أنه روى عن الإمام الصادقعليه‌السلام بأن الإمام لا يكون عقيماً، وأن الرضاعليه‌السلام ليس له ولد!!(٢)

وكانت هذه الاعتراضات ونظائرها كالفقاعات التي ما أن تنمو في محيطها إلاّ وتنفجر بأسرع ما يكون وتتلاشى، سيّما وأن الإمام الرضاعليه‌السلام قد تولّى بنفسه الشريفة الاجابة الشافية والصريحة على تساؤلات خصومه أين ما كانوا، كما أن خاصة الإمام الرضاعليه‌السلام وثقاته ممّن عرفوا بالورع والجلالة والتقوى قد رووا النص عليه بالإمامة من أبيهعليه‌السلام وفي هذا

__________________

(١) دلائل الإمامة ٣٦٣: ٣١١.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢٠٩ / ١٣، وإعلام الورى ٢: ٣٢٣.

٦٥

الصدد يقول الشيخ المفيد: فمن روى النصَّ على الرضا عليّعليه‌السلام بالإمامة من أبيه والاشارة إليه منه بذلك، من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته: داود بن كثير الرَقّي، ومحمد بن إسحاق بن عمّار، وعلي بن يقطين، ونُعيمُ القابوسيّ، والحسينُ بن المختار، وزيادُ بن مروان، والمخزومي، وداود بن سليمان، ونصر بن قابوس، وداود بن زَربيّ، ويزيد بن سليط، ومحمّد بن سِنان(١) .

ربما يؤكد ما ذكرناه قولهعليه‌السلام وقد سأله العباس النجاشي الأسدي: أنت صاحب هذا الأمر؟ فقالعليه‌السلام : « إي واللّه، على الجن والإنس »(٢) .

لما كانت إمامة أهل البيتعليهم‌السلام هي الأعمدة الراسخة الثابتة التي يقوم عليها بناء الإسلام الشامخ، تصدى إمامنا الرضاعليه‌السلام لحشد كل الأدلة وإيراد كل الحجج التي تثبت أحقية آبائهعليهم‌السلام بالإمامة وأهليتهم لها، لا سيّما وأن مسألة الإمامة كانت مطروحة على نار ساخنة بين العلماء والعوام على حد سواء، وكنا قد أشرنا إلى رواية عبد العزيز بن مسلم عن الرضا، واقتبسنا منها مورد الحاجة في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته، ونعود إلى تلك الرواية في مورد بحثنا هذا، لأن الإمام الرضاعليه‌السلام أشار فيها إلى إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، قال عبد العزيز: كنا في أيام علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضاعليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسمعليه‌السلام ، ثم

__________________

(١) الإرشاد: ٢٤٨.

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٠ باب (٤) ص ٢١.

٦٦

قال: « يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، إن اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن - إلى أن يقول: - ولم يمضِصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياًعليه‌السلام علماً وإماماً فكانت له - أي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خاصة فقلدهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً بأمر اللّه عزّوجلّ على رسم ما فرضها اللّه عزّوجلّ، فصارت في ذرّيته الأصفياء فهي في ولد عليعليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الإمامة خلافة اللّه عزّوجلّ وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسينعليهما‌السلام »(١) .

ومن يتمعّن في استشهادات الرضاعليه‌السلام حول إمامة آبائه يلمس العمق العلمي الذي يجده جلياً في الاستشهادات التي يسوقها من القرآن والسنة وثمة شواهد عديدة على ذلك، منها: عن عبد اللّه بن أبي الهذيل: سألته عن الإمامة فيمن تجب، وما علامة من تجب له الإمامة؟ فقال: « إن الدليل على ذلك والحجّة على المؤمنين والقائم بأمور المسلمين والناطق بالقرآن والعالم بالأحكام أخو نبيّ اللّه وخليفته على أمته ووصيه عليهم ووليه الذي كان بمنزلة هارون من موسى، المفروض الطاعة بقول اللّه عزوجل:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) الموصوف بقوله عزّوجلّ:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) والمدعو إليه بالولاية المثبت له

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩٥ / ٢٠.

(٢) سورة النساء: ٤ / ٥٩.

(٣) سورة المائدة: ٥ / ٥٥.

٦٧

الإمامة يوم غدير خم بقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اللّه عزّوجلّ: ألست أولى بكم منكم بأنفسكم قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأعن من أعانه، علي بن أبي طالبعليه‌السلام أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين وأفضل الوصيين وخير الخلق أجمعين بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده الحسن بن علي، ثم الحسين سبطا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنا خيرة النسوان، ثمّ علي بن الحسين ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم محمد بن الحسن، وهم عترة الرسول عليه وعليهم السلام المعروفون بالوصية والإمامة، لا تخلو الأرض من حجة منهم في كل عصر وزمان وفي كل وقت وأوان وهم العروة الوثقى وأئمة الهدى »(١) .

وكانت تعقد في بلاط المأمون مناظرات ساخنة يحشّد لها المأمون كبار العلماء من مختلف الملل والنحل، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام بما يمتلك من أفق معرفي رحب، يردّ بصدر رحب على أسئلة العلماء عامة وأسئلة المأمون بصورة خاصة.

عن الريان بن الصلت قال: حضر الرضاعليه‌السلام مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان، فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية:( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٢) فقالت العلماء: أراد اللّه عزّوجلّ بذلك الأُمة كلها، فقال

__________________

(١) الخصال ٤٧٨: ٤٦، بحار الأنوار ٣٦: ٣٩٦ باب ٤٦.

(٢) سورة فاطر: ٣٥ / ٣٢.

٦٨

المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضاعليه‌السلام : « لا أقول كما قالوا، ولكني أقول: أراد اللّه عزّوجلّ بذلك العترة الطاهرة » فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضاعليه‌السلام : « إنه لو أراد الأُمة لكانت أجمعها في الجنة، لقول اللّه عزّوجلّ:( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (١) ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عزّوجلّ:( جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاْءَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ) (٢) الآية، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم » فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟

فقال الرضاعليه‌السلام : « الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال عزّوجلّ:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) وهم الذين قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ».

قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة، أهم الآل أم غير الآل؟ فقال الرضاعليه‌السلام : « هم الآل » فقالت العلماء: فهذا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤثر عنه أنه قال: « أمتي آلي » وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه: آل محمد أُمته؟ فقال أبو الحسنعليه‌السلام : « أخبروني، فهل تحرّم الصدقة على الآل؟ » فقالوا: نعم، قال: « فتحرّم على الأُمة؟ »

__________________

(١) سورة فاطر: ٣٥ / ٣٢.

(٢) سورة الكهف: ١٨ / ٣١.

(٣) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٣٣.

٦٩

قالوا: لا، قال: « هذا فرق بين الآل والأُمة، ويحكم أين يُذهب بكم، أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟! » قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال: « من قول اللّه عزّوجلّ:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (١) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين، أما علمتم أن نوحاً حين سأله ربّه عزّوجلّ:( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (٢) وذلك أن اللّه عزّوجلّ وعده أن ينجيه وأهله، فقال ربّه عزوجل:( يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٣) .

فقال المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: « إن اللّه عزّوجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه » فقال له المأمون: وأين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال له الرضاعليه‌السلام : « في قول اللّه عزّوجلّ:( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٤) وقال عزّوجلّ في موضع آخر:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ

__________________

(١) سورة الحديد: ٥٧ / ٢٦.

(٢) سورة هود: ١١ / ٤٥.

(٣) سورة هود: ١١ / ٤٦.

(٤) سورة آل عمران: ٣ / ٣٣ و ٣٤.

٧٠

وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (١) ثم ردّ المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين، فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحُسدوا عليهما، فقوله عزوجل:( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (٣) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين، فالملك هاهنا هو الطاعة لهم »(٤) .

والرواية طويلة قد استعرض الإمامعليه‌السلام فيها الآيات الواردة في حق أهل البيتعليهم‌السلام كآية التطهير والمودة والمباهلة، كما ذكّرهم باخراج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس من مسجده ما خلا العترة، وتطرق لحديث مدينة العلم، ومجيء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى باب علي وفاطمةعليهما‌السلام تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات، فيقول: « الصلاة رحمكم اللّه » وما أكرم اللّه أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرم اللّه تعالى بها أهل البيتعليهم‌السلام وخصصهم من دون سائر الأُمة.

وكان لهذه المناظرة وقع في نفوسهم بما تميّزت به من براهين قرآنية وأحاديث نبوية لم يرق لها الشك وبذلك أدار دفة عقولهم نحو وجهة جديدة، فقال المأمون والعلماء: جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيراً، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ

__________________

(١) سورة النساء: ٤ / ٥٤.

(٢) سورة النساء: ٤ / ٥٩.

(٣) سورة النساء: ٤ / ٥٤.

(٤) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٠٧، ح١، باب (٢٣).

٧١

عندكم(١) .

ثانيا: إخبار الإمام الرضاعليه‌السلام بإمامة ابنه الجوادعليه‌السلام :

شغلت إمامة محمد بن عليعليه‌السلام حيزا كبيرا من عناية الإمام الرضاعليه‌السلام ، وذلك بسبب تأخر ولادته ومن ثم اضطلاعه بالإمامة مع صغر سنه، الأمر الذي لم تألفه الشيعة من قبل ونتيجة لذلك تصدّى الإمام الرضاعليه‌السلام بنفسه لتوضيح ما قد خفي على بعضهم، وذكّرهم بما حصل في تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام وما جرى في الأنبياء لا يمتنع جريانه في أوصيائهمعليهم‌السلام . وعند استطلاع الروايات التي تتناول إمامة محمد التقيعليه‌السلام نجد أن والده الرضاعليه‌السلام كان ينوه بمكانته ومنزلته منذ صغره، روي عن يحيى الصنعاني قال: كنت عند أبي الحسنعليه‌السلام فجيء بابنه أبي جعفرعليه‌السلام وهو صغير، فقال: « هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه »(٢) .

وأما عن مسألة صغر السن فقد أجاب عليها إمامنا الرضاعليه‌السلام إجابة استقاها من أُصول قرآنية صافية، عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضاعليه‌السلام قد كنا نسألك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب اللّه لي غلاما، وقد وهبك اللّه وأقرّ عيوننا، فلا أرانا اللّه يومك، فإن كان كون فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك، وهذا ابن ثلاث سنين؟! قال: « وما يضرّه من ذلك، وقد قام

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) بحار الأنوار ٥٠: ٢٥ / ١٣.

٧٢

عيسى بالحجّة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين؟! »(١) .

وفي رواية أخرى عن معمر بن خلاد، قال: سمعت الرضاعليه‌السلام يقول: « هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني »، وقال: « إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة »(٢) .

وهكذا نجد أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد غدا شعلة من حركة لاتخمد من أجل التمهيد لإمامة ولده محمّدعليه‌السلام وكان يرد شبهة صغر سن ولده بمنطق قرآني لايمكن دحضه أو تأويله، ومما يعزز ما سبق نورد هذه الرواية ذات الدلالة: عن الخيزراني عن أبيه، قال: كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضاعليه‌السلام بخراسان، فقال قائل: يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال: « إلى أبي جعفر ابني »، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر، فقال أبو الحسنعليه‌السلام : « إن اللّه بعث عيسى بن مريم رسولاً نبيا صاحب رسالة، مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفرعليه‌السلام »(٣) .

ثالثا: هوية الإمام المهدي (عج) في أخبار الرضاعليه‌السلام

شغلت قضية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) حيزاً كبيراً من تفكير إمامنا الرضاعليه‌السلام واكتسبت أهمية فائقة في توجهاته، لا سيما وإن المهدي المنتظر هو الرابع من ولده، وفيه معالم شبه منه، وكذلك للحركة التغيرية الكبرى التي سوف يضطلع بها من بعده، إذ من المنتظر أن تسود العدالة

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ١٤٤.

(٢) كشف الغمة ٣: ١٤٤.

(٣) كشف الغمة ٣: ١٤٥.

٧٣

العامة جميع ما في الكون، فعن الحسين بن خالد، قيل للإمام الرضاعليه‌السلام : يابن رسول اللّه ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال: « الرَّابع من ولدي ابن سيّدة الإماء، يطهر اللّه به الأرض من كلِّ جور، ويقدِّسها من كلِّ ظلم، وهو الّذي يشكَّ النّاس في ولادته، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه، فإذا خرج أشرقت الأرض بنوره، ووضع ميزان العدل بين النّاس فلا يظلم أحدٌ أحداً »(١) .

وكانت القضية المهدوية تتغلغل في أعماق قلبه تغلغلاً عميقاً، وكان لسانه يلهج بالثناء والمدح والتقدير لصاحب الزمان (عجل اللّه فرجه) ويركز على أوجه التشابه بينهما، فعن الحسن بن محبوب أن الإمام الرضاعليه‌السلام قال: « بأبي وأمّي سميَّ جدِّيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشبيهي وشبيه موسى بن عمرانعليه‌السلام عليه جيوب النور، يتوقّد من شعاع ضياء القدس يكون رحمةً على العالمين، وعذابا على الكافرين »(٢) .

وكانت الشيعة بعد وفاة والده الكاظمعليه‌السلام قد دخلت في مرحلة الحيرة والتساؤل، تتساءل عن صاحب هذا الأمر من بعده، بعد أن اختلطت الرؤية عند البعض فتصورا أن الإمام الرضاعليه‌السلام هو الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) نفسه، لذلك لم يترك إمامناعليه‌السلام مناسبة إلاّ واغتنمها من أجل تبيان هوية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) الحقة، وإبقاء هذه المسألة الحيوية حيةً وساخنة، فعن أيّوب بن نوح، قال: قلت للرِّضاعليه‌السلام : إنّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وأن يردَّه اللّه عزَّوجلَّ إليك من غير

__________________

(١) إكمال الدين واتمام النعمة / الشيخ الصدوق ٢: ٣٧٢ / ح ٥ باب (٣٥).

(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الشيخ الصدوق ٢: ٣٧٠ / ح ٣ باب (٣٥).

٧٤

سيف، فقد بويع لك وضربت الدَّراهم بإسمك، فقال: « ما منَّا أحدٌ اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اغتيل أو مات على فراشه حتى يبعث اللّه عزَّوجلَّ لهذا الأمر رجلاً خفيَّ المولد والمنشأ غير خفيٍّ في نسبه »(١) .

مما تقدم يظهر لنا أنّ الإمام الرضاعليه‌السلام يكرس الفكرة المهدوية ضمن إطارها التاريخي وليست مجرّدة عنه، فقد كشف النقاب عن الظروف التاريخية الضاغطة المحيطة به، والتي حالت أو تحول دون قيامه هو والأئمة من قبله ومن بعده بحركة تغييرية كبرى، وأفصح بأن قيام كل إمام قبل المهدي (عجل اللّه فرجه) كان يعرضه للاغتيال أو الموت المحتم أو الموت البطيء على فراش الموت.

فلا يُجدي - والحال هذه - العمل المكشوف، لكن الظروف الخفية التي سيتحرك فيها الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) وبتخطيط رباني سوف تؤتي ثمارها المرجوّة إن شاء اللّه في تحقيق العدالة العالمية.

ونتيجة لكل ذلك كان الإمام الرضاعليه‌السلام يُسدي نصائحه لشيعته بالتزام التقية ويثني أحسن الثناء على من تمسك بها في مرحلة الغيبة.

ولكن الشارع الشيعي المعبأ بقوة الأمل، كان يتساءل على الدوام عن الفرج، فكان الإمامعليه‌السلام يتجاوب مع أماني المسلمين العريضة بظهور المهدي (عجل اللّه فرجه) بعبارات تبعث الأمل والرَّجاء، ولكنه في نفس الوقت يوصي بالتزام الصبر وانتظار الفرج، وعدم ترك التقيّة. ويُلفت نظرهم بأن الظهور تبدو معالمه من اختصاص الغيب.

__________________

(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق ٢: ٣٧٠ / ح ١ باب (٣٥).

٧٥

ومما يكشف عن تفاعل الإمامعليه‌السلام العميق مع قضية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) أن «دعبل الخزاعي» لما أنشده قصيدته العصماء حول أهل البيتعليهم‌السلام التي أوَّلها:

مدارس آياتٍ خلت من تلاوة

ومنزلُ وحي مقفر العرصات

 فلمَّا انتهى «دعبل» إلى قوله:

خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم اللّه والبركات

يميّز فينا كل حقٍّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

 بكى الرِّضاعليه‌السلام بكاءاً شديداً، ثم رفع رأسه إلى دعبل وقال كلاماً مفعماً بشحنة عاطفية كبيرة، وكاشفاً في الوقت نفسه عن الدور المستقبلي الكبير الذي يضطلع به الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه)، قالعليه‌السلام : « يا خزاعيُّ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟ » فقلت: - والكلام لدعبل - لا يا مولاي، إلاّ أنّي سمعت أن إماماً منكم يُطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.

فقال: « يا دعبل، الإمام بعدي محمّدٌ ابني، وبعد محمّد ابنه عليٌّ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبقَ من الدُّنيا إلاّ يومٌ واحدٌ لطوَّل اللّه عزَّوجلَّ ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً »(١) .

وهكذا نجد أن القضية المهدوية قد اكتسبت أهمية فائقة في ذكر وسلوك الإمام الرضاعليه‌السلام فقد سبر غورها بعمق وحدد معالمها وقدم الرؤية

__________________

(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق ٢: ٣٧١ باب (٣٥).

٧٦

الواضحة حولها، مستبعداً الحقائق المبتورة والمشوهة عنها، والأهم من كل ذلك إبقاؤها حية وساخنة في نفوس الناس وفتح بصائرهم على الأسرار الكامنة وراءها.

المبحث الثالث: قاعدة الإمامة في عصر الإمام الرضاعليه‌السلام

توفرت للامام الرضاعليه‌السلام قاعدة جماهيرية واسعة لم تتوفر لإمام من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام قبله، فقد « رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه، ولم يكن ذلك لأحد من آبائهعليهم‌السلام ، فلذلك سمي من بينهم الرضاعليه‌السلام »(١) .

وسوف نقف على بعض معالم هذه القاعدة من خلال ثلاثة أصناف:

أولاً: العلماء

تتبدى لنا عظمة الإمام الرضاعليه‌السلام واستحقاقه للإمامة من كلمات التقدير والثناء التي أطراه بها كبار علماء الشيعة من محدثين ومفسرين وكتاب ومتكلمين، وبعضهم تلاميذه المشهورون كأبي الصلت الهروي وإبراهيم بن عباس الصولي وأحمد بن محمّد ابن أبي نصر البزنطي والحسن ابن محبوب، بعد أن وجدوه بحرا لايدرك غوره، وجبلاً شامخا لاتهزه عواصف الأحداث وأراجيف المبطلين، ويقف العالم الجليل أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي في طليعة محدثي الشيعة الذين رافقوا الإمام الرضاعليه‌السلام وغرفوا من نمير علمه، قال: ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في

__________________

(١) من حديث للامام الجوادعليه‌السلام رواه البزنطي عنه. انظر: عيون أخبار الرضاعليه‌السلام : ٢٢، ح ١، باب (١).

٧٧

مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحد منهم إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور(١) . ولأبي الصلت شهادات أُخر يصوغها بعبارة جامعة، يرى فيها الإمامعليه‌السلام اسم على مسمى، فيقول: كان واللّه رضىً كما سمي(٢) .

وهناك شهادة أخرى من كاتب ٍ كبير وشاعرٍ ملهم هو إبراهيم ابن العباس الصولي الذي عاصر الإمامعليه‌السلام واتصل به اتصالاً وثيقا، وقد لخّص انطباعه عن الإمامعليه‌السلام بقوله: ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، وشاهدت منه ما لم أشاهد من أحد(٣) ، وقال: ما رأيت الرضاعليه‌السلام سئل عن شيء قطُّ إلاّ علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب عنه(٤) .

ومن علماء الشيعة البارزين أحمد بن محمد ابن أبي نصر البزنطي المتوفى سنة (٢٢١ ه- ) وكان كوفيا ثقةً، لقي الإمام الرضاعليه‌السلام ، وكان عظيم المنزلة عنده، وروى عنه كتابا، وله من الكتب (كتاب الجامع) وله (كتاب النوادر)، كان واقفيا ثم رجع لما ظهر له من المعجزات على يد الإمام الرضاعليه‌السلام الدالة على صحة إمامته، فالتزم الحجة وقال بإمامته وإمامة من بعده من ولده(٥) . أما الحسن بن محبوب السراد، ويقال له الزراد، المتوفى

__________________

(١) إعلام الورى ٢: ٦٤.

(٢) كشف الغمة ٣: ٨٣.

(٣) إعلام الورى ٢: ٦٣.

(٤) إعلام الورى ٢: ٦٣.

(٥) اُنظر: الخرائج والجرائح ٥: ٦٦٢.

٧٨

سنة (٢٢٤ ه- ) فكان - كذلك - كوفيا ثقةً، روى عن الإمام الرضاعليه‌السلام ، وروى عن ستين رجلاً من أصحاب الإمام أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، وكان جليل القدر، وألف مجموعة من الكتب، وعده الشيخ الكشي من الفقهاء الذين اجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنهم عند تسمية الفقهاء من أصحاب الإمامين الكاظم والرضاعليهما‌السلام (١) ، كان يقر بإمامة الرضاعليه‌السلام ويراسله باستمرار، وإمامنا يصدقه ويُثني عليه.(٢)

ونعرض شهادة أخرى من أحد أعلام الشيعة وهو الحسين بن بشار الواسطي، مولى زياد، ثقة، روى عن الإمامين الكاظم والرضاعليهما‌السلام . في البداية لم يقر بموت الإمام الكاظمعليه‌السلام وعليه لم يعترف بإمامة الرضاعليه‌السلام ولكنه لما التقى وجد فيه ضالّته المنشودة، وأيقن بإمامته، وصار من صفوة أتباعه والناشرين لعلومه(٣) .

ويدلي لنا قطب آخر من أقطاب التشيع هو عبد اللّه بن المغيرة مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب(٤) ، كان واقفيا وحج على تلك الحالة فدعا اللّه تعالى أن يهديه إلى الإمام الحق، فالتقى بالإمام الرضاعليه‌السلام فأخبره بما في نفسه، قال والإعجاب والإكبار يملأ نفسه ويرتسم على قسمات وجهه: أشهد أنّك حجّة اللّه على خلقه(٥) .

تجدر الإشارة إلى أن بعض علماء الشيعة شهد بإمامة الرضاعليه‌السلام بناءً

__________________

(١) اُنظر: رجال الكشي: ٥٥٦.

(٢) رجال الكشي: ٤٨٩، ترجمة (٤٧٩).

(٣) رجال الكشي ٤٤٩: ٨٤٧، بحار الأنوار ٤٨: ٢٦٢ باب (١٠).

(٤) اُنظر: رجال الشيخ الطوسي: ٣٧٩.

(٥) الخرائج والجرائح ١: ٣٦٠، ح ١٥ ن باب (٩).

٧٩

على شهادة أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام بحقه، وتصريحه للمقربين من أصحابه بإمامته من بعده.

وعلى العموم كان إمامنا حديث المجالس، وذكره لا يفتر على ألسن الناس، وقد بهر العقول بعلومه وحير الأفئدة بمعاجزه الباهرة، بحيث نجد معبد بن جنيد الشامي يدخل على الإمام الرضاعليه‌السلام ويقول له بالحرف الواحد: قد كثر الخوض فيك وفي عجائبك!!(٤) .

أينما حلّ ورحل يستقبل بالترحاب ويجيب على كل الأسئلة التي توجه إليه، ولو كانت من أجل اختباره، ومن مصاديق ذلك أنه لما وصل البصرة واختبره جماعة من علمائها، منهم عمرو بن هذّاب، وقد أخبر الإمامعليه‌السلام بن هذّاب بأنه سيصاب بعلة، وقد حصل ما أخبر به، قال محمد بن الفضل: فشهد له الجماعة بالإمامة(١) . وقالعليه‌السلام : « يا محمد انظر من الكوفة من المتكلمين والعلماء فأحضرهم إني أريد أن أجعل لكم حظّا من نفسي كما جعلت لأهل البصرة »(٢) . لقد كان صيته قد طبق الآفاق وأقرّ كل من التقى به من علماء الشيعة باستحقاقه الإمامة وأهليّته لها.

كان مظهرهعليه‌السلام يخبر عن سريرته وطويته، عندما يتكلم ينساب صوته العذب كمثل الماء المنساب، وحينما يصمت يستغرق في صمت بليغ كصمت الطبيعة، هذه الخصال ملأت نفوس العلماء والناس بالإجلال والهيبة له، وكانت من القرائن القوية على أهليته للإمامة، وساعدت على التفاف العلماء حوله وتعطشهم لحديثه.

__________________

(١) دلائل الإمامة: ٣٦٣.

(٢) الخرائج والجرائح / الراوندي ١: ٣٤٢ - ٣٤٨.

(٣) الخرائج والجرائح / الراوندي ١: ٣٤٩.

٨٠