الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126893
تحميل: 4077


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126893 / تحميل: 4077
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) قال: عند الله في صُحف مطهّرة( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) قال: المقرّبون.

أقول: و تفسير المطهّرين بالمقرّبين يؤيّد ما أوردناه في البيان المتقدّم، و قد أوردنا في ذيل قوله:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الآية الجاثية: 29، حديثاً عن الصادقعليه‌السلام في الكتاب المكنون.

و في المجمع في قوله تعالى:( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) و قالوا: لا يجوز للجنب و الحائض و المحدث مسّ المصحف: عن محمّد بن عليّعليه‌السلام .

أقول: المراد بمسّ المصحف مسّ كتابته بدليل الروايات الاُخر.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن التعويذ يعلّق على الحائض قال: نعم لا بأس. و قال: تقرؤه و تكتبه و لا تصيبه يدها.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و ابن أبي داود و ابن المنذر عن عبدالله بن أبي بكر عن أبيه قال: في كتاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمرو بن حزم: و لا تمسّ القرآن إلّا عن طهور.

أقول: و الروايات فيه كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة.

و فيه، أخرج مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: مطر الناس على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصبح من الناس شاكر و منهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله و قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ) حتّى بلغ( وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) .

أقول: و قد استفاضت الرواية من طرق أهل السنّة أنّ الآيات نزلت في الأنواء و ظاهرها أنّها مدنيّة لكنّها لا تلائم سياق آيات السورة كما عرفت.

و في المجمع، و قراءة عليّعليه‌السلام و ابن عبّاس و رويت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و تجعلون شكركم.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّعليه‌السلام .

١٦١

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( غَيْرَ مَدِينِينَ ) قال: معناه فلو كنتم غير مجازين على أعمالكم( تَرْجِعُونَها ) يعني به الروح إذا بلغت الحلقوم تردّونها في البدن( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول:( فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ ) في قبره( وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ) في الآخرة.

و في الدرّ المنثور، أخرج القاسم بن مندة في كتاب الأحوال و الإيمان بالسؤال عن سلمان قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن عند الوفاة بروح و ريحان و جنّة نعيم و إنّ أوّل ما يبشّر به المؤمن في قبره أن يقال: أبشر برضا الله تعالى و الجنّة قدمت خير مقدم قد غفر الله لمن شيّعك إلى قبرك، و صدّق من شهد لك، و استجاب لمن استغفر لك.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عبّاس: في قوله:( فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ) قال: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلّم عليه و تخبره أنّه من أصحاب اليمين.

أقول: و ما أورده من المعنى مبنيّ على كون الآية حكاية خطاب الملائكة، و التقدير قالت الملائكة سلام لك حال كونك من أصحاب اليمين فهي سلام و بشارة.

١٦٢

( سورة الحديد مدنيّة و هي تسع و عشرون آية)

( سورة الحديد الآيات 1 - 6)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  يُحْيِي وَيُمِيتُ  وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 2 ) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ  وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 3 ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ  يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا  وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ  وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 4 ) لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ( 5 ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ  وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 6 )

( بيان)

غرض السورة حثّ المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله كما يشعر به تأكيد الأمر به مرّة بعد مرّة في خلال آياتها( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) الآية،( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) الآية،( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) و قد سمّت إنفاقهم ذلك إقراضاً منه لله عزّ اسمه فالله سبحانه خير مطلوب و هو لا يخلف الميعاد و قد وعدهم إن أقرضوه أن يضاعفه لهم و أن يؤتيهم أجراً كريماً كثيراً.

و قد أشار إلى أنّ هذا الإنفاق من التقوى و الإيمان بالرسول و أنّه يستتبع مغفرة الذنوب و إتيان كفلين من الرحمة و لزوم النور بل و اللحوق بالصّدّيقين و الشهداء عندالله سبحانه.

١٦٣

و في خلال آياتها معارف راجعة إلى المبدأ و المعاد، و دعوة إلى التقوى و إخلاص الإيمان و الزهد و موعظة.

و السورة مدنيّة بشهادة سياق آياتها و قد ادّعى بعضهم إجماع المفسّرين على ذلك.

و لقد افتتحت السورة بتسبيحه و تنزيهه تعالى بعدّة من أسمائه الحسنى لما في غرض السورة و هو الحثّ على الإنفاق من شائبة توهّم الحاجة و النقص في ناحيته و نظيرتها في ذلك جميع السور المفتتحة بالتسبيح و هي سور الحشر و الصفّ و الجمعة و التغابن المصدّرة بسبّح أو يسبّح.

قوله تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) التسبيح التنزيه و هو نفي ما يستدعي نقصاً أو حاجة ممّا لا يليق بساحة كماله تعالى، و ما موصولة و المراد بها ما يعمّ العقلاء ممّا في السماوات و الأرض كالملائكة و الثقلين و غير العقلاء كالجمادات و الدليل عليه ما ذكر بعد من صفاته المتعلّقة بالعقلاء كالإحياء و العلم بذات الصدور.

فالمعنى: نزّه الله سبحانه ما في السماوات و الأرض من شي‏ء و هو جميع العالم.

و المراد بتسبيحها حقيقة معنى التسبيح دون المعنى المجازيّ الّذي هو دلالة وجود كلّ موجود في السماوات و الأرض على أنّ له موجداً منزّهاً من كلّ نقص متّصفاً بكلّ كمال، و دون عموم المجاز و هو دلالة كلّ موجود على تنزّهه تعالى إمّا بلسان القال كالعقلاء و إمّا بلسان الحال كغير العقلاء من الموجودات و ذلك لقوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: 44، حيث استدرك أنّهم لا يفقهون تسبيحهم و لو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده و هي قيام الحجّة على الناس بوجودهم أو كان المراد تسبيحهم و تحميدهم بلسان الحال و ذلك ممّا يفقه الناس لم يكن للاستدراك معنى.

فتسبيح ما في السماوات و الأرض تسبيح و نطق بالتنزيه بحقيقة معنى الكلمة و إن كنّا لا نفقهه، قال تعالى:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: 21.

١٦٤

و قوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي المنيع جانبه يغلب و لا يغلب، المتقن فعله لا يعرض على فعله ما يفسده عليه و لا يتعلّق به اعتراض معترض.

قوله تعالى: ( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) الكلام موضوع على الحصر فهو المليك في السماوات و الأرض يحكم ما يشاء لأنّه الموجد لكلّ شي‏ء فما في السماوات و الأرض يقوم به وجوده و آثار وجوده فلا حكم إلّا له فلا ملك و لا سلطنة إلّا له.

و قوله:( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) إشارة إلى اسمية المحيي و المميت، و إطلاق( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) يفيد شمولهما لكلّ إحياء و إماتة كإيجاده الملائكة أحياء من غير سبق موت، و إحيائه الجنين في بطن اُمّه و إحيائه الموتى في البعث و إيجاده الجماد ميتاً من غير سبق حياة و إماتته الإنسان في الدنيا و إماتته ثانياً في البرزخ على ما يشير إليه قوله:( رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) المؤمن: 11 و في( يُحْيِي وَ يُمِيتُ ) دلالة على الاستمرار.

و قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) فيه إشارة إلى صفة قدرته و أنّها مطلقة غير مقيّدة بشي‏ء دون شي‏ء، و في تذييل الآية بالقدرة على كلّ شي‏ء مناسبة مع ما تقدّمها من الإحياء و الإماتة لما ربّما يتوهمّه المتوهّم أن لا قدرة على إحياء الموتى و لا عين منهم و لا أثر.

قوله تعالى: ( هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) لمّا كان تعالى قديراً على كلّ شي‏ء مفروض كان محيطاً بقدرته على كلّ شي‏ء من كلّ جهة فكلّ ما فرض أوّلاً فهو قبله فهو الأوّل دون الشي‏ء المفروض أوّلاً، و كلّ ما فرض آخراً فهو بعده لإحاطة قدرته به من كلّ جهة فهو الآخر دون الشي‏ء المفروض آخراً، و كلّ شي‏ء فرض ظاهراً فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهراً، و كلّ شي‏ء فرض أنّه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطناً فهو تعالى الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن على الإطلاق و ما في غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافيّة نسبيّة.

١٦٥

و ليست أوّليّته تعالى و لا آخريّته و لا ظهوره و لا بطونه زمانيّة و لا مكانيّة بمعنى مظروفيّته لهما و إلّا لم يتقدّمهما و لا تنزّه عنهما سبحانه بل هو محيط بالأشياء على أيّ نحو فرضت و كيفما تصوّرت.

فبان ممّا تقدّم أنّ هذه الأسماء الأربعة الأوّل و الآخر و الظاهر و الباطن من فروع اسمه المحيط و هو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكلّ شي‏ء و يمكن تفريع الأسماء الأربعة على إحاطة وجوده بكلّ شي‏ء فإنّه تعالى ثابت قبل ثبوت كلّ شي‏ء و ثابت بعد فناء كلّ شي‏ء و أقرب من كلّ شي‏ء ظاهر و أبطن من الأوهام و العقول من كلّ شي‏ء خفيّ باطن.

و كذا للأسماء الأربعة نوع تفرّع على علمه تعالى و يناسبه تذييل الآية بقوله:( وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) .

و فسّر بعضهم الأسماء الأربعة بأنّه الأوّل قبل كلّ شي‏ء و الآخر بعد هلاك كلّ شي‏ء الظاهر بالأدلّة الدالّة عليه و الباطن غير مدرك بالحواسّ.

و قيل: الأوّل قبل كلّ شي‏ء بلا ابتداء، و الآخر بعد كلّ شي‏ء بلا انتهاء، و الظاهر الغالب العالي على كلّ شي‏ء فكلّ شي‏ء دونه، و الباطن العالم بكلّ شي‏ء فلا أحد أعلم منه.

و قيل: الأوّل بلا ابتداء و الآخر بلا انتهاء و الظاهر بلا اقتراب و الباطن بلا احتجاب.

و هناك أقوال اُخر في معناها غير جيّدة أغمضنا عن إيرادها.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) تقدّم تفسيره.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها ) تقدّم تفصيل القول في معنى العرش في سورة الأعراف آية: 54.

و تقدّم أنّ الاستواء على العرش كناية عن الاُخذ في تدبير الملك و لذا عقّبه بالعلم بجزئيّات الأحوال لأنّ العلم من لوازم التدبير.

١٦٦

و قوله:( يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها ) الولوج - كما قال الراغب - الدخول في مضيق، و العروج ذهاب في صعود، و المعنى: يعلم ما يدخل و ينفذ في الأرض كماء المطر و البذور و غيرهما و ما يخرج من الأرض كأنواع النبات و الحيوان و الماء و ما ينزل من السماء كالأمطار و الأشعّة و الملائكة و ما يعرج فيها و يصعد كالأبخرة و الملائكة و أعمال العباد.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) لإحاطته بكم فلا تغيبون عنه أينما كنتم و في أيّ زمان عشتم و في أيّ حال فرضتم فذكر عموم الأمكنة( أَيْنَ ما كُنْتُمْ ) لأنّ الأعرف في مفارقة شي‏ء شيئاً و غيبته عنه أن يتوسّل إلى ذلك بتغيير المكان و إلّا فنسبته تعالى إلى الأمكنة و الأزمنة و الأحوال سواء.

و قيل: المعيّة مجاز مرسل عن الإحاطة العلميّة.

قوله تعالى: ( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) كالفرع المترتّب على ما قبله من كونه معهم أينما كانوا و كونه بكلّ شي‏ء عليماً فإنّ لازم حضوره عندهم من دون مفارقة ما و احتجاب و هو عليم أن يكون بصيراً بأعمالهم يبصر ظاهر عملهم، و ما في باطنهم من نيّة و قصد.

قوله تعالى: ( لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) كرّر قوله:( لَهُ مُلْكُ ) إلخ، لابتناء رجوع الأشياء إليه على عموم الملك فصرّح به ليفيد الابتناء، قال تعالى:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: 16.

و قوله:( وَ إِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) الاُمور جمع محلّى باللام يفيد العموم كقوله:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُُ ) الشورى: 53، فما من شي‏ء إلّا و يرجع إلى الله، و لا رادّ إليه تعالى إلّا هو لاختصاص الملك به فله الأمر و له الحكم.

و في الآية وضع الظاهر موضع الضمير في( إِلَى اللهِ ) و كذا في الآية السابقة( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) و لعلّ الوجه في ذلك أن تقرع الجملتان قلوبهم كما يقرع المثل السائر لما سيجي‏ء من ذكر يوم القيامة و جزيل أجر المنفقين في سبيل الله فيه.

١٦٧

قوله تعالى: ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) إيلاج الليل في النهار و إيلاج النهار في الليل اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر باختلاف فصول السنة في كلّ من البقاع الشماليّة و الجنوبيّة بعكس الاُخرى، و قد تقدّم في كلامه تعالى غير مرّة.

و المراد بذات الصدور الأفكار المضمرة و النيّات المكنونة الّتي تصاحب الصدور و تلازمها لما أنّها تنسب إلى القلوب و القلوب في الصدور، و الجملة أعني قوله:( وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) بيان لإحاطة علمه بما في الصدور بعد بيان إحاطة بصره بظواهر أعمالهم بقوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود و الترمذيّ و حسّنه و النسائيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، و قال: إنّ فيهنّ آية أفضل من ألف آية.

أقول: و رواه أيضاً عن ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الكافي، بإسناده عن عاصم بن حميد قال: سئل عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن التوحيد فقال: إنّ الله عزّوجلّ علم أنّه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون فأنزل الله تعالى:( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ) و الآيات من سورة الحديد إلى قوله:( عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) فمن رام وراء ذلك فقد هلك.

و في تفسير القمّيّ:( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قال: هو قوله: اُوتيت جوامع الكلم، و قوله:( هُوَ الْأَوَّلُ ) قال: أي قبل كلّ شي‏ء،( وَ الْآخِرُ ) قال: يبقى بعد كلّ شي‏ء،( وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) قال: بالضمائر.

و في الكافي، و روي: أنّه يعني عليّاًعليه‌السلام سئل أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماء و أرضاً؟ قال: أين سؤال عن مكان و كان الله و لا مكان.

و في التوحيد، خطبة للحسن بن عليّعليه‌السلام و فيها: الحمد لله الّذي لم يكن فيه

١٦٨

أوّل معلوم، و لا آخر متناه، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، فلا تدرك العقول و أوهامها و لا الفكر و خطراتها و لا الألباب و أذهانها صفته فتقول: متى و لا بدئ ممّا، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما.

أقول: و قوله أوّل معلوم إلخ، أوصاف توضيحيّة أي ليس له أوّل و لو كان له أوّل كان من الجائز أن يتعلّق به علم و لا آخر و لو كان له آخر كان متناهياً، و لا قبل و لو كان لكان جائز الإدراك و لا بعد و إلّا لكان محدوداً.

و قوله: و لا بدئ ممّا أي لم يبتدأ من شي‏ء حتّى يكون له أوّل و لا ظاهر على ما أي يتفوّق على شي‏ء بالوقوع و الاستقرار عليه كالجسم على الجسم( و لا باطن فيما) أي لم يتبطّن في شي‏ء بالدخول فيه و الاستتار به.

و في نهج البلاغة: و كلّ ظاهر غيره غير باطن، و كلّ باطن غيره غير ظاهر.

أقول: معناه أنّ حيثيّة الظهور في غيره تعالى غير حيثيّة البطون و بالعكس، و أمّا هو تعالى فلمّا كان أحديّ الذات لا تنقسم و لا تتجزّى إلى جهة و جهة كان ظاهراً من حيث هو باطن و باطناً من حيث هو ظاهر فهو باطن خفيّ من كمال ظهوره و ظاهر جليّ من كمال بطونه.

و فيه: الحمد لله الأوّل فلا شي‏ء قبله، و الآخر فلا شي‏ء بعده، و الظاهر فلا شي‏ء فوقه، و الباطن فلا شي‏ء دونه.

أقول: المراد بالقبليّة و البعديّة ليس هو القبليّة و البعديّة الزمانيّة بأن يفرض هناك امتداد زمانيّ غير متناهي الطرفين و قد حلّ العالم قطعة منه خالياً عنه طرفاه و يكون وجوده تعالى و تقدّس منطبقاً على الزمان كلّه غير خال عنه شي‏ء من جانبيه و إن ذهباً إلى غير النهاية فيتقدّم وجوده تعالى على العالم زماناً و يتأخّر عنه زماناً و لو كان كذلك لكان تعالى متغيّراً في ذاته و أحواله بتغيّر الأزمنة المتجدّدة عليه، و كان قبليّته و بعديّته بتبع الزمان و كان الزمان هو الأوّل و الآخر بالأصالة.

و كذلك ليست ظاهريّته و باطنيّته بحسب المكان بنظير البيان بل هو تعالى سابق بنفس ذاته المتعالية على كلّ شي‏ء مفروض و آخر بنفس ذاته عن كلّ أمر مفروض أنّه

١٦٩

آخر، و ظاهر، و باطن كذلك، و الزمان مخلوق له متأخّر عنه.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ في العظمة عن ابن عمر و أبي سعيد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يزال الناس يسألون عن كلّ شي‏ء حتّى يقولوا: هذا الله كان قبل كلّ شي‏ء فما ذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأوّل قبل كلّ شي‏ء و هو الآخر فليس بعده شي‏ء و هو الظاهر فوق كلّ شي‏ء و هو الباطن دون كلّ شي‏ء و هو بكلّ شي‏ء عليم.

و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: لم يزل الله عزّوجلّ ربّنا و العلم ذاته و لا معلوم فلمّا أحدث الأشياء وقع العلم منه على المعلوم.

أقول: ليس المراد بهذا العلم الصور الذهنيّة فيكون تعالى كباني دار يتصوّر للدار صورة و هيئة قبل بنائها ثمّ يبنيها على ما تصوّر فتنطبق الصورة الذهنيّة على البناء الخارجيّ ثمّ تنهدم الدار و الصورة الذهنية على حالها، و هذا هو المسمّى بالعلم الكلّيّ و هو مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم بمعلومه ثمّ المعلوم إذا تحقّق في الخارج كان ذات المعلوم عين علمه تعالى به، و يسمّى الأوّل العلم الذاتيّ و الثاني العلم الفعليّ.

و فيه، خطبة لعليّعليه‌السلام و فيها: و علمها لا بأداة لا يكون العلم إلّا بها، و ليس بينه و بين معلومه علم غيره.

أقول: المراد به أنّ ذاته تعالى عين علمه، و ليست هناك صورة زائدة.

١٧٠

( سورة الحديد الآيات 7 - 15)

آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ  فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ( 7 ) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ  وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 8 ) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( 9 ) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ  أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا  وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ  وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 10 ) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ( 11 ) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 12 ) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ( 13 ) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ ( 14 ) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا  مَأْوَاكُمُ النَّارُ  هِيَ مَوْلَاكُمْ  وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 15 )

١٧١

( بيان)

أمر مؤكّد بالإنفاق في سبيل الله و خاصّة الجهاد على ما يؤيّده قوله:( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ ) الآية، و يتأيّد بذلك ما قيل: إنّ قوله:( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا ) إلخ، نزل في غزوة تبوك.

قوله تعالى: ( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) إلخ، المستفاد من سياق الآيات أنّ الخطاب في الآية للمؤمنين بالله و رسوله لا للكفّار و لا للمؤمنين و الكفّار جميعاً كما قيل، و أمر الّذين تلبّسوا بالإيمان بالله و رسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء و العفّة و الشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حقّ ثبوتها لم يتخلّف عنها أثرها الخاصّ و من آثار الإيمان بالله و رسوله الطاعة فيما أمر الله و رسوله به.

و من هنا يظهر أوّلاً: أنّ أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقّق بمرتبة من الإيمان أن يتلبّس بمرتبة هي أعلى منها، و هذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أنّ الّذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كلّ الإرضاء.

و ثانياً: أنّ قوله:( آمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا ) أمر بالإنفاق مع التلويح إلى أنّه أثر صفة هم متلبّسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتّصفوا بها فيؤل إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.

و قوله:( وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) استخلاف الإنسان جعله خليفة، و المراد به إمّا خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله:( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة: 30، و التعبير عمّا بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان

١٧٢

الواقع و لترغيبهم في الإنفاق فإنّهم إذا أيقنوا أنّ المال لله و هم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرّفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه و لم تتحرّج نفوسهم من ذلك.

و إمّا خلافتهم عمّن سبقهم من الأجيال كما يخلف كلّ جيل سابقه، و في التعبير به أيضاً ترغيب في الإنفاق فإنّهم إذا تذكّروا أنّ هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنّه كذلك لا يدوم لهم و سيتركونه لغيرهم و هان عليهم إنفاقه و سخت بذلك نفوسهم.

و قوله:( فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) وعد للأجر على الإنفاق تأكيداً للترغيب، و المراد بالإيمان الإيمان بالله و رسوله.

قوله تعالى: ( وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) إلخ، المراد بالإيمان الإيمان بحيث يترتّب عليه آثاره و منها الإنفاق في سبيل الله - و إن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإيمان عليه -.

و قوله:( وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ) عبّر بالربّ و إضافة إليهم تلويحاً إلى علّة توجّه الدعوة و الأمر كأنّه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنّه ربّكم يجب عليكم أن تؤمنوا به.

و قوله:( وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) تأكيد للتوبيخ المفهوم من أوّل الآية، و ضمير( أَخَذَ ) لله سبحانه أو للرسول و على أيّ حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الّذي تدلّ عليه شهادتهم على وحدانيّة الله و رسالة رسوله يوم آمنوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّهم على السمع و الطاعة.

و قيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذرّ، و على هذا فضمير( أَخَذَ ) لله سبحانه، و فيه أنّه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنّهم غافلون عنه، على أنّ أخذ الميثاق في الذرّ لا يختصّ بالمؤمنين بل يعمّ المنافقين و الكفّار.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى‏ عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) إلخ، المراد بالآيات البيّنات آيات القرآن الكريم المبيّنة لهم ما عليهم من فرائض الدين، و فاعل( لِيُخْرِجَكُمْ ) الضمير العائد إلى الله أو إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مرجع الثاني

١٧٣

أيضاً هو الأوّل فالميثاق ميثاقه و قد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أنّ الإيمان به و برسوله إيمان به و لذلك قال في صدر الآية:( وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) فذكر نفسه و لم يذكر رسوله إشارة إلى أنّ الإيمان برسوله إيمان به.

و قوله:( وَ إِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) في تذييل الآية برأفته تعالى و رحمته إشارة إلى أنّ الإيمان الّذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم و أصلح و هم الّذين ينتفعون به دون الله و رسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان و الإنفاق.

قوله تعالى: ( وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الميراث و التراث المال الّذي ينتقل من الميّت إلى من بقي بعده من ورّاثه، و إضافة الميراث إلى السماوات و الأرض بيانيّة فالسماوات و الأرض هي الميراث بما فيهما من الأشياء الّتي خلق منهما ممّا يتملّكه ذووا الشعور من سكنتهما فالسماوات و الأرض شاملة لما فيهما ممّا خلق منهما و يتصرّف فيها ذووا الشعور كالإنسان مثلاً بتخصيص ما يتصرّفون فيه لأنفسهم و هو الملك الاعتباريّ الّذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.

غير أنّهم لا يبقون و لا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدّر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم و هكذا حتّى يفنى الجميع و لا يبقى إلّا هو سبحانه.

فالأرض مثلاً و ما فيها و عليها من مال ميراث من جهة أنّ كلّ جيل من سكّانها يرثها ممّن قبله فكانت ميراثاً دائماً دائراً بينهم خلفاً عن سلف، و ميراث من جهة أنّهم سيفنون جميعاً و لا يبقى لها إلّا الله الّذي استخلفهم عليها.

و لله سبحانه ميراث السماوات و الأرض بكلا المعنيين، أمّا الأوّل: فلأنّه الّذي يملّكهم المال و هو المالك لما ملّكهم، قال تعالى:( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) لقمان: 26، و قال:( وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) النور: 42، و قال:( وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ ) النور: 33.

و أمّا الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى:( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ) الرحمن: 26 و غيره، و الّذي يسبق إلى الذهن أنّ المراد بكونهما ميراثاً هو المعنى الثاني.

١٧٤

و كيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الّذي لا يرثه بالحقيقة إلّا هو تعالى و لا يبقى لهم و لا لغيرهم، و الإظهار في موضع الإضمار في قوله:( وَ لِلَّهِ ) لتشديد التوبيخ.

قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا ) إلخ، الاستواء بمعنى التساوي، و قسيم قوله:( مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ ) محذوف إيجازاً لدلالة قوله:( أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا ) عليه.

و المراد بالفتح - كما قيل - فتح مكّة أو فتح الحديبيّة و عطف القتال على الإنفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أنّ المراد بالإنفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الإنفاق في الجهاد.

و كأنّ الآية مسوقة لبيان أنّ الإنفاق في سبيل الله كلّما عجّل إليها كان أحبّ عندالله و أعظم درجة و منزلة و إلّا فظاهر أنّ هذه الآيات نزلت بعد الفتح و القتال الّذي بادروا إليه قبل الفتح و بعض المقاتل الّتي بعده.

و قوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى‏ ) أي وعد الله المثوبة الحسنى كلّ من أنفق و قاتل قبل الفتح أو أنفق و قاتل بعده و إن كانت الطائفة الاُولى أعظم درجة من الثانية، و فيه تطييب لقلوب المتأخّرين إنفاقاً و قتالاً أنّ لهم نيلاً من رحمته و ليسوا بمحرومين مطلقاً فلا موجب لأن ييأسوا منها و إن تأخّروا.

و قوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) تذييل متعلّق بجميع ما تقدّم ففيه تشديد للتوبيخ و تقرير و تثبيت لقوله:( لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ ) إلخ، و لقوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى‏ ) و يمكن أن يتعلّق بالجملة الأخيرة لكن تعلّقه بالجميع أعمّ و أشمل.

قوله تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) قال الراغب: و سمّي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله قرضاً. انتهى، و قال في المجمع: و أصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان ردّ مثله. قال: و المضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله. انتهى، و قال الراغب: الأجر و الأجرة ما يعود

١٧٥

من ثواب العمل دنيويّاً كان أو اُخرويّاً قال: و لا يقال إلّا في النفع دون الضرّ بخلاف الجزاء فإنّه يقال في النفع و الضرّ. انتهى ملخّصاً.

و ما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضّل منه من غير استحقاق من العبد فإنّ العبد و ما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل و الانتقال غير أنّه اعتبر اعتباراً تشريعيّاً العبد مالكاً و ملّكه عمله، و هو المالك لما ملّكه و هو تفضّل آخر ثمّ اختار ما أحبّه من عمله فوعده ثواباً على عمله و سمّاه أجراً و جزاء و هو تفضّل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلّا العبد قال تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران: 172، و قال:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) حم السجدة: 8، و قال بعد وصف الجنّة و نعيمها:( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الإنسان: 22، و ما وعده من الشكر و عدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضّل.

و في الآية حثّ بليغ على ما ندب إليه من الإنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الّذي ينفق منهم في سبيل الله و مثّل إنفاقه بأنّه قرض يقرضه الله سبحانه و عليه أن يردّه ثمّ قطع أنّه لا يردّ مثله إليه بل يضاعفه و لم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجراً كريماً في الآخرة و الأجر الكريم هو المرضيّ في نوعه و الأجر الاُخرويّ كذلك لأنّه غاية ما يتصوّر من النعمة عند غاية ما يتصوّر من الحاجة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) إلخ، اليوم ظرف لقوله:( لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) و المراد به يوم القيامة، و الخطاب في( تَرَى ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكلّ سامع يصحّ خطابه، و الظاهر أنّ الباء في( بِأَيْمانِهِمْ ) بمعنى في.

و المعنى: لمن أقرض الله قرضاً حسناً أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كلّ من يصحّ منه الرؤية - المؤمنين بالله و رسوله و المؤمنات يسعى نورهم أمامهم و في أيمانهم و اليمين هو الجهة الّتي منها سعادتهم..

و الآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الاُمم و لا تختصّ بهذه الاُمّة، و التعبير عن إشراق النور بالسعي يشعر بأنّهم ساعون إلى درجات الجنّة الّتي أعدّها الله سبحانه لهم

١٧٦

و تستنير لهم جهات السعادة و مقامات القرب واحدة بعد واحدة حتّى يتمّ لهم نورهم كما قال تعالى:( وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً ) الزمر: 73، و قال:( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ) مريم: 85، و قال:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى‏ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ) التحريم: 8.

و للمفسّرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ الآية عليها، و سيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و قوله:( بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) حكاية ما يقال للمؤمنين و المؤمنات يوم القيامة، و القائل الملائكة بأمر من الله و التقدير يقال لهم:( بُشْراكُمُ ) إلخ، و المراد بالبشرى ما يبشّر به و هو الجنّة و الباقي ظاهر.

و قوله:( ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) كلام الله سبحانه و الإشارة إلى ما ذكر من سعي النور و البشرى أو من تمام قول الملائكة و الإشارة إلى الجنّات و الخلود فيها.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ) إلى آخر الآية، النظر إذا تعدّى بنفسه أفاد معنى الانتظار و الإمهال، و إذا عدّي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشي‏ء و إذا عدّي بفي كان بمعنى التأمّل، و الاقتباس أخذ قبس من النار.

و السياق يفيد أنّهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها و قد اُلجؤوا إلى المسير نحو دارهم الّتي يخلّدون فيها غير أنّ المؤمنين و المؤمنات يسيرون بنورهم الّذي يسعى بين أيديهم و بأيمانهم فيبصرون الطريق و يهتدون إلى مقاماتهم، و أمّا المنافقون و المنافقات فهم مغشيّون بالظلمة لا يهتدون سبيلاً و هم مع المؤمنين كما كانوا في الدنيا معهم و معدودين منهم فيسبق المؤمنون و المؤمنات إلى الجنّة و يتأخّر عنهم المنافقون و المنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين و المؤمنات أن ينتظروهم حتّى يلحقوا بهم و يأخذوا قبساً من نورهم ليستضيؤا به في طريقهم.

١٧٧

و قوله:( قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ) القائل به إمّا الملائكة أو قوم من كمّل المؤمنين كأصحاب الأعراف.

و كيف كان فهو من الله و بإذنه، و الخطاب بقوله:( ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً ) قيل: إنّه خطاب مبنيّ على التهكّم و الاستهزاء كما كانوا يستهزؤن في الدنيا بالمؤمنين، و الأظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، و محصّل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا الّتي تركتموها وراء ظهوركم و عملتم فيها ما عملتم على النفاق، و التمسوا من تلك الأعمال نوراً فإنّما النور نور الأعمال أو الإيمان و لا إيمان لكم و لا عمل.

و يمكن أن يجعل هذا وجهاً على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله:( ارْجِعُوا ) أمراً بالرجوع إلى الدنيا و اكتساب النور بالإيمان و العمل الصالح و ليسوا براجعين و لا يستطيعون فيكون الأمر بالرجوع كالأمر بالسجود المذكور في قوله تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ ) القلم: 43.

و قيل: المراد ارجعوا إلى المكان الّذي قسّم فيه النور و التمسوا من هناك فيرجعون فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم و قد ضرب بينهم بسور، و هذا خدعة منه تعالى يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ) النساء: 142.

قوله تعالى: ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) سور المدينة حائطها الحاجز بينها و بين الخارج منها، و الضمير في( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ ) راجع إلى المؤمنين و المنافقين جميعاً أي ضرب بين المؤمنين و بين المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الاُخرى.

قيل: السور هو الأعراف و هو غير بعيد و قد تقدّمت إشارة إليه في تفسير قوله تعالى:( وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ) الآية الأعراف: 46، و قيل: السور غير الأعراف.

و قوله:( لَهُ بابٌ ) أي للسور باب و هذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا

١٧٨

فيها بين المؤمنين لهم اتّصال بهم و ارتباط و هم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب. على أنّهم يرون أهل الجنّة و يزيد بذلك حسرتهم و ندامتهم.

و قوله:( باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) ( باطِنُهُ ) مبتدأ و جملة( فِيهِ الرَّحْمَةُ ) مبتدأ و خبر و هي خبر( باطِنُهُ ) و كذا( ظاهِرُهُ ) مبتدأ و جملة( مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ ) مبتدأ و خبر هي خبره، و ضميراً( فِيهِ ) و( مِنْ قِبَلِهِ ) للباطن و الظاهر.

و يظهر من كون باطن السور فيه رحمة و ظاهره من قبله العذاب أنّ السور محيط بالمؤمنين و هم في داخله و المنافقون في الخارج منه..

و في اشتمال داخله الّذي يلي المؤمنين على الرحمة و ظاهره الّذي يلي المنافقين على العذاب مناسبة لحال الإيمان في الدنيا فإنّه نعمة لأهل الإخلاص من المؤمنين يبتهجون بها و يلتذّون و عذاب لأهل النفاق يتحرّجون من التلبّس به و يتألّمون منه.

قوله تعالى: ( يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب السؤال كأنّه قيل: فما ذا يفعل المنافقون و المنافقات بعد ضرب السور و مشاهدة العذاب من ظاهره؟ فقيل: ينادونهم إلخ.

و المعنى: ينادي المنافقون و المنافقات المؤمنين و المؤمنات بقولهم:( أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين و المؤمنات في ظاهر الدين.

و قوله:( قالُوا بَلى‏ ) إلى آخر الآية جواب المؤمنين و المؤمنات لهم و المعنى:( قالُوا ) أي قال المؤمنون و المؤمنات جواباً لهم( بَلى) كنتم في الدنيا معنا( وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ ) أي محنتم و أهلكتم( أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ ) الدوائر بالدين و أهله( وَ ارْتَبْتُمْ ) و شككتم في دينكم( وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ ) و منها اُمنيّتكم أنّ الدين سيطفأ نوره و يتركه أهله( حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ ) و هو الموت( وَ غَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ) بفتح الغين و هو الشيطان.

و الآية - كما ترى - تفيد أنّ المنافقين و المنافقات يستنصرون المؤمنين و

١٧٩

المؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسّلين بأنّهم كانوا معهم في الدنيا ثمّ تفيد أنّ المؤمنين و المؤمنات يجيبون بأنّهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم و يتربّصون و يرتابون و تغرّهم الأمانيّ و يغرّهم بالله الغرور، و هذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة و لا ينفع يوم القيامة إلّا القلب السليم قال تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: 89.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) تتمّة كلام المؤمنين و المؤمنات يخاطبون به المنافقين و المنافقات و يضيفون إليهم الكفّار و هم المعلنون لكفرهم أنّهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) المدّثّر: 38، لا يؤخذ منهم فدية يخلّصون بها أنفسهم و الفدية أحد الأمرين الّذين بهما التخلّص من الرهانة و الآخر ناصر ينصر فينجّي و قد نفوه بقولهم:( مَأْواكُمُ النَّارُ ) إلخ.

فقوله:( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) ينفي أيّ ناصر ينصرهم و ينجّيهم من النار غير النار على ما يفيده قوله:( هِيَ مَوْلاكُمْ ) من الحصر، و المولى هو الناصر و الجملة مسوقة للتهكّم.

و يمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الأمر فإنّهم كانوا يدعون لحوائجهم من المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المسكن غير الله سبحانه و حقيقته النار فاليوم مولاهم النار و هي الّتي تعدّ لهم ذلك فمأكلهم من الزقّوم و مشربهم من الحميم و ملبسهم من ثياب قطّعت من النار و قرناؤهم الشياطين و مأواهم النار على ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه.

١٨٠