الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126941
تحميل: 4078


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126941 / تحميل: 4078
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 6 ) عَسَى اللهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً  وَاللهُ قَدِيرٌ  وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 7 ) لَّا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ  إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ  وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 )

( بيان)

تذكر السورة موالاة المؤمنين لأعداء الله من الكفّار و موادتهم و تشدّد النهي عن ذلك تفتتح به و تختتم و فيها شي‏ء من أحكام النساء المهاجرات و بيعة المؤمنات، و كونها مدنيّة ظاهر.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) إلخ، سياق الآيات يدلّ على أنّ بعض المؤمنين من المهاجرين كانوا يسرّون الموادّة إلى المشركين بمكّة ليحموا بذلك من بقي من أرحامهم و أولادهم بمكّة بعد خروجهم أنفسهم منها بالمهاجرة إلى المدينة فنزلت الآيات و نهاهم الله عن ذلك، و يتأيّد بهذا ما ورد أنّ الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أسرّ كتاباً إلى المشركين بمكّة يخبرهم فيه بعزم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخروج إليها لفتحها، فعل ذلك ليكون يداً له عليهم يقي بها من كان بمكّة من أرحامه و أولاده فأخبر الله بذلك نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نزلت، و ستوافيك قصّته في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ) العدوّ معروف و يطلق على الواحد و الكثير و المراد في الآية هو الكثير بقرينة قوله:( أَوْلِياءَ )

٢٦١

و( إِلَيْهِمْ ) و غير ذلك، و هم المشركون بمكّة، و كونهم عدوّه من جهة اتّخاذهم له شركاء يعبدونهم و لا يعبدون الله و يردّون دعوته و يكذّبون رسوله، و كونهم أعداء للمؤمنين لإيمانهم بالله و تفديتهم أموالهم و أنفسهم في سبيله فمن يعادي الله يعاديهم.

و ذكر عداوتهم للمؤمنين مع كفاية ذكر عداوتهم لله في سوق النهي لتأكيد التحذير و المنع كأنّه قيل: من كان عدوّاً لله فهو عدوّ لكم فلا تتّخذوه وليّاً.

و قوله:( تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) بالمودّة مفعول( تُلْقُونَ ) و الباء زائدة كما في قوله:( وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) البقرة: 195، و المراد بإلقاء المودة إظهارها أو إيصالها، و الجملة صفة أو حال من فاعل( لا تَتَّخِذُوا ) .

و قوله:( وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ) هو الدين الحقّ الّذي يصفه كتاب الله و يدعو إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الجملة حالية.

و قوله:( يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ) الجملة حالية و المراد بإخراج الرسول و إخراجهم اضطرارهم الرسول و المؤمنين إلى الخروج من مكّة و المهاجرة إلى المدينة، و( أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ ) بتقدير اللّام متعلّق بيخرجون، و المعنى: يجبرون الرسول و إيّاكم على المهاجرة من مكّة لإيمانكم بالله ربّكم.

و توصيف الله بقوله:( رَبِّكُمْ ) للإشارة إلى أنّهم يؤاخذونهم على أمر حقّ مفروض ليس بجرم فإنّ إيمان الإنسان بربّه مفروض عليه و ليس من الجرم في شي‏ء.

و قوله:( إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي ) متعلّق بقوله:( لا تَتَّخِذُوا ) و جزاء الشرط محذوف يدلّ عليه المتعلّق، و( جِهاداً ) مصدر مفعول له، و( ابْتِغاءَ ) بمعنى الطلب و( المرضاة ) مصدر كالرضا، و المعنى: لا تتّخذوا عدوّي و عدوّكم أولياء إن كنتم هاجرتم للمجاهدة في سبيلي و لطلب رضاي.

و تقييد النهي عن ولائهم و اشتراطه بخروجهم للجهاد و ابتغائهم مرضاته من باب اشتراط الحكم بأمر محقّق الوقوع تأكيداً له و إيذاناً بالملازمة بين الشرط و الحكم كقول الوالد لولده: إن كنت ولدي فلا تفعل كذا.

٢٦٢

و قوله:( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ ) أسررت إليه حديثاً أي أفضيت إليه في خفية فمعنى( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) تطلعونهم على ما تسرّون من مودّتهم - على ما قاله الراغب - و الإعلان خلاف الإخفاء، و( أَنَا أَعْلَمُ ) إلخ، حال من فاعل( تُسِرُّونَ ) و( أَعْلَمُ ) اسم تفضيل، و احتمل بعضهم أن يكون فعل المتكلّم وحده من المضارع متعدّياً بالباء لأنّ العلم ربّما يتعدّى بها.

و جملة:( تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ ) إلخ، استئناف بيانيّة كأنّه قيل بعد استماع النهي السابق: ما ذا فعلنا فاُجيب: تطلعونهم سرّاً على مودّتكم لهم و أنا أعلم بما أخفيتم و ما أظهرتم أي أنا أعلم بقولكم و فعلكم علماً يستوي بالنسبة إليه إخفاؤكم و إظهاركم.

و منه يعلم أنّ قوله:( بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ ) معاً يفيدان معنى واحداً و هو استواء الإخفاء و الإعلان عنده تعالى لإحاطته بما ظهر و ما بطن فلا يرد أنّ ذكر( بِما أَخْفَيْتُمْ ) يغني عن ذكر( ما أَعْلَنْتُمْ ) لأنّ العالم بما خفي عالم بما ظهر بطريق أولى.

و قوله:( وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) الإشارة بذلك إلى إسرار المودّة إليهم و هو الموالاة، و( سَواءَ السَّبِيلِ ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي السبيل السوي و الطريق المستقيم و هو مفعول( ضَلَّ ) أو منصوب بنزع الخافض و التقدير فقد ضلّ عن سواء السبيل، و السبيل سبيل الله تعالى.

قوله تعالى: ( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ) إلخ، قال الراغب: الثقف - بالفتح فالسكون - الحذق في إدراك الشي‏ء و فعله. قال: و يقال: ثقفت كذا إذا أدركته ببصرك لحذق في النظر ثمّ يتجوّز به فيستعمل في الإدراك و إن لم يكن معه ثقافة. انتهى. و فسّره غيره بالظفر و لعلّه بمعونة مناسبة المقام، و المعنيان متقاربان.

و الآية مسوقة لبيان أنّه لا ينفعهم الإسرار بالمودّة للمشركين في جلب محبّتهم و رفع عداوتهم شيئاً و أنّ المشركين على الرغم من إلقاء المودّة إليهم أن يدركوهم و يظفروا بهم يكونوا لهم أعداء من دون أن يتغيّر ما في قلوبهم من العداوة.

و قوله:( وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) بمنزلة

٢٦٣

عطف التفسير لقوله:( يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ) و بسط الأيدي بالسوء كناية عن القتل و السبي و سائر أنحاء التعذيب و بسط الألسن بالسوء كناية عن السبّ و الشتم.

و الظاهر أنّ قوله:( وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) عطف على الجزاء و الماضي بمعنى المستقبل كما يقتضيه الشرط و الجزاء، و المعنى: أنّهم يبسطون إليكم الأيدي و الألسن بالسوء و يودّون بذلك لو تكفرون كما كانوا يفتنون المؤمنين بمكّة و يعذّبونهم يودّون بذلك أن يرتدّوا عن دينهم. و الله أعلم.

قوله تعالى: ( لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) دفع لما ربّما يمكن أن يتوهّم عذراً لإلقاء المودّة إليهم أنّ في ذلك صيانة لأرحامهم و أولادهم الّذين تركوهم بمكّة بين المشركين من أذاهم.

و الجواب أنّ أمامكم يوماً تجازون فيه على معصيتكم و طالح عملكم و منه موالاة الكفّار و لا ينفعكم اليوم أرحامكم و لا أولادكم الّذين قدّمتم صيانتهم من أذى الكفّار على صيانة أنفسكم من عذاب الله بترك موالاة الكفّار.

و قوله:( يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ) أي يفصل الله يوم القيامة بينكم بتقطّع الأسباب الدنيويّة كما قال تعالى:( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ) المؤمنون: 101، و ذلك أنّ القرابة و هي انتهاء إنسانين أو أكثر إلى رحم واحدة إنّما تؤثّر آثارها من الرحمة و المودّة و الاُلفة و المعاونة و المعاضدة و العصبيّة و الخدمة و غير ذلك من الآثار في ظرف الحياة الاجتماعيّة الّتي تسوق الإنسان إليه حاجته إليها بالطبع بحسب الآراء و العقائد الاعتبارية الّتي أوجدها فيه فهمه الاجتماعيّ، و لا خبر عن هذه الآراء في الخارج عن ظرف الحياة الاجتماعيّة.

و إذا برزت الحقائق و ارتفع الحجاب و انكشف الغطاء يوم القيامة ضلّت عن الإنسان هذه الآراء و المزاعم و انقطعت روابط الاستقلال بين الأسباب و مسبّباتها كما قال تعالى:( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام: 94، و قال:( وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ ) البقرة: 166.

فيومئذ تتقطّع رابطة الأنساب و لا ينتفع ذو قرابة من قرابته شيئاً فلا ينبغي

٢٦٤

للإنسان أن يخون الله و رسوله بموالاة أعداء الدين لأجل أرحامه و أولاده فليسوا يغنونه عن الله يومئذ.

و قيل: المراد أنّه يفرق الله بينكم يوم القيامة بما فيه من الهول الموجب لفرار كلّ منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى:( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) عبس: 37، و الوجه السابق أنسب للمقام.

و قيل: المراد أنّه يميّز بعضكم يومئذ من بعض فيدخل أهل الإيمان و الطاعة الجنّة، و أهل الكفر و المعصية النار و لا يرى القريب المؤمن في الجنّة قريبه الكافر في النار.

و فيه أنّه و كان لا بأس به في نفسه لكنّه غير مناسب للمقام إذ لا دلالة في المقام على كفر أرحامهم و أولادهم.

و قيل: المراد بالفصل فصل القضاء و المعنى: أنّ الله يقضي بينكم يوم القيامة.

و فيه ما في سابقه من عدم المناسبة للمورد فإنّ فصل القضاء إنّما يناسب الاختلاف كما في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) السجدة: 20، و لا ارتباط في الآية بذلك.

و قوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) متمّم لقوله:( لَنْ تَنْفَعَكُمْ ) كالمؤكّد له و المعنى: لن تنفعكم أرحامكم و لا أولادكم يوم القيامة في رفع تبعة هذه الخيانة و أمثالها و الله بما تعملون بصير لا يخفى عليه ما هي هذه الخيانة فيؤاخذكم عليها لا محالة.

قوله تعالى: ( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ ) إلى آخر الآيتين، و الخطاب للمؤمنين، و الاُسوة الاتّباع و الاقتداء، و في قوله:( وَ الَّذِينَ مَعَهُ ) بظاهره دلالة على أنّه كان معه من آمن به غير زوجته و لوط.

و قوله:( إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي إنّا بريؤن منكم و من أصنامكم بيان لما فيه الاُسطورة و الاقتداء.

و قوله:( كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا

٢٦٥

بِاللهِ وَحْدَهُ ) بيان لمعنى البراءة بأثرها و هو الكفر بهم و عداوتهم ما داموا مشركين حتّى يوحّدوا الله سبحانه.

و المراد بالكفر بهم الكفر بشركهم بدليل قوله:( حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ) ، و الكفر بشركهم مخالفتهم فيه عملاً كما أنّ العداوة بينونة و مخالفة قلباً.

فقد فسّروا براءتهم منهم باُمور ثلاثة: مخالفتهم لشركهم عملاً، و العداوة و البغضاء بينهم قلباً، و استمرار ذلك ما داموا على شركهم إلّا أن يؤمنوا بالله وحده.

و قوله:( إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، استثناء ممّا تدلّ عليه الجمل المتقدّمة أنّ إبراهيم و الّذين معه تبرّؤا من قومهم المشركين قولاً مطلقاً. و قطعوا أيّ رابطة تربطهم بالقوم و تصل بينهم إلّا ما قال إبراهيم لأبيه:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) إلخ.

و لم يكن قوله:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) تولّياً منه بل وعداً وعده إيّاه رجاء أن يتوب عن الشرك و يؤمن بالله وحده كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) التوبة: 114، حيث يفيد أنّهعليه‌السلام إنّما وعده لأنّه لم يتبيّن له بعد أنّه عدوّ لله راسخ في عداوته ثابت في شركه فكان يرجو أن يرجع عن شركه و يطمع في أن يتوب و يؤمن فلمّا تبيّن له رسوخ عداوته و يئس من إيمانه تبرّأ منه.

على أنّ قوله تعالى في قصّة محاجّته أباه في سورة مريم:( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) مريم: 48، يتضمّن وعده أباه بالاستغفار و إخباره بالاعتزال و لو كان وعده الاستغفار تولّياً منه لأبيه لكان من الحريّ أن يقول: و اعتزل القوم، لا أن يقول: و أعتزلكم فيدخل أباه فيمن يعتزلهم و ليس الاعتزال إلّا التبرّي.

فالاستثناء استثناء متّصل من أنّهم لم يكلّموا قومهم إلّا بالتبرّي و المحصّل من المعنى: أنّهم إنّما ألقوا إليهم القول بالتبرّي إلّا قول إبراهيم لأبيه: لأستغفرنّ لك فلم يكن تبرّياً و لا تولّياً بل وعداً وعده أباه رجاء أن يؤمن بالله.

٢٦٦

و ههنا شي‏ء و هو أنّ مؤدّى آية التوبة( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) أنّ تبرّيه الجازم إنّما كان بعد الوعد و بعد تبيّن عداوته لله، و قوله تعالى في الآية الّتي نحن فيها:( إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ) إخبار عن تبرّيهم الجازم القاطع فيكون ما وقع في الاستثناء من قول إبراهيم لأبيه وعداً واقعاً قبل تبرّيه الجازم و من غير جنس المستثنى منه فيكون الاستثناء منقطعاً لا متّصلاً.

و على تقدير كون الاستثناء منقطعاً يجوز أن يكون الاستثناء من قوله:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ ) بما أنّه مقيّد بقوله:( إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ ) ، و المعنى: قد كان لكم اقتداء حسن بتبرّي إبراهيم و الّذين معه من قومهم إلّا أنّ إبراهيم قال لأبيه كذا و كذا وعداً.

و أمّا على تقدير كون الاستثناء متّصلاً فالوجه ما تقدّم، و أمّا كون المستثنى منه هو قوله:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ) ، و المعنى: لكم في إبراهيم اُسوة في جميع خصاله إلّا في قوله لأبيه:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) فلا اُسوة فيه.

ففيه أنّ قوله:( لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ ) إلخ، غير مسوق لإيجاب التأسّي بإبراهيمعليه‌السلام في جميع خصاله حتّى يكون الوعد بالاستغفار أو نفس الاستغفار - و ذلك من خصاله - مستثنى منها بل إنّما سيق لإيجاب التأسّي به في تبرّيه من قومه المشركين، و الوعد بالاستغفار رجاء للتوبة و الإيمان ليس من التبرّي و إن كان ليس تولّياً أيضاً.

و قوله:( وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) تتمّة قول إبراهيمعليه‌السلام ، و هو بيان لحقيقة الأمر من أنّ سؤاله المغفرة و طلبها من الله ليس من نوع الطلب الّذي يملك فيه الطالب من المطلوب منه ما يطلبه، و إنّما هو سؤال يدعو إليه فقر العبوديّة و ذلّتها قبال غنى الربوبيّة و عزّتها فله تعالى أن يقبل بوجهه الكريم فيستجيب و يرحم، و له أن يعرض و يمسك الرحمة فإنّه لا يملك أحد منه تعالى شيئاً و هو المالك لكلّ شي‏ء، قال تعالى:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) المائدة: 17.

و بالجملة قوله:( ما أَمْلِكُ ) إلخ، نوع اعتراف بالعجز استدراكاً لما يستشعر من

٢٦٧

قوله:( لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ) من شائبة إثبات القدرة لنفسه نظير قول شعيبعليه‌السلام :( وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ) استدراكاً لما يشعر به قوله لقومه:( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) هود: 88، من إثبات القوّة و الاستطاعة لنفسه بالأصالة و الاستقلال.

و قوله:( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) إلخ، من تمام القول المنقول عن إبراهيم و الّذين معه المندوب إلى التأسّي بهم فيه، و هو دعاء منهم لربّهم و ابتهال إليه إثر ما تبرّؤا من قومهم ذاك التبرّي العنيف ليحفظهم من تبعاته و يغفر لهم فلا يخيّبهم في إيمانهم.

و قد افتتحوا دعاءهم بتقدمة يذكرون فيها حالهم فيما هم فيه من التبرّي من أعداء الله فقالوا:( رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا ) يعنون به أنّا كنّا في موقف من الحياة تتمكّن فيه أنفسنا و ندبّر فيه اُمورنا أمّا أنفسنا فأنبنا و رجعنا بها إليك و هو الإنابة، و أمّا اُمورنا الّتي كان علينا تدبيرها فتركناها لك و جعلنا مشيّتك مكان مشيّتنا فأنت وكيلنا فيها تدبّرها بما تشاء و كيف تشاء و هو التوكّل.

ثمّ قالوا:( وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) يعنون به أنّ مصير كلّ شي‏ء من فعل أو فاعل فعل إليك فقد جرينا في توكّلنا عليك و إنابتنا إليك مجرى ما عليه حقيقة الأمر من مصير كلّ شي‏ء إليك حيث هاجرنا بأنفسنا إليك و تركنا تدبير اُمورنا لك.

و قوله:( رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا ) متن دعائهم يسألونه تعالى أن يعيذهم من تبعة تبرّيهم من الكفّار و يغفر لهم.

و الفتنة ما يمتحن به، و المراد بجعلهم فتنة للّذين كفروا تسليط الكفّار عليهم ليمتحنهم فيخرجوا ما في وسعهم من الفساد فيؤذوهم بأنواع الأذى أن آمنوا بالله و رفضوا آلهتهم و تبرّؤا منهم و ممّا يعبدون.

و قد كرّروا نداءه تعالى - ربّنا - في دعائهم مرّة بعد مرّة لإثارة الرحمة الإلهيّة.

و قوله:( إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) أي غالب غير مغلوب متقن لأفعاله لا يعجز أن يستجيب دعاءهم فيحفظهم من كيد أعدائه و يعلم بأيّ طريق يحفظ.

٢٦٨

و للمفسّرين في تفسير الآيتين أنظار مختلفة اُخرى أغمضنا عن إيرادها رعاية للاختصار من أرادها فليراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ ) إلخ، تكرار حديث الاُسوة لتأكيد الإيجاب و لبيان أنّ هذه الاُسوة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر، و أيضاً أنّهم كما يتأسّى بهم في تبرّيهم من الكفّار كذلك يتأسّى بهم في دعائهم و ابتهالهم.

و الظاهر أنّ المراد برجائه تعالى رجاء ثوابه بالإيمان به و برجاء اليوم الآخر رجاء ما وعد الله و أعدّ للمؤمنين من الثواب، و هو كناية عن الإيمان.

و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) استغناء منه تعالى عن امتثالهم لأمره بتبرّيهم من الكفّار و أنّهم هم المنتفعون بذلك و الله سبحانه غنيّ في ذاته عنهم و عن طاعتهم حميد فيما يأمرهم و ينهاهم إذ ليس في ذلك إلّا صلاح حالهم و سعادة حياتهم.

قوله تعالى: ( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللهُ قَدِيرٌ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ضمير( مِنْهُمْ ) للكفّار الّذين اُمروا بمعاداتهم و هم كفّار مكّة، و المراد بجعل المودّة بين المؤمنين و بينهم جعلها بتوفيقهم للإسلام كما وقع ذلك لمّا فتح الله لهم مكّة، و ليس المراد به نسخ حكم المعاداة و التبرّي.

و المعنى: مرجوّ من الله أن يجعل بينكم معشر المؤمنين و بين الّذين عاديتم من الكفّار و هم كفّار مكّة مودّة بتوفيقهم للإسلام فتنقلب المعاداة مودّة و الله قدير و الله غفور لذنوب عباده رحيم بهم إذا تابوا و أسلموا فعلى المؤمنين أن يرجوا من الله أن يبدّل معاداتهم مودّة بقدرته و مغفرته و رحمته.

قوله تعالى: ( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ‏ ) إلخ، في هذه الآية و الّتي تتلوها توضيح للنهي الوارد في أوّل السورة، و المراد بالّذين لم يقاتلوا المؤمنين في الدين و لم يخرجوهم غير أهل مكّة ممّن لم يقاتلوهم و لم يخرجوهم من ديارهم من المشركين من أهل المعاهدة،

٢٦٩

و البرّ و الإحسان، و الإقساط المعاملة بالعدل، و( أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) بدل من( الَّذِينَ ) إلخ، و قوله:( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) تعليل لقوله:( لا يَنْهاكُمُ اللهُ ) إلخ.

و المعنى: لا ينهاكم الله بقوله:( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ) عن أن تحسنوا و تعاملوا بالعدل الّذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم لأنّ ذلك منكم أقساط و الله يحبّ المقسطين.

قيل: إنّ الآية منسوخة بقوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) التوبة: 5، و فيه أنّ الآية الّتي نحن فيها لا تشمل بإطلاقها إلّا أهل الذمّة و أهل المعاهدة و أمّا أهل الحرب فلا، و آية التوبة إنّما تشمل أهل الحرب من المشركين دون أهل المعاهدة فكيف تنسخ ما لا يزاحمها في الدلالة.

قوله تعالى: ( إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى‏ إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) إلخ، المراد بالّذين قاتلوكم إلخ، مشركو مكّة، و المظاهرة على الإخراج المعاونة و المعاضدة عليه، و قوله:( أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ) بدل من( الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ ) إلخ.

و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) قصر إفراد أي المتولّون لمشركي مكّة و من ظاهرهم على المسلمين هم الظالمون المتمرّدون عن النهي دون مطلق المتولّين للكفّار أو تأكيد للنهي عن تولّيهم.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ) الآية: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، و لفظ الآية عامّ و معناها خاصّ و كان سبب ذلك‏ أنّ حاطب بن أبي بلتعة قد أسلم و هاجر إلى المدينة و كان عياله بمكّة، و كانت قريش تخاف أن يغزوهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصاروا إلى عيال حاطب و سألوهم أن يكتبوا إلى حاطب و يسألوه عن خبر محمّد هل يريد أن يغزو مكّة؟.

٢٧٠

فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب إليهم حاطب أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد ذلك، و دفع الكتاب إلى امرأة تسمّى صفيّة فوضعته في قرونها و مرّت فنزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخبره بذلك.

فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميرالمؤمنين و الزبير بن العوّام في طلبها فلحقوها فقال لها أميرالمؤمنينعليه‌السلام : أين الكتاب؟ فقالت: ما معي شي‏ء ففّتشاها فلم يجدا معها شيئاً فقال الزبير: ما نرى معها شيئاً فقال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : و الله ما كذبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لا كذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جبرئيل، و لا كذب جبرئيل على الله جلّ ثناؤه و الله لتظهرنّ الكتاب أو لأردنّ رأسك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: تنحّيا عنّي حتّى اُخرجه فأخرجت الكتاب من قرونها فأخذه أميرالمؤمنين و جاء به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا حاطب ما هذا؟ فقال حاطب: و الله يا رسول الله ما نافقت و لا غيّرت و لا بدّلت، و إنّي أشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّك رسول الله حقّاً و لكن أهلي و عيالي كتبوا إليّ بحسن صنيع قريش إليهم فأحببت أن اُجازي قريشاً بحسن معاشرتهم، فأنزل الله على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ - إلى قوله -وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الحميديّ و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و أبوعوانة و ابن حبّان و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ و أبونعيم معاً في الدلائل عن عليّ قال: بعثني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا و الزبير و المقداد فقال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة(1) خاخ فإنّ بها ظعينة(2) معها كتاب فخذوه منها و أتوني به.

فخرجنا حتّى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب. قالت:

____________________

(1) موضع في طريق مكّة.

(2) الظعينة: المسافرة.

٢٧١

ما معي كتاب قلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها.

فأتينا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى اُناس من المشركين بمكّة، يخبرهم ببعض أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله إنّي كنت امرءً ملصقاً من قريش و لم أكن من أنفسها و كان من معك من‏ المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم و أموالهم بمكّة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون بها قرابتي و ما فعلت ذلك كفراً و لا ارتداداً عن ديني فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صدق.

فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه فقال: إنّه شهد بدراً و ما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و نزلت فيه( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) .

أقول: و هذا المعنى مرويّ في عدّة من الروايات عن نفر من الصحابة كأنس و جابر و عمر و ابن عبّاس و جمع من التابعين كحسن و غيره.

و الرواية من حيث متنها لا تخلو من بحث:

أمّا أوّلاً: فلأنّ ظاهرها بل صريحها أنّ حاطب بن أبي بلتعة كان يستحقّ بصنعة ما صنع القتل أو جزاء دون ذلك، و إنّما صرف عنه ذلك كونه بدريّاً فالبدريّ لا يؤاخذ بما أتى به من معصية كما يصرّح به قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر في هذه الرواية:( أنّه شهد بدراً) و في رواية الحسن: إنّهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنّهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر إنّهم أهل بدر فاجتنب أهل بدر.

و يعارضه ما في قصّة الإفك أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما نزلت براءة عائشة حدّ مسطّح بن أثاثة و كان من الآفكين، و كان مسطّح بن أثاثة هذا من السابقين الأوّلين من المهاجرين و ممّن شهد بدراً كما في صحيحيّ البخاريّ و مسلم و حدّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما نطقت به الروايات الكثيرة الواردة في تفسير آيات الإفك.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما يشتمل عليه من خطابه تعالى لأهل بدر( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) الدالّ على كون كلّ ما أتوا به من ذنب مغفوراً لهم لا يتمّ بالبداهة

٢٧٢

إلّا بارتفاع عامّة التكاليف الدينيّة عنهم من واجب أو حرام أو مستحبّ أو مكروه، و لا معنى لتعلّق التكليف المولويّ بأمر مع إلغاء تبعة مخالفته و تسوية الفعل و الترك بالنسبة إلى المكلّف كما يدلّ عليه قوله:( اعملوا ما شئتم) على بداهة ظهوره في الإباحة العامّة.

و لازم ذلك:

أوّلاً: شمول المغفرة من المعاصي لما يحكم بداهة العقل على عدم شمول العفو له لو لا التوبة كعبادة الأصنام و الردّ على الله و رسوله و تكذيب النبيّ و الافتراء على الله و رسوله و الاستهزاء بالدين و أحكامه الثابتة بالضرورة، فإنّ الآيات المتعرّضة لها الناهية عنها تأبى شمول المغفرة لها من غير توبة، و مثلها قتل النفس المحترمة ظلماً و الفساد في الأرض و إهلاك الحرث و النسل، و استباحة الدماء و الأعراض و الأموال.

و من المعلوم أنّ المحذور إمكان تعلّق المغفرة بأمثال هذه المعاصي و الذنوب لا فعليّة تعلّقها بها فلا يدفع بأنّ الله سبحانه يحفظ هذا المكلّف المغفور له من اقتراف أمثال هذه المعاصي و الذنوب و إن كان غفر له لو اقترف.

و ثانياً: أن يخصّص قوله: اعملوا ما شئتم عمومات جميع الأحكام الشرعيّة من عبادات و معاملات من حيث المتعلّق فلا يعمّ شي‏ء منها البدريّين و لا يتعلّق بهم، و لو كان كذلك لكان معروفاً عند الصحابة مسلّماً لهم أنّ هؤلاء العصابة محرّرون من كلّ تكليف دينيّ مطلقون من قيد وظائف العبوديّة و كان البدريّون أنفسهم أحقّ برعاية معنى التحرير فيما بينهم أنفسهم على ما له من الأهمّيّة، و لا شاهد يشهد بذلك في المرويّ من أخبارهم و المحفوظ من آثارهم بل المستفاد من سيرهم و خاصّة في خلال الفتن الواقعة بعد رحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ذلك بما لا يسع لأحد إنكاره.

على أنّ تحرير قوم ذوي عدد من الناس و إطلاقهم من قيد التكليف لهم أن يفعلوا ما يشاؤن و أن لا يبالوا بمخالفة الله و رسوله و إن عظمت ما عظمت يناقض مصلحة الدعوة الدينيّة و فريضة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بثّ المعارف الإلهيّة

٢٧٣

الّتي جاء بها الرسول بالرواية عنه إذ لا يبقى للناس بهم وثوق فيما يقولون و يروون من حكم الله و رسوله أن لا ضير عليهم و لو أتوا بكلّ كذب افتراء أو اقترفوا كلّ منكر و فحشاء و الناس يعلمون منهم ذلك.

و يجري ذلك في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو سيّد أهل بدر و قد أرسله(1) الله شاهداً و مبشّراً و نذيراً و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً فكيف تطمئنّ القلوب إلى دعوة من يجوز تلبّسه بكلّ كذب و افتراء و منكر و فحشاء؟ و أنّى تسلم النفوس له الاتّصاف بتلك الصفات الكريمة الّتي مدحه الله بها؟ بل كيف يجوز في حكمته تعالى أن يقلّد الشهادة و الدعوة من لا يؤمن في حال أو مقال، و يعدّه سراجاً منيراً و هو تعالى قد أباح له أن يحيي الباطل كما ينير الحقّ و أذن له في أن يضلّ الناس و قد بعثه ليهديهم و الآيات المتعرّضة لعصمة الأنبياء و حفظ الوحي تأبى ذلك كلّه.

على أنّ ذلك يفسد استقامة الخطاب في كثير من الآيات الّتي فيها عتاب الصحابة و المؤمنين على بعض تخلّفاتهم كالآيات النازلة في وقعة اُحد و الأحزاب و حنين و غيرها المعاتبة لهم على انهزامهم و فرارهم من الزحف و قد أوعد الله عليه النار.

و من أوضح الآيات في ذلك آيات الإفك و في أهل الإفك مسطّح بن أثاثة البدريّ و فيها قوله تعالى:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) و لم يستثن أحداً منهم، و قوله:( وَ هُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ ) و قوله:( يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

و من أوضح الآيات في عدم ملاءمة معناها للرواية نفس هذه الآيات الّتي تذكر الرواية سبب نزولها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآيات و فيها مثل قوله تعالى:( وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) .

فمن المعلوم أنّ الآيات إنّما وجّهت الخطاب و العتاب إلى عامّة الّذين آمنوا و تنسب إلقاء المودّة و إسرار مودّة الكفّار إلى المؤمنين بما أنّ بعضهم و هو حاطب بن أبي بلتعة اتّخذ الكفّار أولياء و خان الإسلام و المسلمين فنسبت الآيات فعل البعض إلى

____________________

(1) الآية 45 - 46 من سورة الأحزاب.

٢٧٤

الكلّ و وجّهت العتاب و التهديد إلى الجميع.

فلو كان حاطب و هو بدريّ محرّر مرفوع عنه القلم مخاطباً بمثل قوله: اعمل ما شئت فقد غفرت لك لا إثم عليه فيما يفعل و لا ضلال في حقّه و لا يتّصف بظلم و لا يتعلّق به عتاب و لا تهديد فأيّ وجه لنسبة فعل البعض بما له من الصفات غير المرضيّة إلى الكلّ و لا صفة غير مرضيّة لفعل هذا البعض على الفرض.

فيؤل الأمر إلى فرض أن يأتي البعض بفعل مأذون له فيه لا عتاب عليه و لا لوم يعتريه و يعاتب الكلّ و يهدّدوا عليه و بعبارة اُخرى أن يؤذن لفاعل في معصية ثمّ يعاتب عليها غيره و لا صنع له فيها و يجلّ كلامه تعالى عن مثل ذلك.

و فيه، أخرج البخاريّ و ابن المنذر و النحّاس و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أتتني اُمّي راغبة و هي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أ أصلها؟ فأنزل الله( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) فقال: نعم صلي.

و فيه، أخرج أبوداود في تاريخه و ابن المنذر عن قتادة:( لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ) نسختها( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

أقول: قد عرفت الكلام فيه.

و في الكافي، بإسناده عن سعيد الأعرج عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله و تبغض في الله و تعطي في الله و تمنع في الله جلّ و عزّ.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده إلى إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كلّ من لم يحبّ على الدين و لم يبغض على الدين فلا دين له.

٢٧٥

( سورة الممتحنة الآيات 10 - 13)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ  اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ  فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ  لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ  وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا  وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ  وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا  ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللهِ  يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ  وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 10 ) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا  وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 11 ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ  فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ  إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 12 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 13 )

( بيان)

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ) الآية، سياق الآية يعطي أنّها نزلت بعد صلح الحديبيّة، و كان في العهد المكتوب بين

٢٧٦

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين أهل مكّة أنّه إن لحق من أهل مكّة رجل بالمسلمين ردّوه إليهم و إن لحق من المسلمين رجل بأهل مكّة لم يردّوه إليهم ثمّ إنّ بعض نساء المشركين أسلمت و هاجرت إلى المدينة فجاء زوجها يستردّها فسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّها إليه فأجابه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الّذي شرطوه في العهد ردّ الرجل دون النساء و لم يردّها إليهم و أعطاه ما أنفق عليها من المهر و هو الّذي تدلّ عليه الآية مع ما يناسب ذلك من أحكامهنّ.

فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ) سمّاهنّ مؤمنات قبل امتحانهنّ و العلم بإيمانهنّ لتظاهرهنّ بذلك.

و قوله:( فَامْتَحِنُوهُنَّ ) أي اختبروا إيمانهنّ بما يظهر به ذلك من شهادة و حلف يفيد العلم و الوثوق، و في قوله:( اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ) إشارة إلى أنّه يجزي في ذلك العلم العاديّ و الوثوق دون اليقين بحقيقة الإيمان الّذي هو تعالى أعلم به علماً لا يتخلّف عنه معلومه.

و قوله:( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) ذكرهم بوصف الإيمان للإشارة إلى أنّه السبب للحكم و انقطاع علقة الزوجيّة بين المؤمنة و الكافر.

و قوله:( لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) مجموع الجملتين كناية عن انقطاع علقة الزوجيّة، و ليس من توجيه الحرمة إليهنّ و إليهم في شي‏ء.

و قوله:( وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) أي أعطوا الزوج الكافر ما أنفق عليها من المهر.

و قوله:( وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) رفع المانع من نكاح المؤمنات المهاجرات إذا اُوتين اُجورهنّ و الأجر المهر.

و قوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) العصم جمع عصمة و هي النكاح الدائم يعصم المرأة و يحصنها، و إمساك العصمة إبقاء الرجل - بعد ما أسلم - زوجته الكافرة على زوجيّتها فعليه بعد ما أسلم أن يخلّي عن سبيل زوجته الكافرة سواء كانت مشركة أو كتابيّة.

و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) البقرة: 221،

٢٧٧

و قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) المائدة: 5، أن لا نسخ بين الآيتين و بين الآية الّتي نحن فيها.

و قوله:( وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ) ضمير الجمع في( وَ سْئَلُوا ) للمؤمنين و في( لْيَسْئَلُوا ) للكفّار أي إن لحقت امرأة منكم بالكفّار فاسألوهم ما أنفقتم لها من مهر و لهم أن يسألوا مهر من لحقت بكم من نسائهم.

ثمّ تمّم الآية بالإشارة إلى أنّ ما تضمّنته الآية حكم الله الّذي شرع لهم فقال:( ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا ) إلخ، قال الراغب: الفوت بعد الشي‏ء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه، قال تعالى:( وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ‏ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ) . انتهى. و فسّر المعاقبة و العقاب بمعنى الوصول و الانتهاء إلى عقبى الشي‏ء، و المراد عاقبتم من الكفّار أي أصبتم منهم غنيمة و هي عقبى الغزو، و قيل: عاقب بمعنى عقّب، و قيل: عاقب مأخوذ من العقبة بمعنى النوبة.

و الأقرب أن يكون المراد بالشي‏ء المهر و( مِنْ ) في( مِنْ أَزْواجِكُمْ ) لابتداء الغاية و( إِلَى الْكُفَّارِ ) متعلّق بقوله:( فاتَكُمْ ) و المراد بالّذين ذهبت أزواجهم، بعض المؤمنين و إليهم يعود ضمير( أَنْفَقُوا ) .

و المعنى: و إن ذهب و انفلت منكم إلى الكفّار مهر من أزواجكم بلحوقهنّ بهم و عدم ردّهم ما أنفقتم من المهر إليكم فأصبتم منهم بالغزو غنيمة فأعطوا المؤمنين الّذين ذهبت أزواجهم إليهم ممّا أصبتم من الغنيمة مثل ما أنفقوا من المهر.

و فسّرت الآية بوجوه اُخرى بعيدة عن الفهم أغمضنا عنها.

و قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) أمر بالتقوى، و توصيفه تعالى بالموصول و الصلة لتعليل الحكم فإنّ من مقتضى الإيمان بالله تقواه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ) إلخ، تتضمّن الآية حكم بيعة النساء المؤمنات للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد شرطت عليهنّ في( عَلى‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ )

٢٧٨

إلخ، اُموراً منها ما هو مشترك بين الصنفين: الرجال و النساء كالتحرّز من الشرك و من معصية الرسول في معروف و منها ما هو أمسّ بهنّ من حيث أنّ تدبير المنزل بحسب الطبع إليهنّ و هنّ السبيل إلى حفظ عفّة البيت و الحصول على الأنسال و طهارة مواليدهم، و هي التجنّب من السرقة و الزنا و قتل الأولاد و إلحاق غير أولاد أزواجهنّ بهم، و إن كانت هذه الاُمور بوجه من المشتركات.

فقوله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ) شرط جوابه قوله:( فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ ) .

و قوله:( عَلى‏ أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً ) أي من الأصنام و الأوثان و الأرباب، و هذا شرط لا غنى عنه لإنسان في حال.

و قوله:( وَ لا يَسْرِقْنَ ) أي لا من أزواجهنّ و لا من غيرهم و خاصّة من أزواجهنّ كما يفيده السياق، و قوله:( وَ لا يَزْنِينَ ) أي باتّخاذ الأخدان و غير ذلك و قوله:( وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ) بالوأد و غيره و إسقاط الأجنّة.

و قوله:( وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ ) و ذلك بأن يحملن من الزنا ثمّ يضعنه و ينسبنه إلى أزواجهنّ فإلحاقهنّ الولد كذلك بأزواجهنّ و نسبته إليهم كذباً بهتان يفترينه بين أيديهنّ و أرجلهنّ لأنّ الولد إذا وضعته اُمّه سقط بين يديها و رجليها، و لا يغني عن هذا الشرط شرط الاجتناب عن الزنا لأنّهما متغايران و كلّ مستقلّ بالنهي و التحريم.

و قوله:( وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) نسب المعصية إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الله مع أنّها تنتهي إليه تعالى لأنّ المراد أن لا يتخلّفن بالمعصية عن السنّة الّتي يستنّها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ينفذها في المجتمع الإسلاميّ فيكون ما سنّه هو المعروف عند المسلمين و في المجتمع الإسلاميّ.

و من هنا يظهر أنّ المعصية في المعروف أعمّ من ترك المعروف كترك الصلاة و الزكاة و فعل المنكر كتبرّجهنّ تبرّج الجاهليّة الاُولى.

و في قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) بيان لمقتضى المغفرة و تقوية للرجاء.

٢٧٩

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) إلخ، المراد بهم اليهود المغضوب عليهم و قد تكرّر في كلامه تعالى فيهم( وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ) البقرة: 61، و يشهد بذلك ذيل الآية فإنّ الظاهر أنّ المراد بالقوم غير الكفّار.

و قوله:( يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) المراد بالآخرة ثوابها، و المراد بالكفّار الكافرون بالله المنكرون للبعث، و قيل: المراد مشركو مكّة و اللّام للعهد، و( مِنَ ) في( مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ ) لابتداء الغاية.

و الجملة بيان لشقائهم الخالد و هلاكهم المؤبّد ليحذر المؤمنون من موالاتهم و موادّتهم و الاختلاط بهم و المعنى: قد يئس اليهود من ثواب الآخرة كما يئس منكرو البعث من الموتى المدفونين في القبور.

و قيل: المراد بالكفّار الّذين يدفنون الموتى و يوارونهم في الأرض من الكفر بمعنى الستر.

و قيل: المراد بهم كفّار الموتى و( مِنَ ) بيانيّة و المعنى: يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفّار المدفونون في القبور منه لقوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ ) البقرة: 161.

( بحث روائي)

في المجمع، عن ابن عبّاس: صالح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديبيّة مشركي مكّة على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، و من أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو لهم و لم يردّوه عليه و كتبوا بذلك كتاباً و ختموا عليه.

فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديبيّة فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم - و قال مقاتل: هو صيفيّ بن الراهب - في طلبها و كان كافراً فقال: يا محمّد اردد عليّ امرأتي فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا و هذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد فنزلت الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ - من دار الكفر إلى دار الإسلام -فَامْتَحِنُوهُنَّ ) .

٢٨٠