الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199946
تحميل: 4972


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199946 / تحميل: 4972
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن.

قوله تعالى: ( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) الآية الاُولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتاً لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أنّ الآية السابقة أعني قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ) في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة.

فقوله:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) الناشئة إمّا مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكوّن، و إمّا اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء الخلقة و ربّما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطؤ الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشدّ وطأ كناية عن كونها أثبت قدماً لصفاء النفس و عدم تكدّرها بالشواغل النهارية و قيل: الوطء مواطاة القلب اللسان و اُيّد بقراءة( أَشَدُّ وَطْئاً ) و المراد بكونها أقوم قيلاً كونها أثبت قولاً و أصوب لحضور القلب و هدوّ الأصوات.

و المعنى إنّ حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدماً - أو أشدّ في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولاً و أصوب لما أنّ الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله.

و قوله:( إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ) السبح المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمّات المعاش و أنواع التقلّب في قضاء حوائج الحياة.

و المعنى إنّ لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغاً تشتغل فيه بالتوجّه التامّ إلى ربّك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرّف في حوائجك فتهجّد في الليل.

و قيل: المعنى إنّ لك في النهار فراغاً فإن فاتك من الليل شي‏ء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله:( وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ

١٤١

خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً ) الفرقان: 62.

و الّذي قدّمناه من المعنى أنسب للمقام.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) الظاهر أنّه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيريّ على قوله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) و على هذا فالمراد بذكر اسم الربّ تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتّل التبتّل مع اللّفظ.

و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلاً و نهاراً على أيّ وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنّما فسّر الذكر بالدوام لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينسه تعالى حتّى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفيّ دون الحقيقيّ لعدم إمكانه. انتهى.

و فيه أنّه إن أراد بالذكر الذكر اللفظيّ فعدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه تعالى لا ينافي أمره بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعمّ الذكر القلبيّ فهو ممنوع و لو سلّم ففيه أوّلاً أنّ عدم نسيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانياً أنّ عدّه الدوام الحقيقيّ غير ممكن و حمل الدوام على العرفيّ وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جلّ ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبّه عليه الإنسان أو غفل عنه. و من الممكن أن يعرّفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى:( فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ ) حم السجدة: 38 و قال:( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: 20 و قد تقدّم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أنّ ذلك لا يختصّ بالملائكة.

و بالجملة قوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصّة و قيل: المراد به البسملة.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات عن التكلّم مع الغير في قوله:( إِنَّا سَنُلْقِي ) إلى الغيبة و لعلّ الوجه فيه إيقاظ ذلّة العبوديّة الّتي هي الرابطة بين العبد و ربّه،

١٤٢

بذكر صفة الربوبيّة.

و قوله:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) فسّر التبتّل بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ التبتّل رفع اليد إلى الله و التضرّع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظيّ كما تقدّم.

و( تَبْتِيلًا ) مفعول مطلق ظاهراً و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتّل إليه تبتّلاً فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتّل معنى بتّل، و المعنى و قطّع نفسك من غيره إليه تقطيعاً أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرّع حملاً، و قيل: لمراعاة الفواصل.

قوله تعالى: ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) وصف مقطوع عن الوصفيّة و التقدير هو ربّ المشرق و المغرب، و ربّ المشرق و المغرب في معنى ربّ العالم كلّه فإنّ المشرق و المغرب جهتان نسبيّتان تشملان جهات العالم المشهود كلّها، و إنّما اختصّاً بالذكر لمناسبة ما تقدّم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب.

و إنّما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيّته تعالى بقوله السابق:( رَبِّكَ ) للإيذان بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور باتّخاذه ربّاً لأنّه ربّه و ربّ العالم كلّه لا لأنّه ربّه وحده كما ربّما كان الرجل من الوثنيّين يتّخذ صنماً لنفسه فحسب غير ما اتّخذه غيره من الأصنام و لو كان اتّخاذهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له تعالى ربّاً من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصحّ دعوته إلى التوحيد.

و ليكون قوله:( رَبِّكَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ ) - و هو في معنى ربّ العالم كلّه - توطئة و تمهيداً لقوله بعده:( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) يعلّل به توحيد الاُلوهيّة فإنّ الاُلوهيّة و هي المعبوديّة من فروع الربوبيّة الّتي هي الملك و التدبير كما تقدّم مراراً فهو تعالى الإله وحده لا إله إلّا هو لأنّه الربّ وحده لا ربّ إلّا هو.

و قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) أي في جميع اُمورك، و توكيل الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتّخاذه تعالى

١٤٣

وكيلاً أن يرى الإنسان الأمر كلّه له و إليه تعالى أمّا في الاُمور الخارجيّة و الحوادث الكونيّة فأن لا يرى لنفسه و لا لشي‏ء من الأسباب الظاهريّة استقلالاً في التأثير فلا مؤثّر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلّا الله فلا يتعلّق بتأثير سبب من الأسباب برضىّ أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسّل إلى مقاصده و مآربه بما عرّفه الله من الأسباب من غير أن يطمئنّ إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.

و أمّا الاُمور الّتي لها تعلّق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربّه التشريعيّة فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرّع من الشريعة.

و من هنا يظهر أنّ لقوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) ارتباطاً بقوله:( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) إلخ و ما تقدّم عليه من الأوامر التشريعيّة كما أنّ له ارتباطاً بما تأخّر عنه من قوله( وَ اصْبِرْ ) و قوله( اهْجُرْهُمْ ) و قوله:( وَ ذَرْنِي ) .

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا ) معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله:( فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًاًا ) فالمعنى اتّخذه وكيلاً و لازم اتّخاذه وكيلاً أن تصبر على ما يقولون ممّا فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأوّلين و غير ذلك ممّا يقصّه القرآن.

و أن تهجرهم هجراً جميلاً، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحقّ بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنّها منسوخة بآية القتال.

قوله تعالى: ( وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ) تهديد للكفّار يقال: دعني و فلاناً و ذرني و فلاناً أي لا تحل بيني و بينه حتّى أنتقم منه.

و المراد بالمكذّبين اُولي النعمة الكفّار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم

١٤٤

المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذّبين و توصيفهم باُولي النعمة للإشارة إلى علّة ما يهدّدهم به من العذاب فإنّ تكذيبهم بالدعوة الإلهيّة و هم متنعّمون بنعمة ربّهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة.

و المراد بالقليل الّذي يمهّلونه الزمان القليل الّذي يمكثون في الأرض حتّى يرجعوا إلى ربّهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى:( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) المعارج: 7، و قال:( مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: 197.

و الآية بظاهرها عامّة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في( رَبِّكَ ) إلى التكلّم وحده في( ذَرْنِي ) و لعلّ الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثمّ التفت في قوله:( إِنَّ لَدَيْنا ) إلى التكلّم مع الغير للدلالة على العظمة.

قوله تعالى: ( إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَ جَحِيماً ) تعليل لقوله:( ذَرْنِي ) إلخ و الأنكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشي‏ء ضعف و عجز، و نكلته قيّدته و النكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابّة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم، انتهى.

قوله تعالى: ( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً ) قال في المجمع: الغصّة تردّد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غصّ بريقه يغصّ غصصاً، و في قلبه غصّة من كذا و هي كاللدغة الّتي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى.

و الآيتان تذكران نقم الآخرة الّتي بدّلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض و البحر انتهى. و في المجمع: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، و هلت أهيله هيلاً فهو مهيل إذا حرّك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر.

١٤٥

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) إنذار للمكذّبين اُولي النعمة من قومهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما أوعد مطلق المكذّبين اُولي النعمة بما أعدّ لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذلّ لرسول الله و من آمن معه من قومه ثمّ قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذاً وبيلاً فليتّعظوا و ليأخذوا حذرهم.

و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كأنّ المتكلّم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على اُولئك المكذّبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبديّ لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أيّ شكّ و ترديد و تتمّ عليهم الحجّة و لعلّهم يتّقون، و لذا عقّب قياسهم إلى فرعون و قياس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موسىعليه‌السلام و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً ) إلخ.

فقوله:( إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ) إشارة إلى تصديق رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحمّلها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدّم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مراراً، و في الإشارة إلى شهادتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه.

و قوله:( كَما أَرْسَلْنا إِلى‏ فِرْعَوْنَ رَسُولًا ) هو موسى بن عمرانعليه‌السلام .

قوله تعالى: ( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ) أي شديداً ثقيلاً. إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسىعليه‌السلام ، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أنّ السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنّه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

كما أنّ وضع الظاهر موضع الضمير في قوله:( فَعَصى‏ فِرْعَوْنُ ) للإيماء إلى أنّ ما كان له من العزّة و العلوّ في الأرض و التبجّح بكثرة العدّة و سعة المملكة و نفوذ المشيّة لم يغن عنه شيئاً و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظنّ بهؤلاء المكذّبين؟ و هم كما قال الله:( جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ ) ص: 11.

١٤٦

قوله تعالى: ( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) نسبة الاتّقاء إلى اليوم من المجاز العقليّ و المراد اتّقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوماً مفعول به لتتّقون، و قيل: مفعول( تَتَّقُونَ ) محذوف و( يَوْماً ) ظرف له و التقدير فكيف تتّقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و( يَوْماً ) ظرف للاتّقاء و قيل غير ذلك.

و قوله:( يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) الشيب جمع أشيب مقابل الشابّ، و جعل الولدان شيباً كناية عن شدّة اليوم لا عن طوله.

قوله تعالى: ( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) إشارة بعد إشارة إلى شدّة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكّر و يؤنّث، و ضمير( بِهِ ) لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببيّة، و المعنى السماء منشقّة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدّته.

و قوله:( كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا ) استئناف لتسجيل ما تقدّم من الوعيد و أنّه حتم مقضيّ و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعلّه للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلّا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة الّتي يذكر بها ما يعمل عليه.

و قوله:( فَمَنْ شاءَ ) مفعول( شاءَ ) محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدّر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً اتّخذ إلخ، و قيل: المقدّر الاتّعاظ، و المراد باتّخاذ السبيل إليه اتّخاذ السبيل إلى التقرّب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسّرون.

و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدّم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجّد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصّاً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

١٤٧

و الدليل على هذا التعميم قوله:( فَمَنْ شاءَ ) إلخ.

و يؤيّد ما ذكرنا وقوع هذه الآية( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما اُشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) و يستنتج من ذلك أنّ صلاة الليل سبيل خاصّة تهدي العبد إلى ربّه.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج البزّار و الطبرانيّ في الأوسط و أبونعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سمّوا هذا الرجل اسماً يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب و حبيبه فتفرّق المشركون على ذلك.

فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتزمّل في ثيابه و تدثّر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيّها المزّمّل يا أيّها المدّثّر.

أقول: آخر الرواية لا يخلو من شي‏ء حيث إنّ ظاهرها نزول السورتين معاً. على أنّ القرآن حتّى في سورة المدّثّر يحكي تسميتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرّق بين الحبيب و حبيبه.

و فيه، أخرج عبدالله بن أحمد في كتاب الزهد و محمّد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلّما ينام من الليل لما قال الله له:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) .

و في الكشّاف، عن عائشة: أنّها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطاً طوله أربع عشرة ذراعاً نصفه عليّ و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلّي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزّاً و لا قزّاً و لا مرعزّيّاً و لا إبريسماً و لا صوفاً. كان سداه شعراً و لحمته وبراً.

أقول: الرواية مرمية بالوضع فإنّ السورة من العتائق النازلة بمكّة، و عائشة إنّما بنى عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة بعد الهجرة.

١٤٨

و عن جوامع الجامع، روي: أنّه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقاً(1) فقال: زمّلوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لمّا نزلت( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) مكث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم اللّيل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فخفّف الله عنهم بعد عشر سنين.

أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضاً نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجباً على غير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما اُشير إليه بقوله تعالى:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية كما تقدّم، و يؤيّده ما في الرواية من قوله:( و طائفة من أصحابه) .

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله تعالى:( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ) قال: أمره الله أن يصلّي كلّ ليلة إلّا أن تأتي عليه ليلة من اللّيالي لا يصلّي فيها شيئاً.

أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية.

و في المجمع: و قيل: إنّ نصفه بدل من القليل فيكون بياناً للمستثنى، و يؤيّد هذا القول‏ ما روي عن الصادقعليه‌السلام قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلاً أو زد على القليل قليلاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج العسكريّ في المواعظ عن عليّعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن قول الله:( وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ) قال: بيّنه تبييناً، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

أقول: و روي هذا المعنى في اُصول الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سليمان عن الصادق

____________________

(1) جئث الرجل ثقل عند القيام أو عند حمل شي‏ء ثقيل و الفرق: الفزع و الخوف.

١٤٩

عن عليّعليه‌السلام و لفظ بيّنه تبييناً و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا(1) قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.

و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّ الناس أحسن قراءة قال الّذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنّه يخشى الله.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة(2) و لكن يرتّل ترتيلاً فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فقف عندها و اسأل الله عزّوجلّ الجنّة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوّذ بالله من النار.

و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: هو أن تتمكّث فيه و تحسن به صوتك.

و فيه، روي عن اُمّ سلمة أنّها قالت: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع قراءته آية آية.

و فيه، عن أنس قال: كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمدّ صوته مدّاً.

و فيه، سأل الحارث بن هشام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشدّ علي فيفصم(3) عنّي و قد وعيت ما قال و أحياناً يتمثّل الملك رجلاً فأعي ما يقول.

قالت عائشة: إنّه كان ليوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو على راحلته فتضرب بجرانها.

قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إنّ جبينه ليرفضّ عرقاً.

و عن تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضاً، و إنّما يؤخذ من أمر رسول الله

____________________

(1) أفرغ الإناء: أخلاه.

(2) الهذرمة: الإسراع في القراءة.

(3) الفصم: القطع.

١٥٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآخره.

و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شي‏ء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتّى وقفت و تدلّى بطنها حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض.

أقول: إن صحّت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسّم المعاني و كثيراً ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أمّا اتّصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادّيّ فغير معقول.

و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قال: يعني بقوله:( وَ أَقْوَمُ قِيلًا ) قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عزّوجلّ لا يريد به غيره.

أقول: و رواه أيضاً بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنهعليه‌السلام .

و في المجمع في قوله تعالى:( إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ ) الآية: و المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّهما قالا: هي القيام في آخر اللّيل.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن عليّ أنّه رؤي يصلّي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنّهما من الناشئة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) وروى محمّد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام أنّ التبتّل هذا رفع اليدين في الصلاة. و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرّعك.

أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبّابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها.

و فيه في قوله تعالى:( وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ) الآية: عن عبدالله بن عمر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع قارئاً يقرأ هذا فصعق.

و في تفسير القمّيّ في قوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) قال: مثل الرمل ينحدر.

١٥١

( سورة المزّمّل آية 20)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 20 )

( بيان‏)

آية مبنيّة على التخفيف فيما أمر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل و الصلاة فيه ثمّ عمّم الحكم لسائر المؤمنين بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) الآية.

و لسان الآية هو التخفيف بما تيسّر من القرآن من غير نسخ لأصل الحكم السابق بالمنع عن قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.

و قد ورد في غير واحد من الأخبار أنّ الآية مكّيّة نزلت بعد ثمانية أشهر أو سنة أو عشر سنين من نزول آيات صدر السورة لكن يوهنه اشتمال الآية على قوله تعالى:( وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) فإنّ ظاهره أنّ المراد

١٥٢

بالزكاة - و قد ذكرت قبلها الصلاة و بعدها الإنفاق المستحبّ - هو الزكاة المفروضة و إنّما فرضت الزكاة بالمدينة بعد الهجرة.

و قول بعضهم: إنّ الزكاة فرضت بمكّة من غير تعيين الأنصباء و الّذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء، تحكّم من غير دليل، و كذا قول بعضهم: إنّه من الممكن أن تكون الآية ممّا تأخّر حكمه عن نزوله.

على أنّ في الآية ذكراً من القتال إذ يقول:( وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) و لم يكن من مصلحة الدعوة الحقّة يومئذ ذاك و الظرف ذلك الظرف أن يقع في متنها ذكر من القتال بأيّ وجه كان، فالظاهر أنّ الآية مدنيّة و ليست بمكّيّة و قد مال إليه بعضهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) إلى آخر الآية. الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في التعبير بقوله:( رَبَّكَ ) تلويح إلى شمول الرحمة و العناية الإلهيّة، و كذا في قوله:( يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلخ مضافاً إلى ما فيه من لائحة الشكر قال تعالى:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: 22.

و قوله:( تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) أدنى اسم تفضيل من الدنوّ بمعنى القرب، و قد جرى العرف على استعمال أدنى فيما يقرب من الشي‏ء و هو أقلّ فيقال: إنّ عدّتهم أدنى من عشرة إذا كانوا تسعة مثلاً دون ما لو كانوا أحد عشر فمعنى قوله:( أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ) أقرب من ثلثيه و أقلّ بقليل.

و الواو العاطفة في قوله:( وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) لمطلق الجمع و المراد أنّه يعلم أنّك تقوم في بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل و في بعضها نصفه و في بعضها ثلثه.

و قوله:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) المراد المعيّة في الإيمان و( مِنْ ) للتبعيض فالآية تدلّ على أنّ بعضهم كان يقوم الليل كما كان يقومه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و قيل( من ) بيانيّة، و هو كما ترى.

و قوله:( وَ اللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ) في مقام التعليل لقوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ) و المعنى و كيف لا يعلم و هو الله الّذي إليه الخلق و التقدير ففي تعيين قدر اللّيل و النهار

١٥٣

تعيين ثلثهما و نصفهما و ثلثيهما، و نسبة تقدير اللّيل و النهار إلى اسم الجلالة دون اسم الربّ و غيره لأنّ التقدير من شؤن الخلق و الخلق إلى الله الّذي إليه ينتهي كلّ شي‏ء.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) الإحصاء تحصيل مقدار الشي‏ء و عدده و الإحاطة به، و ضمير( لَنْ تُحْصُوهُ ) للتقدير أو للقيام مقدار ثلث الليل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، و إحصاء ذلك مع اختلاف الليالي طولاً و قصراً في أيّام السنة ممّا لا يتيسّر لعامّة المكلّفين و يشتدّ عسراً لمن نام أوّل اللّيل و أراد القيام بأحد المقادير الثلاثة دون أن يحتاط بقيام جميع اللّيل أو ما في حكمه.

فالمراد بقوله:( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) علمه تعالى بعدم تيسّر إحصاء المقدار الّذي اُمروا بقيامه من اللّيل لعامّة المكلّفين.

و المراد بقوله:( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) توبته تعالى و رجوعه إليهم بمعنى انعطاف الرحمة الإلهيّة عليهم بالتخفيف فللّه سبحانه توبة على عباده ببسط رحمته عليهم و أثرها توفيقهم للتوبة أو لمطلق الطاعة أو رفع بعض التكاليف أو التخفيف قال تعالى:( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ) التوبة: 118.

كما أنّ له توبة عليهم بمعنى الرجوع إليهم بعد توبتهم و أثرها مغفرة ذنوبهم، و قد تقدّمت الإشارة إليه.

و المراد بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) التخفيف في قيام اللّيل من حيث المقدار لعامّة المكلّفين تفريعاً على علمه تعالى أنّهم لن يُحصوه.

و لازم ذلك التوسعة في التكليف بقيام اللّيل من حيث المقدار حتّى يسع لعامّة المكلّفين الشاقّ عليهم إحصاؤه دون النسخ بمعنى كون قيام الثلث أو النصف أو الأدنى من الثلثين لمن استطاع ذلك بدعة محرّمة و ذلك أنّ الإحصاء المذكور إنّما لا يتيسّر لمجموع المكلّفين لا لجميعهم و لو امتنع لجميعهم و لم يتيسّر لأحدهم لم يشرّع من أصله و لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها.

على أنّه تعالى يصدّق لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و طائفة من الّذين معه قيام الثلث و النصف

١٥٤

و الأدنى من الثلثين و ينسب عدم التمكّن من الإحصاء إلى الجميع و هم لا محالة هم القائمون و غيرهم فالحكم إنّما كان شاقّاً على المجموع من حيث المجموع دون كلّ واحد فوسّع في التكليف بقوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) و سهّل الأمر بالتخفيف ليكون لعامّة المكلّفين فيه نصيب مع بقاء الأصل المشتمل عليه صدر السورة على حاله لمن تمكّن من الإحصاء و إرادة، و الحكم استحبابيّ لسائر المؤمنين و إن كان ظاهر ما للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخطاب الوجوب كما تقدّمت الإشارة إليه.

و للقوم في كون المراد بقيام اللّيل الصلاة فيه أو قراءة القرآن خارج الصلاة، و على الأوّل في كونه واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين أو مستحبّاً للجميع أو واجباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحبّاً لغيره ثمّ في نسخ الحكم بالتخفيف بما تيسّر بهذه الآية أو تبديل الصلاة من قراءة ما تيسّر من القرآن أقوال لا كثير جدوى في التعرّض لها و البحث عنها.

و قوله:( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى‏ وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) إشارة إلى مصلحة اُخرى مقتضية للتخفيف في أمر القيام ثلث اللّيل أو نصفه أو أدنى من ثلثيه، وراء كونه شاقّاً على عامّة المكلّفين بالصفة المذكورة أوّلاً فإنّ الإحصاء المذكور للمريض و المسافر و المقاتل مع ما هم عليه من الحال شاقّ عسير جدّاً.

و المراد بالضرب في الأرض للابتغاء من فضل الله طلب الرزق بالمسافرة من أرض إلى أرض للتجارة.

و قوله:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) تكرار للتخفيف تأكيداً، و ضمير( مِنْهُ ) للقرآن، و المراد الإتيان بالصلاة على ما يناسب سعة الوقت الّذي قاموا فيه.

و المراد بالصلاة المأمور بإقامتها الفريضة فإن كانت الآية مدنيّة فالفرائض الخمس اليوميّة و إن كانت مكّيّة فبحسب ما كانت مفروضة من الصلاة، و المراد بالزكاة الزكاة المفروضة، و المراد بإقراضه تعالى غير الزكاة من الإنفاقات الماليّة في سبيل الله.

١٥٥

و عطف الأمر بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الإقراض للتلويح إلى أنّ التكاليف الدينيّة على حالها في وجوب الاهتمام بها و الاعتناء بأمرها، فلا يتوهّمنّ متوهّم سريان التخفيف و المسامحة في جميع التكاليف فالآية نظيرة قوله في آية النجوى:( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللهَ وَ رَسُولَهُ ) المجادلة: 13.

و قوله:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) ( مِنْ خَيْرٍ ) بيان للموصول، و المراد بالخير مطلق الطاعة أعمّ من الواجبة و المندوبة، و( هُوَ ) ضمير فصل أو تأكيد للضمير في( تَجِدُوهُ ) .

و المعنى: و الطاعة الّتي تقدّمونها لأنفسكم - أي لتعيشوا بها في الآخرة - تجدونها عند الله - أي في يوم اللقاء - خيراً من كلّ ما تعملون أو تتركون و أعظم أجرا.

و قوله:( وَ اسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ختم الكلام بالأمر بالاستغفار، و في قوله:( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) إشعار بوعد المغفرة و الرحمة، و لا يبعد أن يكون المراد بالاستغفار الإتيان بمطلق الطاعات لأنّها وسائل يتوسّل بها إلى مغفرة الله فالإتيان بها استغفار.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى:( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى‏ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ ) ففعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك و بشّر الناس به فاشتدّ ذلك عليهم و( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) و كان الرجل يقوم و لا يدري متى ينتصف اللّيل و متى يكون الثلثان، و كان الرجل يقوم حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظه.

فأنزل الله( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ - إلى قوله -عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ) يقول: متى يكون النصف و الثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) ، و

١٥٦

اعلموا أنّه لم يأت نبيّ قطّ إلّا خلا بصلاة اللّيل، و لا جاء نبيّ قطّ بصلاة اللّيل في أوّل اللّيل.

أقول: محصّل الرواية أنّ صدر السورة توجب صلاة اللّيل و ذيلها تنسخها، و روي ما يقرب منه من طرق أهل السنّة عن ابن عبّاس و غيره، و قد تقدّم ما يتعلّق به في البيان السابق.

و في المجمع، روى الحاكم أبوالقاسم إبراهيم الحسكانيّ بإسناده عن الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ) قال: عليّ و أبوذرّ.

و فيه في قوله تعالى:( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) روي عن الرضا عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام قال: ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السرّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) قال: مائة آية.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من جالب يجلب طعاماً إلى بلد من بلاد المسلمين فيبيعه بسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله منزلة الشهيد. ثمّ قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) .

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن زرعة عن سماعة قال: سألته عن قول الله:( وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) قال: هو غير الزكاة.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق، و قدّموا ما استطعتم من عمل الخير تجدوه غداً.

أقول: ذيله مأخوذ من قوله تعالى:( وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً ) .

١٥٧

( سورة المدّثّر مكّيّة و هي ستّ و خمسون آية)

( سورة المدّثّر الآيات 1 - 7)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ( 1 ) قُمْ فَأَنذِرْ ( 2 ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ( 3 ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ( 4 ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ( 5 ) وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ( 6 ) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( 7 )

( بيان‏)

تتضمّن السورة أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإنذار في سياق يلوح منه كونه من أوامر أوائل البعثة ثمّ الإشارة إلى عظم شأن القرآن الكريم و جلالة قدره، و الوعيد الشديد على من يواجهه بالإنكار و الرمي بالسحر، و ذمّ المعرضين عن دعوته.

و السورة مكّيّة من العتائق النازلة في أوائل البعثة و ظهور الدعوة حتّى قيل: إنّها أوّل سورة نزلت من القرآن و إن كان يكذّبه نفس آيات السورة الصريحة في سبق قراءتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن على القوم و تكذيبهم به و إعراضهم عنهم و رميهم له بأنّه سحر يؤثر.

و لذا مال بعضهم إلى أنّ النازل أوّلاً هي الآيات السبع الواقعة في أوّل السورة و لازمه كون السورة غير نازلة دفعة و هو و إن كان غير بعيد بالنظر إلى متن الآيات السبع لكن يدفعه سياق أوّل سورة العلق الظاهر في كونه أوّل ما نزل من القرآن.

و احتمل بعضهم أن تكون السورة أوّل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند الأمر بإعلان الدعوة بعد إخفائها مدّة في أوّل البعثة فهي في معنى قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94، و بذلك جمع بين ما ورد من أنّها أوّل ما نزل، و ما ورد أنّها نزلت بعد سورة العلق، و ما ورد أنّ سورتي المزّمّل و المدّثّر نزلتا معاً، و هذا القول لا يتعدّى طور الاحتمال.

١٥٨

و كيف كان فالمتيقّن أنّ السورة من أوائل ما نزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السور القرآنيّة، و الآيات السبع الّتي نقلناها تتضمّن الأمر بالإنذار و سائر الخصال الّتي تلزمه ممّا وصّاه الله به.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) المدّثّر بتشديد الدالّ و الثاء أصله المتدثّر اسم فاعل من التدثّر بمعنى التغطّي بالثياب عند النوم.

و المعنى: يا أيّها المتغطّي بالثياب للنوم خطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد كان على هذه الحال فخوطب بوصف مأخوذ من حاله تأنيساً و ملاطفة نظير قوله:( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .

و قيل: المراد بالتدثّر تلبّسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة بتشبيهها بلباس يتحلّى به و يتزيّن و قيل: المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غيبته عن النظر فهو خطاب له بما كان عليه في غار حراء، و قيل: المراد به الاستراحة و الفراغ فكأنّه قيل لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أيّها المستريح الفارغ قد انقضى زمن الراحة و أقبل زمن متاعب التكاليف و هداية الناس.

و هذه الوجوه و إن كانت في نفسها لا بأس بها لكنّ الّذي يسبق إلى الذهن هو المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( قُمْ فَأَنْذِرْ ) الظاهر أنّ المراد به الأمر بالإنذار من غير نظر إلى من ينذر فالمعنى افعل الإنذار، و ذكر بعضهم أنّ مفعول الفعل محذوف، و التقدير أنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة كما ورد في سورة الشعراء.

و ذكر آخرون أنّ المفعول المحذوف عامّ و هو جميع الناس لقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ) سبأ: 28.

و لم يذكر التبشير مع الإنذار مع أنّهما كالمتلازمين في تمام الدعوة لأنّ السورة ممّا نزل في ابتداء الدعوة و الإنذار هو الغالب إذ ذاك.

قوله تعالى: ( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) أي أنسب ربّك إلى الكبرياء و العظمة اعتقاداً و عملاً قولاً و فعلاً و هو تنزيهه تعالى من أن يعادله أو يفوقه شي‏ء فلا شي‏ء يشاركه أو يغلبه أو يمانعه، و لا نقص يعرضه، و لا وصف يحده.

١٥٩

و لذا ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ معنى التكبير: الله أكبر من أن يوصف، فهو تعالى أكبر من كلّ وصف نصفه به حتّى من هذا الوصف، و هذا هو المناسب للتوحيد الإسلاميّ الّذي يفوق ما نجده من معنى التوحيد في سائر الشرائع السماوية.

و هذا الّذي ذكرناه هو الفرق بين كلمتي التكبير و التسبيح - الله أكبر و سبحان الله - فسبحان الله تنزيه له تعالى عن كلّ وصف عدميّ مبنيّ على النقص كالموت و العجز و الجهل و غير ذلك، و الله أكبر تنزيه مطلق له تعالى عن كلّ وصف نصفه به أعمّ من أن يكون عدميّاً أو وجوديّاً حتّى من نفس هذا الوصف لما أنّ كلّ مفهوم محدود في نفسه لا يتعدّى إلى غيره من المفاهيم و هو تعالى لا يحيط به حدّ، فافهم ذلك.

و قيل: المراد الأمر بالتكبير في الصلاة.

و التعبير عنه تعالى بربّك لا يخلو من إشعار بأنّ توحيده تعالى يومئذ كان يختصّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال في الكشّاف، في قوله:( فَكَبِّرْ ) و دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنّه قيل: و ما كان فلا تدع تكبيره.

قوله تعالى: ( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) قيل: كناية عن إصلاح العمل، و لا يخلو من وجه فإنّ العمل بمنزلة الثياب للنفس بما لها من الاعتقاد فالظاهر عنوان الباطن، و كثيراً ما يكنّى في كلامهم عن صلاح العمل بطهارة الثياب.

و قيل: كناية عن تزكية النفس و تنزيهها عن الذنوب و المعاصي.

و قيل: المراد تقصير الثياب لأنّه أبعد من النجاسة و لو طالت و انجرّت على الأرض لم يؤمن أن تتنجّس.

و قيل: المراد تطهير الأزواج من الكفر و المعاصي لقوله تعالى:( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ ) البقرة: 187.

و قيل: الكلام على ظاهره و المراد تطهير الثياب من النجاسات للصلاة و الأقرب على هذا أن يجعل قوله:( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) إشارة إلى تكبير الصلاة و تكون الآيتان مسوقتين لتشريع أصل الصلاة مقارناً للأمر بالدعوة.

١٦٠