الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126181
تحميل: 4009


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126181 / تحميل: 4009
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

( سورة الطور مكّيّة، و هي تسع و أربعون آية)

( سورة الطور الآيات 1 – 10)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 )

( بيان)

غرض السورة إنذار أهل التكذيب و العناد من الكفّار بالعذاب الّذي اُعدّ لهم يوم القيامة فتبدأ بالإنباء عن وقوع العذاب الّذي اُنذروا به و تحقّقه يوم القيامة بأقسام مؤكّدة و أيمان مغلّظة، و أنّه غير تاركهم يومئذ حتّى يقع بهم و لا مناص.

ثمّ تذكر نبذة من صفة هذا العذاب و الويل الّذي يعمّهم و لا يفارقهم ثمّ تقابل ذلك بشمّة من نعيم أهل النعيم يومئذ و هم المتّقون الّذين كانوا في الدنيا مشفقين في أهلهم يدعون الله مؤمنين به موحّدين له.

ثمّ تأخذ في توبيخ المكذّبين على ما كانوا يرمون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما اُنزل عليه من القرآن و ما أتي به من الدين الحقّ.

و تختم الكلام بتكرار التهديد و الوعيد و أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسبيح ربّه. و السورة

٢

مكّيّة كما يشهد بذلك سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الطُّورِ ) قيل: الطور مطلق الجبل و قد غلب استعماله في الجبل الّذي كلّم الله عليه موسىعليه‌السلام ، و الأنسب أن يكون المراد به في الآية جبل موسىعليه‌السلام أقسم الله تعالى به لما قدّسه و بارك فيه كما أقسم به في قوله:( وَ طُورِ سِينِينَ ) التين: 2، و قال:( وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ) مريم: 52، و قال في خطابه لموسىعليه‌السلام :( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) طه: 12، و قال:( نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ ) القصص: 30.

و قيل: المراد مطلق الجبل أقسم الله تعالى به لما أودع فيه من أنواع نعمه قال تعالى:( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها ) حم السجدة: 10.

قوله تعالى: ( وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ) قيل: الرقّ مطلق ما يكتب فيه و قيل: هو الورق، و قيل: الورق المأخوذ من الجلد، و النشر هو البسط، و التفريق.

و المراد بهذا الكتاب قيل: هو اللوح المحفوظ الّذي كتب الله فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن تقرؤه ملائكة السماء، و قيل: المراد به صحائف الأعمال تقرؤه حفظة الأعمال من الملائكة، و قيل: هو القرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ، و قيل: هو التوراة و كانت تكتب في الرق و تنشر للقراءة.

و الأنسب بالنظر إلى الآية السابقة هو القول الأخير.

قوله تعالى: ( وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) قيل: المراد به الكعبة المشرّفة فإنّها أوّل بيت وضع للناس و لم يزل معموراً منذ وضع إلى يومنا هذا قال تعالى:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران: 96.

و في الروايات المأثورة أنّ البيت المعمور بيت في السماء بحذاء الكعبة تزوره الملائكة.

و تنكير( كِتابٍ ) للإيماء إلى استغنائه عن التعريف فهو تنكير يفيد التعريف و يستلزمه.

قوله تعالى: ( وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) هو السماء.

٣

قوله تعالى: ( وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال الراغب: السجر تهييج النار، و في المجمع: المسجور المملوء يقال: سجرت التنّور أي ملأتها ناراً، و قد فسّرت الآية بكلّ من المعنيين و يؤيّد المعنى الأوّل قوله:( وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ ) التكوير: 6، أي سعّرت و قد ورد في الحديث أنّ البحار تسعّر ناراً يوم القيامة، و قيل: المراد أنّها تغيض مياهها بتسجير النار فيها.

قوله تعالى: ( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) جواب القسم السابق و المراد بالعذاب المخبر بوقوعه عذاب يوم القيامة الّذي أوعد الله به الكفّار المكذّبين كما تشير إليه الآية التالية، و في قوله:( ما لَهُ مِنْ دافِعٍ ) دلالة على أنّه من القضاء المحتوم الّذي لا محيص عن وقوعه قال تعالى:( وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) الحجّ: 7.

و في قوله:( عَذابَ رَبِّكَ ) بنسبة العذاب إلى الربّ المضاف إلى ضمير الخطاب دون أن يقال: عذاب الله تأييد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مكذّبي دعوته و تطييب لنفسه أنّ ربّه لا يخزيه يومئذ كما قال:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) التحريم: 8.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) ظرف لقوله:( إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ) .

و المور - على ما في المجمع - تردّد الشي‏ء بالذهاب و المجي‏ء كما يتردّد الدخان ثمّ يضمحلّ، و يقرب منه قول الراغب: إنّه الجريان السريع.

و على أيّ حال فيه إشارة إلى انطواء العالم السماويّ كما يذكره تعالى في مواضع من كلامه كقوله:( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ) الانفطار: 2، و قوله:( يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) الأنبياء: 104، و قوله:( وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) الزمر: 67.

كما أنّ قوله:( وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً ) إشارة إلى زلزلة الساعة في الأرض الّتي يذكرها تعالى في مواضع من كلامه كقوله:( إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: 6، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) النبأ: 20.

٤

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ ) قال: الطور جبل بطور سيناء.

و في المجمع،( وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ) و هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة يعمره الملائكة بما يكون منها فيه من العبادة. عن ابن عبّاس و مجاهد، و روي أيضاً عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: و يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبداً.

أقول: كون البيت المعمور بيتاً في السماء يطوف عليه الملائكة واقع في عدّة أحاديث من طرق الفريقين غير أنّها مختلفة في محلّه ففي أكثرها أنّه في السماء الرابعة و في بعضها أنّه في السماء الاُولى، و في بعضها السابعة.

و فيه( وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) و هو السماء عن عليّعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ( وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) قال: السماء،( وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) قال: تسجر يوم القيامة.

و في المجمع:( وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) أي المملوء. عن قتادة، و قيل: هو الموقد المحميّ بمنزلة التنّور. عن مجاهد و الضحّاك و الأخفش و ابن زيد. ثمّ قيل: إنّه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيراناً ثمّ تفجر بعضها في بعض ثمّ تفجر إلى النار. ورد به الحديث.

٥

( سورة الطور الآيات 11 - 28)

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 ) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 ) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ  إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 16 ) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ( 17 ) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( 18 ) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 19 ) مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ  وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ( 20 ) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ  كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ( 21 ) وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ( 22 ) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ( 23 ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ( 24 ) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 25 ) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( 26 ) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ( 27 ) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ  إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ( 28 )

٦

( بيان)

تذكر الآيات من يقع عليهم هذا العذاب الّذي لا ريب في تحقّقه و وقوعه، و تصف حالهم إذ ذاك، و هذا هو الغرض الأصيل في السورة كما تقدّمت الإشارة إليه و أمّا ما وقع في الآيات من وصف حال المتّقين يومئذ فهو من باب التطفّل لتأكيد الإنذار المقصود.

قوله تعالى: ( فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) تفريع على ما دلّت عليه الآيات السابقة من تحقّق وقوع العذاب يوم القيامة أي إذا كان الأمر كما ذكر و لم يكن محيص عن وقوع العذاب فويل لمن يقع عليه و هم المكذّبون لا محالة فالجملة تدلّ على كون المعذّبين هم المكذّبين بالاستلزام و على تعلّق الويل بهم بالمطابقة.

أو التقدير إذا كان العذاب واقعاً لا محالة و لا محالة لا يقع إلّا على المكذّبين لأنّهم الكافرون بالله المكذّبون ليوم القيامة فويل يومئذ لهم، فالدالّ على تعلّق العذاب بالمكذّبين هو قوله:( عَذابَ رَبِّكَ ) لأنّ عذاب الله إنّما يقع على من دعاه فلم يجبه و كذّب دعوته.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ) الخوض هو الدخول في باطل القول قال الراغب: الخوض هو الشروع في الماء و المرور فيه، و يستعار في الاُمور و أكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذمّ الشروع فيه انتهى، و تنوين التنكير في( خَوْضٍ ) يدلّ على صفة محذوفة أي في خوض عجيب.

و لمّا كان الاشتغال بباطل القول لا يفيد نتيجة حقّة إلّا نتيجة خياليّة يزيّنها الوهم للخائض سمّاه لعباً - و اللعب من الأفعال ما ليس له إلّا الأثر الخياليّ -.

و المعنى: الّذين هم مستمرّون في خوض عجيب يلعبون بالمجادلة في آيات الله و إنكارها و الاستهزاء بها.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى‏ نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) الدّعّ هو الدفع الشديد،

٧

و الظاهر أنّ( يَوْمَ ) بيان لقوله:( يَوْمَئِذٍ ) .

قوله تعالى: ( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) أي يقال لهم: هذه النار الّتي كنتم بها تكذّبون، و المراد بالتكذيب بالنار التكذيب بما أخبر به الأنبياءعليهم‌السلام بوحي من الله من وجود هذه النار و أنّه سيعذّب بها المجرمون و محصّل المعنى هذه مصداق ما أخبر به الأنبياء فكذّبتم به.

قوله تعالى: ( أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) تفريع على قوله:( هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ ) و الاستفهام للإنكار تفريعاً لهم أي إذا كانت هذه هي تلك النار الّتي كنتم تكذّبون بها فليس هذا سحراً كما كنتم ترمون إخبار الأنبياء بها أنّه سحر و ليس هذا أمراً موهوماً خرافيّاً كما كنتم تتفوّهون به بل أمر مبصر معاين لكم فالآية في معنى قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ) الأحقاف: 34.

و بما مرّ من المعنى يظهر أنّ( أَمْ ) في قوله:( أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ) متّصلة و قيل: منقطعة و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ( اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ، الصلي بالفتح فالسكون مقاساة حرارة النار فمعنى اصلوها قاسوا حرارة نار جهنّم.

و قوله:( فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا ) تفريع على الأمر بالمقاساة، و الترديد بين الأمر و النهي كناية عن مساواة الفعل و الترك، و لذا أتبعه بقوله:( سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) أي هذه المقاساة لازمة لكم لا تفارقكم سواء صبرتم أو لم تصبروا فلا الصبر يرفع عنكم العذاب أو يخفّفه و لا الجزع و ترك الصبر ينفع لكم شيئاً.

و قوله:( سَواءٌ عَلَيْكُمْ ) خبر مبتدإ محذوف أي هما سواء و إفراد( سَواءٌ ) لكونه مصدراً في الأصل.

و قوله:( إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) في مقام التعليل لما ذكر من ملازمة العذاب و مساواة الصبر و الجزع.

و المعنى: إنّما يلازمكم هذا الجزاء السيّئ و لا يفارقكم لأنّكم تجزون بأعمالكم

٨

الّتي كنتم تعملونها و لا تسلب نسبة العمل عن عامله فالعذاب يلازمكم أو إنّما تجزون بتبعات ما كنتم تعملون و جزائه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ ) الجنّة البستان تجنّه الأشجار و تستره، و النعيم النعمة الكثيرة أي إنّ المتّصفين بتقوى الله يومئذ في جنّات يسكنون فيها و نعمة كثيرة تحيط بهم.

قوله تعالى: ( فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) الفاكهة مطلق الثمرة، و قيل: هي الثمرة غير العنب و الرّمان، و يقال: تفكّه و فكه إذا تعاطى الفكاهة، و تفكّه و فكه إذا تناول الفاكهة، و قد فسّرت الآية بكلّ من المعنيين فقيل: المعنى: يتحدّثون بما آتاهم ربّهم من النعيم، و قيل: المعنى: يتناولون الفواكه و الثمار الّتي آتاهم ربّهم، و قيل: المعنى: يتلذّذون بإحسان ربّهم و مرجعه إلى المعنى الأوّل، و قيل: معناه فاكهين معجبين بما آتاهم ربّهم، و لعلّ مرجعه إلى المعنى الثاني.

و تكرار( رَبُّهُمْ ) في قوله:( وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) لإفادة مزيد العناية بهم.

قوله تعالى: ( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا أكلاً و شرباً هنيئاً أو طعاماً و شراباً هنيئاً، فهنيئاً وصف قائم مقام مفعول مطلق أو مفعول به.

و قوله:( بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) متعلّق بقوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا ) أو بقوله:( هَنِيئاً ) .

قوله تعالى: ( مُتَّكِئِينَ عَلى‏ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) الاتّكاء الاعتماد على الوسادة و نحوها، و السرر جمع سرير، و مصفوفة من الصفّ أي مصطفّة موصولة بعضها ببعض، و المعنى: متّكئين على الوسائد و النمارق قاعدين على سرر مصطفّة.

و قوله:( وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ) المراد بالتزويج القرن أي قرنّاهم بهنّ دون النكاح بالعقد، و الدليل عليه تعدّيه بالباء فإنّ التزويج بمعنى النكاح بالعقد متعدّ بنفسها، قال تعالى:( زَوَّجْناكَها ) الأحزاب: 37 كذا قيل.

٩

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، قيل: الفرق بين الاتّباع و اللحوق مع اعتبار التقدّم و التأخّر فيهما جميعاً أنّه يعتبر في الاتّباع اشتراك بين التابع و المتبوع في مورد الاتّباع بخلاف اللحوق فاللّاحق لا يشارك الملحوق في ما لحق به فيه.

و لات و ألات بمعنى نقص فمعنى ما ألتناهم ما نقصناهم شيئاً من عملهم بالإلحاق.

و ظاهر الآية أنّها في مقام الامتنان فهو سبحانه يمتنّ على الّذين آمنوا أنّه سيلحق بهم ذرّيّتهم الّذين اتّبعوهم بإيمان فتقرّ بذلك أعينهم، و هذا هو القرينة على أنّ التنوين في( بِإِيمانٍ ) للتنكير دون التعظيم.

و المعنى: اتّبعوهم بنوع من الإيمان و إن قصر عن درجة إيمان آبائهم إذ لا امتنان لو كان إيمانهم أكمل من إيمان آبائهم أو مساوياً له.

و إطلاق الاتّباع في الإيمان منصرف إلى اتّباع من يصحّ منه في نفسه الإيمان ببلوغه حدّاً يكلّف به فالمراد بالذرّيّة الأولاد الكبار المكلّفون بالإيمان فالآية لا تشمل الأولاد الصغار الّذين ماتوا قبل البلوغ، و لا ينافي ذلك كون صغار أولاد المؤمنين محكومين بالإيمان شرعاً.

اللّهمّ إلّا أن يستفاد العموم من تنكير الإيمان و يكون المعنى: و اتّبعتهم ذرّيّتهم بإيمان مّا سواء كان إيماناً في نفسه أو إيماناً بحسب حكم الشرع.

و كذا الامتنان قرينة على أنّ الضمير في قوله:( وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) للّذين آمنوا كالضميرين في قوله:( وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ) إذ قوله:( وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) مسوق حينئذ لدفع توهّم ورود النقص في الثواب على تقرير الإلحاق و هو ينافي الامتنان و من المعلوم أنّ الّذي ينافي الامتنان هو النقص في ثواب الآباء الملحق بهم دون الذرّيّة.

فتحصّل أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، استئناف يمتنّ تعالى فيه على الّذين آمنوا بأنّه سيلحق بهم أولادهم الّذين اتّبعوهم بنوع من الإيمان و إن كان قاصراً عن درجة إيمانهم لتقرّ به أعينهم، و لا ينقص مع ذلك من ثواب عمل الآباء بالإلحاق شي‏ء

١٠

بل يؤتيهم مثل ما آتاهم أو بنحو لا تزاحم فيه على ما هو أعلم به.

و في معنى الآية أقوال اُخر لا تخلو من سخافة كقول بعضهم إنّ قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) معطوف على( بِحُورٍ عِينٍ ) و المعنى: و زوّجناهم بحور عين و بالّذين آمنوا يتمتّعون من الحور العين بالنكاح و بالّذين آمنوا بالرفاقة و الصحبة، و قول بعضهم: إنّ المراد بالذرّيّة صغار الأولاد فقط، و قول بعضهم: إنّ الضميرين في( وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) للذرّيّة و المعنى: و ما نقصنا الذرّيّة من عملهم شيئاً بسبب إلحاقهم بآبائهم بل نوفّيهم أعمالهم من خير أو شرّ ثمّ نلحقهم بآبائهم.

و قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) تعليل لقوله:( وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) على ما يفيده السياق، و الرهن و الرهين و المرهون ما يوضع وثيقة للدين على ما ذكره الراغب قال: و لمّا كان الرهن يتصوّر منه حبسه أستعير ذلك لحبس أيّ شي‏ء كان. انتهى.

و لعلّ هذا المعنى الاستعاريّ هو المراد في الآية و المرء رهن مقبوض و محفوظ عندالله سبحانه بما كسبه من خير أو شرّ حتّى يوفّيه جزاء ما عمله من ثواب أو عقاب فلو نقص شيئاً من عمله و لم يوفه ذلك لم يكن رهين ما كسب بل رهين بعض ما عمل و امتلك بعضه الآخر غيره كذرّيّته الملحقين به.

و أمّا قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) المدّثّر: 39، فالمراد كونها رهينة العذاب يوم القيامة كما يشهد به سياق ما بعده من قوله:( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) المدّثّر: 41.

و قيل: المراد كون المرء رهين عمله السيّئ كما تدلّ عليه آية سورة المدّثّر المذكورة آنفاً بشهادة استثناء أصحاب اليمين، و الآية أعني قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) جملة معترضة من صفات أهل النار اعترضت في صفات أهل الجنّة.

و حمل صاحب الكشّاف الآية على نوع من الاستعارة فرفع به التنافي بين الآيتين قال: كأنّ نفس العبد رهن عندالله بالعمل الصالح الّذي هو مطالب به كما يرهن الرجل عبده بدين عليه فإن عمل صالحاً فكّها و خلّصها و إلّا أوبقها. انتهى.

١١

و أنت خبير بأنّ مجرّد ما ذكره لا يوجّه اتّصال الجملة أعني قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) بما قبلها.

قوله تعالى: ( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) بيان لبعض تنعّماتهم و تمتّعاتهم في الجنّة المذكورة إجمالاً في قوله السابق:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً ) إلخ.

و الإمداد الإتيان بالشي‏ء وقتاً بعد وقت و يستعمل في الخير كما أنّ المدّ يستعمل في الشرّ قال تعالى:( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) مريم: 79.

و المعنى: أنا نرزقهم بالفاكهة و ما يشتهونه من اللّحم رزقاً بعد رزق و وقتاً بعد وقت من غير انقطاع.

قوله تعالى: ( يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ ) التنازع في الكأس تعاطيها و الاجتماع على تناولها، و الكأس القدح و لا يطلق الكأس إلّا فيما كان فيها الشراب.

و المراد باللغو لغو القول الّذي يصدر من شاربي الخمر في الدنيا، و التأثيم جعل الشخص ذا إثم و هو أيضاً من آثار الخمر في الدنيا، و نفي اللغو و التأثيم هو القرينة على أنّ المراد بالكأس الّتي يتنازعون فيها كأس الخمر.

قوله تعالى: ( وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ) المراد به طوافهم عليهم للخدمة قال بعضهم: قيل:( غِلْمانٌ لَهُمْ ) بالتنكير و لم يقل: غلمانهم لئلّا يتوهّم أنّ المراد بهم غلمانهم الّذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فهم كالحور من مخلوقات الجنّة كأنّهم لؤلؤ مكنون مخزون في الحسن و الصباحة و الصفا.

قوله تعالى: ( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) أي يسأل كلّ منهم غيره عن حاله في الدنيا و ما الّذي ساقه إلى الجنّة و النعيم؟.

قوله تعالى: ( قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) قال الراغب: و الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ‏ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ، انتهى.

١٢

فالمعنى: إنّا كنّا في الدنيا ذوي إشفاق في أهلنا نعتني بسعادتهم و نجاتهم من مهلكة الضلال فنعاشرهم بجميل المعاشرة و نسير فيهم ببثّ النصيحة و الدعوة إلى الحقّ.

قوله تعالى: ( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ ) المنّ على ما ذكره الراغب الإنعام بالنعمة الثقيلة و يكون بالفعل و هو حسن، و بالقول و هو قبيح من غيره تعالى، قال تعالى:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) الحجرات: 17.

و منّه تعالى على أهل الجنّة إسعاده إيّاهم لدخولها بالرحمة و تمامه بوقايتهم عذاب السموم.

و السموم - على ما ذكره الطبرسيّ - الحرّ الّذي يدخل في مسامّ البدن يتألّم به و منه ريح السموم.

قوله تعالى: ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) تعليل لقوله:( فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا ) إلخ، كما أنّ قوله:( إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) تعليل له.

و تفيد هذه الآية مع الآيتين قبلها أنّ هؤلاء كانوا في الدنيا يدعون الله بتوحيده للعبادة و التسليم لأمره و كانوا مشفقين في أهلهم يقرّبونهم من الحقّ و يجنّبونهم الباطل فكان ذلك سبباً لمنّ الله عليهم بالجنّة و وقايتهم من عذاب السموم، و إنّما كان ذلك سبباً لذلك لأنّه تعالى برّ رحيم فيحسن لمن دعاه و يرحمه.

فالآيات الثلاث في معنى قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) العصر: 3.

و البرّ من أسماء الله تعالى الحسنى، و هو من البرّ بمعنى الإحسان، و فسّره بعضهم باللطيف.

١٣

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي بكر عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) قال: فقال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحقوا الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم.

أقول: و رواه أيضاً في التوحيد، بإسناده إلى أبي بكر الحضرميّ عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن سليمان الديلميّ عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ أطفال شيعتنا من المؤمنين تربّيهم فاطمةعليها‌السلام ، و قوله:( أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) قال: يهدون إلى آبائهم يوم القيامة.

أقول: و روي في المجمع، ذيل الحديث عنهعليه‌السلام مرسلاً.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إذا مات الطفل من أطفال المؤمنين نادى مناد في ملكوت السماوات و الأرض ألا إنّ فلان بن فلان قد مات فإن كان قد مات والداه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين دفع إليه يغذوه، و إلّا دفع إلى فاطمة تغذوه حتّى يقدم أبواه أو أحدهما أو بعض أهل بيته من المؤمنين فيدفعه إليه.

و في الفقيه،: و في رواية الحسن بن محبوب عن عليّ عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك و تعالى كفّل إبراهيم و سارة أطفال المؤمنين يغذوانهم بشجرة في الجنّة لها أخلاف كأخلاف البقر في قصر من درّة فإذا كان يوم القيامة اُلبسوا و طيّبوا و اُهدوا إلى آبائهم فهم ملوك في الجنّة مع آبائهم، و هذا قول الله تعالى:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) .

و في المجمع، روى زاذان عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمنين و أولادهم في الجنّة، ثمّ قرأ هذه الآية.

و في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و ابن مردويه عن ابن عبّاس رفعه إلى النبيّ

١٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله يرفع ذرّيّة المؤمن إليه في درجته و إن كانوا دونه في العمل ثمّ قرأ( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) قال: و ما نقصنا الآباء بما أعطينا الأبناء.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنّة سأل عن أبويه و ذرّيّته و ولده فيقال: إنّهم لم يبلغوا درجتك و عملك فيقول: يا ربّ قد عملت لي و لهم فيؤمر بإلحاقهم به و قرأ ابن عبّاس:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ) الآية.

أقول: و الآية لا تشمل الآباء المذكورين في الحديث، و الأنسب للدلالة عليه ما ذكره تعالى في دعاء الملائكة( رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ ) الآية المؤمن: 8.

و في تفسير القمّيّ قوله:( لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ ) قال: ليس في الجنّة غناء و لا فحش، و يشرب المؤمن و لا يأثم( وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ) قال: في الجنّة.

١٥

( سورة الطور الآيات 29 - 44)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ( 29 ) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( 30 ) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ( 31 ) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُم بِهَذَا  أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 32 ) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ  بَل لَّا يُؤْمِنُونَ ( 33 ) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ( 34 ) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( 35 ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ  بَل لَّا يُوقِنُونَ ( 36 ) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ( 37 ) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ  فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( 38 ) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( 39 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ( 40 ) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ( 41 ) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا  فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ( 42 ) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ  سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 43 ) وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ( 44 )

( بيان)

لمّا أخبر عن العذاب الواقع يوم القيامة و أنّه سيصيب المكذّبين، و المتّقون في جنّات و نعيم قريرة العيون أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمضي في دعوته و تذكرته مشيراً إلى

١٦

أنّه صالح لإقامة الدعوة الحقّة، و لا عذر لهؤلاء المكذّبين في تكذيبه و ردّ دعوته.

فنفى جميع الأعذار المتصوّرة لهم و هي ستّة عشر أمراً شطر منها راجع إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو تحقّق شي‏ء منه فيه سلب صلاحيته للاتّباع و كان مانعاً عن قبول قوله ككونه كاهناً أو مجنوناً أو شاعراً أو متقوّلاً مفترياً على الله و كسؤاله الأجر على دعوته و شطر منها راجع إلى المكذّبين أنفسهم مثل كونهم خلقوا من غير شي‏ء أو كونهم الخالقين أو أمر عقولهم بالتكذيب إلى غير ذلك و لا تخلو الآيات مع ذلك عن توبيخهم الشديد على التكذيب.

قوله تعالى: ( فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ ) تفريع على ما مرّ من الإخبار المؤكّد بوقوع العذاب الإلهيّ يوم القيامة، و أنّه سيغشى المكذّبين و المتّقون في وقاية منه متلذّذون بنعيم الجنّة.

فالآية في معنى أن يقال: إذا كان هذا حقّاً فذكر فإنّما تذكّر و تنذر بالحقّ و لست كما يرمونك كاهناً أو مجنوناً.

و تقييد النفي بقوله:( بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ) يفيد معنى الامتنان على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة و ليس هذا الامتنان الخاصّ من جهة مجرّد انتفاء الكهانة و الجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهه تلبّسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنعمة الخاصّة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون و غير ذلك.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) أم منقطعة، و التربّص الانتظار، و في مجمع البيان: التربّص الانتظار بالشي‏ء من انقلاب حال له إلى خلافها و المنون المنيّة و الموت، و الريب القلق و الاضطراب. فريب المنون قلق الموت.

و محصّل المعنى: بل يقولون هو أي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاعر ننتظر به الموت حتّى يموت و يخمد ذكره و ينسى رسمه فنستريح منه.

قوله تعالى: ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم بالتربّص كما رضوا لأنفسهم ذلك، و هو أمر تهديديّ أي تربّصوا كما ترون لأنفسكم ذلك فإنّ هناك أمراً من حقّه أن ينتظر وقوعه، و أنا أنتظره مثلكم لكنّه

١٧

عليكم لا لكم و هو هلاككم و وقوع العذاب عليكم.

قوله تعالى: ( أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا ) الأحلام جمع حلم و هو العقل، و أم منقطعة و الكلام بتقدير الاستفهام و الإشارة بهذا إلى ما يقولونه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتربّصون به.

و المعنى: بل أ تأمرهم عقولهم أن يقولوا هذا الّذي يقولونه و يتربّصوا به الموت؟ فأيّ عقل يدفع الحقّ بمثل هذه الأباطيل؟.

قوله تعالى: ( أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ ) أي أنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم.

قوله تعالى: ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ) قال في المجمع: التقوّل تكلّف القول و لا يقال ذلك إلّا في الكذب، و المعنى بل يقولون: افتعل القرآن و نسبه إلى الله كذباً و افتراء. لا بل لا يؤمنون فيرمونه بهذه الفرية.

قوله تعالى: ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ ) جواب عن قولهم:( تَقَوَّلَهُ ) بأنّه لو كان كلاماً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان كلاماً بشريّاً مماثلاً لسائر الكلام و يماثله سائر الكلام فكان يمكنهم أن يأتوا بحديث مثله فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين في دعواهم التقوّل بل هو كلام إلهيّ لائحة عليه دلائل الإعجاز يعجز البشر عن إتيان مثله، و قد تقدّم الكلام في وجوه إعجاز القرآن في تفسير سورة البقرة الآية 23 تفصيلاً.

و يمكن أن تؤخذ الآية ردّاً لجميع ما تقدّم من قولهم المحكيّ أنّه كاهن أو مجنون أو شاعر أو متقوّل لأنّ عجز البشر عن الإتيان بمثله يأبى إلّا أن يكون كلام الله سبحانه لكنّ الأظهر ما تقدّم.

قوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ‏ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) إتيان( شَيْ‏ءٍ ) منكّراً بتقدير صفة تناسب المقام و التقدير من غير شي‏ء خلق منه غيرهم من البشر.

و المعنى: بل أ خلق هؤلاء المكذّبون من غير شي‏ء خلق منه غيرهم من البشر فصلح لإرسال الرسول و الدعوة إلى الحقّ و التلبّس بعبوديّته تعالى فهؤلاء لا يتعلّق بهم تكليف و لا يتوجّه إليهم أمر و لا نهي و لا تستتبع أعمالهم ثواباً و لا عقاباً لكونهم مخلوقين من غير

١٨

ما خلق منه غيرهم.

و في معنى الجملة أقوال اُخر.

فقيل: المراد أم أحدثوا و قدّروا هذا التقدير البديع من غير مقدّر و خالق فلا حاجة لهم إلى خالق يدبّر أمرهم؟

و قيل: المراد أم خلقوا من غير شي‏ء حيّ فهم لا يؤمرون و لا ينهون كالجمادات.

و قيل: المعنى أم خلقوا من غير علّة و لا لغاية ثواب و عقاب فهم لذلك لا يسمعون.

و قيل: المعنى أم خلقوا باطلاً لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون.

و ما قدّمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية و أشمل.

و قوله:( أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ) أي لأنفسهم فليسوا مخلوقين لله سبحانه حتّى يربّهم و يدبّر أمرهم بالأمر و النهي.

قوله تعالى: ( أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ) أي أم أخلقوا العالم حتّى يكونوا أرباباً آلهة و يجلّوا من أن يستعبدوا و يكلّفوا بتكليف العبوديّة بل هم قوم لا يوقنون.

قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) أي بل أ عندهم خزائن ربّك حتّى يرزقوا النبوّة من شاؤا و يمسكوها عمّن شاؤا فيمنعوك النبوّة و الرسالة.

و قوله:( أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ ) السيطرة - و ربّما يقلب سينها صاداً - الغلبة و القهر و المعنى: بل أ هم الغالبون القاهرون على الله سبحانه حتّى يسلبوا عنك ما رزقك الله من النبوّة و الرسالة.

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ) السلّم المرقاة ذات الدرج الّتي يتوسّل بالصعود فيه إلى الأمكنة العالية، و الاستماع مضمّن معنى الصعود، و السلطان الحجّة و البرهان.

و المعنى: بل أ عندهم سلّم يصعدون فيه إلى السماء فيستمعون بالصعود فيه الوحي فيأخذون ما يوحى إليهم و يردّون غيره؟ فليأت مستمعهم أي المدّعي للاستماع منهم بحجة ظاهرة.

١٩

قوله تعالى: ( أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ ) قيل: فيه تسفيه لعقولهم حيث نسبوا إليه تعالى ما أنفوا منه.

قوله تعالى: ( أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ) قال الراغب: الغرم - بالضمّ فالسكون - ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه أو خيانة انتهى و الإثقال تحميل الثقل و هو كناية عن المشقّة.

و المعنى: بل أ تسألهم أجراً على تبليغ رسالتك فهم يتحرّجون عن تحمّل الغرم الّذي ينوبهم بتأدية الأجر؟.

قوله تعالى: ( أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ) ذكر بعضهم أنّ المراد بالغيب اللوح المحفوظ المكتوب فيه الغيوب و المعنى: بل أ عندهم اللوح المحفوظ يكتبون منه و يخبرون به الناس فما أخبروا به عنك من الغيب الّذي لا ريب فيه.

و قيل: المراد بالغيب علم الغيب، و بالكتابة الإثبات و المعنى: بل أ عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما علموه شرعاً للناس عليهم أن يطيعوهم فيما أثبتوا، و قيل: يكتبون بمعنى يحكمون.

قوله تعالى: ( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ) الكيد ضرب من الاحتيال على ما ذكره الراغب، و في المجمع: الكيد هو المكر، و قيل: هو فعل ما يوجب الغيظ في خفية. انتهى.

ظاهر السياق أنّ المراد بكيدهم هو مكرهم بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر و التقوّل ليعرض عنه الناس و يبتعدوا عنه فتبطل بذلك دعوته و ينطفئ نوره، و هذا كيد منهم و مكر بأنفسهم حيث يحرّمون لها السعادة الخالدة و الركوب على صراط الحقّ بذلك بل كيد من الله بقطع التوفيق عنهم و الطبع على قلوبهم.

و قيل: المراد بالكيد الّذي يريدونه هو ما كان منهم في حقّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الندوة و المراد بالّذين كفروا المذكورون من المكذّبين و هم أصحاب دار الندوة، و قد قلب الله كيدهم إلى أنفسهم فقتلهم يوم بدر، و الكلام على هذا من الإخبار بالغيب لنزول السورة قبل ذلك بكثير، و هو بعيد من السياق.

٢٠