الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126867
تحميل: 4075


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126867 / تحميل: 4075
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة المجادلة الآيات 14 - 22)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( 14 ) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا  إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 15 ) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( 16 ) لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئًا  أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ  هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 17 ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ  وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ  أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 18 ) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ  أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 19 ) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ( 20 ) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي  إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ( 21 ) لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ  أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ  وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ  أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ  أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 22 )

٢٢١

( بيان)

تذكر الآيات قوماً من المنافقين يتولّون اليهود و يوادّونهم و هم يحادّون الله و رسوله و تذمّهم على ذلك و تهدّدهم بالعذاب و الشقوة تهديداً شديداً، و تقطع بالآخرة أنّ الإيمان بالله و اليوم الآخر يمنع عن موادّة من يحادّ الله و رسوله كائناً من كان، و تمدح المؤمنين المتبرّئين من أعداء الله و تعدهم إيماناً مستقرّاً و روحاً من الله و جنّة و رضواناً.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) إلخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى:( مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ ) المائدة: 60.

و قوله:( ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ ) ضمير( عَلَيْهِمْ ) للمنافقين و ضمير( مِنْهُمْ ) لليهود، و المعنى: أنّ هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر و الإيمان ليسوا منكم و لا من اليهود، قال تعالى:( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ وَ لا إِلى‏ هؤُلاءِ ) النساء: 143.

و هذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم و أمّا بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولّوهم، قال تعالى:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) المائدة: 51، فلا منافاة بين قوله:( ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ ) و قوله:( فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) .

و احتمل بعضهم أنّ ضمير( عَلَيْهِمْ ) للقوم و هم اليهود و ضمير( مِنْهُمْْ ) للموصول و هم المنافقون، و المعنى: تولّوا اليهود الّذين ليسوا منكم و أنتم مؤمنون و لا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيّون برآء من الطائفتين، و فيه نوع من الذمّ، و هو بعيد.

و قوله:( وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) أي يحلفون لكم على الكذب أنّهم منكم مؤمنون أمثالكم و هم يعلمون أنّهم كاذبون في حلفهم.

قوله تعالى: ( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الإعداد التهيئة، و قوله:( إِنَّهُمْ ساءَ ) إلخ، تعليل للإعداد، و في قوله:( كانُوا يَعْمَلُونَ ) دلالة على

٢٢٢

أنّهم كانوا مستمرّين في عملهم مداومين عليه.

و المعنى: هيّأ الله لهم عذاباً شديداً لاستمرارهم على عملهم السيّئ.

قوله تعالى: ( اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) الأيمان جمع يمين و هو الحلف، و الجنّة السترة الّتي يتّقى بها الشرّ كالترس، و المهين اسم فاعل من الإهانة بمعنى الإذلال و الإخزاء.

و المعنى: اتّخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة و الظنّة كلّما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم و غيرهم عن سبيل الله و هو الإسلام فلهم - لأجل ذلك - عذاب مذلّ مخز.

قوله تعالى: ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) أي إنّ الّذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الّذي هو الأموال و الأولاد لكنّهم في حاجة إلى التخلّص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلّا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم و لا أولادهم شيئاً فليؤمنوا به و ليعبدوه.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) إلخ، ظرف لما تقدّم من قوله:( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) أو لقوله:( أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ) و قوله:( فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا.

و قد قدّمنا في تفسير قوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) الأنعام: 23 أنّ حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الاُمور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحقّ بالأيمان الكاذبة و كما يعيشون يموتون و كما يموتون يبعثون.

و من هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، و الخروج من النار و خصامهم في النار و غير ذلك ممّا يقصّه القرآن الكريم، و هم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شي‏ء من ذلك و اليوم يوم جزاء لا يوم عمل.

و أمّا قوله:( وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ ) أي مستقرّون على شي‏ء يصلح

٢٢٣

أن يستقرّ عليه و يتمكّن فيه فيمكنهم الستر على الحقّ و المنع عن ظهور كذبهم بمثل الإنكار و الحلف الكاذب.

فيمكن أن يكون قيداً لقوله:( كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا و أنّهم يحسبون أنّ حلفهم لكم ينفعهم و يرضيكم، و يكون قوله:( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) قضاء منه تعالى في حقّهم بأنّهم كاذبون فلا يصغي إلى ما يهذون به و لا يعتنى بما يحلفون به.

و يمكن أن يكون قيداً لقوله:( فَيَحْلِفُونَ لَهُ ) فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدّم في معنى حلفهم آنفا، و يكون قوله:( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ ) حكماً منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقاً.

قوله تعالى: ( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ ) الاستحواذ الاستيلاء و الغلبة، و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ) تعليل لكونهم هم الخاسرين أي إنّما كانوا خاسرين لأنّهم يحادّون الله و رسوله بالمخالفة و المعاندة و المحادّون لله و رسوله في جملة الأذلّين من خلق الله تعالى.

قيل: إنّما كانوا في الأذلّين لأنّ ذلّة أحد المتخاصمين على مقدار عزّة الآخر و إذ كانت العزّة لله جميعاً فلا يبقى لمن حادّه إلّا الذلّة محضاً.

قوله تعالى: ( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) الكتابة هي القضاء منه تعالى.

و ظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجّة و من حيث التأييد الغيبيّ و من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله.

أمّا من حيث الحجّة فإنّ الإنسان مفطور على صلاحية إدراك الحقّ و الخضوع له فلو بيّن له الحقّ من السبيل الّتي يألفها لم يلبث دون أن يعقله و إذا عقله اعترفت له فطرته و خضعت له طويّته و إن لم يخضع له عملاً اتّباعاً لهوىً أو أيّ مانع يمنعه عن ذلك.

٢٢٤

و أمّا الغلبة من حيث التأييد الغيبيّ و القضاء للحقّ على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب الّتي أنزلها الله تعالى على مكذّبي الاُمم الماضين كقوم نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و على آل فرعون و غيرهم ممّن يشير تعالى إليهم بقوله:( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) المؤمنون: 44، و على ذلك جرت السنّة الإلهيّة و قد أجمل ذكرها في قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: 47.

و أمّا الغلبة من حيث طبيعة الإيمان بالله و رسوله فإنّ إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع و الذّبّ عن الحقّ و المقاومة تجاه الباطل مطلقاً و هو يرى أنّه إن قتل فاز و إن قُتل فاز فثباته على الدفاع غير مقيّد بقيد و لا محدود بحدّ و هذا بخلاف من يدافع لا عن الحقّ بما هو حقّ بل عن شي‏ء من المقاصد الدنيويّة فإنّه إنّما يدافع لأجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولّى منهزماً فهو إنّما يدافع على شرط و إلى حدّ و هو سلامة النفس و عدم الإشراف على الهلكة و من الضروريّ أنّ العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيّدة بقيد المحدودة بحدّ و من الشاهد عليه غزوات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أدّت إليه من الفتح و الظفر في عين أنّها كانت سجالاً لكن لم تنته إلّا إلى تقدّم المسلمين و غلبتهم.

و لم تقف الفتوحات الإسلاميّة و لا تفرّقت جموع المسلمين أيادي سبإ إلّا بفساد نيّاتهم و تبديل سيرة التقوى و الإخلاص لله و بسط الدين الحقّ من بسط السلطة و توسعة المملكة( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) الأنفال : 53 و قد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم و أمّنهم من عدوّهم أن يخشوه إذ قال:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) .

و يكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين:( وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) آل عمران: 139.

٢٢٥

قوله تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) إلخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الإيمان الصادق بالله و اليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة و المعاندة من الكفار و لو قارن أي سبب من أسباب المودة كالأبوة و البنوة و الأخوة و سائر أقسام القرابة فبين الإيمان و موادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك.

و قد بان أن قوله:( وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ ) إلخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقا و قد خصت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته و عدم تغيره.

و قوله:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ ) الإشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، و الكتابة الإثبات بحيث لا يتغير و لا يزول و الضمير لله و فيه نص على أنهم مؤمنون حقا.

و قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) التأييد التقوية، و ضمير الفاعل في( أَيَّدَهُمْ ) لله تعالى و كذا ضمير مِنْهُ و من ابتدائية، و المعنى: و قواهم الله بروح من عنده تعالى، و قيل: الضمير للإيمان، و المعنى: و قواهم الله بروح من جنس الإيمان يحيي بها قلوبهم، و لا بأس به.

و قيل: المراد بالروح جبرائيل، و قيل: القرآن، و قيل: المراد بها الحجة و البرهان، و هذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.

ثمّ الروح - على ما يتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة الّتي تترشّح منها القدرة و الشعور فإبقاء قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) على ظاهره يفيد أنّ للمؤمنين وراء الروح البشريّة الّتي يشترك فيها المؤمن و الكافر روحاً اُخرى تفيض عليهم حياة اُخرى و تصاحبها قدرة و شعور جديدان، و إلى ذلك يشير قوله تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: 122، و قوله:( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ) النحل: 97.

و ما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها و هو القدرة و الشعور المتفرّع

٢٢٦

عليهما الأعمال الصالحة، و هما المعبّر عنهما في آية الأنعام المذكورة آنفاً بالنور و نظيرها قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: 28.

و هذه حياة خاصّة كريمة لها آثار خاصّة ملازمة لسعادة الإنسان الأبديّة وراء الحياة المشتركة بين المؤمن و الكافر الّتي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاصّ و هو روح الإيمان الّتي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن و الكافر.

و على هذا فلا موجب لما ذكروا أنّ المراد بالروح نور القلب و هو نور العلم الّذي يحصل به الطمأنينة و أنّ تسميته روحاً مجاز مرسل لأنّه سبب للحياة الطيّبة الأبديّة أو من الاستعارة لأنّه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب - و العلم حياة القلب كما أنّ الجهل موته - يشبه الروح المفيض للحياة. انتهى.

و قوله:( وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) وعد جميل و وصف لحياتهم الآخرة الطيّبة.

و قوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ) استئناف يعلّل قوله:( وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ ) إلخ، و رضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لإخلاصهم الإيمان له و رضاهم عنه و ابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيّبة و الجنّة.

و قوله:( أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنّهم حزبه تعالى كما أن اُولئك المنافقين الموالين لأعداء الله حزب الشيطان و هؤلاء مفلحون كما أنّ اُولئك خاسرون.

و في قوله:( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ ) وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر.

٢٢٧

( بحث روائي)

في المجمع: في قوله تعالى:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) روي أنّ المسلمين قالوا لمّا رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحنّ الله علينا الروم و فارس فقال المنافقون: أ تظنّون أنّ فارس و الروم كبعض القرى الّتي غلبتم عليها؟ فأنزل الله هذه الآية.

أقول: الظاهر أنّه من قبيل تطبيق الآية على القصّة و نظائره كثيرة، و لذا ورد: في قوله تعالى:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) أنّه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، و في بعضها: أنّه نزل في أبي بكر سبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصكّه أبوبكر صكّة سقط على الأرض فنزلت الآية: و في عبدالرحمن بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلمّا قدم قرأ عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من حوله من المسلمين الآية.

و هذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتّصال الظاهر.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسيّ و ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أوثق عرى الإيمان الحبّ في الله و البغض في الله.

و في الكافي، بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما من مؤمن إلّا و لقلبه اُذنان في جوفه: اُذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس و اُذن ينفث فيها الملك فيؤيّد الله المؤمن بالملك فذلك قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) .

أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح و يعمل به، قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

و فيه، بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا زنا الرجل فارقه روح الإيمان. قال: هو قوله:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) ذلك الّذي يفارقه.

و فيه، بإسناده إلى محمّد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن

٢٢٨

عليه‌السلام فقال لي: إنّ الله تبارك و تعالى أيّد المؤمن بروح تحضره في كلّ وقت يحسن فيه و يتّقي و تغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه و يعتدي فهي معه تهتزّ سروراً عند إحسانه و تسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقيناً و تربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله امرءًهمّ بخير فعمله أو همّ بشرّ فارتدع عنه. ثمّ قال: نحن نؤيّد الروح بالطاعة لله و العمل له.

أقول: قد تبيّن ممّا تقدّم في ذيل الآية أنّ هذه الروح من مراتب الروح الإنسانيّ ينالها المؤمن عند ما يستكمل الإيمان فليست مفارقة له كما أنّ الروح النباتيّة و الحيوانيّة و الإنسانيّة المشتركة بين المؤمن و الكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنّها تبتدئ هيئة حسنة في النفس ربّما زالت لعروض هيئة سيّئة تضادّها ثمّ ترجع إذا زالت الموانع المضادّة حتّى إذا استقرّت و رسخت و تصوّرت النفس بها ثبتت و لم تتغيّر.

و بذلك يظهر أنّ المراد بقولهعليه‌السلام : بروح تحضره، و قوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيئة العارضة القابلة للزوال، و بقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيئة على طريق الاستعارة، و كذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرواية السابقة: فارقه روح الإيمان‏.

٢٢٩

( سورة الحشر مدنيّة و هي أربع و عشرون آية)

( سورة الحشر الآيات 1 - 10)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 1 ) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ  مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا  وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا  وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ  يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ( 2 ) وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا  وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ( 3 ) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ  وَمَن يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 4 ) مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ( 5 ) وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ  وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 6 ) مَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ  وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا  وَاتَّقُوا اللهَ  إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 7 ) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ

٢٣٠

يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ  أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( 8 ) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ  وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 9 ) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( 10 )

( بيان)

تشير السورة إلى قصّة إجلاء بني النضير من اليهود لمّا نقضوا العهد بينهم و بين المسلمين، و إلى وعد المنافقين لهم بالنصر و الملازمة ثمّ غدرهم و ما يلحق بذلك من حكم فيئهم.

و من غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها يأمر الله سبحانه عباده فيها بالاستعداد للقائه من طريق المراقبة و المحاسبة، و يذكر عظمة قوله و جلالة قدره بوصف عظمة قائله عزّ من قائل بما له من الأسماء الحسنى و الصفات العليا. و السورة مدنيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) افتتاح مطابق لما في مختتم السورة من قوله:( يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

و إنّما افتتح بالتنزيه لما وقع في السورة من الإشارة إلى خيانة اليهود و نقضهم العهد ثمّ وعد المنافقين لهم بالنصر غدراً كمثل الّذين كانوا من قبلهم قريباً ذاقوا وبال

٢٣١

أمرهم، و بالنظر إلى ما أذاقهم الله من وبال كيدهم، و كون ذلك على ما يقتضيه الحكمة و المصلحة ذيّل الآية بقوله:( وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) تأييد لما ذكر في الآية السابقة من تنزّهه تعالى و عزّته و حكمته، و المراد بإخراج الّذين كفروا من أهل الكتاب إجلاء بني النضير حيّ من أحياء اليهود كانوا يسكنون خارج المدينة و كان بينهم و بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد أن لا يكونوا له و لا عليه ثمّ نقضوا العهد فأجلاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ستأتي قصّتهم في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

و الحشر إخراج الجماعة بإزعاج، و( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) من إضافة الصفة إلى الموصوف، و اللام بمعنى في كقوله:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) إسراء: 78.

و المعنى: الله الّذي أخرج بني النضير من اليهود من ديارهم في أوّل إخراجهم من جزيرة العرب.

ثمّ أشار تعالى إلى أهمّيّة إخراجهم بقوله:( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا ) لما كنتم تشاهدون فيهم من القوّة و الشدّة و المنعة( وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) فلن يغلبهم الله و هم متحصّنون فيها و عدّ حصونهم بحسب ظنّهم مانعة من الله لا من المسلمين لما أنّ إخراجهم منها منسوب في الآية السابقة إليه تعالى و كذا إلقاء الرعب في قلوبهم في ذيل الآية، و في الكلام دلالة على أنّه كانت لهم حصون متعدّدة.

ثمّ ذكر فساد ظنّهم و خبطهم في مزعمتهم بقوله:( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) و المراد به نفوذ إرادته تعالى فيهم لا من طريق احتسبوه و هو طريق الحصون و الأبواب بل من طريق باطنهم و هو طريق القلوب( وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) و الرعب الخوف الّذي يملأ القلب( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ) لئلّا تقع في أيدي المؤمنين بعد خروجهم و هذه من قوّة سلطانه تعالى عليهم حيث أجرى ما أراده بأيدي أنفسهم( وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) حيث أمرهم بذلك و وفقهم لامتثال أمره و إنفاذ إرادته( فَاعْتَبِرُوا ) و خذوا بالعظة( يا أُولِي الْأَبْصارِ ) بما تشاهدون من صنع الله العزيز الحكيم بهم قبال مشاقّتهم له و لرسوله.

٢٣٢

و قيل: كانوا يخربون البيوت ليهربوا و يخربها المؤمنون ليصلوا.

و قيل: المراد بتخريب البيوت اختلال نظام حياتهم فقد خرّبوا بيوتهم بأيديهم حيث نقضوا الموادعة، و بأيدي المؤمنين حيث بعثوهم على قتالهم.

و فيه أنّ ظاهر قوله:( يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ ) إلخ أنّه بيان لقوله:( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ) إلخ، من حيث أثره فهو متأخّر عن نقض الموادعة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) الجلاء ترك الوطن و كتابة الجلاء عليهم قضاؤه في حقّهم، و المراد بعذابهم في الدنيا عذاب الاستئصال أو القتل و السبي.

و المعنى: و لو لا أن قضى الله عليهم الخروج من ديارهم و ترك وطنهم لعذّبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال أو القتل و السبي كما فعل ببني قريظة و لهم في الآخرة عذاب النار.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) المشاقّة المخالفة بالعناد، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من إخراجهم و استحقاقهم العذاب لو لم يكتب عليهم الجلاء، و في تخصيص مشاقّتهم بالله في قوله:( وَ مَنْ يُشَاقِّ اللهَ ) بعد تعميمه لله و رسوله في قوله:( شَاقُّوا اللهَ وَ رَسُولَهُ ) تلويح إلى أنّ مشاقّة الرسول مشاقّة الله و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى‏ أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) ذكر الراغب أنّ اللّينة النخلة الناعمة من دون اختصاص منه بنوع منها دون نوع، رووا: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقطع نخيلهم فلمّا قطع بعضها نادوه: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال النخيل تقطع فنزلت الآية فاُجيب عن قولهم بأنّ ما قطعوا من نخلة أو تركوها قائمة على اُصولها فبإذن الله و لله في حكمه هذا غايات حقّة و حكم بالغة منها إخزاء الفاسقين و هم بنو النضير.

فقوله:( وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) اللّام فيه للتعليل و هو معطوف على محذوف و التقدير: القطع و الترك بإذن الله ليفعل كذا و كذا و ليخزي الفاسقين فهو كقوله:

٢٣٣

( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: 75.

قوله تعالى: ( وَ ما أَفاءَ اللهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ ) إلخ، الإفاءة الإرجاع من الفي‏ء بمعنى الرجوع، و ضمير( مِنْهُمْ ) لبني النضير و المراد من أموالهم.

و إيجاف الدابّة تسييرها بإزعاج و إسراع و الخيل الفرس، و الركاب الإبل و( مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ) مفعول( فَما أَوْجَفْتُمْ ) و( مِنْ ) زائدة للاستغراق.

و المعنى: و الّذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير - خصّه به و ملّكه وحده إيّاه - فلم تسيّروا عليه فرساً و لا إبلا بالركوب حتّى يكون لكم فيه حقّ بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، و لكن الله يسلّط رسله على من يشاء و الله على كلّ شي‏ء قدير و قد سلّط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء.

قوله تعالى: ( ما أَفاءَ اللهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى‏ فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ) إلخ، ظاهره أنّه بيان لموارد مصرف الفي‏ء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفي‏ء لفي‏ء أهل القرى أعمّ من بني النضير و غيرهم.

و قوله:( فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ ) أي منه ما يختصّ بالله و المراد به صرفه و إنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول و منه ما يأخذه الرسول لنفسه و لا يصغي إلى قول من قال: إنّ ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرّد التبرّك.

و قوله:( وَ لِذِي الْقُرْبى‏ ) إلخ، المراد بذي القربى قرابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لا معنى لحملة على قرابة عامّة المؤمنين و هو ظاهر، و المراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به السياق و إنّما اُفرد و قدّم على( الْمَساكِينِ ) مع شموله له اعتناءً بأمر اليتامى.

و قد ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بذي القربى أهل البيت و اليتامى و المساكين و ابن السبيل منهم.

و قوله:( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) أي إنّما حكمنا في الفي‏ء بما

٢٣٤

حكمنا كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم و الدولة ما يتداول بين الناس و يدور يداً بيد.

و قوله:( وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) أي ما أعطاكم الرسول من الفي‏ء فخذوه كما أعطى منه المهاجرين و نفراً من الأنصار، و ما نهاكم عنه و منعكم فانتهوا و لا تطلبوا، و فيه إشعار بأنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسّم الفي‏ء بينهم جميعاً فأرجعه إلى نبيّه و جعل موارد مصرفه ما ذكره في الآية و جعل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينفقه فيها على ما يرى.

و الآية مع الغضّ عن السياق عامّة تشمل كلّ ما آتاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حكم فأمر به أو نهى عنه.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) تحذير لهم عن مخالفة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تأكيداً لقوله:( وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ ) إلخ.

قوله تعالى: ( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ رِضْواناً ) إلخ، قيل: إنّ قوله:( لِلْفُقَراءِ ) بدل من قوله:( لِذِي الْقُرْبى‏ ) و ما بعده و ذكر الله لمجرّد التبرّك فيكون الفي‏ء مختصّاً بالرسول و الفقراء من المهاجرين، و قد وردت الرواية أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم في‏ء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط منه الأنصار شيئاً إلّا رجلين من فقرائهم أو ثلاثة.

و قيل: إنّه بدل من اليتامى و المساكين و ابن السبيل فيكون ذوو السهام هم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ذا القربى غنيّهم و فقيرهم و الفقراء من المهاجرين يتاماهم و مساكينهم و أبناء السبيل منهم، و لعلّ هذا مراد من قال: إنّ قوله:( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ) بيان المساكين في الآية السابقة.

و الأنسب لما تقدّم نقله عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أن يكون قوله:( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ) إلخ، بيان مصداق لصرف سبيل الله الّذي اُشير إليه بقوله:( فَلِلَّهِ ) لا بأن يكون الفقراء المهاجرون أحد السهماء في الفي‏ء بل بأن يكون صرفه فيهم و إعطاؤهم إيّاه صرفاً له في سبيل الله.

٢٣٥

و محصّل المعنى على هذا: أنّ الله سبحانه أفاء الفي‏ء و أرجعه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فله أن يتصرّف فيه كيف يشاء ثمّ دلّه على موارد صرفه و هي سبيل الله و الرسول و ذو القربى و يتاماهم و مساكينهم و ابن السبيل منهم ثمّ أشار إلى مصداق الصرف في السبيل أو بعض مصاديقه و هم الفقراء المهاجرون إلخ، ينفق منه الرسول لهم على ما يرى.

و على هذا ينبغي أن يحمل ما ورد أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم في‏ء بني النضير بين المهاجرين و لم يعط الأنصار شيئاً إلّا ثلاثة من فقرائهم: أبا دجانة سماك بن خرشة و سهل بن حنيف و الحارث بن الصمة فقد صرف فيهم بما أنّه صرف في سبيل الله لا بما أنّهم سهماء في الفي‏ء.

و كيف كان فقوله:( لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ ) المراد بهم من هاجر من المسلمين من مكّة إلى المدينة قبل الفتح و هم الّذين أخرجهم كفّار مكّة بالاضطرار إلى الخروج فتركوا ديارهم و أموالهم و هاجروا إلى مدينة الرسول.

و قوله:( يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَ رِضْواناً ) الفضل الرزق أي يطلبون من الله رزقاً في الدنيا و رضواناً في الآخرة.

و قوله:( وَ يَنْصُرُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ ) أي ينصرونه و رسوله بأموالهم و أنفسهم، و قوله:( أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) تصديق لصدقهم في أمرهم و هم على هذه الصفات.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) إلخ، قيل: إنّه استئناف مسوق لمدح الأنصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفي‏ء،( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ) - و المراد بهم الأنصار - مبتدأ خبره( يُحِبُّونَ ) إلخ، و المراد بتبوّي الدار و هو تعميرها بناء مجتمع دينيّ يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، و الإيمان معطوف على( الدَّارَ ) و تبوي الإيمان و تعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات و القربات من غير حجر و منع كما كان بمكّة.

و احتمل أن يعطف( الْإِيمانَ ) على تبوّؤا و قد حذف الفعل العامل فيه، و التقدير:

٢٣٦

و آثروا الإيمان.

و قيل: إنّ قوله:( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ) إلخ، معطوف على قوله:( الْمُهاجِرِينَ ) و على هذا يشارك الأنصار المهاجرين في الفي‏ء، و الإشكال عليه بأنّ المرويّ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمه بين المهاجرين و لم يعط الأنصار منه شيئاً إلّا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأنّ الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لو لم يجز إعطاؤه للأنصار لم يجز لا للثلاثة و لا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أنّ الأمر لمّا كان راجعاً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجح أن يقسّمه بينهم على تلك الوتيرة.

و الأنسب لما تقدّم من كون( لِلْفُقَراءِ ) إلخ، بياناً لمصاديق سهم السبيل هو عطف( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ) إلخ، و كذا قوله الآتي:( وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ) على قوله:( الْمُهاجِرِينَ ) إلخ، دون الاستئناف.

بل ما ورد من إعطائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للثلاثة يؤيّد هذا الوجه بعينه إذ لو كان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الأنصار و لا لثلاثة منهم، و لو كان للفقراء من الأنصار كالمهاجرين فيه سهم - و ظاهر الآية أنّ جمعاً منهم كانوا فقراء بهم خصاصة و التاريخ يؤيّده - لأعطى غير الثلاثة من فقراء الأنصار كما أعطى فقراء المهاجرين و استوعبهم.

فقوله:( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) ضمير( مِنْ قَبْلِهِمْ ) للمهاجرين و المراد من قبل مجيئهم و هجرتهم إلى المدينة.

و قوله:( يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ) أي يحبّون من هاجر إليهم لأجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الإيمان و مجتمع المسلمين.

و قوله:( وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ) ضميراً( يَجِدُونَ ) و( صُدُورِهِمْ ) للأنصار، و ضمير( أُوتُوا ) للمهاجرين، و المراد بالحاجة ما يحتاج إليه و من تبعيضيّة و قيل: بيانيّة و المعنى: لا يخطر ببالهم شي‏ء ممّا اُعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من تقسيم الفي‏ء بين المهاجرين دونهم و لا يحسدون.

و قيل: المراد بالحاجة ما يؤدّي إليه الحاجة و هو الغيظ.

٢٣٧

و قوله:( وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ) إيثار الشي‏ء اختياره و تقديمه على غيره، و الخصاصة الفقر و الحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه و عبّر عن الفقر الّذي لم يسدّ بالخصاصة كما عبّر عنه بالخلّة انتهى.

و المعنى: و يقدّمون المهاجرين على أنفسهم و لو كان بهم فقر و حاجة، و هذه الخصيصة أغزر و أبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الإضراب كأنّه قيل: إنّهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدّمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر و الحاجة.

و قوله:( وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) قال الراغب: الشّحّ بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى. و( يوق ) فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، و المعنى: و من يحفظ - أي يحفظه الله - من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أو من وقوع مال في يد غيره فاُولئك هم المفلحون.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) استئناف أو عطف نظير ما تقدّم في قوله:( وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ (مِنْ قَبْلِهِمْ) يُحِبُّونَ ) و على الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله:( يَقُولُونَ رَبَّنَا ) إلخ.

و المراد بمجيئهم بعد المهاجرين و الأنصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح و قيل: المراد أنّهم خلفوهم.

و قولهم:( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ) دعاء لأنفسهم و السابقين من المؤمنين بالمغفرة، و في تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنّهم يعدّونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى:( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) النساء: 25، فهم يحبّونهم كما يحبّون أنفسهم و يحبّون لهم ما يحبّون لأنفسهم.

و لذلك عقّبوه بقولهم:( وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلّاٍ للّذين آمنوا و الغلّ العداوة.

و في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) تعميم لعامّة المؤمنين منهم و ممّن سبقهم و تلويح إلى أنّه لا بغية لهم إلّا الإيمان.

٢٣٨

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ ) الآية، قال: سبب ذلك أنّه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بني النضير و قريظة و قينقاع، و كان بينهم و بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد و مدّة فنقضوا عهدهم.

و كان سبب ذلك بني النضير في نقض عهدهم أنّه أتاهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، و كان بينهم كعب بن الأشرف فلمّا دخل على كعب قال: مرحباً يا أباالقاسم و أهلا و قام كأنّه يصنع له الطعام و حدّث نفسه أن يقتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك.

فرجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة و قال لمحمّد بن مسلمة الأنصاريّ: اذهب إلى بني النضير فأخبرهم أنّ الله عزّوجلّ قد أخبرني بما هممتم به من الغدر فإمّا أن تخرجوا من بلدنا و إمّا أن تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك.

فبعث إليهم عبدالله بن اُبيّ: لا تخرجوا و تقيموا و تنابذوا محمّداً الحرب فإنّي أنصركم أنا و قومي و حلفائي فإن خرجتم خرجت معكم و إن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا و أصلحوا بينهم حصونهم و تهيّؤا للقتال و بعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع.

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كبّر و كبّر أصحابه و قال لأميرالمؤمنين: تقدّم على بني النضير فأخذ أميرالمؤمنين الراية و تقدّم، و جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أحاط بحصنهم و غدر بهم عبدالله بن اُبيّ.

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ظهر بمقدّم بيوتهم حصّنوا ما يليهم و خرّبوا ما يليه، و كان الرجل منهم ممّن كان له بيت حسن خرّبه، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك و قالوا: يا محمّد إنّ الله يأمرك بالفساد؟ إن كان لك هذا فخذه

٢٣٩

و إن كان لنا فلا تقطعه.

فلمّا كان بعد ذلك قالوا: يا محمّد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: لا و لكن تخرجون و لكم ما حملت الإبل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أيّاماً ثمّ قالوا: نخرج و لنا ما حملت الإبل، فقال: لا و لكن تخرجون و لا يحمل أحد منكم شيئاً، فمن وجدنا معه شيئاً من ذلك قتلناه.

فخرجوا على ذلك و وقع منهم قوم إلى فدك و وادي القرى و خرج قوم منهم إلى الشام.

فأنزل الله فيهم( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا - إلى قوله -فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) و أنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى‏ أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ - إلى قوله -رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

و أنزل الله عليه في عبدالله بن اُبيّ و أصحابه( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا - إلى قوله -ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) .

و في المجمع، عن ابن عبّاس: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاصرهم حتّى بلغ منهم كلّ مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم و أن يخرجهم من أرضهم و أوطانهم و أن يسيّرهم إلى أذرعات بالشام و جعل لكلّ ثلاثة منهم بعيراً و سقاء.

فخرجوا إلى أذرعات بالشام و أريحا إلّا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق و آل حييّ بن أخطب فإنّهم لحقوا بخيبر و لحقت طائفة منهم بالحيرة.

و فيه، عن محمّد بن مسلمة: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى بني النضير و أمره أن يؤجّلهم في الجلاء ثلاث ليال.

و فيه، عن محمّد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اُحد، و كان فتح قريظة مرجعه من الأحزاب، و كان الزهريّ يذهب إلى أنّ إجلاء بني النضير كان قبل اُحد على رأس ستّة أشهر من وقعة بدر.

٢٤٠