الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199954
تحميل: 4972


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199954 / تحميل: 4972
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قد أسقط تعالى في قوله:( وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ ) الوسائط كلّها و نسب سقيهم إلى نفسه، و هذا أفضل ما ذكره الله تعالى من النعيم الموهوب لهم في الجنّة، و لعلّه من المزيد المذكور في قوله:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: 35.

قوله تعالى: ( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) حكاية ما يخاطبون به من عنده تعالى عند توفيته أجرهم أو بحذف القول و التقدير و يقال لهم: إنّ هذا كان لكم جزاء إلخ.

و قوله:( وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) إنشاء شكر لمساعيهم المرضيّة و أعمالهم المقبولة، و يا لها من كلمة طيّبة تطيب بها نفوسهم.

و اعلم أنّه تعالى لم يذكر فيما ذكر من نعيم الجنّة في هذه الآيات نساء الجنّة من الحور العين و هي من أهمّ ما يذكره عند وصف نعم الجنّة في سائر كلامه و يمكن أن يستظهر منه أنّه كانت بين هؤلاء الأبرار الّذين نزلت فيهم الآيات من هي من النساء.

و قال في روح المعاني: و من اللطائف على القول بنزول السورة فيهم يعني في أهل البيت أنّه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين و إنّما صرّح عزّوجلّ بولدان مخلّدين رعاية لحرمة البتول و قرّة عين الرسول، انتهى.

( بحث روائي‏)

في إتقان السيوطيّ، عن البيهقيّ في دلائل النبوّة بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكّة اقرأ باسم ربّك و ن و المزّمّل - إلى أن قالا - و ما نزل بالمدينة ويل للمطفّفين، و البقرة، و آل عمران، و الأنفال، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و محمّد، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان. الحديث.

و فيه، عن ابن الضريس في فضائل القرآن بإسناده عن عثمان بن عطاء الخراسانيّ

٢٢١

عن أبيه عن ابن عبّاس قال: كان إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة ثمّ يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أوّل ما اُنزل من القرآن اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن، ثمّ يا أيّها المزّمّل - إلى أن قال - ثمّ اُنزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ القتال ثمّ الرعد ثمّ الرحمن ثمّ الإنسان. الحديث.

و فيه، عن البيهقيّ في الدلائل بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ أوّل ما أنزل الله على نبيّه من القرآن اقرأ باسم ربّك، و ذكر مثل حديث عكرمة و الحسين و فيه ذكر ثلاث من السور المكّيّة الّتي سقطت من روايتهما و هي الفاتحة و الأعراف و كهيعص.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن الضريس و ابن مردويه و البيهقيّ عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بالمدينة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) الآية قال: نزلت هذه الآية في عليّ بن أبي طالب و فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: الآية تشارك سائر آيات صدر السورة ممّا تقدّم عليها أو تأخّر عنها في سياق واحد متّصل فنزولها فيهماعليه‌السلام لا ينفكّ نزولها جميعاً بالمدينة.

و في الكشّاف: و عن ابن عبّاس: أنّ الحسن و الحسين مرضاً فعادهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناس معه فقالوا: يا أباالحسن لو نذرت على ولدك (ولديك ظ) فنذر عليّ و فاطمة و فضّة جارية لهما إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام فشفيا و ما معهم شي‏ء.

فاستقرض عليّ من شمعون الخيبريّ اليهوديّ ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعاً و اختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل و قال: السلام عليكم أهل بيت محمّد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني

٢٢٢

أطعمكم الله من موائد الجنّة فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلّا الماء و أصبحوا صياماً.

فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، و وقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها(1) ببطنها و غارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل و قال: خذها يا محمّد هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.

أقول: الرواية مرويّة بغير واحد من الطرق عن عطاء عن ابن عبّاس و نقلها البحرانيّ في غاية المرام، عن أبي المؤيّد الموفّق بن أحمد في كتاب فضائل أميرالمؤمنين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عنه بإسناد آخر عن الضحّاك عن ابن عبّاس و عن الحموينيّ في كتاب فرائد السمطين بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و عن الثعلبيّ بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس، و رواه في المجمع، عن الواحدي في تفسيره.

و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن سعيد بن المسيب عن عليّ بن أبي طالب أنّه قال سألت النبيّ عن ثواب القرآن: فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء.

فأوّل ما نزل عليه بمكّة فاتحة الكتاب ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن - إلى أن قال - و أوّل ما نزل بالمدينة سورة البقرة ثمّ الأنفال ثمّ آل عمران ثمّ الأحزاب ثمّ الممتحنة ثمّ النساء ثمّ إذا زلزلت ثمّ الحديد ثمّ سورة محمّد ثمّ الرعد ثمّ سورة الرحمن ثمّ هل أتى. الحديث.

و فيه، عن أبي حمزة الثماليّ في تفسيره قال: حدّثني الحسن بن الحسن أبوعبدالله بن الحسن: أنّها مدنيّة نزلت في عليّ و فاطمة السورة كلّها.

و في تفسير القميّ، عن أبيه عن عبدالله بن ميمون عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان

____________________

(1) بطنها بظهرها ظ.

٢٢٣

عند فاطمةعليها‌السلام شعير فجعلوه عصيدة(1) فلمّا أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه ثلثاً فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: اليتيم رحمكم الله فقام عليّعليه‌السلام فأعطاه الثلث ثمّ جاء أسير فقال: الأسير رحمكم الله فأعطاه عليّعليه‌السلام الثلث و ما ذاقوها فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم و هي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك لله عزّوجلّ.

أقول: القصّة كما ترى ملخّصة في الرواية و روى ذلك البحراني في غاية المرام، عن المفيد في الاختصاص، مسنداً و عن ابن بابويه في الأمالي، بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس، و بإسناده عن سلمة بن خالد عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام ، و عن محمّد بن العبّاس بن ماهيار في تفسيره بإسناده عن أبي كثير الزبيريّ عن عبدالله بن عبّاس، و في المناقب، أنّه مرويّ عن الأصبغ بن نباتة.

و في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام : في حديث يقول فيه للقوم بعد موت عمر بن الخطّاب: نشدتكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه و في ولده( إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً ) إلى آخر السورة غيري؟ قالوا: لا.

و في كتاب الخصال، في احتجاج عليّ على أبي بكر قال: اُنشدك بالله أنا صاحب الآية( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) أم أنت؟ قال: بل أنت.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه و ابن عساكر عن ابن عمر قال: جاء رجل من الحبشة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سل و استفهم فقال: يا رسول الله فضّلتم علينا بالألوان و الصور و النبوّة أ فرأيت إن آمنت بما آمنت به و عملت بمثل ما عملت به أنّي لكائن معك في الجنّة؟ قال: نعم و الّذي نفسي بيده إنّه ليرى بياض الأسود في الجنّة من مسيرة ألف عام. ثمّ قال: من قال لا إله إلّا الله كان له عهد عندالله و من قال: سبحان الله و بحمده كتبت له مائة ألف حسنة و أربعة و عشرون ألف حسنة و نزلت عليه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ

____________________

(1) العصيدة: شعير يلت بالسمن و يطبخ.

٢٢٤

الدَّهْرِ - إلى قوله -مُلْكاً كَبِيراً ) .

فقال الحبشيّ: و إنّ عيني لترى ما ترى عيناك في الجنّة؟ قال: نعم فاشتكى حتّى فاضت نفسه. قال عمر: فلقد رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّيه في حفرته بيده.

و فيه، أخرج أحمد في الزهد عن محمّد بن مطرف قال: حدّثني الثقة: أنّ رجلاً أسود كان يسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن التسبيح و التهليل فقال له عمر بن الخطّاب: مه أكثرت على رسول الله فقال: مه يا عمر و اُنزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) حتّى إذا أتى على ذكر الجنّة زفر الأسود زفرة خرجت نفسه فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مات شوقاً إلى الجنّة.

و فيه، أخرج ابن وهب عن ابن زيد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه السورة( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ) و قد اُنزلت عليه و عنده رجل أسود فلمّا بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنّة.

أقول: و هذه الروايات الثلاث على تقدير صحّتها لا تدلّ على أزيد من كون نزول السورة مقارناً لقصّة الرجل و أمّا كونها سبباً للنزول فلا، و هذا المعنى في الرواية الأخيرة أظهر و بالجملة لا تنافي الروايات الثلاث نزول السورة في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ رواية ابن عمر للقصّة الظاهرة في حضوره القصّة و قد هاجر إلى المدينة و هو ابن إحدى عشرة سنة من شواهد وقوع القصّة بالمدينة.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج النحّاس عن ابن عبّاس قال: نزلت سورة الإنسان بمكّة.

أقول: هو تلخيص حديث طويل أورده النحّاس في كتاب النّاسخ و المنسوخ، و قد نقله في الإتقان و هو معارض لما تقدّم نقله مستفيضاً عن ابن عبّاس من نزول السورة بالمدينة و أنّها نزلت في أهل البيتعليهم‌السلام .

على أنّ سياق آياتها و خاصّة قوله:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ و يُطْعِمُونَ الطَّعامَ )

٢٢٥

إلخ سياق قصّة واقعة و ذكر الأسير فيمن أطعموهم نعم الشاهد على نزول الآيات بالمدينة إذ لم يكن للمسلمين أسير بمكّة كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك.

قال بعضهم ما ملخّصه: أنّ الروايات مختلفة في مكّيّة هذه السورة و مدنيّتها و الأرجح أنّها مكّيّة بل الظاهر من سياقها أنّها من عتائق السور القرآنيّة النازلة بمكّة في أوائل البعثة يؤيّد ذلك ما ورد فيها من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ كما يؤيّده ما ورد فيها من أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ و لا يداهن المشركين من الأوامر الّتي كانت تنزّل بمكّة عند اشتداد الأذى على الدعوة و أصحابها بمكّة كما في سورة القلم و المزّمّل و المدّثّر فلا عبرة باحتمال مدنيّة السورة.

و هو فاسد أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ فليس ذلك ممّا يختصّ بالسور المكّيّة حتّى يقضى بها على كون السورة مكّيّة فهذه سورة الرحمن و سورة الحجّ مدنيّتان على ما تقدّمت في الروايات المشتملة على ترتيب نزول السور القرآنيّة و قد اشتملتا من صور النعم الحسّيّة المفصّلة الطويلة و صور العذاب الغليظ على ما يربو و يزيد على هذه السورة بكثير.

و أمّا ما ذكره من اشتمال السورة على أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و أن لا يطيع منهم آثماً أو كفوراً و لا يداهنهم و يثبت على ما نزل عليه من الحقّ ففيه أنّ هذه الأوامر واقعة في الفصل الثاني من آيات السورة و هو قوله:( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) إلى آخر السورة و من المحتمل جدّاً أن يكون هذا الفصل من الآيات - و هو ذو سياق تامّ مستقلّ - نازلاً بمكّة، و يؤيّده ما في كثير من الروايات المتقدّمة أنّ الّذي نزل في أهل البيت بالمدينة هو الفصل الأوّل من الآيات، و على هذا أوّل السورة مدنيّ و آخرها مكّيّ.

٢٢٦

و لو سلّم نزولها دفعة واحدة فأمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر لا اختصاص له بالسور المكّيّة فقد ورد في قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف: 28 و الآية - على ما روي - مدنيّة و الآية - كما ترى - متّحدة المعنى مع قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) إلخ و هي في سياق شبيه جدّاً بسياق هذه الآيات فراجع و تأمّل.

ثمّ الّذي كان يلقاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذى المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض و الجفاة من ضعفاء الإيمان لم يكن بأهون من أذى المشركين بمكّة يشهد بذلك أخبار سيرته.

و لا دليل أيضاً على انحصار الإثم و الكفور في مشركي مكّة فهناك غيرهم من الكفّار و قد أثبت القرآن الإثم لجمع من المسلمين في موارد كقوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ) النور: 11، و قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) النساء: 112.

و في المجمع، و روى العيّاشيّ بإسناده عن عبدالله بن بكير عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قوله:( لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) قال: كان شيئاً و لم يكن مذكوراً.

أقول: و روي فيه، أيضاً عن عبدالأعلى مولى آل سام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله.

و فيه، أيضاً عن العيّاشيّ بإسناده عن سعيد الحذّاء عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان مذكوراً في العلم و لم يكن مذكوراً في الخلق.

أقول: يعني أنّه كان له ثبوت في علم الله ثمّ خلق بالفعل فصار مذكوراً فيمن خلق.

و في الكافي، بإسناده عن مالك الجهنيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في الآية قال: كان مقدّراً غير مذكور.

أقول: هو في معنى الحديث السابق.

و في تفسير القمّيّ: في الآية قال: لم يكن في العلم و لا في الذكر، و في حديث آخر: كان في العلم و لم يكن في الذكر.

٢٢٧

أقول: معنى الحديث الأوّل أنّه لم يكن في علم الناس و لا فيمن يذكرونه فيما بينهم، و معنى الثاني أنّه كان في علم الله و لم يكن مذكوراً عند الناس.

و في تفسير القمّيّ، أيضاً في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله تعالى( أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال: ماء الرجل و المرأة اختلطا جميعاً.

و في الكافي، بإسناده عن حمران بن أعين قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قوله عزّوجلّ:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) قال: إمّا آخذ فهو شاكر و إمّا تارك فهو كافر.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره، بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبي جعفرعليه‌السلام مثله، و في التوحيد، بإسناده إلى حمزة بن الطيّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما يقرب منه و لفظه: عرّفناه إمّا آخذاً و إمّا تاركاً.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يعبّر عنه لسانه فإذا عبّر عنه لسانه إمّا شاكراً و إمّا كفوراً و الله تعالى أعلم.

و في أمالي الصدوق، بإسناده عن الصادق عن أبيهعليهما‌السلام في حديث:( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً ) قال: هي عين في دار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفجر إلى دور الأنبياء و المؤمنين( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) يعني عليّاً و فاطمة و الحسن و الحسينعليهم‌السلام و جاريتهم( وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) يقول عابساً كلوحاً( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ ) يقول: على شهوتهم للطعام و إيثارهم له( مِسْكِيناً ) من مساكين المسلمين( وَ يَتِيماً ) من يتامى المسلمين( وَ أَسِيراً ) من اُسارى المشركين.

و يقولون إذا أطعموهم:( إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً ) قال: و الله ما قالوا هذا لهم و لكنّهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم يقولون: لا نريد جزاءً تكافئوننا به و لا شكوراً تثنون علينا به، و لكنّا إنّما أطعمناكم لوجه الله و طلب ثوابه.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن

٢٢٨

مردويه عن الحسن قال: كان الاُسارى مشركين يوم نزلت هذه الآية( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً ) .

أقول: مدلول الرواية نزول الآية بالمدينة، و نظيرها ما رواه فيه عن عبد بن حميد عن قتادة، و ما رواه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و ما رواه عن عبدالرزّاق و ابن المنذر عن ابن عبّاس.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله:( يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) قال: يقبض ما بين الأبصار.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن إسحاق المدنيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام في صفة الجنّة قال: و الثمار دانية منهم و هو قوله عزّوجلّ:( وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا ) من قربها منهم يتناول المؤمن من النوع الّذي يشتهيه من الثمار بفيه و هو متكّئ و إنّ الأنواع من الفاكهة ليقلن لوليّ الله: يا وليّ الله كلمني قبل أن تأكل هذه قبلي.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ) قال: مسوّرون.

و في المعاني، بإسناده عن عبّاس بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام و كنت عنده ذات يوم: أخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) ما هذا الملك الّذي كبّر الله عزّوجلّ حتّى سمّاه كبيراً؟ قال: إذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة أرسل رسولاً إلى وليّ من أوليائه فيجد الحجبة على بابه فتقول له: قف حتّى نستأذن لك، فما يصل إليه رسول ربّه إلّا بإذن فهو قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) .

و في المجمع:( وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً ) لا يزول و لا يفنى: عن الصادقعليه‌السلام .

و فيه:( عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ ) و روي عن الصادقعليه‌السلام في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها.

٢٢٩

( كلام في هوية الإنسان على ما يفيده القرآن‏)

لا ريب أن في هذا الهيكل المحسوس الّذي نسمّيه إنساناً مبدءً للحياة ينتسب إليه الشعور و الإرادة، و قد عبّر تعالى عنه في الكلام في خلق الإنسان - آدم - بالروح و في سائر المواضع من كلامه بالنفس قال تعالى:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ) الحجر: 29، ص: 72، و قال:( ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) الم السجدة: 9.

و الّذي يسبق من الآيتين إلى النظر البادئ أنّ الروح و البدن حقيقتان اثنتان متفارقتان نظير العجين المركّب من الماء و الدقيق و الإنسان مجموع الحقيقتين فإذا قارنت الروح الجسد كان إنساناً حيّاً و إذا فارقت فهو الموت.

لكن يفسّرها قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: 11 حيث يفيد أنّ الروح الّتي يتوفّاها و يأخذها قابض الأرواح هي الّتي يعبّر عنها بلفظة( كم ) و هو الإنسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع فالمراد بنفخ الروح في الجسد جعل الجسد بعينه إنساناً لا ضمّ واحد إلى واحد آخر يغايره في ذاته و آثار ذاته فالإنسان حقيقة واحدة حين تعلّق روحه ببدنه و بعد مفارقة روحه البدن.

و يفيد هذا المعنى قوله تعالى:( وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: 14 فالّذي أنشأه الله خلقاً آخر هو النطفة الّتي تكوّنت علقة ثمّ مضغة ثمّ عظاماً بعينها.

و في معناها قوله تعالى:( هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ) فتقييد الشي‏ء المنفي بالمذكور يعطي أنّه كان شيئاً لكن لم يكن مذكوراً

٢٣٠

فقد كان أرضاً أو نطفة مثلاً لكن لم يكن مذكوراً أنّه الإنسان الفلانيّ ثمّ صار هو هو.

فمفاد كلامه تعالى أنّ الإنسان واحد حقيقيّ هو المبدأ الوحيد لجميع آثار البدن الطبيعيّة و الآثار الروحيّة كما أنّه مجرّد في نفسه عن المادّة كما يفيده أمثال قوله تعالى:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) و قوله:( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) الزمر: 42 و قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) و قد تقدّم بيانه.

٢٣١

( سورة الإنسان الآيات 23 - 31)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا ( 23 ) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ( 24 ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( 25 ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ( 26 ) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ( 27 ) نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ( 28 ) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ( 29 ) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 30 ) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 31 )

( بيان‏)

لمّا وصف جزاء الأبرار و ما قدّر لهم من النعيم المقيم و الملك العظيم بما صبروا في جنب الله وجّه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمره بالصبر لحكم ربّه و أن لا يطيع هؤلاء الآثمين و الكفّار المحبّين للعاجلة المتعلّقين بها المعرضين عن الآخرة من المشركين و سائر الكفّار و المنافقين و أهل الأهواء، و أن يذكر اسم ربّه و يسجد له و يسبّحه مستمرّاً عليه ثمّ عمّم الحكم لاُمّته بقوله:( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) .

٢٣٢

فهذا وجه اتّصال الآيات بما قبلها و سياقها مع ذلك لا يخلو من شبه بالسياقات المكّيّة و على تقدير مكّيّتها فصدر السورة مدنيّ و ذيلها مكّيّ.

قوله تعالى: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا ) تصدير الكلام بأنّ و تكرار ضمير المتكلّم مع الغير و الإتيان بالمفعول المطلق كلّ ذلك للتأكيد، و لتسجيل أنّ الّذي نزل من القرآن نجوماً متفرّقة هو من الله سبحانه لم يداخله نفث شيطانيّ و لا هو نفسانيّ.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) تفريع على ما هو لازم مضمون الآية السابقة فإنّ لازم كون الله سبحانه هو الّذي نزّل القرآن عليه أن يكون ما في القرآن من الحكم حكم ربّه يجب أن يطاع فالمعنى إذا كان تنزيله منّا فما فيه من الحكم حكم ربّك فيجب عليك أن تصبر له فاصبر لحكم ربّك.

و قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) ورود الترديد في سياق النهي يفيد عموم الحكم فالنهي عن طاعتهما سواء اجتمعا أو افترقا، و الظاهر أنّ المراد بالإثم المتلبّس بالمعصية و بالكفور المبالغ في الكفر فتشمل الآية الكفّار و الفساق جميعاً.

و سبق النهي عن طاعة الإثم و الكفور بالأمر بالصبر لحكم ربّه يفيد كون النهي مفسّراً للأمر فمفاد النهي أن لا تطع منهم آثماً إذا دعاك إلى إثمه و لا كفوراً إذا دعاك إلى كفره لأنّ إثم الآثم منهم و كفر الكافر مخالفان لحكم ربّك و أمّا تعليق الحكم بالوصف المشعر بالعلّيّة فإنّما يفيد علّيّة الإثم و الكفر للنهي عن الطاعة مطلقاً لا علّيّتهما للنهي إذا دعا الآثم إلى خصوص إثمه و الكافر إلى خصوص كفره.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا ) أي داوم على ذكر ربّك و هو الصلاة في كلّ بكرة و أصيل و هما الغدوّ و العشيّ.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) من للتبعيض و المراد بالسجود له الصلاة، و يقبل ما في الآيتين من ذكر اسمه بكرة و أصيلاً و السجود

٢٣٣

له بعض الليل الانطباق على صلاة الصبح و العصر و المغرب و العشاء و هذا يؤيّد نزول الآيات بمكّة قبل فرض الفرائض الخمس بقوله في آية الإسراء:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) إسراء: 78.

فالآيتان كقوله تعالى:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) هود: 114، و قوله:( وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ ) طه: 130.

نعم قيل: إنّ الأصيل يطلق على ما بعد الزوال فيشمل قوله:( وَ أَصِيلًا ) وقتي صلاتي الظهر و العصر جميعاً، و لا يخلو من وجه.

و قوله:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) أي في ليل طويل و وصف الليل بالطويل توضيحيّ لا احترازيّ، و المراد بالتسبيح صلاة الليل، و احتمل أن يكون طويلاً صفة لمفعول مطلق محذوف، و التقدير سبّحه في الليل تسبيحاً طويلاً.

قوله تعالى: ( إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا ) تعليل لما تقدّم من الأمر و النهي و الإشارة بهؤلاء إلى جمع الإثم و الكفور المدلول عليه بوقوع النكرة في سياق النهي، و المراد بالعاجلة الحياة الدنيا، و عدّ اليوم ثقيلاً من الاستعارة، و المراد بثقله شدّته كأنّه محمول ثقيل يشقّ حمله، و اليوم يوم القيامة.

و كون اليوم وراءهم تقرّره أمامهم لأنّ وراء تفيد معنى الإحاطة، أو جعلهم إيّاه خلفهم و وراء ظهورهم بناء على إفادة( يَذَرُونَ ) معنى الإعراض.

و المعنى: فاصبر لحكم ربّك و أقم الصلاة و لا تطع الآثمين و الكفّار منهم لأنّ هؤلاء الآثمين و الكفّار يحبّون الحياة الدنيا فلا يعملون إلّا لها و يتركون أمامهم يوماً شديداً أو يعرضون فيجعلون خلفهم يوماً شديداً سيلقونه.

قوله تعالى: ( نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) الشدّ خلاف الفكّ، و الأسر في الأصل الشدّ و الربط و يطلق على ما يشدّ و يربط به فمعنى شددنا أسرهم أحكمنا ربط مفاصلهم بالرباطات و الأعصاب و العضلات أو الأسر

٢٣٤

بمعنى المأسور و المعنى أحكمنا ربط أعضائهم المختلفة المشدودة بعضها ببعض حتّى صار الواحد منهم بذلك إنساناً واحداً.

و قوله:( وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا ) أي إذا شئنا بدّلناهم أمثالهم فذهبنا بهم و جئنا بأمثالهم مكانهم و هو إماته قرن و إحياء آخرين، و قيل: المراد به تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة القيامة و هو بعيد من السياق.

و الآية في معنى دفع الدخل كان متوهّماً يتوهّم أنّهم بحبّهم للدنيا و إعراضهم عن الآخرة يعجزونه تعالى و يفسدون عليه إرادته منهم أن يؤمنوا و يطيعوا فاُجيب بأنّهم مخلوقون لله خلقهم و شدّ أسرهم و إذا شاء أذهبهم و جاء بآخرين فكيف يعجزونه و خلقهم و أمرهم و حياتهم و موتهم بيده.؟

قوله تعالى: ( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى‏ رَبِّهِ سَبِيلًا ) تقدّم تفسيره في سورة المزّمّل و الإشارة بهذه إلى ما ذكر في السورة.

قوله تعالى: ( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) الاستثناء من النفي يفيد أنّ مشيّة العبد متوقّفة في وجودها على مشيّته تعالى فلمشيّته تعالى تأثير في فعل العبد من طريق تعلّقها بمشيّة العبد، و ليست متعلّقة بفعل العبد مستقلّاً و بلا واسطة حتّى تستلزم بطلان تأثير إرادة العبد و كون الفعل جبريّاً و لا أنّ العبد مستقلّ في إرادة يفعل ما يشاؤه شاء الله أو لم يشأ، فالفعل اختياريّ لاستناده إلى اختيار العبد، و أمّا اختيار العبد فليس مستنداً إلى اختيار آخر، و قد تكرّر توضيح هذا البحث في مواضع ممّا تقدّم.

و الآية مسوقة لدفع توهّم أنّهم مستقلّون في مشيّتهم منقطعون من مشيّة ربّهم، و لعلّ تسجيل هذا التنبيه عليهم هو الوجه في الالتفات إلى الخطاب في قوله( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) كما أنّ الوجه في الالتفات من التكلّم بالغير إلى الغيبة في قوله:( يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ ) هو الإشارة إلى علّة الحكم فإنّ مسمّى هذا الاسم الجليل يبتدئ منه كلّ شي‏ء و ينتهي إليه كلّ شي‏ء فلا تكون مشيّة إلّا بمشيّته

٢٣٥

و لا تؤثّر مشيّة إلّا بإذنه.

و قوله:( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) توطئة لبيان مضمون الآية التالية.

قوله تعالى: ( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) مفعول( يَشاءُ ) محذوف يدلّ عليه الكلام، و التقدير يدخل في رحمته من يشاء دخوله في رحمته، و لا يشاء إلّا دخول من آمن و اتّقى، و أمّا غيرهم و هم أهل الإثم و الكفر فبيّن حالهم بقوله:( وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

و الآية تبيّن سنّته تعالى الجارية في عباده من حيث السعادة و الشقاء، و قد علّل ذلك بما في ذيل الآية السابقة من قوله( إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ) فأفاد به أنّ سنّته تعالى ليست سنّة جزافيّة مبنيّة على الجهالة بل هو يعامل كلّاً من الطائفتين بما هو أهل له و سينبّئهم حقيقة ما كانوا يعملون.

( بحث روائي‏)

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله:( وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ) قال: حدّثنا أنّها نزلت في عدوّ الله أبي جهل.

أقول: و هو أشبه بالتطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى:( وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ) روي عن الرضاعليه‌السلام : أنّه سأله أحمد بن محمّد عن هذه الآية و قال: ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل.

و في الخرائج و الجرائح، عن القائمعليه‌السلام : في حديث يقول لكامل بن إبراهيم المدنيّ: و جئت تسأل عن مقالة المفوّضة كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله عزّوجلّ فإذا شاء شئنا، و الله يقول( وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول إذا خطب: كلّ ما هو آت قريب، لا بعد لما

٢٣٦

يأتي، و لا يعجل الله لعجلة أحد، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً و يريد الله أمراً، ما شاء الله كان و لو كره الناس، لا مباعد لما قرّب الله، و لا مقرّب لما باعد الله، لا يكون شي‏ء إلّا بإذن الله.

أقول: و في بعض الروايات من طرق أهل البيتعليهم‌السلام تطبيق الحكم في قوله:( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ) و الرحمة في قوله:( يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ) على الولاية و هو من الجري أو البطن و ليس من التفسير في شي‏ء.

٢٣٧

( سورة المرسلات مكّيّة و هي خمسون آية)

( سورة المرسلات الآيات 1 - 15)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ( 1 ) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ( 2 ) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ( 3 ) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ( 4 ) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ( 5 ) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ( 6 ) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ( 8 ) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ( 9 ) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ( 10 ) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ( 11 ) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ( 12 ) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ( 13 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ( 14 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 15 )

( بيان‏)

تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكّد الإخبار بوقوعه و تشفّعه بالوعيد الشديد للمكذّبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرّر فيها قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) عشر مرّات.

و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) الآية و ما يتلوها إلى تمام ستّ آيات إقسام منه تعالى باُمور يعبّر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكراً عذراً أو نذراً، و الاُوليان أعني المرسلات عرفاً و العاصفات عصفاً لا تخلوان لو خلّيتا و نفسهما مع الغضّ عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكنّ الأخيرة أعني الملقيات ذكراً عذراً أو نذراً كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماماً للحجّة أو إنذاراً و بقيّة الصفات

٢٣٨

لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.

و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلّف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصّة في الصفة الأخيرة.

و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهراً بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتّى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجّهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.

فالوجه هو الغضّ عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدّاً لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافّات:( وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) و في معناها قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: 28.

فقوله:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ) إقسام منه تعالى بها و العرف بالضمّ فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبّه به الاُمور إذا تتابعت يقال: جاؤا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفاً أي متتابعة و جاؤا إليه عرفاً واحداً أي متتابعين، و العرف أيضاً المعروف من الأمر و النهي و( عُرْفاً ) حال بالمعنى الأوّل مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح الّتي تنزّل بها الملائكة قال تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) النحل: 2 و قال( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) المؤمن: 15.

و المعنى اُقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.

و قيل: المراد بالمرسلات عرفاً الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدّمت الإشارة إلى

٢٣٩

ضعفه، و مثله في الضعف القول بأنّ المراد بها الأنبياءعليهم‌السلام فلا يلائمه ما يتلوها.

قوله تعالى: ( فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ) عطف على المرسلات و المراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح إي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما اُرسلت إليه، و المعنى اُقسم بالملائكة الّذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.

قوله تعالى: ( وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ) إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) عبس: 16 و المعنى و اُقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبيّ ليتلقّاه.

و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ) المراد به الفرق بين الحقّ و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرّعة على النشر المذكور.

قوله تعالى: ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ) المراد بالذكر القرآن يقرؤنه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقروّ عليهم.

و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء مترتّبة فإنّ الفرق بين الحقّ و الباطل و الحلال و الحرام يتحقّق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقّق و بالتلاوة يتمّ تحقّقه فالنشر يترتّب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتّب عليها تمام وجوده بالإلقاء.

و قوله:( عُذْراً أَوْ نُذْراً ) هما من المفعول له و( أَوْ ) للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذوراً و المعنى أنّهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفاً لغيرهم.

٢٤٠