الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126898
تحميل: 4077


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126898 / تحميل: 4077
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( بيان‏)

السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها و نظم كنظمها كأنّها ملخّصة منها و غرضها تحريض المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله و رفع ما يهجس في قلوبهم و يدبّ في نفوسهم من الأسى و الأسف على المصائب الّتي تهجم عليهم في تحمّل مشاقّ الإيمان بالله و الجهاد في سبيل الله و الإنفاق فيها بأنّ ذلك كلّه بإذن الله.

و الآيات الّتي أوردناها من صدر السورة تقدمة و تمهيد لبيان الغرض المذكور تبيّن أنّ أسماءه تعالى الحسنى و صفاته العليا تقضي بالبعث و رجوع الكلّ إليه تعالى رجوعاً يساق فيه أهل الإيمان و العمل الصالح إلى جنّة خالدة، و أهل الكفر و التكذيب إلى نار مؤبّدة فهي تمهيد للأمر بطاعة الله و رسوله و الصبر على المصائب و الإنفاق في سبيل الله من غير تأثّر من منع مانع و لا خوف من لومة لائم.

و السورة مدنيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) تقدّم الكلام في معنى التسبيح و الملك و الحمد و القدرة، و أنّ المراد بما في السماوات و الأرض يشمل نفس السماوات و الأرض و من فيها و ما فيها.

و قوله:( لَهُ الْمُلْكُ ) مطلق يفيد إطلاق الملك و عدم محدوديّته بحدّ و لا تقيّده بقيد أو شرط فلا حكم نافذاً إلّا حكمه، و لا حكم له إلّا نافذاً على ما أراد.

و كذا قوله:( وَ لَهُ الْحَمْدُ ) مطلق يفيد رجوع كلّ حمد من كلّ حامد - و الحمد هو الثناء على الجميل الاختياريّ - إليه تعالى لأنّ الخلق و الأمر إليه فلا ذات و لا صفة و لا فعل جميلاً محموداً إلّا منه و إليه.

و كذا قوله:( وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) بما يدلّ عليه من عموم متعلّق القدرة غير محدودة و لا مقيّدة بقيد أو شرط.

و إذ كانت الآيات - كما تقدّمت الإشارة إليه - مسوقة لإثبات المعاد كانت الآية

٣٤١

كالمقدّمة الاُولى لإثباته، و تفيد أنّ الله منزّه عن كلّ نقص و شين في ذاته و صفاته و أفعاله يملك الحكم على كلّ شي‏ء و التصرّف فيه كيفما شاء و أراد، - و لا يتصرّف إلّا جميلاً - و قدرته تسع كلّ شي‏ء فله أن يتصرّف في خلقه بالإعادة كما تصرّف فيهم بالإيذاء - الإحداث و الإبقاء - فله أن يبعثهم إن تعلّقت به إرادته و لا تتعلّق إلّا بحكمه.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) الفاء في( فَمِنْكُمْ ) تدلّ على مجرّد ترتّب الكفر و الإيمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر و الإيمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، و إنّما المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و قدّم ذكر الكافر لكثرة الكفّار و غلبتهم.

و( من ) في قوله:( فَمِنْكُمْ ) و( فَمِنْكُمْ ) للتبعيض أي فبعضكم كافر و بعضكم مؤمن.

و قد نبّه بقوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) على أنّ انقسامهم قسمين و تفرّقهم فرقتين حقّ كما ذكر، و هم متميّزون عنده لأنّ الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها و باطنها و الله بما يعملون بصير لا تخفى عليه و لا تشتبه.

و تتضمّن الآية مقدّمة اُخرى لإثبات المعاد و تنجّزه و هي أنّ الناس مخلوقون له تعالى متميّزون عنده بالكفر و الإيمان و صالح العمل و طالحه.

قوله تعالى: ( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) المراد بالحقّ خلاف الباطل و هو خلقها من غير غاية ثابتة و غرض ثابت كما قال:( لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا ) الأنبياء: 17، و قال:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) الدخان: 39.

و قوله:( وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) المراد بالتصوير إعطاء الصورة و صورة الشي‏ء قوامه و نحو وجوده كما قال:( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) التين: 4،

٣٤٢

و حسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض و المجموع لغاية وجودها، و ليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر و ملاحته بل الحسن العامّ الساري في الأشياء كما قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7.

و لعلّ اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنّها ملائمة للغاية الّتي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدّمات المسوقة لإثبات المعاد على ما تقدّمت الإشارة إليه.

و بهذه الآية تتمّ المقدّمات المنتجة للزوم البعث و رجوع الخلق إليه تعالى فإنّه تعالى لمّا كان ملكاً قادراً على الإطلاق له أن يحكم بما شاء و يتصرّف كيف أراد و هو منزّه عن كلّ نقص و شين محمود في أفعاله، و كان الناس مختلفين بالكفر و الإيمان و هو بصير بأعمالهم، و كانت الخلقة لغاية من غير لغو و جزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشأة اُخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر و الإيمان و هو الجزاء الّذي يسعد به مؤمنهم و يشقى به كافرهم.

و إلى هذه النتيجة يشير بقوله:( وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) .

قوله تعالى: ( يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) دفع شبهة لمنكري المعاد مبنيّة على الاستبعاد و هي أنّه كيف يمكن إعادة الموجودات و هي فانية بائدة و حوادث العالم لا تحصى و الأعمال و الصفات لا تعدّ، منها ظاهرة علنيّة و منها باطنة سرّيّة و منها مشهودة و منها مغيّبة، فاُجيب بأنّ الله يعلم ما في السماوات و الأرض و يعلم ما تسرّون و ما تعلنون.

و قوله:( وَ اللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) قيل: إنّه اعتراض تذييليّ مقرّر لشمول علمه تعالى بما يسرّون و ما يعلنون و المعنى: أنّه تعالى محيط علماً بالمضرّات المستكنّة في صدور الناس ممّا لا يفارقها أصلاً فكيف يخفى عليه شي‏ء ممّا تسرّونه و ما تعلنونه.

و في قوله:( وَ اللهُ عَلِيمٌ ) إلخ، وضع الظاهر موضع الضمير و الأصل( و هو عليم) إلخ و النكتة فيه الإشارة إلى علّة الحكم، و ليكون ضابطاً يجري مجرى المثل.

٣٤٣

قوله تعالى: ( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) وبال الأمر تبعته السيّئة و المراد بأمرهم كفرهم و ما تفرّع عليه من فسوقهم.

لمّا كان مقتضى أسمائه الحسنى و صفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس و مصيرهم إلى ربّهم للحساب و الجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه و هو الشرع، و الطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الإنذار و التبشير بعقاب الآخرة و ثوابها و سخطه تعالى و رضاه.

ساق تعالى الكلام بالإنذار بالإشارة إلى نبأ الّذين كفروا من قبل و أنّهم ذاقوا وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم ثمّ انتقل إلى بيان سبب كفرهم و هو تكذيب الرسالة ثمّ إلى سبب ذلك و هو إنكار البعث و المعاد.

ثمّ استنتج من ذلك كلّه وجوب إيمانهم بالله و رسوله و الدين الّذي أنزله عليه و ختم التمهيد المذكور بالتبشير و الإنذار بالإشارة إلى ما هيّئ للمؤمنين الصالحين من جنّة خالدة و لغيرهم من الكفّار المكذّبين من نار مؤبّدة.

فقوله:( أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ) الخطاب للمشركين و فيه إشارة إلى قصص الاُمم السالفة الهالكة كقوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، ممّن أهلكهم الله بذنوبهم، و قوله:( فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ) إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال و قوله:( وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) إشارة إلى عذابهم الاُخرويّ.

قوله تعالى: ( ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ) إلخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال و عذاب الآخرة، و لذلك جي‏ء بالفصل دون العطف كأنّه جواب لسؤال مقدّر كأنّ سائلاً يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب؟ فقيل:( ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ ) إلخ، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب.

و في التعبير عن إتيان الرسل و دعوتهم بقوله:( كانَتْ تَأْتِيهِمْ ) الدالّ على

٣٤٤

الاستمرار، و عن كفرهم و قولهم بقوله:( فَقالُوا و فَكَفَرُوا و تَوَلَّوْا ) الدالّ بالمقابلة على المرّة دلالة على أنّهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها و ثبتوا عليها و هو العناد و اللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى:( تِلْكَ الْقُرى‏ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِ الْكافِرِينَ ) الأعراف: 101، و قوله:( ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ (أي بعد نوح)رُسُلًا إِلى‏ قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى‏ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ) يونس: 74.

و قوله:( فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ) يطلق البشر على الواحد و الجمع و المراد به الثاني بدليل قوله:( يَهْدُونَنا ) و التنكير للتحقير، و الاستفهام للإنكار أي قالوا على سبيل الإنكار: أ آحاد من البشر لا فضل لهم علينا يهدوننا.؟

و هذا القول منهم مبنيّ على الاستكبار، على أنّ أكثر هؤلاء الاُمم الهالكة كانوا وثنيّين و هم منكرون للنبوّة و هو أساس تكذيبهم لدعوة الأنبياء، و لذلك فرّع تعالى على قولهم:( أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا ) قوله:( فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا ) أي بنوا عليه كفرهم و إعراضهم.

و قوله:( وَ اسْتَغْنَى اللهُ ) الاستغناء طلب الغنى و هو من الله سبحانه - و هو غنيّ بالذات - إظهار الغنى و ذلك أنّهم كانوا يرون أنّ لهم من العلم و القوّة و الاستطاعة ما يدفع عن جمعهم الفناء و يضمن لهم البقاء كأنّه لا غنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم:( قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) الكهف: 35، و قال:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) حم السجدة: 50.

و مآل هذا الظنّ بالحقيقة إلى أنّ لله سبحانه حاجة إليهم و فيهم - و هو الغنيّ بالذات - فإهلاكه تعالى لهم و إفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، و على هذا فالمراد بقوله:( وَ اسْتَغْنَى اللهُ ) استئصالهم المدلول عليه بقوله:( فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ) .

على أنّ الإنسان معجب بنفسه بالطبع يرى أنّ له على الله كرامة كأنّ من

٣٤٥

الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كأنّ لله سبحانه حاجة إلى إسعاده و الإحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى‏ ) حم السجدة: 50، و قوله:( وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‏ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) الكهف: 36.

و مآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أنّ من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأنّ له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم و تعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناه عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما اُفيد بقوله:( فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

فهذان وجهان في معنى قوله تعالى:( وَ اسْتَغْنَى اللهُ ) و الثاني منهما أشمل، و في الكلمة على أيّ حال من سطوع العظمة و القدرة ما لا يخفى، و هو في معنى قوله:( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) المؤمنون: 44.

و قيل: المراد و استغنى الله بإقامة البرهان و إتمام الحجّة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم و هدايتهم إلى الإيمان.

و قيل: المراد و استغنى الله عن طاعتهم و عبادتهم أزلاً و أبداً لأنّه غنيّ بالذات، و الوجهان كما ترى.

و قوله:( وَ اللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) في محلّ التعليل لمضمون الآية، و المعنى: و الله غنيّ في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم و تعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم و تولّيهم من غناه و عدله لأنّه مقتضى عملهم المردود إليهم.

قوله تعالى: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيّين و هو إنكارهم الدين السماويّ بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبنيّ على الأمر و النهي و الحساب و الجزاء و يصلح تعليلاً لإنكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ و الوعيد.

و المراد بالّذين كفروا عامّة الوثنيّين و منهم من عاصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم كأهل مكّة

٣٤٦

و ما والاها، و قيل: المراد أهل مكّة خاصّة.

و قوله:( قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ ) أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم و اللّام و النون.

و( ثُمَّ ) في( ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ) للتراخي بحسب رتبة الكلام، و في الجملة إشارة إلى غاية البعث و هو الحساب و قوله:( وَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) أي ما ذكر من البعث و الإنباء بالأعمال يسير عليه تعالى غير عسير، و فيه ردّ لإحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعاداً، و قد عبّر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله:( وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) الروم: 27.

و الدليل عليه ما عدّه في صدر الآيات من أسمائه تعالى و صفاته من الخلق و الملك و العلم و أنّه مسبّح محمود، و يجمع الجميع أنّه الله المستجمع لجميع صفات الكمال.

و يظهر من هنا أنّ التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله:( وَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) للإيماء إلى التعليل، و المفاد أنّ ذلك يسير عليه تعالى لأنّه الله، و الكلام حجّة برهانيّة لا دعوى مجرّدة.

و ذكروا أنّ الآية ثالثة الآيات الّتي أمر الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقسم بربّه على وقوع المعاد و هي ثلاث: إحداها قوله:( وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي ) يونس: 53، و الثانية قوله:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى‏ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) سبأ: 3، و الثالثة الآية الّتي نحن فيها.

قوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبّئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله و رسوله و النور الّذي أنزله على رسوله و هو القرآن الّذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، و يبيّن شرائع الدين.

و في قوله:( وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير و لعلّ النكتة فيه تتميم الحجّة بالسلوك من طريق الشهادة و هي أقطع للعذر فكم فرق

٣٤٧

بين قولنا: و النور الّذي اُنزل و هو إخبار، و قوله:( وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) ففيه شهادة منه تعالى على أنّ القرآن كتاب سماويّ نازل من عنده تعالى، و الشهادة آكد من الإخبار المجرّد.

لا يقال: ما ذا ينفع ذلك و هم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده و لو صدّقوا ذلك كفاهم ما مرّ من الحجّة على المعاد و أغنى عن التمسّك بذيل الالتفات المذكور.

لأنّه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدّي المثبتة لكونه كلام الله، و الشهادة على أيّ حال آكد و أقوى من الإخبار و إن كان مدلّلاً.

و قوله:( وَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكّد به الأمر في قوله:( فَآمِنُوا ) و المعنى: آمنوا و جدّوا في إيمانكم فإنّه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شي‏ء منها و هو مجازيكم بها لا محالة.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) إلخ،( يَوْمَ ) ظرف لقوله السابق:( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ ) إلخ، و المراد بيوم الجمع يوم القيامة الّذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) الكهف: 99، و قد تكرّر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، و يفسّره أمثال قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الجاثية: 17، و قوله:( فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) البقرة: 113، و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) السجدة: 25، فالآيات تشير إلى أنّ جمعهم للقضاء بينهم.

و قوله:( ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك و بينه بضرب من الإخفاء. قال: و يوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) و بقوله:( إِنَّ اللهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الآية، و بقوله:( الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً

٣٤٨

قَلِيلًا ) فعلموا أنّهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة و فيما تعاطوه من ذلك جميعاً.

و سئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الأشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا. انتهى موضع الحاجة.

و ما ذكره أوّلاً مبنيّ على تفسير التغابن بسريان المغبونيّة بين الكفّار بأخذهم لمعاملة خاسرة و تركهم معاملة رابحة، و هو معنى حسن غير أنّه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض.

و ما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقّة، و يؤيّده مثل قوله تعالى:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) الم السجدة: 17، و قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: 35، و قوله:( وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) الزمر: 47.

و مقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن و كافر أمّا المؤمن فلمّا أنّه لم يعمل لآخرته أكثر ممّا عمل، و أمّا الكافر فلأنّه لم يعمل أصلاً، و الوجه المشترك بينهما أنّهما لم يقدّراً اليوم حقّ قدره.

و يرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه.

و هناك وجه ثالث و هو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم و تابعيهم فالمتبوعون و هم المستكبرون يغبنون تابعيهم و هم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا و ترك الآخرة فيضلّون، و التابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتّباعهم فيضلّون، فكلّ من الفريقين غابن لغيره و مغبون من غيره.

و هناك وجه رابع وردت به الرواية و هو أنّ لكلّ عبد منزلاً في الجنّة لو أطاع الله لدخله، و منزلاً في النار لو عصى الله لدخله و يوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنّة لأهل الجنّة، و يعطى منازل أهل الجنّة في النّار لأهل النار فيكون أهل الجنّة و هم المؤمنون غابنين لأهل النار و هم الكفّار و الكفّار هم المغبونون.

و قال بعض المفسّرين بعد إيراد هذا الوجه: و قد فسّر التغابن قوله ذيلاً:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ - إلى قوله -وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) انتهى. و ليس بظاهر ذاك الظهور.

٣٤٩

و قوله:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً - إلى قوله -وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) تقدّم تفسيره مراراً.

( بحث روائي‏)

في صحيح البخاريّ، عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما من عبد يدخل الجنّة إلّا اُري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً. و ما من عبد يدخل النار إلّا اُري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة.

أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامّة و الخاصّة و قد تقدّم بعضها في تفسير أوّل سورة المؤمنون.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و الأرض، و يوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنّة( أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) و يوم التغابن يوم يغبن أهل الجنّة أهل النار، و يوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح.

أقول: و في ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدّة من الروايات توجّه الآيات بشؤن الولاية كالّذي ورد أنّ الإيمان و الكفر هما الإيمان و الكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، و ما ورد أنّ المراد بالبيّنات الأئمّة، و ما ورد أنّ المراد بالنور الإمام و هي جميعاً ناظرة إلى بطن الآيات و ليست بمفسّرة البتّة.

٣٥٠

( سورة التغابن الآيات 11 - 18)

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ  وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ  وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 11 ) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ  فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( 12 ) اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ  وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 13 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ  وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 14 ) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ  وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 15 ) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ  وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( 16 ) إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ  وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ( 17 ) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )

( بيان‏)

شروع فيما هو الغرض من السورة بعد ما مرّ من التمهيد و التوطئة و هو الندب إلى الإنفاق في سبيل الله و الصبر على ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في الله سبحانه.

و قدّم ذكر المصيبة و الإشارة إلى الصبر عليها ليصفو المقام لما سيندب إليه من الإنفاق و ينقطع العذر.

قوله تعالى: ( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللهُ

٣٥١

بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) المصيبة صفة شاع استعمالها في الحوادث السوء الّتي تصحب الضرّ، و الإذن الاعلام بالرخصة و عدم المانع و يلازم علم الإذن بما أذن فيه، و ليس هو العلم كما قيل.

فظهر بما تقدّم أوّلاً أنّ إذنه تعالى في عمل سبب من الأسباب هو التخلية بينه و بين مسبّبه برفع الموانع الّتي تتخلّل بينه و بين مسبّبه فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيّته كالنار تقتضي إحراق القطن مثلاً لو لا الفصل بينهما و الرطوبة فرفع الفصل بينهما و الرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الإحراق.

و قد كان استعمال الإذن في العرف العامّ مختصّاً بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معنى الاعلام في مفهومه فيقال: أذنت لفلان أن يفعل كذا و لا يقال: أذنت للنار أن تحرق، و لا أذنت للفرس أن يعدو، لكنّ القرآن الكريم يستعمله فيما يعمّ العقلاء و غيرهم بالتحليل كقوله:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء: 64، و قوله:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: 58، و لا يبعد أن يكون هذا التعميم مبنيّاً على ما يفيده القرآن من سريان العلم و الإدراك في الموجودات كما قدّمناه في تفسير قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: 21.

و كيف كان فلا يتمّ عمل من عامل و لا تأثير من مؤثّر إلّا بإذن من الله سبحانه فما كان من الأسباب غير تامّ له موانع لو تحقّقت منعت من تأثيره فإذنه تعالى له في أن يؤثّر رفعه الموانع، و ما كان منها تامّاً لا مانع له يمنعه فإذنه له عدم جعله له شيئاً من الموانع فتأثيره يصاحب الإذن من غير انفكاك.

و ثانياً: أنّ المصائب و هي الحوادث الّتي تصيب الإنسان فتؤثّر فيه آثاراً سيّئة مكروهة إنّما تقع بإذن من الله سبحانه كما أنّ الحسنات كذلك لاستيعاب إذنه تعالى صدور كلّ أثر من كلّ مؤثّر.

و ثالثاً: أنّ هذا الإذن إذن تكوينيّ غير الإذن التشريعيّ الّذي هو رفع الحظر

٣٥٢

عن الفعل فإصابة المصيبة تصاحب إذناً من الله في وقوعها و إن كانت من الظلم الممنوع فإنّ كون الظلم ممنوعاً غير مأذون فيه إنّما هو من جهة التشريع دون التكوين.

و لذا كانت بعض المصائب غير جائزة الصبر عليها و لا مأذوناً في تحمّلها و يجب على الإنسان أن يقاومها ما استطاع كالمظالم المتعلّقة بالأعراض و النفوس.

و من هنا يظهر أنّ المصائب الّتي ندب إلى الصبر عندها هي الّتي لم يؤمر المصاب عندها بالذبّ و الامتناع عن تحمّلها كالمصائب العامّة الكونيّة من موت و مرض ممّا لا شأن لاختيار الإنسان فيها، و أمّا ما للاختيار فيها دخل كالمظالم المتعلّقة نوع تعلّق بالاختيار من المظالم المتوجّهة إلى الأعراض فلإنسان أن يتوقّاها ما استطاع.

و قوله:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) كان ظاهر سياق قوله:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) يفيد أنّ لله سبحانه في الحوادث الّتي تسوء الإنسان علماً و مشيّة فليست تصيبه مصيبة إلّا بعد علمه تعالى و مشيّته فليس لسبب من الأسباب الكونيّة أن يستقلّ بنفسه فيما يؤثًره فإنّما هو نظام الخلقة لا ربّ يملكه إلّا خالقه فلا تحدث حادثة و لا تقع واقعة إلّا بعلم منه و مشيّة فلم يكن ليخطئه ما أصابه و لم يكن ليصيبه ما أخطأه.

و هذه هي الحقيقة الّتي بينها بلسان آخر في قوله:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) الحديد: 22.

فالله سبحانه ربّ العالمين و لازم ربوبيّته العامّة أنّه وحده يملك كلّ شي‏ء لا مالك بالحقيقة سواه، و النظام الجاري في الوجود مجموع من أنحاء تصرّفاته في خلقه فلا يتحرّك متحرّك و لا يسكن ساكن إلّا عن إذن منه، و لا يفعل فاعل و لا يقبل قابل إلّا عن علم سابق منه و مشيّة لا يخطئ علمه و مشيّته و لا يردّ قضاؤه.

فالإذعان بكونه تعالى هو الله يستعقب اهتداء النفس إلى هذه الحقائق و اطمئنان القلب و سكونه و عدم اضطرابه و قلقه من جهة تعلّقه بالأسباب الظاهريّة و إسناده المصائب و النوائب المرّة إليها دون الله سبحانه.

و هذا معنى قوله تعالى:( وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) .

٣٥٣

و قيل: معنى الجملة: و من يؤمن بتوحيد الله و يصبر لأمر الله يهد قلبه للاسترجاع حتّى يقول: إنّا لله و إنّا إليه راجعون، و فيه إدخال الصبر في معنى الإيمان.

و قيل: المعنى: و من يؤمن بالله يهد قلبه إلى ما عليه أن يفعل فإن ابتلي صبر و إن اُعطي شكر و إن ظلم غفر، و هذا الوجه قريب ممّا قدّمناه.

و قوله:( وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) تأكيد للاستثناء المتقدّم، و يمكن أن يكون إشارة إلى ما يفيده قوله:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها ) الحديد: 22.

قوله تعالى: ( وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) ظاهر تكرار( أَطِيعُوا ) دون أن يقال: أطيعوا الله و الرسول اختلاف المراد بالإطاعة، فالمراد بإطاعة الله تعالى الانقياد له فيما شرّعه لهم من شرائع الدين و المراد بإطاعة الرسول الانقياد له و امتثال ما يأمر به بحسب ولايته للاُمّة على ما جعلها الله له.

و قوله:( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) التولّي الإعراض، و البلاغ التبليغ، و المعنى: فإن أعرضتم عن إطاعة الله فيما شرّع من الدين أو عن إطاعة الرسول فيما أمركم به بما أنّه وليّ أمركم، فلم يكرهكم رسولنا على الطاعة فإنّه لم يؤمر بذلك، و إنّما أمر بالتبليغ و قد بلّغ.

و من هنا يظهر أنّ أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما وراء الأحكام و الشرائع من تبليغ رسالة الله فأمره و نهيه فيما تولّيه من أمر الله و نهيه، و طاعته فيهما من طاعة الله تعالى كما يدلّ عليه إطلاق قوله تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء: 64. الظاهر في أنّ طاعة الرسول فيما يأمر و ينهى مطلقاً مأذون فيه بإذن الله، و إذنه في طاعته يستلزم علمه و مشيّته لطاعته، و إرادة طاعة الأمر و النهي إرادة لنفس الأمر و النهي فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نهيه من أمر الله و نهيه و إن كان فيما وراء الأحكام و الشرائع المجعولة له تعالى.

٣٥٤

و لما تقدّم من رجوع طاعة الرسول إلى طاعة الله التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله:( رَسُولِنَا ) و فيه مع ذلك شي‏ء من شائبة التهديد.

قوله تعالى: ( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) في مقام التعليل لوجوب إطاعة الله على ما تقدّم أنّ طاعة الرسول من طاعة الله، توضيح ذلك أنّ الطاعة بمعنى الانقياد و الائتمار للأمر و الانتهاء عن النهي من شؤن العبوديّة حيث لا أثر لملك المولى رقبة عبده إلّا مالكيّته لإرادته و عمله فلا يريد إلّا ما يريد المولى أن يريده و لا يعمل إلّا ما يريد المولى أن يعمله فالطاعة نحو من العبوديّة كما يشير إليه قوله:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) يس: 60، يعاتبهم بعبادة الشيطان و إنّما أطاعوه.

فطاعة المطيع بالنسبة إلى المطاع نوع عبادة له، و إذ لا معبود إلّا الله فلا طاعة إلّا لله عزّ اسمه أو من أمر بطاعته فالمعنى: أطيعوا الله سبحانه إذ لا طاعة إلّا لمعبود و لا معبود بالحقّ إلّا الله فيجب عليكم أن تعبدوه و لا تشركوا به بطاعة غيره و عبادته كالشيطان و هوى النفس و هذا معنى كون الجملة في مقام التعليل.

و بما مرّ يظهر وجه تخصيص صفة الاُلوهيّة الّتي تفيد معنى المعبوديّة، بالذكر دون صفة الربوبيّة فلم يقل: الله لا ربّ غيره.

و قوله:( وَ عَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) تأكيد لمعنى الجملة السابقة أعني قوله:( اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

توضيحه: أنّ التوكيل إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في إدارة اُموره و لازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكّلة و فعله مقام فعله فينطبق بوجه على الإطاعة فإنّ المطيع يجعل إرادته و عمله تبعاً لإرادة المطاع فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته و يعود عمله متعلّقاً لإرادة المطاع صادراً منها اعتباراً فترجع الإطاعة توكيلاً بوجه كما أنّ التوكيل إطاعة بوجه.

فإطاعة العبد لربّه اتباع إرادته لإرادة ربّه و الإتيان بالفعل على هذا النمط و بعبارة اُخرى إيثار إرادته و ما يتعلّق بها من العمل على إرادة نفسه و ما يتعلّق بها

٣٥٥

من العمل.

فطاعته تعالى فيما شرّع لعباده و ما يتعلّق بها نوع تعلّق من التوكّل عليه، و طاعته واجبة لمن عرفه و آمن به فعلى الله فليتوكّل المؤمنون و إيّاه فليطيعوا، و أمّا من لم يعرفه و لم يؤمن به فلا تتحقّق منه طاعة.

و قد بان بما تقدّم أنّ الإيمان و العمل الصالح نوع من التوكّل على الله تعالى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) إلخ( مِنْ ) في( أَزْواجِكُمْ ) للتبعيض، و سياق الخطاب بلفظ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و تعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي أنّهم يعادونهم بما أنّهم مؤمنون، و العداوة من جهة الإيمان لا تتحقّق إلّا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الإيمان أو عن الأعمال الصالحة كالإنفاق في سبيل الله و الهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الإنفاق في سبيل الله شفقة على الأولاد و الأزواج و الغصب و اكتساب المال من غير طريق حلّه.

فالله سبحانه يعدّ بعض الأولاد و الأزواج عدوّاً للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الإيمان بالله أو ترك بعض الأعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة و ربّما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم و حبّاً لهم فأمرهم الله بالحذر منهم.

و قوله:( وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) قال الراغب: العفو القصد لتناول الشي‏ء يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولاً ما عنده - إلى أن قال - و عفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفاً عنه، و قال: الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو، و لذلك قال تعالى:( فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ) و قد يعفو الإنسان و لا يصفح، و قال: الغفر البأس ما يصونه عن الدنس، و منه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ، و الغفران و المغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسّه العذاب قال:( غُفْرانَكَ رَبَّنا ) و( مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) ( وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ) انتهى.

ففي قوله:( فاعفوا و اصفحوا و اغفروا) ندب إلى كمال الإغماض عن الأولاد

٣٥٦

و الأزواج. إذا ظهر منهم شي‏ء من آثار المعاداة المذكورة - مع الحذر من أن يفتتن بهم -.

و في قوله:( فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إن كان المراد خصوص مغفرته و رحمته للمخاطبين أن يعفوا و يصفحوا و يغفروا كان وعداً جميلاً لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله تعالى:( وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ ) النور: 22.

و إن اُريد مغفرته و رحمته العامّتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أنّ المغفرة و الرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا و صفحوا و غفروا فقد اتّصفوا بصفات الله و تخلّقوا بأخلاقه.

قوله تعالى: ( ما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏ ) الفتنة ما يبتلى و يمتحن به، و كون الأموال و البنين فتنة إنّما هو لكونهما زينة الحياة تنجذب إليهما النفس انجذاباً فتفتتن و تلهو بهما عمّا يهمّها من أمر آخرته و طاعة ربّه، قال تعالى:( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الكهف: 46.

و الجملة كناية عن النهي عن التلهّي بهما و التفريط في جنب الله باللّيّ إليهما و يؤكّده قوله:( اللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏ ) .

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) إلخ، أي مبلغ استطاعتكم - على ما يفيده السياق فإنّ السياق سياق الدعوة و الندب إلى السمع و الطاعة و الإنفاق و المجاهدة في الله - و الجملة تفريع على قوله:( ما أَمْوالُكُمْ‏ ) إلخ، فالمعنى: اتّقوه مبلغ استطاعتكم و لا تدعوا من الاتقاء شيئاً تسعه طاقتكم و جهدكم فتجري الآية مجرى قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) آل عمران: 102، و ليست الآية ناظرة إلى نفي التكليف بالاتّقاء فيما وراء الاستطاعة و فوق الطاقة كما في قوله:( وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) البقرة: 286.

و قد بان ممّا مرّ:

أوّلاً: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) و قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) و أنّ الاختلاف بينهما كالاختلاف بالكمّيّة و الكيفيّة، فقوله:

٣٥٧

( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) أمر باستيعاب جميع الموارد الّتي تسعها الاستطاعة بالتقوى، و قوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) أمر بالتلبّس في كلّ من موارد التقوى بحقّ التقوى دون شبحها و صورتها.

و ثانياً: فساد قول بعضهم: إنّ قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) ناسخ لقوله:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) و هو ظاهر.

و قوله:( وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) توضيح و تأكيد لقوله:( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) و السمع الاستجابة و القبول و هو في مقام الالتزام القلبيّ، و الطاعة الانقياد و هو في مقام العمل، و الإنفاق المراد به بذل المال في سبيل الله.

و( خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ) منصوب بمحذوف - على ما في الكشّاف - و التقدير آمنوا خيراً لأنفسكم، و يحتمل أن يكون( أَنْفِقُوا ) مضمّناً معنى قدّموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام، و في قوله:( لِأَنْفُسِكُمْ ) دون أن يقال: خيراً لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إنّ الإنفاق خير لكم لا ينتفع به إلّا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم و سعة قدرتكم على رفع حوائج مجتمعكم.

و قوله:( وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تقدّم تفسيره في تفسير سورة الحشر.

قوله تعالى: ( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) المراد بإقراض الله الإنفاق في سبيله سمّاه الله إقراضاً لله و سمّي المال المنفق قرضاً حسناً حثّاً و ترغيباً لهم فيه.

و قوله:( يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا و الآخرة.

و الشكور و الحليم و عالم الغيب و الشهادة و العزيز و الحكيم خمسة من أسماء الله الحسنى تقدّم شرحها، و وجه مناسبتها لما اُمر به في الآية من السمع و الطاعة و الإنفاق ظاهر.

٣٥٨

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) و ذلك أنّ الرجل إذا أراد الهجرة تعلّق به ابنه و امرأته و قالوا: ننشدك الله أن تذهب عنّا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذّرهم الله أبناءهم و نساءهم و نهاهم عن طاعتهم، و منهم من يمضي و يذرهم و يقول: أما و الله لئن لم تهاجروا معي ثمّ جمع الله بيني و بينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشي‏ء أبداً.

فلمّا جمع الله بينه و بينهم أمر الله أن يتوقّ بحسن وصله فقال:( وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن ابن عبّاس.

و في الدرّ المنثور: في قوله تعالى:( ما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) عن ابن مردويه عن عبادة بن الصامت و عبدالله بن أبي أوفى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لكلّ اُمّة فتنة و فتنة اُمّتي المال.

أقول: و روي مثله أيضاً عنه عن كعب بن عياض عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و الحاكم و ابن مردويه عن بريدة قال: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخطب فأقبل الحسن و الحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشقّ و واحداً من ذا الشقّ ثمّ صعد المنبر فقال: صدق الله قال:( ما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ، إنّي لمّا نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان و يعثران لم أصبر إن قطعت كلامي و نزلت إليهما.

أقول: و الرواية لا تخلو من شي‏ء و أنّى تنال الفتنة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو سيّد الأنبياء المخلصين معصوم مؤيّد بروح القدس.

٣٥٩

و أفظع لحناً من هذا الحديث‏ ما رواه عن ابن مردويه عن عبدالله بن عمر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن عليّ فوطأ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المنبر.

فلمّا رأى الناس أسرعوا إلى الحسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضاً حتّى وقع في يد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: قاتل الله الشيطان إنّ الولد لفتنة، و الّذي نفسي بيده ما دريت أنّي نزلت عن منبري.

و مثله ما عن ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير قال: سمع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكاء حسن أو حسين فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد فتنة لقد قمت إليه و ما أعقل.

فالوجه طرح الروايات إلّا أن تؤوّل.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير وكيع حدّثنا سفيان بن مرّة الهمدانيّ عن عبد خير سألت عليّ بن أبي طالب عن قوله تعالى:( اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) قال: و الله ما عمل بها غير أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . نحن ذكرنا الله فلا ننساه و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن أطعناه فلم نعصه.

فلمّا نزلت هذه قالت الصحابة: لا نطيق ذلك فأنزل الله:( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) . الحديث.

و في تفسير القمّيّ، حدّثني أبي عن الفضل بن أبي مرّة قال: رأيت أباعبداللهعليه‌السلام يطوف من أوّل الليل إلى الصباح و هو يقول: اللّهمّ و قني شحّ نفسي فقلت: جعلت فداك ما رأيتك تدعو بغير هذا الدعاء فقال: و أيّ شي‏ء أشدّ من شحّ النفس؟ إنّ الله يقول:( وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) .

٣٦٠