الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126930
تحميل: 4078


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126930 / تحميل: 4078
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

معناه بما تقدّم، و يستفاد من الآيات أنّ أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالأوّلين لكنّ السابقين المقرّبين في الآخرين أقلّ جمعاً منهم في الأوّلين.

قوله تعالى: ( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ ) مبتدأ و خبر، و الاستفهام للتعجيب و التهويل، و قد بدّل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنّهم الّذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مرّ نظيره في أصحاب اليمين.

قوله تعالى: ( فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ ) السموم - على ما في الكشّاف - حرّ نار ينفذ في المسامّ، و الحميم الماء الشديد الحرارة، و التنوين فيهما لتعظيم الأمر، و اليحموم الدخان الأسود، و قوله:( لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ) الظاهر أنّهما صفتان للظلّ لا ليحموم، و ذلك أنّ الظلّ هو الّذي يتوقّع منه أن يتبرّد بالاستظلال به و يستراح فيه دون الدخان.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ ) تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، و إتراف النعمة الإنسان إبطارها و إطغاؤها له، و ذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عمّا وراءها فكون الإنسان مترفاً تعلّقه بما عنده من نعم الدنيا و ما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة.

فلا يرد ما استشكل من أنّ كثيراً من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسّعين في التنعّم و ذلك أنّ الإنسان محفوف بنعم ربّه و ليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربّه عن ربّه ترفه منه، و المعنى: أنّا إنّما نعذّبهم بما ذكر لأنّهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم.

قوله تعالى: ( وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ ) في المجمع: الحنث نقض العهد المؤكّد بالحلف، و الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه. انتهى. و لعلّ المستفاد من السياق أنّ إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبوديّة ربّهم الّتي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم و اُخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذرّ فيطيعون غير ربّهم و هو الشرك المطلق.

و قيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة و الحنث العظيم الشرك

١٤١

بالله، و قيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، و قيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) النحل: 38، و لفظ الآية مطلق.

قوله تعالى: ( وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ) قول منهم مبنيّ على الاستبعاد و لذا أكّدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم لأنّ الاستبعاد في موردهم آكد، و التقدير أ و آباؤنا الأوّلون مبعوثون.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى‏ مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ) أمر منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثمّ إخبارهم عمّا يعيشون به يوم البعث من طعام و شراب و هما الزقّوم و الحميم.

و محصّل القول أنّ الأوّلين و الآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرّقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعداً و بعث آبائهم الأوّلين أشدّ استبعاداً و آكد - لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم.

و الميقات ما وقت به الشي‏ء و هو وقته المعيّن، و المراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانيّة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ) من تمام كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبرهم عمّا ينتهي إليه حالهم يوم القيامة و يعيشون به من طعام و شراب.

و في خطابهم بالضالّين المكذّبين إشارة إلى ملاك شقائهم و خسرانهم يوم البعث و هو ضلالهم عن طريق الحقّ و استقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم و إصرارهم على الحنث، و لو كانوا ضالّين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجوّ أن ينجوا و لا يهلكوا.

و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ شَجَرٍ ) للابتداء، و في قوله:( مِنْ زَقُّومٍ ) بيانيّة و يحتمل أن يكون( مِنْ زَقُّومٍ ) بدلاً من( مِنْ شَجَرٍ ) ، و ضمير( مِنْهَا ) للشجر أو الثمر و كلّ منهما يؤنّث و يذكّر و لذا جي‏ء ههنا بضمير التأنيث و في الآية التالية في قوله:

١٤٢

( فَشارِبُونَ عَلَيْهِ ) بضمير التذكير، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ ) كلمة( على) للاستعلاء و تفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، و الهيم جمع هيماء الإبل الّتي أصابها الهيام بضمّ الهاء و هو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء حتّى تموت أو تسقم سقماً شديداً، و قيل: الهيم الرمال الّتي لا تروى بالماء.

و المعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقّوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم و هذا آخر ما اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوله لهم.

قوله تعالى: ( هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ ) أي يوم الجزاء و النزل ما يقدّم للضيف النازل من طعام و شراب إكراماً له، و المعنى: هذا الّذي ذكر من طعامهم و شرابهم هو نزل الضالّين المكذّبين ففي تسمية ما اُعدّ لهم بالنزل نوع تهكّم، و الآية من كلامه تعالى خطاباً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لو كان من كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطاباً لهم لقيل: هذا نزلكم.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبدالله قال: لمّا نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) قال عمر: يا رسول الله ثلّة من الأوّلين و ثلّة من الآخرين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعال و استمع ما قد أنزل الله:( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

ألا و إنّ من آدم إلى ثلّة و اُمّتي ثلّة و لن نستكمل ثلّتنا حتّى نستعين بالسودان رعاة الإبل ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له.: قال السيوطيّ و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلاً.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) حزن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قالوا: إذن لا يكون من اُمّة محمّد إلّا قليل فنزلت نصف النهار( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) تقابلون الناس

١٤٣

فنسخت الآية( وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

أقول: قال في الكشّاف، في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنّها لمّا نزلت شقّ ذلك على المسلمين فما زال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراجع ربّه حتّى نزلت( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) .

قلت: هذا لا يصحّ لأمرين: أحدهما: أنّ هذه الآية واردة في السابقين وروداً ظاهراً و كذلك الثانية في أصحاب اليمين، أ لا ترى كيف عطف أصحاب اليمين و وعدهم على السابقين و وعدهم؟ الثاني: أنّ النسخ في الأخبار غير جائز. انتهى.

و اُجيب عنه بأنّه يمكن أن يحمل الحديث على أنّ الصحابة لمّا سمعوا الآية الاُولى حسبوا أنّ الأمر في هذه الاُمّة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلّة من الأوّلين و قليلاً منهم فيكون الفائزون بالجنّة في هذه الاُمّة أقلّ منهم في الاُمم السالفة فنزلت( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) فزال حزنهم، و معنى نسخ الآية السابقة إزالة حسبانهم المذكور.

و أنت خبير بأنّه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ و اللفظ يأباه و خاصّة حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، و حال الرواية الاُولى و خاصّة من جهة ذيلها كحال هذه الرواية.

و في المجمع، في قوله تعالى:( يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) اختلف في هذه الولدان فقيل: إنّهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيّئات فيعاقبوا عليها فاُنزلوا هذه المنزلة.

قال: و قد روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنّة.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور عن الحسن‏، و الرواية ضعيفة لا تعويل عليها.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنّة و البزّار و ابن مردويه و البيهقيّ في البعث عن عبدالله بن مسعود قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك لتنظر إلى الطير في الجنّة فتشتهيه فيخرّ بين يديك مشويّا.

١٤٤

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة و في بعضها أنّ المؤمن يأكل ما يشتهيه ثمّ يعود الباقي إلى ما كان عليه و يحيا فيطير إلى مكانه و يباهي بذلك.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً ) قال: الفحش و الكذب و الغنا.

أقول: لعلّ المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحّف الخنا.

و فيه في قوله تعالى:( وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ ) قال: عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و أصحابه و شيعته.

أقول: الرواية مبنيّة على ما ورد في ذيل قوله تعالى:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71، أنّ اليمين هو الإمام الحقّ و معناها أنّ اليمين هو عليّعليه‌السلام و أصحاب اليمين شيعته، و الرواية من الجري.

و فيه في قوله تعالى:( فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ) شجر لا يكون له ورق و لا شوك فيه، و قرأ أبوعبداللهعليه‌السلام :( و طلع منضود) قال: بعضه على بعض.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقولون: إنّ الله ينفعنا بالأعراب و مسائلهم. أقبل أعرابي يوماً فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية. و ما كنت أرى أنّ في الجنّة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و ما هي؟ قال: السدر فإنّ لها شوكاً، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ ليس يقول الله:( فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ) يخضده الله من شوكة فيجعل مكان كلّ شوكة ثمرة إنّها تنبت ثمراً تفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين لوناً من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.

و في المجمع: و روت العامّة عن عليّعليه‌السلام : أنّه قرأ رجل عنده( وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ ) فقال: ما شأن الطلح إنّما هو( و طلع) كقوله:( وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ ) فقيل له: أ لا تغيّره؟ قال: إنّ القرآن لا يهاج اليوم و لا يحرّك، رواه عنه ابنه الحسنعليه‌السلام و قيس بن سعد.

١٤٥

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابي و هنّاد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ ) قال: هو الموز.

و في المجمع، ورد في الخبر: أنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها اقرؤا إن شئتم( وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ ) و روي أيضاً: أنّ أوقات الجنّة كغدوات الصيف لا يكون فيها حرّ و لا برد.

أقول: و روي الأوّل في الدرّ المنثور عن أبي سعيد و أنس و غيرهما عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في روضة الكافي، بإسناده عن عليّ بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمّد بن إسحاق المدنيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في حديث يصف فيه الجنّة و أهلها: و يزور بعضهم بعضاً و يتنعّمون في جنّاتهم في ظلّ ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و أطيب من ذلك.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً ) قال: الحور العين في الجنّة( فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً ) قال: لا يتكلّمون إلّا بالعربيّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( عُرُباً ) قال: كلامهنّ عربيّ.

أقول: و فيه روايات اُخر أنّ عرباً جمع عروب و هي الغنجة.

و فيه، أخرج مسدّد في مسنده و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله تعالى:( ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) قال: هما جميعاً من هذه الاُمّة.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أنّ القسمة لكافّة البشر لا لهذه الاُمّة خاصّة، و لعلّ المراد من هذه الروايات بيان بعض المصاديق و إن كان بعيداً، و كذا المراد ممّا ورد أنّ أصحاب اليمين أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، و ما ورد أنّ أصحاب الشمال أعداء آل محمّدعليهم‌السلام .

١٤٦

و في المحاسن، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه و قال: ذلك شرب الهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال: الإبل.

و فيه، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه كان يكره أن يتشبّه بالهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال: الرمل.

أقول: و المعنيان جميعاً واردان في روايات اُخر.

١٤٧

( سورة الواقعة الآيات 57 - 96)

نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ( 57 ) أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ( 58 ) أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( 59 ) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 60 ) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 61 ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَىٰ فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ ( 62 ) أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ( 63 ) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ( 64 ) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ( 65 ) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ( 66 ) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ( 67 ) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ( 68 ) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ( 69 ) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ( 70 ) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ( 71 ) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ( 72 ) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ( 73 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 74 ) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ( 75 ) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ( 76 ) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ( 78 ) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 ) أَفَبِهَـٰذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ ( 81 ) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ( 82 ) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ( 83 ) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ( 84 ) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لَّا

١٤٨

تُبْصِرُونَ ( 85 ) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ( 86 ) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 87 ) فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 88 ) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ( 89 ) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 90 ) فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ( 91 ) وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ( 92 ) فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ( 93 ) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ( 94 ) إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ( 95 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 96 )

( بيان)

لمّا فصّل سبحانه القول فيما ينتهي إليه حال كلّ من الأزواج الثلاثة ففصّل حال أصحاب الشمال و أنّ الّذي ساقهم إلى ذلك نقضهم عهد العبوديّة و تكذيبهم للبعث و الجزاء و أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ عليهم بتقرير البعث و الجزاء و بيان ما يجزون به يوم البعث.

وبّخهم على تكذيبهم بالمعاد مع أنّ الّذي يخبرهم به هو خالقهم الّذي يدبّر أمرهم و يقدّر لهم الموت ثمّ الإنشاء فهو يعلم ما يجري عليهم مدى وجودهم و ما ينتهي إليه حالهم و مع أنّ الكتاب الّذي ينبّؤهم بالمعاد هو قرآن كريم مصون من أن يلعب به أيدي الشياطين و أولياؤهم المضلّين.

ثمّ يعيد الكلام إلى ما بدئ به من حال الأزواج الثلاثة و يذكر أنّ اختلاف أحوال الأقسام يأخذ من حين الموت و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ) السياق سياق الكلام في البعث و الجزاء و قد أنكروه و كذّبوا به، فقوله:( فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ) تحضيض على تصديق حديث

١٤٩

المعاد و ترك التكذيب به، و قد علّله بقوله:( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ) كما يستفاد من التفريع الّذي في قوله:( فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ ) .

و إيجاب خلقه تعالى لهم وجوب تصديقه فيما يخبر به من المعاد من وجهين: أحدهما: أنّه تعالى خلقهم أوّل مرّة فهو قادر على إعادة خلقهم ثانياً كما قال:( قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) يس: 79.

و ثانيهما: أنّه تعالى لمّا كان هو خالقهم و هو المدبّر لأمرهم المقدّر لهم خصوصيّات خلقهم و أمرهم فهو أعلم بما يفعل بهم و سيجري عليهم فإذا أنبأهم بأنّه سيبعثهم بعد موتهم و يجزيهم بما عملوا إن خيراً و إن شرّاً لم يكن بدّ من تصديقه فلا عذر لمن كذّب بما أخبر به كتابه من البعث و الجزاء، قال تعالى:( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الملك: 14، و قال:( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ) الأنبياء: 104، و قال:( وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا ) النساء: 122.

فمحصّل الآية: نحن خلقناكم و نعلم ما فعلنا و ما سنفعل بكم فنخبركم أنّا سنبعثكم و نجزيكم بما عملتم فهلّا تصدّقون بما نخبركم به فيما أنزلناه من الكتاب.

و في الآية و ما يتلوها من الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنّ السياق سياق التوبيخ و المعاتبة و ذلك بالخطاب أوقع و آكد.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ) الأمناء قذف المنيّ و صبّه و المراد قذفه و صبّه في الأرحام، و المعنى: أ فرأيتم المني الّذي تصبّونه في أرحام النساء.

قوله تعالى: ( أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ) أي أ أنتم تخلقونه بشراً مثلكم أم نحن خالقوه بشراً.

قوله تعالى: ( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) تدبير أمر الخلق بجميع شؤنه و خصوصيّاته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود فوجود الإنسان المحدود بأوّل كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصيّاته الّتي تتحوّل عليه بتقدير من خالقه عزّوجلّ. فموته أيضاً كحياته بتقدير منه، و ليس يعتريه الموت لنقص

١٥٠

من قدرة خالقه أن يخلقه بحيث لا يعتريه الموت أو من جهة أسباب و عوامل تؤثّر فيه بالموت فتبطل الحياة الّتي أفاضها عليه خالقه تعالى فإنّ لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة و أن يعجزه بعض الأسباب و تغلب إرادته إرادته و هو محال كيف؟ و القدرة مطلقة و الإرادة غير مغلوبة.

و يتبيّن بذلك أنّ المراد بقوله:( نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ) أنّ الموت حقّ مقدّر و ليس أمراً يقتضيه و يستلزمه نحو وجود الحيّ بل هو تعالى قدّر له وجوداً كذا ثمّ موتاً يعقّبه.

و أنّ المراد بقوله:( وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) - و السبق هو الغلبة و المسبوق المغلوب - و لسنا مغلوبين في عروض الموت عن الأسباب المقارنة له بأن نفيض عليكم حياة نريد أن يدوم ذلك عليكم فيسبقنا الأسباب و تغلبنا فتبطل بالموت الحياة الّتي كنّا نريد دوامها.

قوله تعالى: ( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) ( عَلى) متعلّقه بقوله:( قَدَّرْنا ) و جملة الجارّ و المجرور في موضع الحال أي نحن قدّرنا بينكم الموت حال كونه على أساس تبديل الأمثال و الإنشاء فيما لا تعلمون.

و الأمثال جمع مثل بالكسر فالسكون و مثل الشي‏ء ما يتّحد معه في نوعه كالفرد من الإنسان بالنسبة إلى فرد آخر، و المراد بقوله:( أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ‏ ) أن نبدّل أمثالكم من البشر منكم أو نبدّل أمثالكم مكانكم، و المعنى على أيّ حال تبديل جماعة من اُخرى و جعل الأخلاف مكان الأسلاف.

و قوله:( وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ‏ ) ما موصولة و المراد به الخلق و الجملة معطوفة على( نُبَدِّلَ) و التقدير و على أن ننشئكم و نوجدكم في خلق آخر لا تعلمونه و هو الوجود الاُخرويّ غير الوجود الدنيويّ الفاني.

و محصّل معنى الآيتين أنّ الموت بينكم إنّما هو بتقدير منّا لا لنقص في قدرتنا بأن لا يتيسّر لنا إدامة حياتكم و لا لغلبة الأسباب المهلكة المبيدة و قهرها و تعجيزها لنا في حفظ حياتكم و إنّما قدّرناه بينكم على أساس تبديل الأمثال و إذهاب قوم و الإتيان

١٥١

بآخرين و إنشاء خلق لكم يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيويّ الداثر فالموت انتقال من دار إلى دار و تبدّل خلق إلى خلق آخر و ليس بانعدام و فناء.

و احتمل بعضهم أن يكون الأمثال في الآية جمع مثل بفتحتين و هو الوصف فتكون الجملتان( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ‏ ) إلخ، و( نُنْشِئَكُمْ) إلخ، تفيدان معنى واحداً، و المعنى: على أن نغيّر أوصافكم و ننشئكم في وصف لا تعرفونه أو لا تعلمونه كحشركم في صفة الكلب أو الخنزير أو غيرهما من الحيوان بعد ما كنتم في الدنيا على صفة الإنسان، و المعنى السابق أجمع و أكثر فائدة.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى‏ فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ) المراد بالنشأة الاُولى نشأة الدنيا، و العلم بها بخصوصيّاتها يستلزم الإذعان بنشأة اُخرى خالدة فيها الجزاء، فإنّ من المعلوم من النظام الكونيّ أن لا لغو و لا باطل في الوجود فلهذه النشأة الفانية غاية باقية، و أيضاً من ضروريّات هذا النظام هداية كلّ شي‏ء إلى سعادة نوعه و هداية الإنسان تحتاج إلى بعث الرسل و تشريع الشرائع و توجيه الأمر و النهي، و الجزاء على خير الأعمال و شرّها و ليس في الدنيا فهو في دار اُخرى و هي النشأة الآخرة(1) .

على أنّهم شاهدوا النشأة الاُولى و عرفوها و علموا أنّ الّذي أوجدها عن كتم العدم هو الله سبحانه و إذ قدر عليها أوّلاً فهو على إيجاد مثلها ثانياً قادر، قال تعالى:( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يس: 79، و هذا برهان على الإمكان يرتفع به استبعادهم للبعث.

و بالجملة يحصل لهم بالعلم بالنشأة الاُولى علم بمبادي البرهان على إمكان البعث فيرتفع به استبعاد البعث فلا استبعاد مع الإمكان.

و هذا - كما ترى - برهان على إمكان حشر الأجساد، محصّله أنّ البدن المحشور مثل البدن الدنيويّ و إذ جاز صنع البدن الدنيويّ و إحياؤه فليجز صنع البدن الاُخرويّ و إحياؤه لأنّه مثله و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

فمن العجيب قول الزمخشريّ في الكشّاف، في الآية: و في هذا دليل على صحّة

____________________

(1) الآية 27 و 28 من سورة ص.

١٥٢

القياس حيث جهّلهم في ترك قياس النشأة الاُخرى بالاُولى. انتهى. و ذلك لأنّ الّذي في الآية قياس برهانيّ منطقيّ و الّذي يستدلّ بها عليه قياس فقهيّ مفيد للظنّ فأين أحدهما من الآخر.

و قال في روح المعاني، في الآية: فهلّا تتذكّرون أنّ من قدر عليها يعني على النشأة الاُولى فهو على النشأة الاُخرى أقدر و أقدر فإنّها أقلّ صنعاً لحصول الموادّ و تخصيص الأجزاء و سبق المثال، و هذا على ما قالوا دليل على صحّة القياس لكن قيل: لا يدلّ إلّا على قياس الاُولي لأنّه الّذي في الآية. انتهى.

و فيه ما في سابقه. على أنّ الّذي في الآية ليس من قياس الاُولي في شي‏ء لأنّ الجامع بين النشأة الاُولى و الاُخرى أنّهما مثلان و مبدأ القياس أنّ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.

و أمّا قوله: إنّ النشأة الاُخرى أقلّ صنعاً لحصول الموادّ و تخصيص الأجزاء، فهو ممنوع فإنّ الموادّ تحتاج إلى إفاضة الوجود بقاء كما تحتاج إليها في حدوثها و أوّل حصولها، و كذا تخصّص الأجزاء يحتاج إليها بقاء كما تحتاج إليها فالصنع ثانياً كالصنع أوّلاً.

و أمّا قوله: و سبق المثال، فقد خلط بين المثل و المثال فالبدن الاُخروي بالنظر إلى نفسه مثل البدن الدنيويّ لا على مثاله و لو كان على مثاله كانت الآخرة دنيا لا آخرة.

فإن قلت: لو كان البدن الاُخروي مثلاً للبدن الدنيويّ و مثل الشي‏ء غيره كان الإنسان المعاد في الآخرة غير الإنسان المبتدء في الدنيا لأنّه مثله لا عينه.

قلت: قد تقدّم في المباحث السابقة غير مرّة أنّ شخصيّة الإنسان بروحه لا ببدنه، و الروح لا تنعدم بالموت و إنّما يفسد البدن و تتلاشى أجزاؤه ثمّ إذا سوّي ثانياً مثل ما كان في الدنيا ثمّ تعلّقت به الروح كان الإنسان عين الإنسان الّذي في الدنيا كما كان زيد الشائب مثلاً عين زيد الشابّ لبقاء الروح على شخصيّتها مع تغيّر البدن لحظة بعد لحظة.

١٥٣

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ - إلى قوله -مَحْرُومُونَ ) بعد ما ذكّرهم بكيفيّة خلق أنفسهم و تقدير الموت بينهم تمهيداً للبعث و الجزاء و كلّ ذلك من لوازم ربوبيّته عدّ لهم اُموراً ثلاثة من أهمّ ما يعيشون به في الدنيا و هي الزرع الّذي يقتاتون به و الماء الّذي يشربونه و النار الّتي يصطلون بها و يتوسّلون بها إلى جمل من مآربهم، و تثبت بذلك ربوبيّته لهم فليست الربوبيّة إلّا التدبير عن ملك.

فقال:( أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ) الحرث العمل في الأرض و إلقاء البذر عليها( أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ ) أي تنبتونه و تنمونه حتّى يبلغ الغاية، و ضمير( تَزْرَعُونَهُ ) للبذر أو الحرث المعلوم من المقام( أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) المنبتون المنمون حتّى يكمل زرعاً( لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً ) أي هشيماً متكسّراً متفتّتاً( فَظَلْتُمْ ) أي فظللتم و صرتم( تَفَكَّهُونَ ) أي تتعجّبون ممّا اُصيب به زرعكم و تتحدّثون بما جرى قائلين( إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ) موقعون في الغرامة و الخسارة ذهب مالنا و ضاع وقتنا و خاب سعينا( بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ) ممنوعون من الرزق و الخير.

و لا منافاة بين نفي الزرع عنهم و نسبته إليه تعالى و بين توسّط عوامل و أسباب طبيعيّة في نبات الزرع و نموّه فإنّ الكلام عائد في تأثير هذه الأسباب و صنعها و ليس نحو تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى بل بجعله و وضعه و موهبته، و كذا الكلام في أسباب هذه الأسباب، و ينتهي الأمر إلى الله سبحانه و أنّ إلى ربّك المنتهى.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - إلى قوله -فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) المزن السحاب، و قوله:( فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ) تحضيض على الشكر، و شكره تعالى جميل ذكره تعالى على نعمه و هو إظهار عبوديّته قولاً و عملاً. و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ - إلى قوله -وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) قال في المجمع: الإيراء إظهار النار بالقدح، يقال: أورى يوري، قال: و يقال: قدح فأورى إذا أظهر فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى، و قال: و المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد، و أقوت الدار خلت من أهلها. انتهى. و المعنى ظاهر.

١٥٤

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . لمّا ذكر سبحانه شواهد ربوبيّته لهم و أنّه الّذي يخلقهم و يدبّر أمرهم و من تدبيره أنّه سيبعثهم و يجزيهم بأعمالهم و هم مكذّبون بذلك أعرض عن خطابهم و التفت إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشعاراً بأنّهم لا يفقهون القول فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينزّهه تعالى عن إشراكهم به و إنكارهم البعث و الجزاء.

فقوله:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ ) إلخ، الفاء لتفريع التسبيح على ما تقدّم من البيان، و الباء للاستعانة أو الملابسة، و المعنى: فإذا كان كذلك فسبّح مستعيناً بذكر اسم ربّك، أو المراد بالاسم الذكر لأنّ إطلاق اسم الشي‏ء ذكر له كما قيل أو الباء للتعدية لأنّ تنزيه اسم الشي‏ء تنزيه له، و المعنى: نزّه اسم ربّك من أن تذكر له شريكاً أو تنفي عنه البعث و الجزاء، و العظيم صفة الربّ أو الاسم.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) ( فَلا أُقْسِمُ ) قسم و قيل: لا زائدة و اُقسم هو القسم، و قيل: لا نافية و اُقسم هو القسم.

و( مواقع ) جمع موقع و هو المحلّ، و المعنى: اُقسم بمحالّ النجوم من السماء، و قيل: مواقع جمع موقع مصدر ميميّ بمعنى السقوط يشير به إلى سقوط الكواكب يوم القيامة أو وقوع الشهب على الشياطين، أو مساقط الكواكب في مغاربها، و أوّل الوجوه هو السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) تعظيم لهذا القسم و تأكيد على تأكيد.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ - إلى قوله -مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) لمّا كان إنكارهم حديث وحدانيّته تعالى في ربوبيّته و اُلوهيّته و كذا إنكارهم للبعث و الجزاء إنّما أبدوه بإنكار القرآن النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي فيه نبأ التوحيد و البعث كان إنكارهم منشعباً إلى إنكار أصل التوحيد و البعث أصلاً، و إلى إنكار ذلك بما أنّ القرآن ينبّؤهم به، فأورد تعالى أوّلاً بياناً لإثبات أصل الوحدانيّة و البعث بذكر شواهد من آياته تثبت ذلك و هو قوله:( نَحْنُ خَلَقْناكُمْ - إلى قوله -وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) ، و ثانياً

١٥٥

بياناً يؤكّد فيه كون القرآن الكريم كلامه المحفوظ عنده النازل منه و وصفه بأحسن أوصافه.

فقوله:( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ) جواب للقسم السابق، الضمير للقرآن المعلوم من السياق السابق و يستفاد من توصيفه بالكريم من غير تقييد في مقام المدح أنّه كريم على الله عزيز عنده و كريم محمود الصفات و كريم بذّال نفّاع للناس لما فيه من اُصول المعارف الّتي فيها سعادة الدنيا و الآخرة.

و قوله:( فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير و التبديل، و هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى:( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) البروج: 22.

و قوله:( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) صفة الكتاب المكنون و يمكن أن يكون وصفاً ثالثاً للقرآن و مآل الوجهين على تقدير كون لا نافية واحد.

و المعنى: لا يمسّ الكتاب المكنون الّذي فيه القرآن إلّا المطهّرون أو لا يمسّ القرآن الّذي في الكتاب إلّا المطهّرون.

و الكلام على أيّ حال مسوق لتعظيم أمر القرآن و تجليله فمسّه هو العلم به و هو في الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4.

و المطهّرون - اسم مفعول من التطهير - هم الّذين طهّر الله تعالى نفوسهم من أرجاس المعاصي و قذارات الذنوب أو ممّا هو أعظم من ذلك و أدقّ و هو تطهير قلوبهم من التعلّق بغيره تعالى، و هذا المعنى من التطهير هو المناسب للمسّ الّذي هو العلم دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر.

فالمطهّرون هم الّذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام و الّذين طهّرهم الله من البشر، قال تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) الأحزاب: 33، و لا وجه لتخصيص المطهّرين بالملائكة كما عن جلّ المفسّرين لكونه تقييداً من غير مقيّد.

و ربّما جعل( لا ) في( لا يَمَسُّهُ ) ناهية، و المراد بالمسّ على هذا مسّ كتابة

١٥٦

القرآن، و بالطهارة الطهارة من الحدث أو الحدث و الخبث جميعاً - و قرئ( الْمُطَهَّرُونَ ) بتشديد الطاء و الهاء و كسر الهاء أي المتطهّرون - و مدلول الآية تحريم مسّ كتابة القرآن على غير طهارة.

و يمكن حمل الآية على هذا المعنى على تقدير كون لا نافية بأن تكون الجملة إخباراً اُريد به الإنشاء و هو أبلغ من الإنشاء.

قال في الكشّاف: و إن جعلتها يعني جملة( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) صفة للقرآن فالمعنى: لا ينبغي أن يمسّه إلّا من هو على الطهارة من الناس يعني مسّ المكتوب منه، انتهى و قد عرفت صحّة أن يراد بالمسّ العلم و الاطّلاع على تقدير كونها صفة للقرآن كما يصحّ على تقدير كونها صفة لكتاب مكنون.

و قوله:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) وصف آخر للقرآن، و المصدر بمعنى اسم المفعول أي منزّل من عندالله إليكم تفتهمونه و تعقلونه بعد ما كان في كتاب مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون.

و التعبير عنه تعالى بربّ العالمين للإشارة إلى أنّ ربوبيّته تعالى منبسطة على جميع العالمين و هم من جملتهم فهو تعالى ربّهم و إذا كان ربّهم كان عليهم أن يؤمنوا بكتابه و يصغوا لكلامه و يصدّقوه من غير تكذيب.

قوله تعالى: ( أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ ) الإشارة بهذا الحديث إلى القرآن، و الإدهان به التهاون به و أصله التليين بالدهن أستعير للتهاون، و الاستفهام للتوبيخ يوبّخهم تعالى على عدّهم أمر القرآن هيّناً لا يعتنى به.

قوله تعالى: ( وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) قيل: المراد بالرزق حظّهم من الخير، و المعنى: و تجعلون حظّكم من الخير الّذي لكم أن تنالوه بالقرآن أنّكم تكذّبون به أي تضعونه موضعه، و قيل: المراد بالرزق القرآن رزقهم الله إيّاه، و المعنى: تأخذون التكذيب مكان هذا الرزق الّذي رزقتموه، و قيل: الكلام بحذف مضاف و التقدير: و تجعلون شكر رزقكم أنّكم تكذّبون أي وضعتم التكذيب موضع الشكر.

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ - إلى قوله -صادِقِينَ ) رجوع إلى أوّل

١٥٧

الكلام بالتفريع على تكذيبهم بأنّكم إن كنتم صادقين في نفيكم للبعث مصيبين في تكذيبكم لهذا القرآن الّذي ينبّؤكم بالبعث رددتم نفس المحتضر الّتي بلغت الحلقوم إذ لو لم يكن الموت بتقدير من الله كان من الاُمور الاتّفاقية الّتي ربّما أمكن الاحتيال لدفعها، فإذا لم تقدروا على رجوعها و إعادة الحياة معها فاعلموا أنّ الموت حقّ مقدّر من الله لسوق النفوس إلى البعث و الجزاء.

فقوله:( فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ) تفريع على تكذيبهم بالقرآن و بما أخبر به من البعث و الجزاء، و لو لا للتحضيض تعجيزاً و تبكيتاً لهم، و ضمير( بَلَغَتِ ) للنفس، و بلوغ النفس الحلقوم كناية عن الإشراف التامّ للموت.

و قوله:( وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ) أي تنظرون إلى المحتضر أي هو بمنظر منكم.

و قوله:( وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ ) أي و الحال أنّا أقرب إليه منكم لإحاطتنا به وجوداً و رسلنا القابضون لروحه أقرب إليه منكم و لكن لا تبصروننا و لا رسلنا.

قال تعالى:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الزمر: 26، و قال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة: 11، و قال:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ) الأنعام: 61.

و قوله:( فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ) تكرار لو لا لتأكيد لو لا السابقة، و( مَدِينِينَ ) أي مجزيّين من دان يدين بمعنى جزى يجزي، و المعنى: إن كنتم غير مجزيّين ثواباً و عقاباً بالبعث.

و قوله:( تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) أي إن كنتم صادقين في دعواكم أن لا بعث و لا جزاء، و قوله:( تَرْجِعُونَها ) مدخول لو لا التحضيضيّة بحسب التقدير و ترتيب الآيات بحسب التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم مدينين.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ) رجوع إلى بيان حال الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة عند الموت و بعده و ضمير( كانَ )

١٥٨

للمتوفّى المعلوم من السياق، و المراد بالمقرّبين السابقون المقرّبون المذكورون سابقاً، و الروح الراحة، و الريحان الرزق، و قيل: هو الريحان المشموم من ريحان الجنّة يؤتى به إليه فيشمّه و يتوفّى.

و المعنى: فأمّا إن كان المتوفّى من المقرّبين فله - أو فجزاؤه - راحة من كلّ همّ و غمّ و ألم و رزق من رزق الجنّة و جنّة نعيم.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) يمكن أن يكون اللّام للاختصاص الملكيّ و معنى( فَسَلامٌ لَكَ ) أنّك تختصّ بالسلام من أصحاب اليمين الّذين هم قرناؤك و رفقاؤك فلا ترى منهم إلّا خيراً و سلاماً.

و قيل: لك بمعنى عليك أي يسلّم عليك أصحاب اليمين، و قيل غير ذلك.

و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنّه يخاطب بهذا الخطاب: سلام لك من أصحاب اليمين.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ) تصلية النار الإدخال فيها، و قيل: مقاساة حرّها و عذابها.

و المعنى: و أمّا إن كان من أهل التكذيب و الضلال فلهم نزل من ماء شديد الحرارة، و مقاساة حرّ نار جحيم.

و قد وصفهم الله بالمكذّبين الضالّين فقدّم التكذيب على الضلال لأنّ ما يلقونه من العذاب تبعة تكذيبهم و عنادهم للحقّ و لو كان ضلالاً بلا تكذيب و عناد كانوا مستضعفين غير نازلين هذه المنزلة، و أمّا قوله سابقاً:( ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ) فإذ كان المقام هناك مقام الردّ لقولهم:( أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ) إلخ، كان الأنسب توصيفهم أوّلاً بالضلال ثمّ بالتكذيب.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ) الحقّ هو العلم من حيث إنّ الخارج الواقع يطابقه، و اليقين هو العلم الّذي لا لبس فيه و لا ريب فإضافة الحقّ إلى اليقين نحو من الإضافة البيانيّة جي‏ء بها للتأكيد.

و المعنى: أنّ هذا الّذي ذكرناه من حال أزواج الناس الثلاثة هو الحقّ الّذي لا

١٥٩

تردّد فيه و العلم الّذي لا شكّ يعتريه.

قوله تعالى: ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) تقدّم تفسيره، و هو تفريع على ما تقدّمه من صفة القرآن و بيان حال الأزواج الثلاثة بعد الموت و في الحشر.

و المعنى: فإذا كان القرآن على هذه الصفات و صادقاً فيما ينبّئ به من حال الناس بعد الموت فنزّه ربّك العظيم مستعيناً أو ملابساً باسمه و أنف ما يراه و يدّعيه هؤلاء المكذّبون الضالّون.

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) و روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يقولنّ أحدكم: زرعت و ليقل: حرثت.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ:( أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ ) قال: من السحاب( نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً ) لنار يوم القيامة( وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ) قال: المحتاجين.

و في المجمع، في قوله تعالى:( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) فقد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم.

أقول: و رواه في الفقيه، مرسلاً، و رواه في الدرّ المنثور، عن الجهنيّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج النسائي و ابن جرير و محمّد بن نصر و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن عبّاس قال: اُنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثمّ فرّق في السنين و في لفظ ثمّ نزّل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوماً ثمّ قرأ( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) .

أقول: و ظاهره تفسير مواقع النجوم بأوقات نزول نجوم القرآن.

و في تفسير القمّيّ و قوله:( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) قال: معناه اُقسم بمواقع النجوم.

١٦٠