الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126917
تحميل: 4078


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126917 / تحميل: 4078
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة التحريم مدنيّة و هي اثنتا عشرة آية)

( سورة التحريم الآيات 1 - 9)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ  تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ  وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 1 ) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ  وَاللهُ مَوْلَاكُمْ  وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2 ) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ  فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا  قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 3 ) إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا  وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ  وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ( 4 ) عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ( 5 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( 6 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ  إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( 7 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ  نُورُهُمْ يَسْعَىٰ

٣٨١

بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا  إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 8 ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ  وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ  وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 9 )

( بيان‏)

تبدأ السورة بالإشارة إلى ما جرى بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين بعض أزواجه من قصّة التحريم فيعاتب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحريمه ما أحلّ الله له ابتغاء لمرضاة بعض أزواجه و مرجعه إلى عتاب تلك البعض و الانتصار لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يدلّ عليه سياق الآيات.

ثمّ تخاطب المؤمنين أن يقوا أنفسهم من عذاب الله النار الّتي وقودها الناس و الحجارة و ليسوا يجزون إلّا بأعمالهم و لا مخلص منها إلّا للنبيّ و الّذين آمنوا معه ثمّ تخاطب النبيّ بجهاد الكفّار و المنافقين.

و تختتم السورة بضربه تعالى مثلاً من النساء للكفّار و مثلاً منهنّ للمؤمنين. و ظهور السياق في كون السورة مدنيّة لا ريب فيه.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) خطاب مشوب بعتاب لتحريمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنفسه بعض ما أحلّ الله له، و لم يصرّح تعالى به و لم يبيّن أنّه ما هو؟ و ما ذا كان؟ غير أنّ قوله:( تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) يومئ أنّه كان عملاً من الأعمال المحلّلة الّتي يقترفها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ترتضيه أزواجه فضيّقن عليه و آذينه حتّى أرضاهنّ بالحلف على أن يتركه و لا يأتي به بعد.

فقوله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) علّق الخطاب و النداء بوصف النبيّ دون الرسول لاختصاصه به في نفسه دون غيره حتّى يلائم وصف الرسالة.

و قوله:( لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) المراد بالتحريم التسبّب إلى الحرمة بالحلف على ما تدلّ عليه الآية التالية فإنّ ظاهر قوله:( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ

٣٨٢

أَيْمانِكُمْ ) إلخ، أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلف على ذلك و من شأن اليمين أن يوجب عروض الوجوب إن كان الحلف على الفعل و الحرمة إن كان الحلف على الترك، و إذ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلف على ترك ما أحلّ الله له فقد حرّم ما أحلّ الله له بالحلف.

و ليس المراد بالتحريم تشريعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نفسه الحرمة فيما شرّع الله له فيه الحلّيّة فليس له ذلك.

و قوله:( تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) أي تطلب بالتحريم رضاهنّ بدّل من( تُحَرِّمُ ) إلخ، أو حال من فاعله، و الجملة قرينة على أنّ العتاب بالحقيقة متوجّه إليهنّ، و يؤيّده قوله خطاباً لهما:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) إلخ، مع قوله فيه:( وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) قال الراغب: كلّ موضع ورد فرض الله عليه ففي الإيجاب الّذي أدخله الله فيه، و ما ورد من فرض الله له فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ ) و قوله:( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) . انتهى. و التحلّة أصلها تحللة على وزن تذكرة و تكرمة مصدر كالتحليل، قال الراغب: و قوله عزّوجلّ:( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ) أي بيّن ما تحلّ به عقدة أيمانكم من الكفّارة.

فالمعنى: قد قدّر الله لكم - كأنّه قدّره نصيباً لهم حيث لم يمنعهم عن حلّ عقدة اليمين - تحليل أيمانكم بالكفّارة و الله وليّكم الّذي يتولّى تدبير اُموركم بالتشريع و الهداية و هو العليم الحكيم.

و في الآية دلالة على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد حلف على الترك، و أمر له بتحلّة يمينه.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) السرّ هو الحديث الّذي تكتمه في نفسك و تخفيه، و الإسرار إفضاؤك الحديث إلى غيرك مع إيصائك بإخفائه، و ضمير( نَبَّأَتْ ) لبعض أزواجه، و ضمير( بِهِ ) للحديث الّذي أسرّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها،

٣٨٣

و ضمير( أَظْهَرَهُ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( عَلَيْهِ ) لإنبائها به غيرها و إفشائها السرّ، و ضمير( عَرَّفَ ) و( أَعْرَضَ ) للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ضمير( بَعْضَهُ ) للحديث، و الإشارة بقوله:( هذا ) لإنبائها غيره و إفشائها السرّ.

و محصّل المعنى: و إذ أفضى النبيّ إلى بعض أزواجه - و هي حفصة بنت عمر بن الخطّاب - حديثاً و أوصاها بكتمانه فلمّا أخبرت به غيرها و أفشت السرّ خلافاً لما أوصاها به، و أعلم الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها نبّأت به غيرها و أفشت السرّ عرّف و أعلم بعضه و أعرض عن بعض آخر، فلمّا خبرها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحديث قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أنبأك و أخبرك أنّي نبّأت به غيري و أفشيت السرّ؟ قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نبّأني و خبّرني العليم الخبير و هو الله العليم بالسرّ و العلانية الخبير بالسرائر.

قوله تعالى: ( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) أي إن تتوبا إلى الله فقد تحقّق منكما ما يستوجب عليكما التوبة و إن تظاهراً عليه فإنّ الله هو مولاه، إلخ.

و قد اتّفق النقل على أنّهما عائشة و حفصة زوجاً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الصغو الميل و المراد به الميل إلى الباطل و الخروج عن الاستقامة و قد كان ما كان منهما من إيذائه و التظاهر عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكبائر و قد قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً ) الأحزاب: 57، و قال:

( وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) التوبة: 61.

و التعبير بقلوبكما و إرادة معنى التثنية من الجمع كثير النظير في الاستعمال.

و قوله:( وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ) إلخ، التظاهر التعاون، و أصل( وَ إِنْ تَظاهَرا ) و إن تتظاهراً، و ضمير الفصل في قوله:( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ) للدلالة على أنّ لله سبحانه عناية خاصّة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينصره و يتولّى أمره من غير واسطة من خلقه، و المولى الوليّ الّذي يتولّى أمره و ينصره على من يريده بسوء.

و( جِبْرِيلُ ) عطف على لفظ الجلالة، و( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) عطف كجبريل، و المراد بصالح المؤمنين على ما قيل الصلحاء من المؤمنين فصالح المؤمنين واحد اُريد به

٣٨٤

الجمع كقولك: لا يفعل هذا الصالح من الناس تريد به الجنس كقولك لا يفعله من صلح منه و مثله قولك: كنت في السامر و الحاضر.

و فيه قياس المضاف إلى الجمع إلى مدخول اللّام فظاهر( صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) غير ظاهر( الصالح من المؤمنين) .

و وردت الرواية من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بصالح المؤمنين عليّ عليه أفضل السلام، و ستوافيك إن شاء الله.

و في المراد منه أقوال اُخر أغمضنا عنها لعدم دليل عليها.

و قوله:( وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ) إفراد الخبر للدلالة على أنّهم متّفقون في نصره متّحدون صفّاً واحداً، و في جعلهم بعد ذلك أي بعد ولاية الله و جبريل و صالح المؤمنين تعظيم و تفخيم.

و لحن الآيات في إظهار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على من يؤذيه و يريده بسوء و تشديد العتاب على من يتظاهر عليه عجيب، و قد خوطب فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلاً و عوتب على تحريمه ما أحلّ الله له و اُشير عليه بتحلّة يمينه و هو إظهار و تأييد و انتصار له و إن كان في صورة العتاب.

ثمّ التفت من خطابه إلى خطاب المؤمنين في قوله:( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ ) يشير إلى القصّة و قد أبهمها إبهاماً و قد كان أيّد النبيّ و أظهره قبل الإشارة إلى القصّة و إفشائها مختوماً عليها، و فيه مزيد إظهاره.

ثمّ التفت من خطاب المؤمنين إلى خطابهما و قرّر أنّ قلوبهما قد صغت بما فعلتا و لم يأمرهما أن تتوبا من ذنبهما بل بيّن لهما أنّهما واقعتان بين أمرين إمّا أن تتوبا و إمّا أن تظاهراً على من الله هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين و الملائكة بعد ذلك أجمع ثمّ أظهر الرجاء إن طلّقهنّ أن يرزقه الله نساء خيراً منهنّ. ثمّ أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجاهد الكفار و المنافقين و يغلظ عليهم.

و انتهى الكلام إلى ضربه تعالى مثلين مثلاً للّذين كفروا و مثلاً للّذين آمنوا.

٣٨٥

و قد أدار تعالى الكلام في السورة بعد التعرّض لحالهما بقوله:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ) إلخ، بين التعرّض لحال المؤمنين و التعرّض لحال الكفّار فقال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ) إلخ، و( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا ) إلخ، و قال:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا ) إلخ، و( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ ) إلخ، و قال:( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) ،( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا ) .

قوله تعالى: ( عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ ) إلى آخر الآية استغناء إلهيّ فإنّهنّ و إن كنّ مشرّفات بشرف زوجيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّ الكرامة عندالله بالتقوى كما قال تعالى:( فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) الأحزاب: 29، انظر إلى مكان( مِنْكُنَّ ) و قال:( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) الأحزاب: 31.

و لذا ساق الاستغناء بترجّي إبداله إن طلّقهنّ أزواجاً خيراً منهنّ، و علّق الخبر بما ذكر لأزواجه الجديدة من صفات الكرامة و هي أن يكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات - أي صائمات - ثيّبات و أبكاراً.

فمن تزوّج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كانت متّصفة بمجموع هذه الصفات كانت خيراً منهنّ و ليس إلّا لأجل اختصاص منها بالقنوت و التوبة أو القنوت فقط مع مشاركتها لهنّ في باقي الصفات، و القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع.

و يتأيّد هذا المعنى بما في مثل مريم الآتي في آخر السورة من ذكر القنوت( وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ ) فالقنوت هو الّذي يفقدنه و هو لزومهنّ طاعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي فيها طاعة الله و اتّقاؤهن أن يعصين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يؤذينه.

و بما مرّ يظهر فساد قول من قال إنّ وجه خيريّة أزواجه اللاحقة من أزواجه السابقة إن طلّقهنّ، هو تزوّج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهنّ و انفصال الأزواج السابقة و زوجيّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرف لا يقدّر قدره.

و ذلك أنّه لو كان ملاك ما ذكر في الآية من الخير هو الزوجيّة كان كلّ من

٣٨٦

تزوّجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من النساء أفضل و أشرف منهنّ إن طلّقهنّ و إن لم تتلبّس بشي‏ء ممّا ذكر من صفات الكرامة فلم يكن مورد لعدّ ما عدّ من الصفات.

قال في الكشّاف: فإن قلت: لم اُخليت الصفات كلّها عن العاطف و وسّط بين الثيّبات و الأبكار؟ قلت: لأنّهما صفتان متنافيتان لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات. انتهى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ ) إلخ،( قُوا ) أمر من الوقاية بمعنى حفظ الشي‏ء ممّا يؤذيه و يضرّه، و الوقود بفتح الواو اسم لما توقد به النار من حطب و نحوه. و المراد بالنّار نار جهنّم و كون الناس المعذّبين فيها وقوداً لها معناه اشتعال الناس فيها بأنفسهم كما في قوله تعالى:( ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) المؤمن: 72. فيناسب تجسّم الأعمال كما هو ظاهر الآية التالية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلخ، و فسّرت الحجارة بالأصنام.

و قوله:( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) أي وكّل عليها لإجراء أنواع العذاب على أهلها ملائكة غلاظ شداد.

و الغلاظ جمع غليظ ضدّ الرقيق و الأنسب للمقام كون المراد بالغلظة خشونة العمل كما في قوله الآتي:( جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) الآية 9 من السورة، و الشداد جمع شديد بمعنى القويّ في عزمه و فعله.

و قوله:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) كالمفسّر لقوله:( غِلاظٌ شِدادٌ ) أي هم ملتزمون بما أمرهم الله من أنواع العذاب لا يعصونه بالمخالفة و الردّ و يفعلون ما يؤمرون به على ما اُمروا به من غير أن يفوت منهم فائت أو ينقص منه شي‏ء لضعف فيهم أو فتور فهم غلاظ شداد.

و بهذا يظهر أنّ قوله:( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ) ناظر إلى التزامهم بالتكليف، و قوله:( وَ يَفْعَلُونَ ) إلخ، ناظر إلى العمل على طبقه فلا تكرار كما قيل.

قال في التفسير الكبير، في ذيل الآية: و فيه إشارة إلى أنّ الملائكة مكلّفون في

٣٨٧

الآخرة بما أمرهم الله تعالى به و بما ينهاهم عنه، و العصيان منهم مخالفة للأمر و النهي.

و فيه أنّ الآية و غيرها ممّا تصف الملائكة بمحض الطاعة من غير معصية مطلقة تشمل الدنيا و الآخرة فلا وجه لتخصيص تكليفهم بالآخرة.

ثمّ إنّ تكليفهم غير سنخ التكليف المعهود في المجتمع الإنسانيّ بمعنى تعليق المكلّف - بالكسر - إرادته بفعل المكلّف - بالفتح - تعليقاً اعتباريّاً يستتبع الثواب و العقاب في ظرف الاختيار و إمكان الطاعة و المعصية بل هم خلق من خلق الله لهم ذوات طاهرة نوريّة لا يريدون إلّا ما أراد الله و لا يفعلون إلّا ما يؤمرون، قال تعالى:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء، 27 و لذلك لا جزاء لهم على أعمالهم من ثواب أو عقاب فهم مكلّفون بتكليف تكوينيّ غير تشريعيّ مختلف باختلاف درجاتهم، قال تعالى:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: 164، و قال عنهم:( وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا ) مريم: 64.

و الآية الكريمة بعد الآيات السابقة كالتعميم بعد التخصيص فإنّه تعالى لمّا أدب نساء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيان ما لإيذائهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأثر السيّئ عمّم الخطاب فخاطب المؤمنين عامّة أن يؤدّبوا أنفسهم و أهليهم و يقوهم من النار الّتي وقودها نفس الداخلين فيها أي أنّ أعمالهم السيّئة تلزمهم و تعود ناراً تعذّبهم و لا مخلص لهم منها و لا مناص عنها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) خطاب عامّ للكفّار بعد ما جوزوا بالنار فإنّهم يعتذرون عن كفرهم و معاصيهم فيخاطبون أن لا تعتذروا اليوم - و هو يوم الجزاء - إنّما تجزون نفس ما كنتم تعملون أي إنّ العذاب الّذي تعذّبون بها هو عملكم السيّئ الّذي عملتموه و قد برز لكم اليوم حقيقته و إذ عملتموه فقد لزمكم أنّكم عملتموه و الواقع لا يتغيّر و ما حقّ عليكم من كلمة العذاب لا يعود باطلاً فهذا ظاهر الخطاب.

و قيل: المعنى: لا تعتذروا - اليوم - بعد دخول النار فإنّ الاعتذار توبة و التوبة

٣٨٨

غير مقبولة بعد دخول النار إنّما تجزون ما لزم في مقابل عملكم من الجزاء في الحكمة.

و في اتباع الآيات السابقة بما في هذه الآية من خطاب القهر تهديد ضمنيّ و إشعار بأنّ معصية الله و رسوله ربّما أدّى إلى الكفر.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) إلخ، النصح تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، و يأتي بمعنى الإخلاص نحو نصحت له الودّ أي أخلصته - على ما ذكره الراغب - فالتوبة النصوح ما يصرف صاحبه عن العود إلى المعصية أو ما يخلص العبد للرجوع عن الذنب فلا يرجع إلى ما تاب منه.

لمّا أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم و أهليهم من النار أمرهم جميعاً ثانياً بالتوبة و فرّع عليه رجاء أن يستر الله سيّئاتهم و يدخلهم جنّات تجري من تحتها الأنهار.

و قوله:( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) قال الراغب: يقال: خزي الرجل يخزي من باب علم يعلم إذا لحقه انكسار إمّا من نفسه و إمّا من غيره فالّذي يلحقه من نفسه و هو الحياء المفرط مصدره الخزاية، و الّذي يلحقه من غيره و يعدّ ضرباً من الاستخفاف مصدره الخزي و الإخزاء من الخزاية و الخزي جميعاً قال: و على نحو ما قلنا في خزي ذلّ و هان فإنّ ذلك متى كان من الإنسان نفسه يقال له الهون - بفتح الهاء - و الذلّ و يكون محموداً، و متى كان من غيره يقال له: الهون - بضمّ الهاء - و الهوان و الذل و يكون مذموماً. انتهى ملخّصاً.

فقوله:( يَوْمَ ) ظرف لما تقدّمه، و المعنى: توبوا إلى الله عسى أن يكفّر عنكم سيّئاتكم و يدخلكم الجنّة في يوم لا يخزي و لا يكسّر الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجعلهم محرومين من الكرامة و خلفه ما وعدهم من الوعد الجميل.

و في قوله:( النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) اعتبار المعيّة في الإيمان في الدنيا و لازمه ملازمتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و طاعتهم له من غير مخالفة و مشاقّة.

و من المحتمل أن يكون قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) مبتدأ خبره( مَعَهُ ) و قوله:( نُورُهُمْ يَسْعى‏ ) إلخ، خبراً ثانياً، و قوله:( يَقُولُونَ ) إلخ، خبراً ثالثاً فيفيد أنّهم لا

٣٨٩

يفارقون النبيّ و لا يفارقهم يوم القيامة، و هذا وجه جيّد لازمه كون عدم الخزي خاصّاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سعي النور و سؤال إتمامه خاصّاً بالّذين معه من المؤمنين و تؤيّده آية الحديد الآتية. و من الممكن أن يكون( مَعَهُ ) متعلّقاً بقوله:( آمَنُوا ) و قوله:( نُورُهُمْ يَسْعى‏ ) إلخ، خبراً أوّلاً و ثانياً للموصول.

و قوله:( يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) تقدّم بعض الكلام في معناه في قوله تعالى:( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) الحديد: 12، و لا يبعد أن يكون ما بين أيديهم من النور نور الإيمان و ما بأيمانهم نور العمل.

و قوله:( يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) يفيد السياق أنّ المغفرة المسؤلة سبب لتمام النور أو هو ملازم لتمام النور فيفيد أنّ في نورهم نقصاً و النور نور الإيمان و العمل فلهم نقائص بحسب درجات الإيمان أو آثار السيّئات الّتي خلت محالّها في صحائفهم من العبوديّة في العمل فيسألون ربّهم أن يتمّ لهم نورهم و يغفر لهم، و إليه الإشارة بقوله تعالى:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ ) الحديد: 19.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ ) المراد بالجهاد بذل الجهد في إصلاح الأمر من جهتهم و دفع شرّهم ففي الكفّار ببيان الحقّ و تبليغه فإن آمنوا و إلّا فالحرب و في المنافقين باستمالتهم و تأليف قلوبهم حتّى تطمئنّ قلوبهم إلى الإيمان و إلّا فلم يقاتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منافقاً قطّ.

و قيل: المراد اشدد عليهم في إقامة الحدود لأنّ أكثر من يصيب الحدّ في ذلك الزمان المنافقون. و هما كما ترى.

٣٩٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن ابن سيّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) قال: اطلعت عائشة و حفصة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مع مارية فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله لا أقربها فأمر الله أن يكفّر بها عن يمينه.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن رجل قال لامرأته: أنت عليّ حرام فقال: لو كان لي عليه سلطان لأوجعت رأسه و قلت: الله أحلها لك فما حرّمها عليك؟ إنّه لم يزد على أن كذب فزعم أنّ ما أحلّ الله له حرام و لا يدخل عليه طلاق و لا كفّارة.

فقلت: قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) فجعل فيه كفّارة؟ فقال: إنّما حرّم عليه جاريته مارية القبطيّة و حلف أن لا يقربها، و إنّما جعل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكفّارة في الحلف و لم يجعل عليه في التحريم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه بسند صحيح عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إنّي أجد منك ريحاً، فدخل على حفصة فقالت: إنّي أجد منك ريحاً فقال: أراه من شراب شربته عند سودة و الله لا أشربه، فأنزل الله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) الآية.

أقول: و الحديث مرويّ بطرق متشتّتة و ألفاظ مختلفة، و في انطباقها على الآيات - و هي ذات سياق واحد - خفاء.

و فيه، أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: كانت عائشة و حفصة متحابّتين فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدّث عنده فأرسل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جاريته فظلّت معه في بيت حفصة و كان اليوم الّذي يأتي فيه عائشة فوجدتهما في بيتها فجعلت تنتظر خروجها و غارت غيرة شديدة فأخرج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاريته و دخلت حفصة فقالت:

٣٩١

قد رأيت من كان عندك و الله لقد سوّأتني، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الله لاُرضيّنك و إنّي مسرّ إليك سرّاً فاحفظيه، قالت: ما هو؟ قال: إنّي اُشهدك أنّ سرّيتي هذه علي حرام رضاً لك.

فانطلقت حفصة إلى عائشة فأسرّت إليها أن أبشري إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حرّم عليه فتاته فلمّا أخبرت بسرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه فأنزل الله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ) .

أقول: انطباق ما في الحديث على الآيات و خاصّة قوله:( عرف بعضه و أعرض عن بعض) فيه خفاء.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى‏ بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ) قال: دخلت حفصة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيتها و هو يطأ مارية، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تخبري عائشة حتّى اُبشّرك بشارة فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ.

فذهبت حفصة فأخبرت عائشة فقالت عائشة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أنبأك هذا؟ قال: نبّأني العليم الخبير، فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتّى تحرّم مارية فحرّمها فأنزل الله( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ) .

أقول: و الآثار في هذا الباب كثيرة على اختلاف فيها، و في أكثرها أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرّم مارية على نفسه لقول حفصة لا لقول عائشة، و أنّ الّتي قالت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَنْ أَنْبَأَكَ هذا ) هي حفصة تريد من أخبرك أنّي أفشيت السرّ دون عائشة.

و هي مع ذلك لا تزيل إبهام قوله تعالى:( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) . نعم فيما رواه ابن مردويه عن عليّ قال: ما استقصى كريم قطّ لأنّ الله يقول:( عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ ) ، و روي عن أبي حاتم عن مجاهد، و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ الّذي عرّف أمر مارية و الّذي أعرض عنه قوله: إنّ أباك و أباها يليان الناس بعدي مخافة أن يفشو.

و يتوجّه عليه أنّه ما وجه الكرم في أن يعرّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قاله من تحريم مارية

٣٩٢

و يعرض عمّا أخبرها من ولايتهما مع أنّ العكس أولى و أقرب.

و قد روي بعدّة طرق عن عمر بن الخطّاب سبب نزول الآيات و لم يذكر ذلك‏ ففي عدّة من جوامع الحديث منها البخاري و مسلم و الترمذيّ عن ابن عبّاس قال: لم أزل حريصاً أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبيّ اللّتين قال الله:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) حتّى حجّ عمر و حججت معه فلمّا كان ببعض الطريق عدل عمر و عدلت معه بالإداوة فتبرّز ثمّ أتى فصببت على يديه فتوضّأ.

فقلت: يا أميرالمؤمنين من المرأتان من أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللّتان قال الله:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ) فقال: وا عجبا لك يا ابن عبّاس هما عائشة و حفصة ثمّ أنشأ يحدّثني.

فقال: كنّا معشر قريش نغلب النساء فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم فغضبت على امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت: ما تنكر من ذلك؟ فو الله إنّ أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليراجعنه و تهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل. قلت: قد خابت من فعلت ذلك منهنّ و خسرت.

قال: و كان منزلي بالعوالي و كان لي جار من الأنصار كنّا نتناوب النزول إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينزل يوماً فيأتيني بخبر الوحي و غيره و أنزل يوماً فآتيه بمثل ذلك.

قال: و كنّا نحدّث أنّ غسّان تنعل الخيل لتغزونا فجاء يوماً فضرب على الباب فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: أ جاءت غسّان؟ قال: أعظم من ذلك طلّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه. قلت في نفسي: قد خابت حفصة و خسرت قد كنت أرى ذلك كائناً فلمّا صلّينا الصبح شددت عليّ ثيابي ثمّ انطلقت حتّى دخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت: أ طلّقكنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت: لا أدري هو ذا معتزل في المشربة فانطلقت فأتيت غلاماً أسود فقلت: استأذن لعمر فدخل ثمّ خرج إليّ فقال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً فانطلقت إلى المسجد فإذا حول المسجد نفر يبكون فجلست إليهم.

ثمّ غلبني ما أجد فانطلقت فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثمّ خرج

٣٩٣

فقال: قد ذكرتك له فلم يقل شيئاً فولّيت منطلقاً فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك فدخلت فإذا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متّكئ على حصير قد رأيت أثره في جنبه فقلت: يا رسول الله أ طلّقت نساءك؟ قال: لا. قلت: الله أكبر لو رأيتنا يا رسول الله و كنّا معشر قريش نغلب النساء، فلمّا قدّمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم فغضبت يوماً على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك فقالت: ما تنكر؟ فو الله إنّ أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليراجعنه و تهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهنّ، فدخلت على حفصة فقلت: أ تراجع إحداكنّ رسول الله و تهجره اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. فقلت: قد خابت من فعلت ذلك منكنّ و خسرت أ تأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقلت لحفصة: لا تراجعي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا تسأليه شيئاً و سليني ما بدا لك و لا يغرّنّك إن كانت جارتك أوسم منك و أحبّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتبسّم اُخرى.

فقلت: يا رسول الله أستأنس قال: نعم. فرفعت رأسي فما رأيت في البيت إلّا اُهبة ثلاثة فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يوسّع على اُمّتك فقد وسع على فارس و الروم و هم لا يعبدون الله فاستوى جالساً و قال: أ و في شكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ اُولئك قوم قد عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا، و كان قد أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهراً فعاتبه الله في ذلك و جعل له كفّارة اليمين.

أقول: و هذا المعنى مرويّ عنه مفصّلاً و مختصراً بطرق مختلفة، و الرواية - كما ترى - لا تذكر ما أسرّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه؟ و ما هو بعض النبإ الّذي عرفه و ما هو الّذي أعرض عنه و له شأن من الشأن.

و هي مع ذلك ظاهرة في أنّ المراد بالتحريم في الآية تحريم عامّة أزواجه و ذلك لا ينطبق عليها و فيها قوله تعالى:( لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ) مضافاً إلى أنّه لا تبيّن به وجه التخصيص في قوله:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ ) إلخ.

٣٩٤

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول:( إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: صالح المؤمنين عليّعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ) قال: عليّ بن أبي طالب.

أقول: ذكر صاحب البرهان بعد إيراد رواية أبي بصير السابقة أنّ محمّد بن العبّاس أورد في هذا المعنى اثنين و خمسين حديثاً من طرق الخاصّة و العامّة ثمّ أورد نبذة منها.

و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لمّا نزلت هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً ) جلس رجل من المؤمنين يبكي و قال: أنا عجزت عن نفسي و كلّفت أهلي. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، و تنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك.

و فيه، بإسناده عن سماعة عن أبي بصير في قوله:( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً ) قلت: كيف أقيهم؟ قال: تأمرهم بما أمر الله و تنهاهم عمّا نهى الله فإن أطاعوك كنت قد وقيتهم و إن عصوك كنت قد قضيت ما عليك.

أقول: و رواه بطريق آخر عن ذرعة عن أبي بصير عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و الفاريابيّ و سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في المدخل عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً ) قال: علّموا أنفسكم و أهليكم الخير و أدّبوهم.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم قال: تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية( قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً ) فقالوا: يا رسول الله كيف نقي أهلنا ناراً؟ قال: تأمرونهم بما يحبّه الله و تنهونهم عمّا يكره الله.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الصباح الكنانيّ قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن

٣٩٥

قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً ) قال: يتوب العبد من الذنب ثمّ لا يعود فيه.

قال محمّد بن الفضيل: سألت عنها أباالحسنعليه‌السلام فقال: يتوب من الذنب ثمّ لا يعود فيه‏، الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الّذي أصاب فيعتذر إلى الله ثمّ لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة من الفريقين.

و في الكافي، بإسناده عن صالح بن سهل الهمدانيّ قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : في قوله:( يَسْعى‏ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ ) أئمّة المؤمنين يوم القيامة يسعى(1) بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم حتّى ينزّلوهم منازل أهل الجنّة.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في الآية: من كان له نور يومئذ نجا، و كلّ مؤمن له نور.

____________________

(1) يسعون، ظ.

٣٩٦

( سورة التحريم الآيات 10 - 12)

ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ  كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ( 10 ) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 11 ) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( 12 )

( بيان‏)

تتضمّن الآيات الكريمة مثلين يمثّل بهما الله سبحانه حال الكفّار و المؤمنين في أنّ شقاء الكفّار و هلاكهم إنّما كان بخيانتهم لله و رسوله و كفرهم و لم ينفعهم اتّصال بسبب إلى الأنبياء المكرمين، و أنّ سعادة المؤمنين و فلاحهم إنّما كان بإخلاصهم الإيمان بالله و رسوله و القنوت و حسن الطاعة و لم يضرّهم اتّصال بأعداء الله بسبب فإنّما ملاك الكرامة عندالله التقوى.

يمثّل الحال أوّلاً: بحال امرأتين كانتا زوجين لنبيّين كريمين عدّهما الله سبحانه عبدين صالحين - و يا له من كرامة - فخانتاهما فاُمرتا بدخول النار مع الداخلين فلم ينفعهما زوجيّتهما للنبيّين الكريمين شيئاً فهلكتا في ضمن الهالكين من غير أدنى تميّز و كرامة.

و ثانياً: بحال امرأتين إحداهما امرأة فرعون الّذي كانت منزلته في الكفر بالله أن نادى في الناس فقال: أنا ربّكم الأعلى، فآمنت بالله و أخلصت الإيمان فأنجاها الله و أدخلها الجنّة و لم يضرّها زوجيّة مثل فرعون شيئاً، و ثانيتهما مريم ابنة عمران الصدّيقة

٣٩٧

القانتة أكرمها الله بكرامته و نفخ فيها من روحه.

و في التمثيل تعريض ظاهر شديد لزوجي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث خانتاه في إفشاء سرّه و تظاهرتا عليه و آذتاه بذلك، و خاصّة من حيث التعبير بلفظ الكفر و الخيانة و ذكر الأمر بدخول النار.

قوله تعالى: ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما ) إلخ، قال الراغب: الخيانة و النفاق واحد إلّا أنّ الخيانة تقال اعتباراً بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتباراً بالدين ثمّ يتداخلان فالخيانة مخالفة الحقّ بنقض العهد في السرّ و نقيض الخيانة الأمانة، يقال: خنت فلاناً و خنت أمانة فلان. انتهى.

و قوله:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) إن كان متعلّقاً بالمثل كان المعنى: ضرب الله مثلاً يمثّل به حال الّذين كفروا أنّهم لا ينفعهم الاتّصال بالعباد الصالحين، و إن كان متعلّقاً بضرب كان المعنى: ضرب الله الامرأتين و ما انتهت إليه حالهما مثلاً للّذين كفروا ليعتبروا به و يعلموا أنّهم لا ينفعهم الاتّصال بالصالحين من عباده و أنّهم بخيانتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل النار لا محالة.

و قوله:( امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ ) مفعول( ضَرَبَ ) و المراد بكونهما تحتهما زوجيّتهما لهما.

و قوله:( فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً ) ضمير التثنية الاُولى للعبدين، و الثانية للامرأتين، و المراد أنّه لم ينفع المرأتين زوجيّتهما للعبدين الصالحين.

و قوله:( وَ قِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) أي مع الداخلين فيها من قوميهما كما يلوح من قوله في امرأة نوح:( حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ) هود: 40، و قوله في امرأة لوط:( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ) هود: 81، أو المعنى مع الداخلين فيها من الكفّار.

و في التعبير بقيل بالبناء للمفعول، و إطلاق الداخلين إشارة إلى هوان أمرهما

٣٩٨

و عدم كرامة لهما أصلاً فلم يبال بهما أين هلكتا.

قوله تعالى: ( وَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ) إلخ، الكلام في قوله:( لِلَّذِينَ آمَنُوا ) كالكلام في قوله:( لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

و قوله:( إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ) لخّص سبحانه جميع ما كانت تبتغيه في حياتها و ترومه في مسير عبوديّتها في مسألة سألت ربّها و ذلك أنّ الإيمان إذا كمل تواطأ الظاهر و الباطن و توافق القلب و اللسان فلا يقول الإنسان إلّا ما يفعل و لا يفعل إلّا ما يقول فيكون ما يرجوه أو يتمنّاه أو يسأله بلسانه هو الّذي يريده كذلك بعمله.

و إذ حكى الله فيما يمثّل به حالها و يشير إلى منزلتها الخاصّة في العبوديّة دعاء دعت به دلّ ذلك على أنّه عنوان جامع لعبوديّتها و على ذلك كانت تسير مدى حياتها، و الّذي تتضمّنه مسألتها أن يبني الله لها عنده بيتا في الجنّة و ينجّيها من فرعون و عمله و ينجّيها من القوم الظالمين فقد اختارت جوار ربّه و القرب منه على أن تكون أنيسة فرعون و عشيقته و هي ملكة مصر و آثرت بيتاً يبنيه لها ربّها على بيت فرعون الّذي فيه ممّا تشتهيه الأنفس و تتمنّاه القلوب ما تقف دونه الآمال فقد كانت عزفت نفسها ما هي فيه من زينة الحياة الدنيا و هي لها خاضعة و تعلّقت بما عند ربّه من الكرامة و الزلفى فآمنت بالغيب و استقامت على إيمانها حتّى قضت.

و هذه القدم هي الّتي قدّمتها إلى أن جعلها الله مثلاً للّذين آمنوا و لخّص حالها و ما كانت تبتغيه و تعمل له مدى حياتها في مسير العبوديّة في مسألة حكى عنها و ما معناها إلّا أنّها انتزعت من كلّ ما يلهوها عن ربّها و لاذت بربّها تريد القرب منه تعالى و الإقامة في دار كرامته.

فقوله:( امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ) اسمها على ما في الرواية آسية، و قوله:( إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ) الجمع بين كون البيت المبنيّ لها عندالله و في الجنّة لكون الجنّة دار القرب من الله و جوار ربّ العالمين كما قال تعالى:( بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ

٣٩٩

رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران: 169.

على أنّ الحضور عنده تعالى و القرب منه كرامة معنويّة و الاستقرار في الجنّة كرامة صوريّة، و سؤال الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين.

و قوله:( وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ ) تبرّ منها و سؤال أن ينجّيها الله من شخص فرعون و من عمله الّذي تدعو ضرورة المصاحبة و المعاشرة إلى الشركة فيه و التلبّس به، و قيل: المراد بالعمل الجماع.

و قوله:( وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) و هم قوم فرعون و هو تبرّ آخر و سؤال أن ينجّيها الله من المجتمع العامّ كما أنّ الجملة السابقة كانت سؤال أن ينجّيها من المجتمع الخاصّ.

قوله تعالى: ( وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ) إلخ، عطف على امرأة فرعون و التقدير و ضرب الله مثلاً للّذين آمنوا مريم إلخ.

ضربها الله مثلاً باسمها و أثنى عليها و لم يذكر في كلامه تعالى امرأة باسمها غيرها ذكر اسمها في القرآن في بضع و ثلاثين موضعاً في نيّف و عشرين سورة.

و قوله:( الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا ) ثناء عليها على عفّتها، و قد تكرّر في القرآن ذكر ذلك و لعلّ ذلك بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها كما قال تعالى:( وَ قَوْلِهِمْ عَلى‏ مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) النساء: 156، و في سورة الأنبياء في مثل القصّة:( وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها ) الأنبياء: 91.

و قوله:( وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها ) أي بما تكلّم به الله سبحانه من الوحي إلى أنبيائه كما قيل، و قيل: المراد بها وعده تعالى و وعيده و أمره و نهيه، و فيه أنّه يستلزم كون ذكر الكتب مستدركاً.

و قوله:( وَ كُتُبِهِ ) و هي المشتملة على شرائع الله المنزلة من السماء كالتوراة و الإنجيل كما هو مصطلح القرآن و لعلّ المراد من تصديقها كلمات ربّها و كتبه كونها صدّيقة كما في قوله تعالى:( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) المائدة: 75.

٤٠٠