الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126910
تحميل: 4078


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126910 / تحميل: 4078
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

شفاعتهم إلّا التمنّي، و لا يملك شي‏ء بالتمني.

قوله تعالى: ( فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى‏ ) تفريعه على سابقه من تفريع العلّة للمعلول للدلالة على التعلّق و الارتباط ففيه تعليل للجملة السابقة، و المعنى: ليس يملك الإنسان ما تمنّاه بمجرّد التمنّي لأنّ الآخرة و الاُولى لله سبحانه و لا شريك له في ملكه.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى‏ ) الفرق بين الإذن و الرضا أنّ الإذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، و الرضا ملاءمة نفس الراضي للشي‏ء و عدم امتناعها فربّما تحقّق الإذن بشي‏ء مع عدم الرضا و لا يتحقّق رضاً إلّا مع الإذن بالفعل أو بالقوّة.

و الآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله سبحانه كما يروم إليه عبدة الأصنام فإنّ الأمر مطلقاً إلى الله تعالى فإنّما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة و رضاه بها.

و على هذا فالمراد بقوله:( لِمَنْ يَشاءُ ) الملائكة، و معنى الآية: و كثير من الملائكة في السماوات لا تؤثّر شفاعتهم أثراً إلّا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أي من الملائكة و يرضى بشفاعته.

و قيل: المراد بمن يشاء و يرضى الإنسان، و المعنى: إلّا من بعد أن يأذن الله في شفاعة من يشاء أن يشفع له من الإنسان و يرضى، و كيف يأذن و يرضى بشفاعة من كفر به و عبد غيره؟.

و الآية تثبت الشفاعة للملائكة في الجملة، و تقيّد شفاعتهم بالإذن و الرضا من الله سبحانه.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى‏ ) ردّ لقولهم باُنوثيّة الملائكة بعد ردّ قولهم بشفاعتهم.

و المراد بتسميتهم الملائكة تسمية الاُنثى قولهم: إنّ الملائكة بنات الله فالمراد بالاُنثى الجنس أعمّ من الواحد و الكثير.

٤١

و قيل: إنّ الملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمّون كلّ واحد من الملائكة تسمية الاُنثى أي يسمّونه بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلّة أي كسا كلّ واحد منّا حلّة.

قال بعضهم: في تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنّها في الشناعة و الفظاعة و استتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلّا من لا يؤمن بها رأساً. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) العلم هو التصديق المانع من النقيض، و الظنّ هو التصديق الراجح و يسمّى المرجوح وهما، و قولهم باُنوثيّة الملائكة كما لم يكن معلوماً لهم كذلك لم يكن مظنوناً إذ لا سبيل إلى ترجيح القول به على خلافه لكنّه لمّا كان عن هوى أنفسهم أثبته الهوى في أنفسهم و زيّنه لهم فلم يلتفتوا إلى خلافه، و كلّما لاح لهم لائح خلافه أعرضوا عنه و تعلّقوا بما يهوونه، و بهذه العناية سمّي ظنّاً و هو في الحقيقة تصوّر فقط.

و بهذا يظهر استقامة قول من قال: إنّ الظنّ في هذه الآية و في قوله السابق:( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) بمعنى التوهّم دون الاعتقاد الراجح و اُيّد بما يظهر من كلام الراغب: إنّ الظنّ ربّما يطلق على التوهّم.

و قوله:( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) الحقّ ما هو عليه الشي‏ء و ظاهر أنّه لا يدرك إلّا بالعلم الّذي هو الاعتقاد المانع من النقيض لا غير و أمّا غير العلم ممّا فيه احتمال الخلاف فلا يتعيّن فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوّز لأن يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) إسراء: 36.

و أمّا العمل بالظنّ في الأحكام العمليّة فإنّما هو لقيام دليل عليه يقيّد به إطلاق الآية، و تبقى الاُمور الاعتقاديّة تحت إطلاق الآية.

قال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله:( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي ) ليجري

٤٢

الكلام مجرى المثل.

قوله تعالى: ( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) تفريع على اتّباعهم الظنّ و هوى الأنفس، فقوله:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ ) إلخ، أمر بالإعراض عنهم و إنّما لم يقل: فأعرض عنهم، و وضع قوله:( مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا ) إلخ، موضع الضمير للدلالة على علّة الأمر بالإعراض كأنّه قيل: إنّ هؤلاء يتركون العلم و يتّبعون الظنّ و ما تهوى الأنفس و إنّما فعلوا ذلك لأنّهم تولّوا عن الذكر و أرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلّا الدنيا فهي مبلغهم من العلم، و إذا كان كذلك فأعرض عنهم لأنّهم في ضلال.

و المراد بالذكر إمّا القرآن الّذي يهدي متبّعيه إلى الحقّ الصريح و يرشدهم إلى سعادة الدار الآخرة الّتي وراء الدنيا بالحجج القاطعة و البراهين الساطعة الّتي لا تبقى معها وصمة شكّ.

و أمّا ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإنّ ذكره تعالى بما يليق بذاته المتعالية من الأسماء و الصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلميّة في المبدأ و المعاد هداية علميّة لا ريب معها.

قوله تعالى: ( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) الإشارة بذلك إلى أمر الدنيا و هو معلوم من الآية السابقة و كونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كأنّ العلم يسير إلى المعلوم و ينتهي إليه و علمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا و بلغها و وقف عندها و لم يتجاوزها، و لازم ذلك أن تكون الدنيا متعلّق إرادتهم و طلبهم، و موطن همّهم، و غاية آمالهم لا يطمئنّون إلى غيرها و لا يقبلون إلّا عليها.

و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ ) إلخ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة و شهادة منه تعالى عليه.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) يمكن أن يكون صدر الآية حالاً من فاعل

٤٣

( أَعْلَمُ ) في الآية السابقة و الواو للحال، و المعنى: إنّ ربّك هو أعلم بالفريقين الضالّين و المهتدين و الحال أنّه يملك ما في السماوات و ما في الأرض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم و هو مالكهم؟.

و على هذا فالظاهر تعلّق قوله:( لِيَجْزِيَ ) إلخ، بقوله السابق:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى ) إلخ، و المعنى: أعرض عنهم و كلّ أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا و كذا و يجزيك و يجزي المحسنين كذا و كذا.

و يمكن أن يكون قوله:( وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ) إلخ، كلاماً مستأنفاً للدلالة على أنّ الأمر بالإعراض عنهم لا لإهمالهم و تركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلّاً بعمله إن سيّئاً و إن حسناً، و وضع اسم الجلالة و هو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة.

و قوله:( لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ) إشارة إلى ملكه تعالى للكلّ و معناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشئ من الخلق و هو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالّة على الخلق و التدبير كأنّه قيل: و لله الخلق و التدبير.

و بهذا المعنى يتعلّق قوله:( لِيَجْزِيَ ) إلخ، و اللّام للغاية، و المعنى: له الخلق و التدبير و غاية ذلك و الغرض منه أن يجزي الّذين أساؤا إلخ، و المراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شؤن يوم القيامة، و المراد بالإساءة و الإحسان المعصية و الطاعة، و المراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا، و بالحسنى المثوبة الحسنى.

و المعنى: ليجزي الله الّذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم و يجزي الّذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى، و قد أوردوا في الآية احتمالات اُخرى و ما قدّمناه هو أظهرها.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) إلخ، الإثم هو الذنب و أصله - كما ذكره الراغب - الفعل المبطئ عن

٤٤

الثواب و الخير، و كبائر الإثم المعاصي الكبيرة و هو على ما في الرواية(1) ما أوعد الله عليه النار، و قد تقدّم البحث عنها في تفسير قوله تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) الآية النساء: 31.

و الفواحش الذنوب الشنيعة الفظيعة، و قد عدّ تعالى في كلامه الزنا و اللواط من الفواحش و لا يبعد أن يستظهر من الآية اتّحادها مع الكبائر.

و أمّا اللّمم فقد اختلفوا في معناه فقيل: هو الصغيرة من المعاصي، و عليه فالاستثناء منقطع، و قيل: هو أن يلمّ بالمعصية و يقصدها و لا يفعل و الاستثناء أيضاً منقطع، و قيل: هو المعصية حيناً بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتّفاق فيكون أعمّ من الصغيرة و الكبيرة و ينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتّقين المحسنين:( وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) آل عمران: 135.

و قد فسّر في روايات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بثالث المعاني(2) .

و الآية تفسّر ما في الآية السابقة من قوله:( الَّذِينَ أَحْسَنُوا ) فهم الّذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و من الجائز أن يقع منهم لمم.

و في قوله:( إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة.

و قوله:( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ) قال الراغب: النش‏ء و النشأة إحداث الشي‏ء و تربيته. انتهى. فإنشاؤهم من الأرض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طوراً بعد طور من أخذهم من الموادّ العنصريّة إلى أن يتكوّنوا في صورة المنّي و يردوا الأرحام.

____________________

(1) رواها في ثواب الأعمال عن عباد بن كثير النوا عن أبي جعفر عليه السلام.

(2) ففي اُصول الكافي عن ابن عمار عن الصادق عليه السلام: اللم الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه، و فيه بإسناده عن محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: هو الذنب يلم به الرجل فيمكث ما شاء الله ثمّ يلم به بعد، و فيه بإسناده عن ابن عمّار عن الصادق عليه السلام عليه قته الّذي يلم بالذنب بعد الذنب ليس من سليقته أي من طبعه.

٤٥

و قوله:( وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ) الأجنّة جمع جنين، و الكلام معطوف على( إِذْ ) السابق أي و هو أعلم بكم إذ كنتم أجنّة في أرحام اُمّهاتكم يعلم ما حقيقتكم و ما أنتم عليه من الحال و ما في سرّكم و إلى ما يؤل أمركم.

و قوله:( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أوّل أمر فلا تزكّوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتّقى.

٤٦

( سورة النجم الآيات 33 - 62)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ ( 33 ) وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ ( 34 ) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ ( 35 ) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ( 36 ) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ ( 37 ) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ( 38 ) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ( 39 ) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ( 40 ) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ ( 41 ) وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ( 42 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ ( 43 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ( 44 ) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ( 45 ) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ ( 46 ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ ( 47 ) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ ( 48 ) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ ( 49 ) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ ( 50 ) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ ( 51 ) وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ  إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ ( 52 ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ ( 53 ) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ ( 54 ) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ ( 55 ) هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ ( 56 ) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ( 57 ) لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ ( 58 ) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ( 59 ) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ( 60 ) وَأَنتُمْ سَامِدُونَ ( 61 ) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا  ( 62 )

٤٧

( بيان)

سياق التسع آيات الواقعة في صدر هذا الفصل يصدّق ما ورد في أسباب النزول أنّ رجلاً من المسلمين كان ينفق من ماله في سبيل الله فلامه بعض الناس على كثرة الإنفاق و حذّره و خوّفه بنفاد المال و الفقر و ضمن حمل خطاياه و ذنوبه فأمسك عن الإنفاق فنزلت الآيات.

أشار سبحانه بالتعرّض لهذه القصّة و نقل ما نقل من صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام إلى بيان وجه الحقّ فيها، و إلى ما هو الحقّ الصريح فيما تعرّض له الفصل السابق من أباطيل المشركين من أنّهم إنّما يعبدون الأصنام لأنّها تماثيل الملائكة الّذين هم بنات الله يعبدونهم ليشفعوا لهم عندالله سبحانه و قد أبطلتها الآيات السابقة أوضح الإبطال.

و قد أوضحت هذه الآيات ما هو وجه الحقّ في الربوبيّة و الاُلوهيّة و هو أنّ الخلق و التدبير لله سبحانه، إليه ينتهي كلّ ذلك، و أنّه خلق ما خلق و دبّر ما دبّر خلقاً و تدبيراً يستعقب نشأة اُخرى فيها جزاء الكافر و المؤمن و المجرم و المتّقي و من لوازمه تشريع الدين و توجيه التكاليف و قد فعل، و من شواهده إهلاك من أهلك من الاُمم الدارجة الطاغية كقوم نوح و عاد و ثمود و المؤتفكة.

ثمّ عقّب سبحانه هذا الّذي نقله عن صحف النبيّين الكريمين بالتنبيه على أنّ هذا النذير من النذر الاُولى الخالية و أنّ الساعة قريبة، و خاطبهم بالأمر بالسجود لله و العبادة، و بذلك تختتم السورة.

قوله تعالى: ( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى‏ قَلِيلًا وَ أَكْدى‏ ) التولّي هو الإعراض و المراد به بقرينة الآية التالية الإعراض عن الإنفاق في سبيل الله، و الإعطاء الإنفاق و الإكداء قطع العطاء، و التفريع الّذي في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ ) مبنيّ على ما قدّمنا من

٤٨

تفرّع مضمون هذه الآيات على ما قبلها.

و المعنى: فأخبرني عمّن أعرض عن الإنفاق و أعطى قليلاً من المال و أمسك بعد ذلك أشدّ الإمساك.

قوله تعالى: ( أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) الضمائر لمن تولّى و الاستفهام للإنكار و المعنى: أ يعلم الغيب فيترتّب عليه أن يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه ذنوبه و يعذّب مكانه يوم القيامة لو استحقّ العذاب. كذا فسّروا.

و الظاهر أنّ المراد نفي علمه بما غاب عنه من مستقبل حاله في الدنيا و المعنى: أ يعلم الغيب فهو يعلم أنّه لو أنفق و دام على الإنفاق نفد ماله و ابتلي بالفقر و أمّا تحمّل الذنوب و العذاب فالمتعرّض له قوله الآتي:( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) .

قوله تعالى: ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى‏ وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) صحف موسى التوراة، و صحف إبراهيم. ما نزل عليه من الكتاب و الجمع للإشارة إلى كثرته بكثرة أجزائه.

و التوفية تأدية الحقّ بتمامه و كماله، و توفيتهعليه‌السلام تأديته ما عليه من الحقّ في العبوديّة أتمّ التأدية و أبلغها قال تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) البقرة: 124.

و ما نقله الله سبحانه في الآيات التالية من صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام و إن لم يذكر في القرآن بعنوان أنّه من صحفهما قبل هذه الآيات لكنّه مذكور بعنوان الحكم و المواعظ و القصص و العبر فمعنى الآيتين: أم لم ينبّأ بهذه الاُمور و هي في صحف إبراهيم و موسى.

قوله تعالى: ( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الوزر الثقل و كثر استعماله في الإثم، و الوازرة النفس الّتي من شأنها أن تحمل الإثم، و الآية بيان ما في صحف إبراهيم و موسىعليهما‌السلام ، و كذا سائر الآيات المصدّرة بأن و أنّ إلى تمام سبع عشرة آية.

٤٩

و المعنى: ما في صحفهما هو أنّه لا تحمل نفس إثم نفس أخرى أي لا تتأثّم نفس بما لنفس اُخرى من الإثم فلا تؤاخذ نفس بإثم نفس اُخرى.

قوله تعالى: ( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً قال تعالى:( وَ سَعى‏ فِي خَرابِها ) . انتهى و استعماله في الجدّ في الفعل استعمال استعاريّ.

و معنى اللّام في قوله:( لِلْإِنْسانِ ) الملك الحقيقيّ الّذي يقوم بصاحبه قياماً باقياً ببقائه يلازمه و لا يفارقه بالطبع و هو الّذي يكتسبه الإنسان بصالح العمل أو طالحه من خير أو شرّ، و أمّا ما يراه الإنسان مملوكاً لنفسه و هو في ظرف الاجتماع من مال و بنين و جاه و غير ذلك من زخارف الحياة الدنيا و زينتها فكلّ ذلك من الملك الاعتباريّ الوهميّ الّذي يصاحب الإنسان ما دام في دار الغرور و يودّعه عند ما أراد الانتقال إلى دار الخلود و عالم الآخرة.

فالمعنى: و أنّه لا يملك الإنسان ملكاً يعود إليه أثره من خير أو شرّ أو نفع أو ضرّ حقيقة إلّا ما جدّ فيه من عمل فله ما قام بفعله بنفسه و أمّا ما قام به غيره من عمل فلا يلحق بالإنسان أثره خيراً أو شرّاً.

و أمّا الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لأهل الكبائر فلهم في ذلك سعي جميل حيث دخلوا في حضيرة الإيمان بالله و آياته، و كذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له، و الأعمال الصالحة الّتي تهدي إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين و تكثير سوادهم و تأييد إيمانهم الّذي من آثاره ما يأتون به من الأعمال الصالحة.

و كذا من سنّ سنّة حسنة فله ثوابها و ثواب من عمل بها، و من سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإنّ له سعياً في عملهم حيث سنّ السنّة و توسّل بها إلى أعمالهم كما تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ ) يس: 12، و قد تقدّم في تفسير قوله:( وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً

٥٠

ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ ) النساء: 9، و تفسير قوله:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الأنفال: 37، كلام نافع في هذا المقام.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) المراد بالسعي ما سعى فيه من العمل و بالرؤية المشاهدة، و ظرف المشاهدة يوم القيامة بدليل تعقيبه بالجزاء فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: 30، و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: 8.

و إتيان قوله:( سَوْفَ يُرى‏ ) مبنيّاً للمفعول لا يخلو من إشعار بأنّ هناك من يشاهد العمل غير عامله.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) الوفاء بمعنى التمام لأنّ الشي‏ء التامّ يفي بجميع ما يطلب من صفاته، و الجزاء الأوفى الجزاء الأتمّ.

و ضمير( يُجْزاهُ ) للسعي الّذي هو العمل و المعنى: ثمّ يجزي الإنسان عمله أي بعمله أتمّ الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) المنتهى مصدر ميميّ بمعنى الانتهاء و قد اُطلق إطلاقاً فيفيد مطلق الانتهاء، فما في الوجود من شي‏ء موجود إلّا و ينتهي في وجوده و آثار وجوده إلى الله سبحانه بلا واسطة أو مع الواسطة، و لا فيه أمر من التدبير و النظام الجاري جزئيّاً أو كلّيّاً إلّا و ينتهي إليه سبحانه إذ ليس التدبير الجاري بين الأشياء إلّا الروابط الجارية بينها القائمة بها و موجد الأشياء هو الموجد لروابطها المجري لها بينها فالمنتهى المطلق لكلّ شي‏ء هو الله سبحانه.

قال تعالى:( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الزمر: 63، و قال:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: 54.

و الآية تثبت الربوبيّة المطلقة لله سبحانه بإنهاء كلّ تدبير و كلّ التدبير إليه و تشمل انتهاء الأشياء إليه من حيث البدء و هو الفطر، و انتهاءها إليه من حيث العود و الرجوع و هو الحشر.

٥١

و ممّا تقدّم يظهر ضعف ما قيل في تفسير الآية إنّ المراد بذلك رجوع الخلق إليه سبحانه يوم القيامة، و كذا ما قيل: إنّ المعنى أنّ إلى ثواب ربّك و عقابه آخر الأمر، و كذا ما قيل: المعنى أنّ إلى حساب ربّك منتهاهم، و كذا ما قيل: إليه سبحانه ينتهي الأفكار و تقف دونه، ففي جميع هذه التفاسير تقييد الآية من غير مقيّد.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى) الآية و ما يتلوها إلى تمام اثنتي عشرة آية بيان لموارد من انتهاء الخلق و التدبير إلى الله سبحانه.

و السياق في جميع هذه الآيات سياق الحصر، و تفيد انحصار الربوبيّة فيه تعالى و انتفاء الشريك، و لا ينافي ما في هذه الموارد من الحصر توسّط أسباب اُخر طبيعيّة أو غير طبيعيّة فيها كتوسّط السرور و الحزن و أعضاء الضحك و البكاء من الإنسان في تحقّق الضحك و البكاء، و كذا توسّط الأسباب المناسبة الطبيعيّة و غير الطبيعيّة في الإحياء و الإماتة و خلق الزوجين و الغنى و القنى و إهلاك الاُمم الهالكة و ذلك أنّها لمّا كانت مسخّرة لأمر الله غير مستقلّة في نفسها و لا منقطعة عمّا فوقها كانت وجوداتها و آثار وجوداتها و ما يترتّب عليها لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد.

فمعنى قوله:( وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى) أنّه تعالى هو أوجد الضحك في الضاحك و أوجد البكاء في الباكي لا غيره تعالى.

و لا منافاة بين انتهاء الضحك و البكاء في وجودهما إلى الله سبحانه و بين انتسابهما إلى الإنسان و تلبّسه بهما لأنّ نسبة الفعل إلى الإنسان بقيامه به و نسبة الفعل إليه تعالى بالإيجاد و كم بينهما من فرق.

و لا أنّ تعلّق الإرادة الإلهيّة بضحك الإنسان مثلاً يوجب بطلان إرادة الإنسان للضحك و سقوطها عن التأثير لأنّ الإرادة الإلهيّة لم تتعلّق بمطلق الضحك كيفما كان و إنّما تعلّقت بالضحك الإراديّ الاختياريّ من حيث إنّه صادر عن إرادة الإنسان و اختياره فإرادة الإنسان سبب لضحكه في طول إرادة الله سبحانه لا في عرضها حتّى تتزاحماً و لا تجتمعاً معاً فنضطرّ إلى القول بأنّ أفعال الإنسان الاختياريّة مخلوقة لله و لا صنع

٥٢

للإنسان فيها كما يقوله الجبريّ أو أنّها مخلوقة للإنسان و لا صنع لله سبحانه فيها كما يقوله المعتزلي.

و ممّا تقدّم يظهر فساد قول بعضهم: إنّ معنى الآية أنّه خلق قوّتي الضحك و البكاء، و قول آخرين: إنّ المعنى أنّه خلق السرور و الحزن، و قول آخرين: إنّ المعنى أنّه أضحك الأرض بالنبات و أبكى السماء بالمطر، و قول آخرين: إنّ المعنى أنّه أضحك أهل الجنّة و أبكى أهل النار.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا ) الكلام في انتساب الموت و الحياة إلى أسباب اُخر طبيعيّة و غير طبيعيّة كالملائكة كالكلام في انتساب الضحك و البكاء إلى غيره تعالى مع انحصار الإيجاد فيه تعالى، و كذا الكلام في الاُمور المذكورة في الآيات التالية.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) النطفة ماء الرجل و المرأة الّذي يخلق منه الولد، و أمنى الرجل أي صبّ المنيّ، و قيل: معناه التقدير، و قوله:( الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى‏ ) بيان للزوجين.

قيل: لم يذكر الضمير في الآية على طرز ما تقدّم - أنّه هو - لأنّه لا يتصوّر نسبة خلق الزوجين إلى غيره تعالى.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) النشأة الاُخرى الخلقة الاُخرى الثانية و هي الدار الآخرة الّتي فيها جزاء، و كون ذلك عليه تعالى قضاؤه قضاء حتم و قد وعد به و وصف نفسه بأنّه لا يخلف الميعاد.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وَ أَقْنى‏ ) أي أعطى الغنى و أعطى القنية، و القنية ما يدوم من الأموال و يبقى ببقاء نفسه كالدار و البستان و الحيوان، و على هذا فذكر( أَقْنى) بعد أَغْنى‏ من التعرّض للخاص بعد العامّ لنفاسته و شرفه.

و قيل: الإغناء التمويل و الإقناء الإرضاء بذلك، و قال بعضهم: معنى الآية أنّه هو أغنى و أفقر.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى‏ ) كأنّ المراد بالشعرى الشعرى اليمانيّة

٥٣

و هي كوكبة مضيئة من الثوابت شرقيّ صورة الجبّار في السماء.

قيل: كانت الخزاعة و حمير تعبد هذه الكوكبة، و ممّن كان يعبده أبو كبشة أحد أجداد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة اُمّه، و كان المشركون يسمّونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أبي كبشة لمخالفته إيّاهم في الدين كما خالف أبوكبشة قومه في عبادة الشعرى.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) و هم قوم هود النبيّعليه‌السلام و وصفوا بالاُولى لأنّ هناك عاداً ثانية هم بعد عاد الأولى.

قوله تعالى: ( وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى) و هم قوم صالح النبيّعليه‌السلام أهلك الله الكفّار منهم عن آخرهم، و هو المراد من قوله:( فَما أَبْقى‏ ) و إلّا فهو سبحانه نجّى المؤمنين منهم من الهلاك كما قال:( وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ ) فصّلت: 18.

قوله تعالى: ( وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى) عطف كسابقه على قوله:( عاداً ) و الإصرار بالتأكيد على كونهم أظلم و أطغى، أي من القومين عاد و ثمود على ما يعطيه السياق لأنّهم لم يجيبوا دعوة نوحعليه‌السلام و لم يتّعظوا بموعظته فيما يقرب من ألف سنة و لم يؤمن منهم معه إلّا أقلّ قليل.

قوله تعالى: ( وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى‏ فَغَشَّاها ما غَشَّى ) قيل: إنّ المؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت و الائتفاك الانقلاب، و الإهواء الإسقاط.

و المعنى: و أسقط القرى المؤتفكة إلى الأرض بقلبها و خسفها فشملها و أحاط بها من العذاب ما شملها و أحاط بها.

و احتمل أن يكون المراد بالمؤتفكة ما هو أعمّ من قرى قوم لوط و هي كلّ قرية نزل عليها العذاب فباد أهلها فبقيت خربة داثرة معالمها خاوية على عروشها.

قوله تعالى: ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى‏ ) الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة، و التماري التشكّك، و الجملة متفرّعة على ما تقدّم ذكره ممّا ينسب إليه تعالى من الأفعال.

و المعنى: إذا كان الله سبحانه هو الّذي نظم هذا النظام البديع من صنع و تدبير

٥٤

بالإضحاك و الإبكاء و الإماتة و الإحياء و الخلق و الإهلاك إلى آخر ما قيل فبأيّ نعم ربّك تتشكّك و في أيّها تريب؟.

و عدّ مثل الإبكاء و الإماتة و إهلاك الاُمم الطاغية نعماً لله سبحانه لما فيها من الدخل في تكوّن النظام الأتمّ الّذي يجري في العالم و تنساق به الاُمور في مرحلة استكمال الخلق و رجوع الكلّ إلى الله سبحانه.

و الخطاب في الآية للّذي تولّى و أعطى قليلاً و أكدى أو للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من باب إيّاك أعني و اسمعي يا جارة، و الاستفهام للإنكار.

قوله تعالى: ( هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) قيل: النذير يأتي مصدراً بمعنى الإنذار و وصفاً بمعنى المنذر و يجمع على النذر بضمّتين على كلا المعنيين و الإشارة بهذا إلى القرآن أو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) أي قربت القيامة و الآزفة من أسماء القيامة قال تعالى:( وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ ) المؤمن: 18.

قوله تعالى: ( لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ ) أي نفس كاشفة و المراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال، و المعنى: ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال إلّا أن يكشفها الله سبحانه.

قوله تعالى: ( أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ ) الإشارة بهذا الحديث إلى ما تقدّم من البيان، و السمود اللهو، و الآية متفرّعة على ما تقدّم من البيان، و الاستفهام للتوبيخ.

و المعنى: إذا كان الله هو ربّكم الّذي ينتهي إليه كلّ أمر و عليه النشأة الاُخرى و كانت القيامة قريبة و ليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لمّا فرّطتم في جنب الله، و تعرّضتم للشقاء الدائم أ فمن هذا البيان الّذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكاراً و تضحكون استهزاء و لا تبكون؟.

قوله تعالى: ( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا ) تفريع آخر على ما تقدّم من البيان

٥٥

و المعنى: إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله و تعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة.

( بحث روائي)

في الكشّاف في قوله تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) إلخ، روي أنّ عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبدالله بن سعد بن أبي سرح و هو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شي‏ء فقال عثمان: إنّ لي ذنوباً و خطايا، و إنّي أطلب بما أصنع رضا الله تعالى و أرجو عفوه فقال عبدالله: أعطني ناقتك برحلها و أنا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها فأعطاه و أشهد عليه و أمسك عن العطاء فنزلت، و معنى:( تَوَلَّى ) ترك المركز يوم اُحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك و أجمل.

أقول: و أورد القصّة في مجمع البيان و نسبها إلى ابن عبّاس و السدّيّ و الكلبيّ و جماعة من المفسّرين، و في انطباق( تولى ) على تركه المركز يوم اُحد نظر و الآيات مكّيّة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد: في قوله:( أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ) قال: الوليد بن المغيرة كان يأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبا بكر فسمع ما يقولان و ذلك ما أعطى من نفسه، أعطى الاستماع( وَ أَكْدى) قال: انقطع عطاؤه نزل في ذلك( أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ ) قال: الغيب القرآن أ رأى فيه باطلاً أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أبي بكر.

أقول: و أنت خبير بأنّ الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره.

و روي: أنّها نزلت في العاص بن وائل، و روي أنّها نزلت في رجل لم يذكر اسمه.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) قال: وفّى بما أمره

٥٦

الله به من الأمر و النهي و ذبح ابنه.

و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال: سألته عن الرجل يحجّ فيجعل حجّته و عمرته أو بعض طوافه لبعض أهله و هو عنه غائب في بلد آخر؟ قال: قلت: فينتقص ذلك من أجره؟ قال: هي له و لصاحبه و له أجر سوى ذلك بما وصل. قلت: و هو ميّت أ يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم حتّى يكون مسخوطاً عليه فيغفر له أو يكون مضيّقاً عليه فيوسّع له. قلت: فيعلم هو في مكانه أنّه عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم. قلت: و إن كان ناصباً ينفعه ذلك؟ قال: نعم يخفّف عنه.

أقول: مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميّت.

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يقول الله عزّوجلّ للملك الموكّل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحّته فإنّي أنا الّذي صيّرته في حبالي (1) .

و في الخصال، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة صدقة موقوفة لا تورث، و سنّة هدى سنّها و كان يعمل بها و عمل بها من بعده غيره، و ولد صالح يستغفر له.

أقول: و هذه الروايات الثلاث - و في معناها روايات كثيرة جدّاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام - توسّع معنى السعي في قوله تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) و قد تقدّمت إشارة إليها.

و في اُصول الكافي، بإسناده إلى سليمان بن خالد قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله يقول:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.

أقول: و هو من التوسعة في معنى الانتهاء.

____________________

(1) الحبالة: الوثاق.

٥٧

و فيه، بإسناده إلى أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : يا زياد إيّاك و الخصومات فإنّها تورث الشكّ، و تحبط العمل، و تردي صاحبها، و عسى أن يتكلّم بالشي‏ء فلا يغفر له. إنّه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكّلوا به، و طلبوا علم ما كفوه حتّى انتهى كلامهم إلى الله فتحيّروا حتّى كان الرجل يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، و يدعى من خلفه فيجيب من بين يديه. قال: و في رواية اُخرى: حتّى تاهوا في الأرض.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوالشيخ عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تفكّروا في خلق الله و لا تفكّروا في الله فتهلكوا.

أقول: و في النهي عن التفكّر في الله سبحانه روايات كثيرة اُخر مودعة في جوامع الفريقين، و النهي إرشاديّ متعلّق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقليّة العميقة فيكون خوضه فيها تعرّضاً للهلاك الدائم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى‏ ) قال: أبكى السماء بالمطر، و أضحك الأرض بالنبات.

أقول: هو من التوسعة في معنى الإبكاء و الإضحاك.

و في المعاني، بإسناده إلى السكونيّ عن جعفر بن محمّد عن آبائهمعليهم‌السلام قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى‏ وَ أَقْنى) قال: أغنى كلّ إنسان بمعيشته، و أرضاه بكسب يده.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) قال: النجم في السماء يسمّى الشعرى كانت قريش و قوم من العرب يعبدونه، و هو نجم يطلع في آخر اللّيل.

أقول: الظاهر أنّ قوله: و هو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث و كان في الصيف و إلّا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل و النهار.

٥٨

و فيه في قوله تعالى:( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) قال قربت القيامة.

و في المجمع في قوله تعالى:( أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ) يعني بالحديث ما تقدّم من الأخبار.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت هذه الآية على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ ) فما رؤي النبيّ بعدها ضاحكاً حتّى ذهب من الدنيا.

٥٩

( سورة القمر مكّيّة و هي خمس و خمسون آية)

( سورة القمر الآيات 1 - 8)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( 1 ) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ ( 2 ) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ  وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ ( 3 ) وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الْأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ( 4 ) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ  فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ( 5 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ  يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ ( 6 ) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ ( 7 ) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ  يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ( 8 )

( بيان)

سورة ممحضّة في الإنذار و التخويف إلّا آيتين من آخرها تبشّران المتّقين بالجنّة و الحضور عند ربّهم.

تبدأ السورة بالإشارة إلى آية شقّ المقر الّتي أتى بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اقتراح من قومه، و تذكر رميهم له بالسحر و تكذيبهم به و اتّباعهم الأهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة و أنباء الاُمم الماضين الهالكين ثمّ يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الأنباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيّئ حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الأجداث و حضورهم للحساب.

ثمّ تشير إلى قصص قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون و ما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر و ليس قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأعزّ عندالله منهم و ما هم

٦٠