الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 200024
تحميل: 4973


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200024 / تحميل: 4973
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و لا يرد عليه ما قيل: إنّ نزول هذه الآيات كان حيث لا صلاة أصلاً و ذلك أنّ تشريع الفرائض الخمس اليوميّة على ما هي عليها اليوم و إن كان في ليلة المعراج و هي جميعاً عشر ركعات ثمّ زيد عليها سبع ركعات إلّا أنّ أصل الصلاة كان منذ أوائل البعثة كما يشهد به ذكرها في هذه السورة و سورتي العلق و المزّمّل، و يدلّ عليه الروايات.

و قيل: المراد بتطهير الثياب التخلّق بالأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة.

و في معنى تطهير الثياب أقوال اُخر أغمضنا عن نقلها لإمكان إرجاعها إلى بعض ما تقدّم من الوجوه، و أرجح الوجوه المتقدّمة أوّلها و خامسها.

قوله تعالى: ( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) قيل: الرجز بضمّ الراء و كسرها العذاب، و المراد بهجره هجر سببه و هو الإثم و المعصية، و المعنى اهجر الإثم و المعصية.

و قيل: الرجز اسم لكلّ قبيح مستقذر من الأفعال و الأخلاق فالأمر بهجره أمر بترك كلّ ما يكرهه الله و لا يرتضيه مطلقاً، أو أمر بترك خصوص الأخلاق الرذيلة الذميمة على تقدير أن يكون المراد بتطهير الثياب ترك الذنوب و المعاصي.

و قيل: الرجز هو الصنم فهو أمر بترك عبادة الأصنام.

قوله تعالى: ( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) الّذي يعطيه سياق الآيات و يناسب المقام أن يكون المراد بالمنّ تكدير الصنيعة بذكرها للمنعم عليه كما في قوله تعالى:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى) البقرة: 264، و قوله:( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ) الحجرات: 17 و المراد بالاستكثار رؤية الشي‏ء و حسبانه كثيراً لا طلب الكثرة.

و المعنى: لا تمنن امتثالك لهذه الأوامر و قيامك بالإنذار و تكبيرك ربّك و تطهيرك ثيابك و هجرك الرجز حال كونك ترى ذلك كثيرا و تعجبه - فإنّما أنت عبد لا تملك من نفسك شيئاً إلّا ما ملّكك الله و أقدرك عليه و هو المالك لما ملّكك و القادر على ما عليه أقدرك فله الأمر و عليك الامتثال -.

١٦١

و للقوم في الآية وجوه اُخر من التفسير لا تلائم السياق تلك الملاءمة فقيل المعنى لا تعط عطيّة لتعطى أكثر منها.

و قيل: المعنى لا تمنن ما أعطاك الله من النبوّة و القرآن على الناس مستكثراً به الأجر.

و قيل: أي لا تمنن إبلاغ الرسالة على اُمتك.

و قيل: المعنى لا تضعف في عملك مستكثراً لطاعاتك.

و قيل: المعنى لا تمنن بعطائك على الناس مستكثراً له.

و قيل: أي إذا أعطيت عطيّة فأعطها لربّك و اصبر حتّى يكون هو الّذي يثيبك.

و قيل: هو نهي عن الربا المحرّم أي لا تعط شيئاً طالباً أن تعطي أكثر ممّا أعطيت.

قوله تعالى: ( وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) أي لوجه ربّك، و الصبر مطلق يشمل الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية، و المعنى و لوجه ربّك فاصبر عند ما يصيبك من المصيبة و الأذى في قيامك بالإنذار و امتثالك هذه الأوامر و اصبر على طاعة الله و اصبر عن معصيته، و هذا معنى جامع لمتفرّقات ما ذكروه في تفسير الآية كقول بعضهم: إنّه أمر بنفس الفعل من غير نظر إلى متعلّقه، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أذى المشركين، و قول بعضهم: إنّه الصبر على أداء الفرائض، إلى غير ذلك.

١٦٢

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج الطيالسي و عبدالرزّاق و أحمد و عبد بن حميد و البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و ابن الضريس و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و ابن الأنباريّ في المصاحف عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أباسلمة بن عبدالرحمن عن أوّل ما نزل من القرآن فقال: يا أيّها المدّثّر قلت: يقولون:( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ) ؟ فقال أبوسلمة: سألت جابر بن عبدالله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت. قال جابر: لا اُحدّثك إلّا ما حدّثنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: جاورت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً و نظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، و نظرت خلفي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء و الأرض فجثت منه رعبا فرجعت فقلت: دثّروني دثّروني فنزلت:( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله -وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) .

أقول: الحديث معارض بالأحاديث الآخر الدالّة على كون سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن و يؤيّدها سياق سورة اقرأ، على أنّ قوله:( فإذا الملك الّذي جاءني بحراء) يشعر بنزول الوحي عليه قبلاً.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة: قلنا: يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله( وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ ) فأمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نفتتح الصلاة بالتكبير.

أقول: و في الرواية شي‏ء فأبو هريرة ممّن آمن بعد الهجرة بكثير و السورة ممّا نزل في أوّل البعثة فأين كان أبوهريرة أو الصحابة يومئذ؟.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث الأربعمائة: تشمير الثياب طهور لها قال الله تبارك و تعالى:( وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) يعني فشمّر.

١٦٣

أقول: و في المعنى عدّة أخبار مرويّة في الكافي، و المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبدالله و أبي الحسنعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:( وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) برفع الراء، و قال: هي الأوثان.

أقول: و قوله:( هي الأوثان) من كلام جابر أو غيره من رجال السند.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) و في رواية أبي الجارود يقول: لا تعط تلتمس أكثر منها.

١٦٤

( سورة المدّثّر الآيات 8 - 31)

فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ( 8 ) فَذَٰلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( 9 ) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ( 10 ) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( 11 ) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا ( 12 ) وَبَنِينَ شُهُودًا ( 13 ) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ( 14 ) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ( 15 ) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ( 16 ) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ( 17 ) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ( 18 ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 19 ) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ( 20 ) ثُمَّ نَظَرَ ( 21 ) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ( 22 ) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( 23 ) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ( 24 ) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ( 25 ) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ( 26 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ( 27 ) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ ( 28 ) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ( 29 ) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ( 30 ) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَٰلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ ( 31 )

١٦٥

( بيان‏)

في الآيات وعيد شديد للطاعنين في القرآن الرامين له بأنّه سحر و المستهزئين لبعض ما فيه من الحقائق.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ) النقر القرع و الناقور ما ينقر فيه للتصويت، و النقر في الناقور كالنفخ في الصور كناية عن بعث الموتى و إحضارهم لفصل القضاء يوم القيامة و الجملة شرطيّة جزاؤها قوله:( فذلك ) إلخ.

قوله تعالى: ( فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ) الإشارة بقوله:( فَذلِكَ ) إلى زمان نقر الناقور و لا يبعد أن يكون المراد بيومئذ يوم إذ يرجعون إلى الله للحساب و الجزاء أو يوم إذ يرجع الخلائق إلى الله فيكون ظرفاً ليوم نقر الناقور فمن الجائز أن تعتبر قطعة من الزمان ظرفاً لبعض أجزائه كالسنة تجعل ظرفاً للشهر و الشهر يجعل ظرفاً لليوم لنوع من العناية أو يعتبر زمان متعدّداً مختلفاً باختلاف صفاته أو الحوادث الواقعة فيه ثمّ يجعل باعتبار بعض صفاته ظرفاً لنفسه باعتبار صفة اُخرى.

و المعنى فزمان نقر الناقور الواقع في يوم رجوع الخلائق إلى الله زمان عسير على الكافرين أو زمان نقر الناقور زمان عسير على الكافرين في يوم الرجوع - بناء على كون قوله:( يَوْمَئِذٍ ) قيداً لقوله:( فَذلِكَ ) أو لقوله:( يَوْمٌ ) -.

و قال في الكشّاف: فإن قلت: بم انتصب إذا و كيف صحّ أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير؟ قلت: انتصب إذا بما دلّ عليه الجزاء لأنّ المعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين، و الّذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أنّ المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأنّ يوم القيامة يأتي و يقع حين ينقر في الناقور. انتهى.

و قال: و يجوز أن يكون يومئذ مبنيّاً مرفوع المحلّ بدلاً من ذلك، و يوم عسير خبر كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير. انتهى.

١٦٦

و قوله:( غَيْرُ يَسِيرٍ ) وصف آخر ليوم مؤكّد لعسره و يفيد أنّه عسير من كلّ وجه من وجه دون وجه.

قوله تعالى: ( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) كلمة تهديد و قد استفاض النقل أنّ الآية و ما يتلوها إلى تمام عشرين آية نزلت في الوليد بن المغيرة، و ستأتي قصّته في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( وَحِيداً ) حال من فاعل( خَلَقْتُ ) و محصّل المعنى: دعني و من خلقته حال كوني وحيداً لا يشاركني في خلقه أحد ثمّ دبّرت أمره أحسن التدبير، و لا تحل بيني و بينه فأنا أكفيه.

و من المحتمل أن يكون حالاً من مفعول( ذَرْنِي ) . و قيل: حال من مفعول خلقت المحذوف و هو ضمير عائد إلى الموصول، و محصّل المعنى دعني و من خلقته حال كونه وحيداً لا مال له و لا بنون، و احتمل أيضاً أن يكون( وَحِيداً ) منصوباً بتقدير( أذم) و أحسن الوجوه أوّلها.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ) أي مبسوطاً كثيراً أو ممدوداً بمدد النماء.

قوله تعالى: ( وَ بَنِينَ شُهُوداً ) أي حضوراً يشاهدهم و يتأيّد بهم، و هو عطف على قوله:( مالًا ) .

قوله تعالى: ( وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ) التمهيد التهيئة و يتجوّز به عن بسطة المال و الجاه و انتظام الاُمور.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ) أي ثمّ يطمع أن أزيد فيما جعلت له من المال و البنين و مهّدت له من التمهيد.

و قوله:( كَلَّا ) ردع له، و قوله:( إِنَّهُ كانَ ) إلخ تعليل المردع، و العنيد المعاند المباهي بما عنده، قيل، ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله و ولده حتّى هلك.

١٦٧

قوله تعالى: ( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) الإرهاق الغشيان بالعنف، و الصعود عقبة الجبل الّتي يشقّ مصعدها شبّه ما سيناله من سوء الجزاء و مرّ العذاب بغشيانه عقبة وعر صعبة الصعود.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) التفكير معروف، و التقدير عن تفكير نظم معان و أوصاف في الذهن بالتقديم و التأخير و الوضع و الرفع لاستنتاج غرض مطلوب، و قد كان الرجل يهوى أن يقول في أمر القرآن شيئاً يبطل به

دعوته و يرضي به قومه المعاندين ففكّر فيه أ يقول: شعر أو كهانة أو هذرة جنون أو أسطورة فقدّر أن يقول: سحر من كلام البشر لأنّه يفرّق بين المرء و أهله و ولده و مواليه.

و قوله:( فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) دعا عليه على ما يعطيه السياق نظير قوله:( قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) التوبة: 30.

و قوله:( ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) تكرار للدعاء تأكيداً.

قوله تعالى: ( ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) تمثيل لحاله بعد التكفير و التقدير و هو من ألطف التمثيل و أبلغه.

فقوله:( ثُمَّ نَظَرَ ) أي ثمّ نظر بعد التفكير و التقدير نظرة من يريد أن يقضي في أمر سئل أن ينظر فيه - على ما يعطيه سياق التمثيل -.

و قوله:( ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ) العبوس تقطيب الوجه، قال في المجمع: و عبس يعبس عبوساً إذا قبض وجهه و العبوس و التكليح و التقطيب نظائر و ضدّها الطلاقة و البشاشة، و قال: و البسور بدء التكرّه في الوجه انتهى، فالمعنى ثمّ قبض وجهه و أبداً التكرّه في وجهه بعد ما نظر.

و قوله:( ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ ) الإدبار عن شي‏ء الإعراض عنه، و الاستكبار الامتناع كبراً و عتوّاً، و الأمران أعني الإدبار و الاستكبار من الأحوال الروحيّة، و إنّما رتّبا في التمثيل على النظر و العبوس و البسور و هي أحوال صوريّة محسوسة لظهورهما

١٦٨

بقوله:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ ) إلخ، و لذا عطف قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) بالفاء دون( ثُمَّ ) .

و قوله:( فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي أظهر إدباره و استكباره بقوله مفرّعاً عليه:( إِنْ هذا - أي القرآن -إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ) أي يروي و يتعلّم من السحرة.

و قوله:( إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) أي ليس بكلام الله كما يدّعيه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قيل: إنّ هذه الآية كالتأكيد للآية السابقة و إن اختلفتا معنى لأنّ المقصود منهما نفي كونه قرآناً من كلام الله، و باعتبار الاتّحاد في المقصود لم تعطف الجملة على الجملة.

قوله تعالى: ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) أي ساُدخله سقر و سقر من أسماء جهنّم في القرآن أو دركة من دركاتها، و جملة( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ) بيان أو بدل من قوله:( سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ) .

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ) تفخيم لأمرها و تهويل.

و قوله:( لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ ) قضيّة إطلاق النفي أن يكون المراد أنّها لا تبقي شيئاً ممّن نالته إلّا أحرقته، و لا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته بخلاف نار الدنيا الّتي ربّما تركت بعض ما اُلقي فيها و لم تحرقه، و إذا نالت إنساناً مثلاً نالت جسمه و صفاته الجسميّة و لم تنل شيئاً من روحه و صفاته الروحيّة، و أمّا سقر فلا تدع أحداً ممّن اُلقي فيها إلّا نالته قال تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) المعارج: 17، و إذا نالته لم تبق منه شيئاً من روح أو جسم إلّا أحرقته قال تعالى:( نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) الهمزة: 7.

و يمكن أن يراد أنّها لا تبقيهم أحياء و لا تتركهم يموتون فيكون في معنى قوله تعالى:( الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى‏ ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى) الأعلى: 13.

و قيل: المعنى لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلّا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكاً

١٦٩

حتّى يعاد فيعذّب ثانياً.

و قيل: المراد أنّها لا تبقي لهم لحماً و لا تذر عظماً، و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: ( لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ) اللوّاحة من التلويح بمعنى تغيير اللون إلى السواد و قيل: إلى الحمرة، و البشر جمع بشرة بمعنى ظاهر الجلد.

قوله تعالى: ( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) يتولّون أمر عذاب المجرمين و قد اُبهم و لم يصرّح أنّهم من الملائكة أو غيرهم غير أنّ المستفاد من آيات القيامة - و تصرّح به الآية التالية - أنّهم من الملائكة.

و قد استظهر بعضهم أنّ مميّز قوله:( تِسْعَةَ عَشَرَ ) ملكاً ثمّ قال: أ لا ترى العرب و هم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عبّاس: أنّها لمّا نزلت( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) قال أبوجهل لقريش: ثكلتكم اُمّهاتكم أ سمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر و أنتم الدهم أ يعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال أبو الأسد بن أسيد بن كلدة الجمحيّ و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين انتهى، و أنت ترى أن لا دليل في كلامه على ما يدّعيه. على أنّه سمّي الواحد من الخزنة رجلاً و لا يطلق الرجل على الملك البتّة و لا سيمّا عند المشركين الّذين قال تعالى فيهم:( وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) الزخرف: 19.

قوله تعالى: ( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) إلى آخر الآية. سياق الآية يشهد على أنّهم تكلّموا فيما ذكر في الآية من عدد خزّان النار فنزلت هذه الآية، و يتأيّد بذلك ما ورد من سبب النزول و سيوافيك في البحث الروائيّ التالي.

فقوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) المراد بأصحاب النار خزنتها الموكّلون عليها المتولّون لتعذيب المجرمين فيها كما يفيده قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و يشهد بذلك قوله بعد:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و محصّل المعنى: أنّا جعلناهم ملائكة يقدرون على ما اُمروا به كما قال:

١٧٠

( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: 6.

فليسوا من البشر حتّى يرجوا المجرمون أن يقاوموهم و يطيقوهم.

و قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) الفتنة المحنة و الاختبار. ذكروا أنّ المراد بالجعل الجعل بحسب الإخبار دون الجعل بحسب التكوين فالمعنى و ما أخبرنا عن عدّتهم أنّها تسعة عشر إلّا ليكون فتنة للّذين كفروا، و يؤيّده ذيل الكلام:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ.

و قوله:( لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) الاستيقان وجدان اليقين في النفس أي ليوقن أهل الكتاب بأنّ القرآن النازل عليك حقّ حيث يجدون ما أخبرنا به من عدّة أصحاب النار موافقاً لما ذكر فيما عندهم من الكتاب.

و قوله:( وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً ) أي بسبب ما يجدون من تصديق أهل الكتاب ذلك.

و قوله:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) اللّام في( لِيَقُولَ ) للعاقبة بخلاف اللّام في( لِيَسْتَيْقِنَ ) فللتعليل بالغاية، و الفرق أنّ قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) تحقير و تهكّم و هو كفر لا يعدّ غاية لفعله سبحانه إلّا بالعرض بخلاف الاستيقان الّذي هو من الإيمان، و لعلّ اختلاف المعنيين هو الموجب لإعادة اللّام في قوله:( وَ لِيَقُولَ ) .

و قد فسّروا( الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) بالشّكّ و الجحود بالمنافقين و فسّروا الكافرين بالمتظاهرين بالكفر من المشركين و غيرهم.

و قولهم:( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) أرادوا به التحقير و التهكّم يشيرون بهذا إلى قوله تعالى:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و المثل الوصف، و المعنى ما الّذي يعنيه من وصف الخزنة بأنّهم تسعة عشر؟ فهذه العدّة القليلة كيف تقوى على تعذيب أكثر الثقلين من الجنّ و الإنس؟

١٧١

( ذنابة لما تقدّم من الكلام في النفاق‏)

ذكر بعضهم أنّ قوله تعالى:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) الآية - بناء على أنّ السورة بتمامها مكّيّة، و أنّ النفاق إنّما حدث بالمدينة - إخبار عمّا سيحدث من المغيّبات بعد الهجرة انتهى.

أمّا كون السورة بتمامها مكّيّة فهو المتعيّن من طريق النقل و قد ادّعي عليه إجماع المفسّرين، و ما نقل عن مقاتل أنّ قوله:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ) الآية مدنيّ لم يثبت من طريق النقل، و على فرض الثبوت هو قول نظري مبنيّ على حدوث النفاق بالمدينة و الآية تخبر عنه.

و أمّا حديث حدوث النفاق بالمدينة فقد أصرّ عليه بعضهم محتجّاً عليه بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين لم يكونوا قبل الهجرة من القوّة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس أو يرجى منهم خير حتّى يتّقوهم و يظهروا لهم الإيمان و يلحقوا بجمعهم مع إبطان الكفر و هذا بخلاف حالهم بالمدينة بعد الهجرة.

و الحجّة غير تامّة - كما أشرنا إليه في تفسير سورة المنافقون في كلام حول النفاق - فإنّ علل النفاق ليست تنحصر في المخافة و الاتّقاء أو الاستدرار من خير معجّل فمن علله الطمع و لو في نفع مؤجّل و منها العصبيّة و الحميّة و منها استقرار العادة و منها غير ذلك.

و لا دليل على انتفاء جميع هذه العلل عن جميع من آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة قبل الهجرة و قد نقل عن بعضهم أنّه آمن ثمّ رجع أو آمن عن ريب ثمّ صلح.

على أنّه تعالى يقول:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَ لَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) العنكبوت: 11.

و الآيتان في سورة مكّيّة و هي سورة العنكبوت، و هما ناطقتان بوجود النفاق فيها و مع الغضّ عن كون السورة مكّيّة فاشتمال الآية على حديث الإيذاء في الله

١٧٢

و الفتنة أصدق شاهد على نزول الآيتين بمكّة فلم يكن بالمدينة إيذاء في الله و فتنة، و اشتمال الآية على قوله:( وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ) إلخ لا يدلّ على النزول بالمدينة فللنصر مصاديق اُخرى غير الفتح المعجّل.

و احتمال أن يكون المراد بالفتنة ما وقعت بمكّة بعد الهجرة غير ضائر فإنّ هؤلاء المفتونين بمكّة بعد الهجرة إنّما كانوا من الّذين آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الهجرة و إن اُوذوا بعدها.

و على مثل ذلك ينبغي أن يحمل قوله تعالى:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ ) الحجّ: 11 إن كان المراد بالفتنة العذاب و إن كانت السورة مدنيّة.

و قوله:( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) الإشارة بذلك إلى مضمون قوله:( وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ) إلخ.

و قوله:( وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) علّق تعالى العلم المنفيّ بالجنود - و هي الجموع الغليظة الّتي خلقهم وسائط لإجراء أوامره - لا بخصوص عدّتهم فأفاد بإطلاقه أنّ العلم بحقيقتهم و خصوصيّات خلقتهم و عدّتهم و ما يعملونه من عمل و دقائق الحكمة في جميع ذلك يختصّ به تعالى لا يشاركه فيه أحد، فليس لأحد أن يستقلّ عدّتهم أو يستكثر أو يطعن في شي‏ء ممّا يرجع إلى صفاتهم و هو جاهل بها.

و قوله:( وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى‏ لِلْبَشَرِ ) الضمير راجع إلى ما تقدّم من قوله:( عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ) و تأنيثه لتأنيث الخبر، و المعنى أنّ البشر لا سبيل لهم إلى العلم بجنود ربّك و إنّما أخبرنا عن خزنة النار أنّ عدّتهم تسعة عشر ليكون ذكرى لهم يتّعظون بها.

و قيل: الضمير للجنود، و قيل: لسقر، و قيل للسورة، و قيل: لنار الدنيا و هو أسخف الأقوال.

و في الآية دلالة على أنّ الخطابات القرآنيّة لعامّة البشر.

١٧٣

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ - إلى قوله -وَحِيداً ) فإنّها نزلت في الوليد بن المغيرة و كان شيخاً كبيراً مجرّباً من دهاة العرب، و كان من المستهزئين برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقعد في الحجر و يقرأ القرآن فاجتمعت قريش إلى الوليد بن المغيرة فقالوا: يا أبا عبد شمس ما هذا الّذي يقول محمّد؟ أ شعر هو أم كهانة أم خطب؟ فقال: دعوني أسمع كلامه فدنا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا محمّد أنشدني من شعرك قال: ما هو شعر و لكنّه كلام الله الّذي ارتضاه لملائكته و أنبيائه و رسله فقال: اُتل عليّ منه شيئاً!

فقرأ عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حم السجدة فلمّا بلغ قوله:( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال: فاقشعرّ الوليد و قامت كلّ شعرة في رأسه و لحيته، و مرّ إلى بيته و لم يرجع إلى قريش من ذلك.

فمشوا إلى أبي جهل فقالوا: يا أبا الحكم إنّ أبا عبد شمس صبا إلى دين محمّد أ ما تراه لم يرجع إلينا فغدا أبو جهل إلى الوليد فقال: يا عمّ نكست رؤسنا و فضحتنا و أشمتّ بنا عدوّنا و صبوت إلى دين محمّد، فقال: ما صبوت إلى دينه و لكنّي سمعت كلاماً صعباً تقشعرّ منه الجلود فقال له أبوجهل: أ خطب هو؟ قال: لا إنّ الخطب كلام متّصل و هذا كلام منثور و لا يشبه بعضه بعضاً. قال: أ فشعر هو؟ قال: لا أمّا إنّي لقد سمعت أشعار العرب بسيطها و مديدها و رملها و رجزها و ما هو بشعر. قال: فما هو؟ قال: دعني اُفكّر فيه.

فلمّا كان من الغد قالوا له: يا أعبد شمس ما تقول فيما قلناه؟ قال: قولوا: هو سحر فإنّه آخذ بقلوب الناس فأنزل على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

١٧٤

و إنّما سمّي وحيداً لأنّه قال لقريش: أنا أتوحّد لكسوة البيت سنة و عليكم في جماعتكم سنة، و كان له مال كثير و حدائق، و كان له عشر بنين بمكّة، و كان له عشرة عبيد عند كلّ عبد ألف دينار يتّجر بها و تلك القنطار في ذلك الزمان، و يقال: إنّ القنطار جلد ثور مملوّء ذهباً.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنّه رقّ له فبلغ ذلك أباجهل فأتاه فقال: يا عمّ إنّ قومك يريدون أن يجعلوا لك مالاً ليعطوه لك فإنّك أتيت محمّداً لتصيب ممّا عنده. قال: قد علمت قريش أنّي من أكثرها مالاً.

قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكر أو أنّك كاره له، قال: و ما ذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّي لا برجزه و لا بقصيده و لا بأشعار الجنّ و الله ما يشبه الّذي يقول شيئاً من هذا، و و الله إنّ لقوله الّذي يقوله حلاوة و إنّ عليه لطلاوة، و إنّه لمثمر أعلاه، و مغدق أسفله، و إنّه ليعلو و لا يعلى، و إنّه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه قال: دعني حتّى اُفكّر فلمّا فكّر قال ما هو إلّا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) .

و في المجمع، روى العيّاشيّ بإسناده عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله و أبي جعفرعليهما‌السلام أنّ الوحيد ولد الزنا. قال زرارة: ذكر لأبي جعفرعليه‌السلام عن أحد بني هشام أنّه قال في خطبته: أنا ابن الوحيد فقال: ويله لو علم ما الوحيد ما فخر بها فقلنا له، و ما هو؟ قال، من لا يعرف له أب.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و الترمذيّ و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيّان و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في البعث

١٧٥

عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال، الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفاً ثمّ يهوي و هو كذلك فيه أبداً.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى،( ثُمَّ عَبَسَ ) قال، عبس وجهه( وَ بَسَرَ ) قال، ألقى شدقه(1) .

____________________

(1) زاوية الفم.

١٧٦

( سورة المدّثّر الآيات 32 - 48)

كَلَّا وَالْقَمَرِ ( 32 ) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ( 33 ) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ( 34 ) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ ( 35 ) نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ ( 36 ) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ( 37 ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( 38 ) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( 39 ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( 40 ) عَنِ الْمُجْرِمِينَ ( 41 ) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ( 42 ) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ( 43 ) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ( 44 ) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ( 45 ) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 46 ) حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ ( 47 ) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ( 48 )

( بيان‏)

في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عمّا رموه به، و تسجيل أنّه إحدى الآيات الإلهيّة الكبرى فيه إنذار البشر كافّة و في اتّباعه فكّ نفوسهم عن رهانة أعمالهم الّتي تسوقهم إلى سقر.

قوله تعالى: ( كَلَّا ) ردع و إنكار لما تقدّم قال في الكشّاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنّهم لا يتذكّرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيراً. انتهى. فعلى الأوّل إنكار لما تقدّم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك.

قوله تعالى: ( وَ الْقَمَرِ وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ ) قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه.

١٧٧

قوله تعالى: ( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) ذكروا أنّ الضمير لسقر، و الكبر جمع كبري، و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنّها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم.

و المعنى اُقسم بكذا و كذا إنّ سقر لإحدى الدواهي الكبر - أكبرها - إنذاراً للبشر.

و لا يبعد أن يكون( كَلَّا ) ردعاً لقوله في القرآن:( إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ) و يكون ضمير( إِنَّها ) للقرآن بما أنّه آيات أو من باب مطابقة اسم إنّ لخبرها.

و المعنى: ليس كما قال اُقسم بكذا و كذا أنّ القرآن - آياته - لإحدى الآيات الإلهيّة الكبرى إنذاراً للبشر.

و قيل: الجملة( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدّر يدلّ عليه كلّا.

قوله تعالى: ( نَذِيراً لِلْبَشَرِ ) مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال ممّا يفهم من سياق قوله:( إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ) أي كبرت و عظمت حالكونها إنذاراً أي منذرة.

و قيل فيه وجوه اُخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: إنّه صفة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الآية متّصلة بأوّل السورة و التقدير قم نذيراً للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى.

قوله تعالى: ( لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) تعميم للإنذار و( لِمَنْ شاءَ ) بدل من البشر، و( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) إلخ مفعول( شاءَ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر: الاتّباع للحقّ و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتّباع و مصداقه الكفر و المعصية.

و المعنى: نذيراً لمن اتّبع منكم الحقّ و لمن لم يتّبع أي لجميعكم من غير استثناء.

و قيل:( أَنْ يَتَقَدَّمَ ) في موضع الرفع على الابتداء و( لِمَنْ شاءَ ) خبره كقولك لمن توضّأ أن يصلّي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدّم أو التأخّر أن يتقدّم أو يتأخّر، و

١٧٨

هو كقوله.( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) و المراد بالتقدّم و التأخّر السبق إلى الخير و التخلّف عنه انتهى.

قوله تعالى: ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) الباء بمعنى مع أو للسببيّة أو للمقابلة و( رَهِينَةٌ ) بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشريّ قال في الكشّاف: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) لتأنيث النفس لأنّه لو قصدت لقيل: رهين لأنّ فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و إنّما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنّه قيل: كلّ نفس بما كسبت رهن. انتهى.

و كأنّ العناية في عدّ كلّ نفس رهينة أنّ لله عليها حقّ العبوديّة بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتّى توفّي دينه و تؤدّي حقّه تعالى فإن آمنت و صلحت فكّت و اُطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائماً، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شرّ كما تقدّم في قوله تعالى:( كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور: 21.

و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله:( نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ) فإنّ كون النفس الإنسانيّة رهينة بما كسبت يوجب على كلّ نفس أن تتّقي النار الّتي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتّبع الحقّ.

قوله تعالى: ( إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ ) هم الّذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقّة و الأعمال الصالحة من متوسّطي المؤمنين، و قد تكرّر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متّصل.

و المتحصّل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أمّا السابقون المقرّبون و هم الّذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدّهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى:( وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً

١٧٩

- إلى أن قال -وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) الواقعة: 11، فهؤلاء قد استقرّوا في مستقرّ العبوديّة لا يملكون نفساً و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى:( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات: 128، فهم خارجون عن المقسم رأساً.

و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنّهم الّذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنّهم الّذين سبقت لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفيّة الضعف.

قوله تعالى: ( فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) ( فِي جَنَّاتٍ ) خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنّات للتعظيم، و التقدير هم في جنّات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالاً من أصحاب اليمين.

و قوله:( يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ) أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.

و قوله:( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.

قوله تعالى: ( قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجّه العبادي الخاصّ إلى الله سبحانه فلا يضرّه اختلاف الصلاة كمّاً و كيفاً باختلاف الشرائع السماويّة الحقّة.

قوله تعالى: ( وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حقّ الناس عملاً كما أنّ الصلاة إشارة إلى حقّ الله كذلك.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ ) المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولاً أو فعلاً و الغور فيه.

قوله تعالى: ( وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلّاً أو بعضاً، و لمّا كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحّت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.

١٨٠