الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٩

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 408

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 408
المشاهدات: 126947
تحميل: 4079


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 408 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 126947 / تحميل: 4079
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 19

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بمعجزين، و تختتم السورة ببشرى للمتّقين.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها، و لا يعبأ بما قيل: إنّها نزلت ببدر، و كذا بما قيل: إنّ بعض آياتها مدنيّة، و من غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.

قوله تعالى: ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) الاقتراب زيادة في القرب فقوله:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) أي قربت جدّاً، و الساعة هي الظرف الّذي تقوم فيه القيامة.

و قوله:( وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقّتين تشير الآية إلى آية شقّ القمر الّتي أجراها الله تعالى على يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكّة، و قد استفاضت الروايات على ذلك، و اتّفق أهل الحديث و المفسّرون على قبولها كما قيل. و لم يخالف فيه منهم إلّا الحسن و عطاء و البلخيّ حيث قالوا: معنى قوله:( انْشَقَّ الْقَمَرُ ) سينشق القمر عند قيام الساعة و إنّما عبّر بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع.

و هو مزيّف مدفوع بدلالة الآية التالية( وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) فإنّ سياقها أوضح شاهد على أنّ قوله( آيَةً ) مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم و قولهم: سحر مستمرّ و من المعلوم أنّ يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق و يلجؤن فيه إلى المعرفة، و لا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: أنّها سحر مستمرّ فليس إلّا أنّها آية قد وقعت للدلالة على الحقّ و الصدق و تأتّي لهم أن يرموها عناداً بأنّها سحر.

و مثله في السقوط ما قيل: إنّ الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيّون أخيراً أنّ القمر قطعة من الأرض كما أنّ الأرض جزء منفصل من الشمس فقوله:( وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) إشارة إلى حقيقة علميّة لم ينكشف يوم النزول بعد.

و ذلك أنّ هذه النظريّة على تقدير صحّتها لا يلائمها قوله:( وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) إذ لم ينقل عن أحد أنّه قال للقمر: هو سحر مستمرّ.

على أنّ انفصال القمر عن الأرض اشتقاق و الّذي في الآية الكريمة انشقاق، و لا

٦١

يطلق الانشقاق إلّا على تقطّع الشي‏ء في نفسه قطعتين دون انفصاله من شي‏ء بعد ما كان جزء منه.

و مثله في السقوط ما قيل: إنّ معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه و كذا ما قيل: إنّ انشقاق القمر كناية عن ظهور الأمر و وضوح الحقّ.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) الاستمرار من الشي‏ء مرور منه بعد مرور مرّة بعد مرّة، و لذا يطلق على الدوام و الاطراد فقولهم: سحر مستمرّ أي سحر بعد سحر مداوماً.

و قوله:( آيَةً ) نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، و المعنى و كلّ آية يشاهدونها يقولون فيها أنّها سحر بعد سحر، و فسّر بعضهم المستمرّ بالمحكم الموثّق، و بعضهم بالذاهب الزائل، و بعضهم بالمستبشع المنفور، و هي معان بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) متعلّق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما أتى به من الآيات أي و كذّبوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ما أتى به من الآيات و الحال أنّ كلّ أمر مستقرّ سيستقرّ في مستقرّه فيعلم أنّه حقّ أو باطل و صدق أو كذب فسيعلمون أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق أو كاذب، على الحقّ أو لا فقوله:( وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) في معنى قوله:( وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) ص: 88.

و قيل متعلّق التكذيب انشقاق القمر و المعنى: و كذّبوا بانشقاق القمر و اتّبعوا أهواءهم، و جملة( وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) لا تلائمه تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ( لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) المزدجر مصدر ميميّ و هو الاتّعاظ، و قوله:( مِنَ الْأَنْباءِ ) بيان لما فيه مزدجر، و المراد بالأنباء أخبار الاُمم الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة و قد احتمل كلّ منهما، و الظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثمّ بأنباء عدّة من الاُمم الهالكة أنّ المراد بالأنباء الّتي فيها مزدجر جميع ذلك.

قوله تعالى: ( حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) الحكمة كلمة الحقّ الّتي ينتفع

٦٢

بها، و البلوغ وصول الشي‏ء إلى ما تنتهي إليه المسافة و يكنّى به عن تمام الشي‏ء و كماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامّة الكاملة الّتي لا نقص فيها من حيث نفسها و من حيث أثرها.

و قوله:( فَما تُغْنِ النُّذُرُ ) الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدّرة تترتّب عليها الكلام، و النذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار و الكلّ صحيح و إن كان الأوّل أقرب إلى الفهم.

و المعنى: هذا القرآن أو الّذي يدعون إليه حكمة بالغة كذّبوا بها و اتّبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الإنذارات؟.

قوله تعالى: ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ ) التولّي الإعراض و الفاء في( فَتَوَلَّ ) لتفريع الأمر بالتولّي على ما تقدّمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذّبين بك متّبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر و لا تؤثّر فيهم الزواجر فتولّ عنهم و لا تلحّ عليهم بالدعوة.

و قوله:( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ ) قال الراغب: الإنكار ضدّ العرفان يقال: أنكرت كذا و نكرت، و أصله أن يرد على القلب ما لا يتصوّره، و ذلك ضرب من الجهل قال تعالى:( فَلَمَّا رَأى‏ أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ) . قال: و النكر الدهاء و الأمر الصعب الّذي لا يعرف. انتهى.

و قد تمّ الكلام في قوله:( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة الّتي اُلقيت إليهم و الزواجر الّتي ذكّروا بها على سبيل الإنذار، ثمّ أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر الّتي هي أنباء من حالهم يوم القيامة و من عاقبة حال الاُمم المكذّبين من الماضين في لحن العتاب و التوبيخ الشديد الّذي تهزّ قلوبهم للانتباه و تقطع منابت أعذارهم في الإعراض.

فقوله:( يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ) إلخ، كلام مفصول عمّا قبله لذكر الزواجر الّتي اُشير إليها سابقاً في مقام الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قال:( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ) سئل فقيل: فإلام يؤل أمرهم؟ فقيل:( يَوْمَ يَدْعُ ) إلخ، أي هذه حال آخرتهم و تلك عاقبة دنيا

٦٣

أشياعهم و أمثالهم من قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، و ليسوا خيراً منهم.

و على هذا فالظرف في( يَوْمَ يَدْعُ ) متعلّق بما سيأتي من قوله:( يَخْرُجُونَ ) و المعنى: يخرجون من الأجداث يوم يدعو الداعي إلى شي‏ء نكر، إلخ و إمّا متعلّق بمحذوف، و التقدير اذكر يوم يدعو الداعي، و المحصّل اذكر ذاك اليوم و حالهم فيه، و الآية في معنى قوله:( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ ) الزخرف: 66، و قوله:( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) يونس: 102.

و لم يسمّ سبحانه هذا الداعي من هو؟ و قد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال:( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) إسراء: 52.

و إنّما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الأجداث و الحضور لفصل القضاء و خروجهم منها خشّعاً أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الإيمان بالآيات و إعراضهم و قولهم: سحر مستمرّ.

و معنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم و هو القضاء و الجزاء.

قوله تعالى: ( خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ ) الخشّع جمع خاشع و الخشوع نوع من الذلّة و نسب إلى الأبصار لأنّ ظهوره فيها أتمّ.

و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و الجراد حيوان معروف، و تشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث أنّ الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض و يختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى:( يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ ) المعارج: 44.

قوله تعالى: ( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ ) أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد.

٦٤

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) قال: اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا القيامة و قد انقضت النبوّة و الرسالة.

و قوله:( وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) فإنّ قريشاً سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يريهم آية فدعا الله فانشقّ القمر نصفين حتّى نظروا إليه ثمّ التأم فقالوا: هذا سحر مستمرّ أي صحيح.

و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبيدالله بن عليّ عن الرضا عن آبائه عن عليّعليهم‌السلام قال: انشقّ القمر بمكّة فلقتين فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا اشهدوا.

أقول: ورد انشقاق القمر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيراً و قد تسلّمه محدّثوهم و العلماء من غير توقّف.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و الترمذيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل عن أنس قال: سأل أهل مكّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية فانشقّ القمر بمكّة فرقتين فنزلت( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) إلى قوله:( سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) أي ذاهب.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و أبونعيم و البيهقيّ و كلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال: انشقّ القمر على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإنّ محمّداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه فأنزل الله( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

و فيه، أخرج مسلم و الترمذيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و الحاكم و البيهقيّ و أبونعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر: في قوله:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: كان ذلك على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انشقّ فرقتين: فرقة من دون الجبل و فرقة خلفه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ اشهد.

٦٥

و فيه، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذيّ و ابن جرير و الحاكم و أبونعيم و البيهقيّ عن جبير بن مطعم: في قوله:( وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ) قال: انشقّ القمر و نحن بمكّة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل و فرقة على هذا الجبل فقال الناس: سحرنا محمّد فقال رجل: إن كان سحركم فإنّه لا يستطيع أن يسحر الناس كلّهم.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبونعيم في الدلائل عن ابن عبّاس: في قوله:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) قال: قد مضى ذلك قبل الهجرة انشقّ القمر حتّى رأوا شقّيه.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و عبدالله بن أحمد في زوائد الزهد و ابن جرير و ابن مردويه و أبونعيم عن أبي عبدالرحمن السلميّ قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله و أثنى عليه. ثمّ قال: اقتربت الساعة و انشقّ القمر ألا و إنّ الساعة قد اقتربت. ألا و إنّ القمر قد انشقّ على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ألا و إنّ الدنيا قد آذنت بفراق. ألا و إنّ اليوم المضمار و غداً السباق.

أقول: و قد روي انشقاق القمر بدعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة و هم أنس، و عبدالله بن مسعود، و ابن عمر، و جبير بن مطعم، و ابن عبّاس، و حذيفة بن اليمان، و عدّ في روح المعاني ممّن روي عنه الحديث من الصحابة عليّاًعليه‌السلام ثمّ نقل عن السيّد الشريف في شرح المواقف و عن ابن السبكيّ في شرح المختصر أنّ الحديث متواتر لا يمترى في تواتره. هذه حال الحديث عند أهل السنّة و قد عرفت حاله عند الشيعة.

٦٦

( كلام فيه إجمال القول في شقّ القمر)

آية شقّ القمر بيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة باقتراح من المشركين ممّا تسلّمها المسلمون بلا ارتياب منهم.

و يدلّ عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) القمر: 2، فالآية الثانية تأبى إلّا أن يكون مدلول قوله:( وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ) آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات الّتي أعرضوا عنها و قالوا: سحر مستمرّ.

و يدلّ عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان و تسلّمها المحدّثون، و قد تقدّمت نماذج منها في البحث الروائيّ.

فالكتاب و السنّة يدلّان عليها و انشقاق كرة من الكرات الجوّيّة ممكن في نفسه لا دليل على استحالته العقليّة، و وقوع الحوادث الخارقة للعادة - و منها الآيات المعجزات - جائز و قد قدّمنا في الجزء الأوّل من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكاناً و وقوعاً و من أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية و إن لم يكن من ضروريّات الدين.

و اعترض عليها بأنّ صدور الآية المعجزة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً ) إسراء: 59 فإنّ مفاد الآية إمّا أنّا لا نرسل بالآيات إلى هذه الاُمّة لأنّ الاُمم السابقة كذّبوا بها و هؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذّبون بها، و لا فائدة في الإرسال مع عدم ترتّب أثر عليه أو المفاد أنّا لا نرسل بها لأنّا أرسلنا إلى أوّليهم فكذبوا بها فعذّبوا و اُهلكوا و لو أرسلنا إلى هؤلاء لكذّبوا بها و عذّبوا عذاب الاستئصال لكنّا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب، و على أيّ حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الاُمّة كما كانت ترسل إلى الاُمم الدارجة.

نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات الّتي تؤيّد بها الرسالة

٦٧

كالقرآن المؤيّد لرسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كآيتي العصا و اليد لموسىعليه‌السلام و آية إحياء الموتى و غيرها لعيسىعليه‌السلام ، و كذا الآيات النازلة لطفاً منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عن اقتراح منهم.

و مثل الآية السابقة قوله تعالى:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً - إلى أن قال -قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) إسراء: 93 و غير ذلك من الآيات.

و الجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدّمة هي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رسولاً إلى أهل الدنيا كافّة بنبوّة خاتمة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: 158، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: 19، و قوله:( وَ لكِنْ رَسُولَ اللهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الأحزاب: 40 إلى غير ذلك من الآيات.

و قد بدأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو بمكّة بدعوة قومه من أهل مكّة و حواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق و الإيذاء و الاستهزاء و همّوا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتّى أمره ربّه بالهجرة غير أنّه آمن به و هو بمكّة جمع كثير منهم و إن كانت عامّتهم على الكفر و المؤمنون و إن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتّنين لكنّهم كانوا في أنفسهم جمعاً ذا عدد كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) النساء: 77 فقد استجازوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية و هذا يدلّ على أنّهم كانوا ذوي عدّة و عدّة في الجملة و لم يزالوا يزيدون جمعاً.

ثمّ هاجرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة و بسط هنالك الدعوة و نشر الإسلام فيها و في حواليها و في القبائل و في اليمن و سائر أقطار الجزيرة ما عدا مكّة و حواليها ثمّ بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك و العظماء من فارس و الروم و مصر سنة ستّ من الهجرة ثمّ فتح مكّة سنة ثمان من الهجرة و قد أسلم ما بين الهجرة و الفتح جمع من أهلها و حواليها.

٦٨

ثمّ ارتحلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان من انتشار الإسلام ما كان، و لم يزل الإسلام يزيد جمعاً و ينتشر صيتاً إلى يومنا هذا و قد بلغوا خمس أهل الأرض عدداً.

إذا تمهّد هذا فنقول: كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحيّة تستعقب العذاب لو كذّبوا بها و قد كذّبوا و قالوا: سحر مستمرّ و ما كان الله ليهلك بها جميع من اُرسل إليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هم أهل الأرض جميعاً لعدم تمام الحجّة عليهم يومئذ و قد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، و قد قال تعالى:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) الأنفال: 42.

و ما كان الله ليهلك جميع أهل مكّة و حواليها خاصّة و بينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى:( وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) الفتح: 25.

و ما كان الله سبحانه لينجّي المؤمنين و يهلك كفّارهم و قد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة و سنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكّة ثمّ آمنت عامّتهم يوم الفتح و الإسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين.

و لم تكن عامّة أهل مكّة و حواليها أهل عناد و جحود و إنّما كان أهل الجحود و العناد عظماؤهم و صناديدهم المستهزئين بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المعذّبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات و هم الّذين يقول تعالى فيهم:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) البقرة: 6، و قد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الإيمان و الهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا و أهلكهم الله يوم بدر و تمّت كلمة الربّ صدقاً و عدلاً.

و أمّا التمسّك لنفي إرسال الآيات مطلقاً بقوله تعالى:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) فالآية لا تشمل قطعاً الآيات المؤيّدة للرسالة كالقرآن المؤيّد لرسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كذا الآيات النازلة لطفاً كالخوارق الصادرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإخبار بالمغيبات و شفاء المرضى بدعائه و غير ذلك.

٦٩

فلو كانت مطلقة فإنّما تشمل الآيات الاقتراحيّة و تفيد أنّ الله سبحانه لم يرسل الآيات الّتي اقترحتها قريش - أو لم(1) يرسل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآيات الّتي اقترحوها - لأنّ الاُمم السابقة كذّبوا بها و طباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذّبون بها و لازمها نزول العذاب و الله لا يريد أن يعذّبهم عاجلاً.

و قد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) الأنفال: 33، و استبان بذلك أنّ المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضاً قوله تعالى:( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ) إسراء: 76.

ثمّ قال تعالى:( وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) الأنفال: 35 و الآيات نزلت عقيب غزوة بدر.

و الآيات تبيّن أنّه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب و هو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع.

و بالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الأوّلين و مماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب و وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصّدّ و المكاء و التصدية و زال أحد ركني المانع و هو كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم فلا مانع من العذاب و لا مانع من نزول الآية و إرسالها ليحقّ عليهم القول فيعذّبوا بسبب تكذيبهم لها و بسبب مقتضيات اُخر كالصّدّ و نحوه.

فتحصّل أنّ قوله تعالى:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) إلخ، إنّما يفيد

____________________

(1) أوّل شقي الترديد مبنيّ على كون الباء في قوله: ( نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ ) زائدة و الآيات مفعول نرسل، و الثاني مبنيّ على كونها بمعنى المصاحبة و المفعول محذوفاً.

٧٠

الإمساك عن إرسال الآيات ما دام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم و أمّا إرسالها و تأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه و قد صرّح سبحانه بأنّ وقعة بدر كانت آية و ما أصابهم فيها كان عذاباً، و كذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الإرسال لكونه لغواً بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإنّ إرسالها مع تأخير العذاب و النكال إلى خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من‏ بينهم من الفائدة ليحقّ الله الحقّ و يبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة الّتي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بينهم.

و أمّا قوله تعالى:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) فليس مدلوله نفي تأييد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالآيات المعجزة و إنكار نزولها من أصلها كيف؟ و هو ينفيها عن نفسه بما أنّه بشر رسول، و لو كان المراد ذلك لأفاد إنكار معجزات الأنبياء جميعاً لكون كلّ منهم بشراً رسولاً، و صريح القرآن فيما حدّث من قصص الأنبياء و أخبر عن آياتهم يناقض ذلك، و أوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية الّتي هي من القرآن المتحدّي بالإعجاز.

بل مدلوله أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شي‏ء من الآيات الّتي يقترحون عليه، و إنّما الأمر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها و إن لم يشأ لم يفعل قال تعالى:( وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) الأنعام: 109، و قال حاكياً عن قوم نوح:( قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ ) هود: 33، و قال:( وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) المؤمن: 78، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و من الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل: إنّ القمر لو انشقّ كما يقال لرآه جميع الناس و لضبطه أهل الأرصاد في الشرق و الغرب لكونه من أعجب الآيات السماويّة و لم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ و الكتب الباحثة عن الأوضاح السماويّة له نظير و الدواعي متوفّرة على استماعه و نقله.

٧١

و اُجيب بما حاصله أنّ من الممكن أوّلاً: أن يغفل عنه فلا دليل على كون كلّ حادث أرضيّ أو سماويّ معلوماً للناس محفوظاً عندهم يرثه خلف عن سلف.

و ثانياً: أنّ الحجاز و ما حولها من البلاد العربيّة و غيرها لم يكن بها مرصد للأوضاع السماويّة، و إنّما كان ما كان من المراصد بالهند و المغرب من الروم و اليونان و غيرهما و لم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت - و هو على ما في بعض الروايات أوّل الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجّة سنة خمس قبل الهجرة -.

على أنّ بلاد الغرب الّتي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها و بين مكّة من اختلاف الاُفق ما يوجب فصلاً زمانيّاً معتداً به و قد كان القمر - على ما في بعض الروايات - بدراً و انشقّ في حوالي غروب الشمس حين طلوعه و لم يبق على الانشقاق إلّا زماناً يسيراً ثمّ التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب و هو ملتئم ثانياً.

على أنّا نتّهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة و الوثنيّة في الاُمور الدينيّة الّتي لها مساس نفع بالإسلام.

و من الاعتراض عليها ما قيل: إنّ الانشقاق لا يقع إلّا ببطلان التجاذب بين الشقّتين و حينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقّاً لم يلتئم أبداً.

و الجواب عنه أنّ الاستحالة العقليّة ممنوعة، و الاستحالة العاديّة بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أوّلاً عن الانشقاق بعد الالتيام و لم تمنع و أصل الكلام مبنيّ على جواز خرق العادة.

٧٢

( سورة القمر الآيات 9 - 42)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ( 9 ) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( 10 ) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ( 11 ) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( 12 ) وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ( 13 ) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ( 14 ) وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 15 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 16 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 17 ) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 18 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ( 19 ) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ ( 20 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 21 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 22 ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ( 23 ) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ( 24 ) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ( 25 ) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَّنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ( 26 ) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ( 27 ) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ  كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ( 28 ) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ ( 29 ) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ( 30 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ( 31 )

٧٣

وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 32 ) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ( 33 ) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ  نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ( 34 ) نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا  كَذَٰلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ ( 35 ) وَلَقَدْ أَنذَرَهُم بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ( 36 ) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 37 ) وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ ( 38 ) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ( 39 ) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ( 40 ) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 ) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ( 42 )

( بيان)

إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الاُمم الدارجة خصّ بالذكر من بينهم قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون فذكّرهم بأنبائهم و أعاد عليهم إجمال ما قصّ عليهم سابقاً من قصصهم و ما آل إليه تكذيبهم بآيات الله و رسله من أليم العذاب و هائل العقاب تقريراً لقوله:( وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ) .

و لتوكيد التقرير و تمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقّب كلّ واحدة من القصص بقوله خطاباً لهم:( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ ) ثمّ ثنّاه بذكر الغرض من الإنذار و التخويف فقال:( وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) .

٧٤

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ ) التكذيب الأوّل منزّل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، و قوله:( فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ) إلخ، تفسيره كما في قوله:( وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ ) الخ هود: 45.

و قيل: المراد بالتكذيب الأوّل التكذيب المطلق و هو تكذيبهم بالرسل و بالثاني التكذيب بنوح خاصّة كقوله في سورة الشعراء:( كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 105، و المعنى: كذّبت قوم نوح المرسلين فترتّب عليه تكذيبهم لنوح، و هو وجه حسن.

و قيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الإشارة إلى كونه تكذيباً إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلّما انقرض قرن منهم مكذّب جاء بعدهم قرن آخر مكذّب، و هو معنى بعيد.

و مثله قول بعضهم: إنّ المراد بالتكذيب الأوّل قصده و بالثاني فعله.

و قوله:( فَكَذَّبُوا عَبْدَنا ) في التعبير عن نوحعليه‌السلام بقوله:( عَبْدَنا ) في مثل المقام تجليل لمقامه و تعظيم لأمره و إشارة إلى أنّ تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لأنّه عبد لا يملك شيئاً و ما له فهو لله.

و قوله:( وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ ) المراد بالازدجار زجر الجنّ له أثر الجنون، و المعنى: و لم يقتصروا على مجرّد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون و ازدجره الجن فلا يتكلّم إلّا عن زجر و ليس كلامه من الوحي السماويّ في شي‏ء.

و قيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، و المعنى: و ازدجره القوم عن الدعوة و التبليغ بأنواع الإيذاء و التخويف، و لعلّ المعنى الأوّل أظهر.

قوله تعالى: ( فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) الانتصار الانتقام، و قوله:( أَنِّي مَغْلُوبٌ ) أي بالقهر و التحكّم دون الحجّة، و هذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، و تفصيل دعائه مذكور في سورة نوح و تفصيل حججه في سورة هود و غيرها.

قوله تعالى: ( فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ ) قال في المجمع: الهمر صبّ الدمع و الماء بشدّة، و الانهمار الانصباب، انتهى. و فتح أبواب السماء و هي الجوّ بماء منصبّ استعارة تمثيليّة عن شدّة انصباب الماء و جريان المطر متوالياً كأنّه مدّخر وراء

٧٥

باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصبّ أشدّ ما يكون.

قوله تعالى: ( وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) قال في المجمع: التفجير تشقيق الأرض عن الماء، و العيون جمع عين الماء و هو ما يفور من الأرض مستديراً كاستدارة عين الحيوان. انتهى.

و المعنى: جعلنا الأرض عيوناً منفجرة عن الماء تجري جرياناً متوافقاً متتابعاً.

و قوله:( فَالْتَقَى الْماءُ عَلى‏ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ) أي فالتقى الماءان ماء السماء و ماء الأرض مستقرّاً على أمر قدّره الله تعالى أي حسب ما قدّر من غير نقيصة و لا زيادة و لا عجل و لا مهل.

فالماء اسم جنس اُريد به ماء السماء و ماء الأرض و لذلك لم يثنّ، و المراد بأمر قد قدر الصفة الّتي قدّرها الله لهذا الطوفان.

قوله تعالى: ( وَ حَمَلْناهُ عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ ) المراد بذات الألواح و الدسر السفينة، و الألواح جمع لوح و هو الخشبة الّتي يركّب بعضها على بعض في السفينة، و الدسر جمع دسار و دسر و هو المسمار الّذي تشدّ بها الألواح في السفينة، و قيل فيه معان اُخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.

قوله تعالى: ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) أي تجري السفينة على الماء المحيط بالأرض بأنواع من مراقبتنا و حفظنا و حراستنا، و قيل: المراد تجري بأعين أوليائنا و من وكّلناه بها من الملائكة.

و قوله:( جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ) أي جريان السفينة كذلك و فيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به و هو نوحعليه‌السلام كفر به و بدعوته قومه، فالآية في معنى قوله:( وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ - إلى أن قال -إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) الصافّات: 80.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ضمير( تَرَكْناها ) للسفينة على ما يفيده السياق و اللّام للقسم، و المعنى: اُقسم لقد أبقينا تلك السفينة الّتي نجّينا بها نوحاً و الّذين معه، و جعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكّر يتذكّر بها وحدانيّته

٧٦

تعالى و أنّ دعوة أنبيائه حقّ، و أنّ أخذه أليم شديد؟ و لازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالّة على واقعة الطوفان مذكّرة لها، و قد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجوديّ حتّى أدركها أوائل هذه الاُمّة(1) ، انتهى. و قد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الأبحاث حول قصّة نوح خبر أنّهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط و هو الجوديّ قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع.

و قيل: ضمير( تَرَكْناها ) لمّا مرّ من القصّة بما أنّها فعله.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ ) النذر جمع نذير بمعنى الإنذار، و قيل: مصدر بمعنى الإنذار. و الظاهر أنّ( كانَ ) ناقصة و اسمها( عَذابِي ) و خبرها( فَكَيْفَ ) ، و يمكن أن تكون تامّة فاعلها قوله:( عَذابِي ) و قوله:( فَكَيْفَ ) حالاً منه.

و كيف كان فالاستفهام للتهويل يسجّل به شدّة العذاب و صدق الإنذار.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) التيسير التسهيل و تيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامّيّ و الخاصّيّ و الأفهام البسيطة و المتعمّقة كلّ على مقدار فهمه.

و يمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية و مقاصده المرتفعة عن اُفق الأفهام العاديّة إلى مرحلة التكليم العربيّ تناله عامّة الأفهام كما يستفاد من قوله تعالى:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4.

و المراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله، قال في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلّا أنّ الحفظ يقال اعتباراً بإحرازه، و الذكر يقال اعتباراً باستحضاره و تارة

____________________

(1) رواه في الدرّ المنثور عن عبدالرزّاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة.

٧٧

يقال لحضور الشي‏ء القلب أو القول، و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب و ذكر باللسان و كلّ واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، و كلّ قول يقال له ذكر. انتهى.

و معنى الآية: و اُقسم لقد سهّلنا القرآن لأن يتذكّر به، فيذكر الله تعالى و شؤونه، فهل من متذكّر يتذكّر به فيؤمن بالله و يدين بما يدعو إليه من الدين الحقّ؟.

فالآية دعوة عامّة إلى التذكّر بالقرآن بعد تسجيل صدق الإنذار و شدّة العذاب الّذي اُنذر به.

قوله تعالى: ( كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ ) شروع في قصّة اُخرى من القصص الّتي فيها الازدجار و لم يعطف على ما قبلها - و مثلها القصص الآتية - لأنّ كلّ واحدة من هذه القصص مستقلّة كافية في الزجر و الردع و العظة لو اتّعظوا بها.

و قوله:( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ ) مسوق لتوجيه قلوب السامعين إلى ما يلقى إليهم من كيفيّة العذاب الهائل بقوله:( إِنَّا أَرْسَلْنا ) إلخ، و ليس مسوقاً للتهويل و تسجيل شدّة العذاب و صدق الإنذار كسابقه و إلّا لتكرّر قوله بعد:( فَكَيْفَ كانَ ) إلخ، كذا قيل و هو وجه حسن.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) بيان لما استفهم عنه في قوله:( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ ) و الصرصر - على ما في المجمع - الريح الشديدة الهبوب، و النحس بالفتح فالسكون مصدر كالنحوسة بمعنى الشؤم، و( مُسْتَمِرٍّ ) صفة لنحس، و معنى إرسال الريح في يوم نحس مستمرّ إرسالها في يوم متلبّس بالنحوسة و الشأمة بالنسبة إليهم المستمرّة عليهم لا يرجى فيه خير لهم و لا نجاة.

و المراد باليوم قطعة من الزمان لا اليوم الّذي يساوي سبع الاُسبوع لقوله تعالى في موضع آخر من كلامه:( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) حم السجدة: 16، و في موضع آخر:( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ) الحاقّة: 7.

و فسّر بعضهم النحس بالبرد.

قوله تعالى: ( تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ) فاعل( تَنْزِعُ ) ضمير

٧٨

راجع إلى الريح أي تنزع الريح الناس من الأرض، و أعجاز النخل أسافله، و المنقعر المقلوع من أصله، و المعنى ظاهر، و في الآية إشعار ببسطة القوم أجساماً.

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ كانَ عَذابِي - إلى قوله - مُدَّكِرٍ) تقدّم تفسير الآيتين.

( كلام في سعادة الأيّام و نحوستها و الطيرة و الفأل في فصول)

1- في سعادة الأيام و نحوستها: نحوسة اليوم أو أيّ مقدار من الزمان أن لا يعقّب الحوادث الواقعة فيه إلّا الشرّ و لا يكون الأعمال أو نوع خاصّ من الأعمال فيه مباركة لعاملها، و سعادته خلافه.

و لا سبيل لنا إلى إقامة البرهان على سعادة يوم من الأيّام أو زمان من الأزمنة و لا نحوسته و طبيعة الزمان المقداريّة متشابهة الأجزاء و الأبعاض، و لا إحاطة لنا بالعلل و الأسباب الفاعلة المؤثّرة في حدوث الحوادث و كينونة الأعمال حتّى يظهر لنا دوران اليوم أو القطعة من الزمان من علل و أسباب تقتضي سعادته أو نحوسته، و لذلك كانت التجربة الكافية غير متأتيّة لتوقّفها على تجرّد الموضوع لأثره حتّى يعلم أنّ الأثر أثره و هو غير معلوم في المقام.

و لما مرّ بعينه لم يكن لنا سبيل إلى إقامة البرهان على نفي السعادة و النحوسة كما لم يكن سبيل إلى الإثبات و إن كان الثبوت بعيداً فالبعد غير الاستحالة. هذا بحسب النظر العقليّ.

و أمّا بحسب النظر الشرعيّ ففي الكتاب ذكر من النحوسة و ما يقابلها، قال تعالى:( إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) القمر: 19، و قال:( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ ) حم السجدة: 16، لكن لا يظهر من سياق القصّة و دلالة الآيتين أزيد من كون النحوسة و الشؤم خاصّة بنفس الزمان الّذي كانت تهبّ عليهم فيه الريح عذاباً و هو سبع ليال و ثمانية أيّام متوالية يستمرّ عليهم فيها العذاب

٧٩

من غير أن تدور بدوران الأسابيع و هو ظاهر و إلّا كان جميع الزمان نحساً، و لا بدوران الشهور و السنين.

و قال تعالى:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) الدخان: 3، و المراد بها ليلة القدر الّتي يصفها الله تعالى بقوله:( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) القدر: 3، و ظاهر أنّ مباركة هذه الليلة و سعادتها إنّما هي بمقارنتها نوعاً من المقارنة لاُمور عظام من الإفاضات الباطنيّة الإلهيّة و أفاعيل معنويّة كإبرام القضاء و نزول الملائكة و الروح و كونها سلاماً، قال تعالى:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان: 4، و قال:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ) القدر: 5.

و يؤل معنى مباركتها و سعادتها إلى فضل العبادة و النسك فيها و غزارة ثوابها و قرب العناية الإلهيّة فيها من المتوجّهين إلى ساحة العزّة و الكبرياء.

و أمّا السنّة فهناك روايات كثيرة جدّاً في السعد و النحس من أيام الأسبوع و من أيّام الشهور العربيّة و من أيّام شهور الفرس و من أيّام الشهور الروميّة، و هي روايات بالغة في الكثرة مودعة في جوامع الحديث(1) أكثرها ضعاف من مراسيل و مرفوعات و إن كان فيها ما لا يخلو من اعتبار من حيث إسنادها.

أمّا الروايات العادّة للأيّام النحسة كيوم الأربعاء و الأربعاء لا تدور(2) و سبعة أيّام من كلّ شهر عربيّ و يومين من كلّ شهر روميّ و نحو ذلك، ففي كثير منها و خاصّة فيما يتعرّض لنحوسة أيّام الاُسبوع و أيّام الشهور العربيّة تعليل نحوسة اليوم بوقوع حوادث مرّة غير مطلوبة بحسب المذاق الدينيّ كرحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شهادة الحسينعليه‌السلام و إلقاء إبراهيمعليه‌السلام في النار و نزول العذاب باُمّة كذا و خلق النار و غير ذلك.

و معلوم أنّ في عدّها نحسة مشئومة و تجنّب اقتراب الاُمور المطلوبة و طلب الحوائج الّتي يلتذّ الإنسان بالحصول عليها فيها تحكيماً للتقوى و تقوية للروح الدينيّة

____________________

(1) أوردت منها في الجزء الرابع عشر من كتاب البحار أحاديث جمة.

(2) أربعاء لا تدور هي آخر أربعاء في الشهر.

٨٠