الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199879
تحميل: 4967


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199879 / تحميل: 4967
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الملائكة الأربعة المدبّرون لاُمور الدنيا: جبرائيل و ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل، فجبرائيل يدبّر أمر الرياح و الجنود و الوحي، و ميكائيل يدبّر أمر القطر و النبات، و عزرائيل موكّل بقبض الأرواح، و إسرافيل يتنزّل بالأمر عليهم و هو صاحب الصور، و قيل: إنّها الأفلاك يقع فيها أمر الله فيجري بها القضاء في الدنيا.

و هناك قول بأنّ الإقسام في الآيات بمضاف محذوف و التقدير و ربّ النازعات نزعاً إلخ.

و أنت خبير بأنّ سياق الآيات الخمس سياق واحد متّصل متشابه الأجزاء لا يلائم كثيراً من هذه الأقوال القاضية باختلاف المعاني المقسم بها ككون المراد بالنازعات الملائكة القابضين لأرواح الكفّار، و بالناشطات الوحش، و بالسابحات السفن، و بالسابقات المنايا تسبق الآمال و بالمدبّرات الأفلاك.

مضافاً إلى أنّ كثيراً منها لا دليل عليها من جهة السياق إلّا مجرّد صلاحية اللفظ بحسب اللغة للاستعمال فيه أعمّ من الحقيقة و المجاز.

على أنّ كثيراً منها لا تناسب سياق آيات السورة الّتي تذكر يوم البعث و تحتجّ على وقوعه على ما تقدّم في سورة المرسلات من حديث المناسبة بين ما في كلامه تعالى من الإقسام و جوابه.

و الّذي يمكن أن يقال - و الله أعلم - أنّ ما في هذه الآيات من الأوصاف المقسم بها يقبل الانطباق على صفات الملائكة في امتثالها للأوامر الصادرة عليهم من ساحة العزّة المتعلّقة بتدبير اُمور هذا العالم المشهود ثمّ قيامهم بالتدبير بإذن الله.

و الآيات شديدة الشبه سياقاً بآيات مفتتح سورة الصافّات:( وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ) و آيات مفتتح سورة المرسلات:( وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَ النَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ) و هي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله غير أنّها تصف ملائكة الوحي، و الآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله.

ثمّ إنّ أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة

٢٨١

قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) و قد أطلق التدبير و لم يقيّد بشي‏ء دون شي‏ء فالمراد به التدبير العالمي بإطلاقه، و قوله( أَمْراً ) تمييز أو مفعول به للمدبّرات و مطلق التدبير شأن مطلق الملائكة فالمراد بالمدبّرات مطلق الملائكة.

و إذ كان قوله:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) مفتتحاً بفاء التفريع الدالّة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق، و كذا قوله:( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالّة على تفرّع السبق على السبح دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث:( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) فمدلولها أنّهم يدبّرون الأمر بعد ما سبقوا إليه و يسبقون إليه بعد ما سبحوا أي أسرعوا إليه عند النزول فالمراد بالسابحات و السابقات هم المدبّرات من الملائكة باعتبار نزولهم إلى ما اُمروا بتدبيره.

فالآيات الثلاث في معنى قوله تعالى:( لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ) الرعد: 11 على ما تقدّم من توضيح معناه فالملائكة ينزلون على الأشياء و قد تجمّعت عليها الأسباب و تنازعت فيها وجوداً و عدماً و بقاء و زوالاً و في مختلف أحوالها فما قضاه الله فيها من الأمر و أبرم قضاءه أسرع إليه الملك المأمور به - بما عيّن له من المقام - و سبق غيره و تمّم السبب الّذي يقتضيه فكان ما أراده الله فافهم ذلك.

و إذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما اُمروا به من أمر و سبقهم إليه و تدبيره تعيّن حمل قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) على انتزاعهم و خروجهم من موقف الخطاب إلى ما اُمروا به فنزعهم غرقاً شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدّة و جدّ، و نشطهم خروجهم من موقفهم نحوه كما أنّ سبحهم إسراعهم إليه بعد الخروج و يتعقّب ذلك سبقهم إليه و تدبير الأمر بإذن الله.

فالآيات الخمس أقسام بما يتلبّس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من اُمور هذا العالم المشهود من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير.

و فيها إشارة إلى نظام التدبير الملكوتي عند حدوث الحوادث كما أنّ الآيات التالية أعني قوله:( هَلْ أَتاكَ ) إلخ إشارة إلى التدبير الربوبيّ الظاهر في هذا العالم.

٢٨٢

و في التدبير الملكوتيّ حجّة على البعث و الجزاء كما أنّ في التدبير الدنيويّ المشهود حجّة عليه على ما سيوافيك إن شاء الله بيانه.

هذا ما يعطيه التدبّر في سياق الآيات الكريمة و يؤيّده بعض التأييد ما سيأتي من الأخبار في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

( كلام في أنّ الملائكة وسائط في التدبير)

الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءاً و عوداً على ما يعطيه القرآن الكريم بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادّيّة في العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده.

أمّا في العود أعني حال ظهور آيات الموت و قبض الروح و إجراء السؤال و ثواب القبر و عذابه و إماتة الكلّ بنفخ الصور و إحيائهم بذلك و الحشر و إعطاء الكتاب و وضع الموازين و الحساب و السوق إلى الجنّة و النار فوساطتهم فيها غنيّ عن البيان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فوق حدّ الإحصاء.

و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه و تسديد النبيّ و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.

و أمّا وساطتهم في تدبير الاُمور في هذه النشأة فيدلّ عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) بما تقدّم من البيان.

و كذا قوله تعالى:( جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ) فاطر: 1 الظاهر بإطلاقه - على ما تقدّم من تفسيره - في أنّهم خلقوا و شأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى و بين خلقه و يرسلوا لإنفاذ أمره الّذي يستفاد من قوله

٢٨٣

تعالى في صفتهم:( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء: 27، و قوله:( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) النحل: 50 و في جعل الجناح لهم إشارة ذلك.

فلا شغل للملائكة إلّا التوسّط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم و ليس ذلك على سبيل الاتّفاق بأن يجري الله سبحانه أمراً بأيديهم ثمّ يجري مثله لا بتوسيطهم فلا اختلاف و لا تخلّف في سنّته تعالى:( إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود: 56، و قال:( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا ) فاطر: 43.

و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاماً و أمر العالي منهم السافل بشي‏ء من التدبير فإنّه في الحقيقة توسّط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى كتوسّط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: 164، و قال:( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: 21، و قال:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ ) سبأ: 23.

و لا ينافي هذا الّذي ذكر من توسّطهم بينه تعالى و بين الحوادث أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادّيّة فإنّ السببيّة طوليّة لا عرضيّة أي إنّ السبب القريب سبب للحادث و السبب البعيد سبب للسبب.

كما لا ينافي توسّطهم و استناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبيّة فإنّ السببيّة طوليّة كما سمعت لا عرضيّة و لا يزيد استناد الحوادث إلى الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيّة القريبة و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعيّة كما صدّق استنادها إلى الملائكة.

٢٨٤

و ليس لشي‏ء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتّى ينقطع عنه فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه على ما يقول به الوثنيّة من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقرّبين فالتوحيد القرآنيّ ينفي الاستقلال عن كلّ شي‏ء من كلّ جهة: لا يملكون لأنفسهم نفعاً و لا ضرّاً و لا موتاً و لا حياة و لا نشوراً.

فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتّبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجه بعيد كمثل الكتابة يكتبها الإنسان بيده و بالقلم فللكتابة استناد إلى القلم ثمّ إلى اليد الّتي توسّلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الّذي توسّل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقلّ بالسببيّة من غير أن ينافي سببيته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم.

و لا منافاة أيضاً بين ما تقدّم أنّ شأن الملائكة هو التوسّط في التدبير و بين ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له كقوله:( وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء: 20، و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف: 206.

و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزّة بالتوسّط كما ربّما يومئ إليه قوله تعالى:( وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) النحل: 49.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) فسّرت الراجفة بالصيحة العظيمة الّتي فيها تردّد و اضطراب و الرادفة بالمتأخّرة التابعة، و عليه تنطبق الآيتان على نفختي الصور الّتي يدلّ عليهما قوله تعالى:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ ) الزمر: 68.

٢٨٥

و قيل: الراجفة بمعنى المحرّكة تحريكاً شديداً - فإنّ الرجف يستعمل لازماً بمعنى التحرّك الشديد، و متعدّياً بمعنى التحريك الشديد - و المراد بها أيضاً النفخة الاُولى المحرّكة للأرض و الجبال، و بالرادفة النفخة الثانية المتأخّرة عن الاُولى.

و قيل: المراد بالراجفة الأرض و بالرادفة السماوات و الكواكب الّتي ترجف و تضطرب و تنشقّ، و تتلاشى و الوجهان لا يخلوان من بعد و لا سيّما الأخير.

و الأنسب بالسياق على أيّ حال كون قوله:( يَوْمَ تَرْجُفُ ) إلخ ظرفاً لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته و بلوغه الغاية في الشدّة و هو لتبعثنّ، و قيل: إنّ( يَوْمَ ) منصوب على معنى قلوب يومئذ واجفة يوم ترجف الراجفة، و لا يخلو من بعد.

قوله تعالى: ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) تنكير( قُلُوبٌ ) للتنويع و هو مبتدأ خبره( واجِفَةٌ ) و الوجيف الاضطراب، و( يَوْمَئِذٍ ) ظرف متعلّق بواجفة و الجملة استئناف مبيّن لصفة اليوم.

و قوله:( أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) ضمير( أَبْصارُها ) للقلوب و نسبة الأبصار و إضافتها إلى القلوب لمكان أنّ المراد بالقلوب في أمثال هذه المواضع الّتي تضاف إليها الصفات الإدراكيّة كالعلم و الخوف و الرجاء و ما يشبهها هي النفوس، و قد تقدّمت الإشارة إليها.

و نسبة الخشوع إلى الأبصار و هو من أحوال القلب إنّما هي لظهور أثره الدالّ عليه في الأبصار أقوى من سائر الأعضاء.

قوله تعالى: ( يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) إخبار و حكاية لقولهم في الدنيا استبعاداً منهم لوقوع البعث و الجزاء و إشارة إلى أنّ هؤلاء الّذين لقلوبهم وجيف و لأبصارهم خشوع يوم القيامة هم الّذين ينكرون البعث و هم في الدنيا و يقولون كذا و كذا.

٢٨٦

و الحافرة - على ما قيل - أوّل الشي‏ء و مبتداه، و الاستفهام للإنكار استبعاداً، و المعنى يقول: هؤلاء أ إنّا لمردودون بعد الموت إلى حالتنا الاُولى و هي الحياة.

و قيل: الحافرة بمعنى المحفورة و هي أرض القبر، و المعنى أ نرد من قبورنا بعد موتنا أحياء، و هو كما ترى.

و قيل: الآية تخبر عن اعترافهم بالبعث يوم القيامة، و الكلام كلامهم بعد الإحياء و الاستفهام للاستغراب كأنّهم لمّا بعثوا و شاهدوا ما شاهدوا يستغربون ما شاهدوا فيستفهمون عن الردّ إلى الحياة بعد الموت.

و هو معنى حسن لو لم يخالف ظاهر السياق.

قوله تعالى: ( أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) تكرار للاستفهام لتأكيد الاستبعاد فلو كانت الحياة بعد الموت مستبعدة فهي مع فرض نخر العظام و تفتّت الأجزاء أشدّ استبعاداً، و النخر بفتحتين البلى و التفتّت يقال: نخر العظم ينخر نخراً فهو ناخر و نخر.

قوله تعالى: ( قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) الإشارة بتلك إلى معنى الرجعة المفهوم من قوله( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) و الكرّة الرجعة و العطفة، و عدّ الكرّة خاسرة إمّا مجاز و الخاسر بالحقيقة صاحبها، أو الخاسرة بمعنى ذات خسران، و المعنى قالوا: تلك الرجعة - و هي الرجعة إلى الحياة بعد الموت - رجعة متلبّسة بالخسران.

و هذا قول منهم أوردوه استهزاء - على أن يكون قولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ ممّا قالوه في الدنيا - و لذا غيّر السياق و قال:( قالُوا تِلْكَ إِذاً ) إلخ بعد قوله:( يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ و أمّا على تقدير أن يكون ممّا سيقولونه عند البعث فهو قول منهم على سبيل التشؤم و التحسّر.

قوله تعالى: ( فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) ضمير( هِيَ ) للكرّة و قيل: للرادفة و المراد بها النفخة الثانية، و الزجر طرد بصوت و صياح عبّر عن النفخة

٢٨٧

الثانية بالزجرة لما فيها من نقلهم من نشأة الموت إلى نشاة الحياة و من بطن الأرض إلى ظهرها، و( فَإِذا ) فجائيّة، و الساهرة الأرض المستوية أو الأرض الخالية من النبات.

و الآيتان في محلّ الجواب عمّا يدلّ عليه قولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ ) إلخ من استبعاد البعث و استصعابه و المعنى لا يصعب علينا إحياؤهم بعد الموت و كرّتهم فإنّما كرّتهم - أو الرادفة الّتي هي النفخة الثانية - زجرة واحدة فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتاً في بطنها.

فالآيتان في معنى قوله تعالى:( وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) النحل: 77.

قوله تعالى: ( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الآية إلى تمام اثنتي عشرة آية إشارة إلى إجمال قصّة موسى و رسالته إلى فرعون و ردّه دعوته إلى أن أخذه الله نكال الآخرة و الاُولى.

و فيها عظة و إنذار للمشركين المنكرين للبعث و قد توسّلوا به إلى ردّ الدعوة الدينيّة إذ لا معنى لتشريع الدين لو لا المعاد، و فيها مع ذلك تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تكذيب قومه، و تهديد لهم كما يؤيّده توجيه الخطاب في قوله:( هَلْ أَتاكَ ) .

و في القصّة مع ذلك كلّه حجّة على وقوع البعث و الجزاء فإنّ هلاك فرعون و جنوده تلك الهلكة الهائلة دليل على حقّيّة رسالة موسى من جانب الله إلى الناس و لا تتمّ رسالته من جانبه تعالى إلّا بربوبيّة منه تعالى للناس على خلاف ما يزعمه المشركون أن لا ربوبيّة له تعالى بالنسبة إلى الناس و أنّ هناك أرباباً دونه و أنّه سبحانه ربّ الأرباب لا غير.

ففي قوله:( هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) استفهام بداعي ترغيب السامع في استماع الحديث ليتسلّى به هو و يكون للمنكرين إنذاراً بما فيه من ذكر العذاب و إتماماً للحجّة كما تقدّم.

و لا ينافي هذا النوع من الاستفهام تقدّم علم السامع بالحديث لأنّ الغرض

٢٨٨

توجيه نظر السامع إلى الحديث دون السؤال و الاستعلام حقيقة فمن الممكن أن تكون الآيات أوّل ما يقصّه الله من قصّة موسى أو تكون مسبوقة بذكر قصّته كما في سورة المزّمّل إجمالاً - و هي أقدم نزولاً من سورة النازعات - و في سورة الأعراف و طه و غيرهما تفصيلاً.

قوله تعالى: ( إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) ظرف للحديث و هو أوّل ما أوحى الله إليه فقلّده الرسالة، و طوى اسم للوادي المقدّس.

قوله تعالى: ( اذْهَبْ إِلى‏ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى‏ ) تفسير للنداء، و قيل: الكلام على تقدير القول أي قائلاً اذهب إلخ أو بتقدير أن المفسّرة أي أن اذهب إلخ و في الوجهين أنّ التقدير مستغنى عنه، و قوله:( إِنَّهُ طَغى‏ ) تعليل للأمر.

قوله تعالى: ( فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى ) متعلّق( إِلى) محذوف و التقدير هل لك ميل إلى أن تتزكّى أو ما في معناه، و المراد بالتزكّي التطهّر من قذارة الطغيان.

قوله تعالى: ( وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ فَتَخْشى) عطف على قوله:( تَزَكَّى ) و المراد بهدايته إيّاه إلى ربّه - كما قيل - تعريفه له و إرشاده إلى معرفته تعالى و تترتّب عليه الخشية منه الرادعة عن الطغيان و تعدّي طور العبوديّة قال تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) فاطر: 28.

و المراد بالتزكّي إن كان هو التطهّر عن الطغيان بالتوبة و الرجوع إلى الله تعالى كانت الخشية مترتّبة عليه و المراد بها الخشية الملازمة للإيمان الداعية إلى الطاعة و الرادعة عن المعصية، و إن كان هو التطهّر بالطاعة و تجنّب المعصية كان قوله:( وَ أَهْدِيَكَ إِلى‏ رَبِّكَ فَتَخْشى) مفسّراً لما قبله و العطف عطف تفسير.

قوله تعالى: ( فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) الفاء فصيحة و في الكلام حذف و تقدير و الأصل فأتاه و دعاه فأراه إلخ.

و المراد بالآية الكبرى على ما يظهر من تفصيل القصّة آية العصا، و قيل: المراد بها مجموع معجزاته الّتي أراها فرعون و ملأه و هو بعيد.

قوله تعالى: ( فَكَذَّبَ وَ عَصى) أي كذّب موسى فجحد رسالته و سمّاه ساحراً

٢٨٩

و عصاه فيما أمره به أو عصى الله.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) الإدبار التولّي و السعي هو الجدّ و الاجتهاد أي ثمّ تولّى فرعون يجدّ و يجتهد في إبطال أمر موسى و معارضته.

قوله تعالى: ( فَحَشَرَ فَنادى) الحشر جمع الناس بإزعاج و المراد به جمعه الناس من أهل مملكته كما يدلّ عليه تفريع قوله:( فَنادى‏ فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عليه فإنّه كان يدّعي الربوبيّة لأهل مملكته جميعاً لا لطائفة خاصّة منهم.

و قيل: المراد بالحشر جمع السحرة لقوله تعالى:( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ) الشعراء: 53، و قوله:( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) طه: 60 و فيه أنّه لا دليل على كون المراد بالحشر في هذه الآية هو عين المراد بالحشر و الجمع في تينك الآيتين.

قوله تعالى: ( فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) دعوى الربوبيّة و ظاهره أنّه يدّعي أنّه أعلى في الربوبيّة من سائر الأرباب الّتي كان يقول بها قومه الوثنيّون فيفضّل نفسه على سائر آلهتهم.

و لعلّ مراده بهذا التفضيل مع كونه وثنيّاً يعبد الآلهة كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن ملائه يخاطبونه:( أَ تَذَرُ مُوسى‏ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ ) الأعراف: 127 أنّه أقرب الآلهة منهم تجري بيده أرزاقهم و تصلح بأمره شؤن حياتهم و يحفظ بمشيّته شرفهم و سؤددهم، و سائر الآلهة ليسوا على هذه الصفة.

و قيل: مراده بما قال تفضيل نفسه على كلّ من يلي اُمورهم و محصّله دعوى الملك و أنّه فوق سائر أولياء اُمور المملكة من حكّام و عمّال فيكون في معنى قوله فيما حكاه الله عنه إذ قال:( وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ) الآية الزخرف: 51.

و هو خلاف ظاهر الكلام و فيما قال قوله لملائه:( يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) القصص: 38، و قوله لموسى:( لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ

٢٩٠

مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) الشعراء: 29.

قوله تعالى: ( فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى) الأخذ كناية عن التعذيب، و النكال التعذيب الّذي يردع من رآه أو سمعه عن تعاطي مثله، و عذاب الآخرة نكال حيث إنّ من شأنه أن يردع من سمعه عن تعاطي ما يؤدّي إليه من المعصية كما أنّ عذاب الاستئصال في الدنيا نكال.

و المعنى: فأخذ الله فرعون أي عذّبه و نكله نكال الآخرة و الاُولى و أمّا عذاب الدنيا فإغراقه و إغراق جنوده، و أمّا عذاب الآخرة فعذابه بعد الموت، فالمراد بالاُولى و الآخرة الدنيا و الآخرة.

و قيل: المراد بالآخرة كلمته الآخرة،( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) و بالاُولى كلمته الاُولى قالها قبل ذلك:( ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) فأخذه الله بهاتين الكلمتين و نكله نكالهما، و لا يخلو هذا المعنى من خفاء.

و قيل: المراد بالاُولى تكذيبه و معصيته المذكوران في أوّل القصّة و بالاُخرى كلمة - أنا ربّكم الأعلى - المذكورة في آخرها، و هو كسابقه.

و قيل: الاُولى أوّل معاصيه و الاُخرى آخرها و المعنى أخذه الله نكال مجموع معاصيه و لا يخلو أيضاً من خفاء.

قوله تعالى: ( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) الإشارة إلى حديث موسى، و الظاهر أنّ مفعول( يَخْشى) منسيّ معرض عنه، و المعنى أنّ في هذا الحديث - حديث موسى - لعبرة لمن كان له خشية و كان من غريزته أن يخشى الشقاء و العذاب و الإنسان من غريزته ذلك ففيه عبرة لمن كان إنساناً مستقيم الفطرة.

و قيل: المفعول محذوف و التقدير لمن يخشى الله و الوجه السابق أبلغ.

قوله تعالى: ( أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها - إلى قوله -وَ لِأَنْعامِكُمْ ) خطاب توبيخيّ للمشركين المنكرين للبعث المستهزئين به على سبيل العتاب و يتضمّن الجواب عن استبعادهم البعث بقولهم:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ) بأنّ الله خلق ما هو أشدّ منكم خلقاً فهو على خلقكم و إنشائكم النشأة الاُخرى لقدير.

٢٩١

و يتضمّن أيضاً الإشارة إلى الحجّة على وقوع البعث حيث يذكر التدبير العامّ العالميّ و ارتباطه بالعالم الإنسانيّ و لازمه ربوبيّته تعالى، و لازم الربوبيّة صحّة النبوّة و جعل التكاليف، و لازم ذلك الجزاء الّذي موطنه البعث و الحشر، و لذا فرّع عليه حديث البعث بقوله:( فإذا جاءت الطامة الكبرى) إلخ.

فقوله:( أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ) استفهام توبيخيّ بداعي رفع استبعادهم البعث بعد الموت، و الإشارة إلى تفصيل خلق السماء بقوله:( بَناها ) إلخ دليل أنّ المراد به تقرير كون السماء أشدّ خلقاً.

و قوله:( بَناها ) استئناف و بيان تفصيليّ لخلق السماء.

و قوله:( رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها ) أي رفع سقفها و ما ارتفع منها، و تسويتها ترتيب أجزائها و تركيبها بوضع كلّ جزء في موضعه الّذي تقتضيه الحكمة كما في قوله:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: 29.

و قوله:( وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها ) أي أظلم ليلها و أبرز نهارها، و الأصل في معنى الضحى انبساط الشمس و امتداد النهار اُريد به مطلق النهار بقرينة المقابلة و نسبة الليل و الضحى إلى السماء لأنّ السبب الأصليّ لها سماويّ و هو ظهور الأجرام المظلمة بشروق الأنوار السماويّة كنور الشمس و غيره و خفاؤها بالاستتار و لا يختصّ الليل و النهار بالأرض الّتي نحن عليها بل يعمّان سائر الأجرام المظلمة المستنيرة.

و قوله:( وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ) أي بسطها و مدّها بعد ما بنى السماء و رفع سمكها و سوّاها و أغطش ليلها و أخرج ضحاها.

و قيل: المعنى و الأرض مع ذلك دحاها كما في قوله:( عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ) و قد تقدّم كلام فيما يظهر من كلامه تعالى في خلق السماء و الأرض في تفسير سورة الم السجدة و ذكر بعضهم أنّ الدحو بمعنى الدحرجة.

و قوله:( أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها ) قيل: المرعى يطلق على الرعي بالكسر فالسكون و هو الكلأ كما يجي‏ء مصدراً ميميّاً، و اسم زمان و مكان، و المراد بإخراج مائها منها تفجير العيون و إجراء الأنهار عليها، و إخراج المرعى إنبات النبات عليها

٢٩٢

ممّا يتغذّى به الحيوان و الإنسان فالظاهر أنّ المراد بالمرعى مطلق النبات الّذي يتغذّى به الحيوان و الإنسان كما يشعر به قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) لا ما يختصّ بالحيوان كما هو الغالب في استعماله.

و قوله:( وَ الْجِبالَ أَرْساها ) أي أثبتها على الأرض لئلّا تميد بكم و ادّخر فيها المياه و المعادن كما ينبئ عنه سائر كلامه تعالى.

و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) أي خلق ما ذكر من السماء و الأرض و دبّر ما دبّر من أمرهما ليكون متاعاً لكم و لأنعامكم الّتي سخّرها لكم تتمتّعون به في حياتكم فهذا الخلق و التدبير الّذي فيه تمتيعكم يوجب عليكم معرفة ربّكم و خوف مقامه و شكر نعمته فهناك يوم تجزون فيه بما عملتم في ذلك إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً كما أنّ هذا الخلق و التدبير أشدّ من خلقكم فليس لكم أن تستبعدوا خلقكم ثانياً و تستصعبوه عليه تعالى.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) في المجمع: و الطامّة العالية الغالبة يقال: هذا أطمّ من هذا أي أعلى منه، و طمّ الطائر الشجرة أي علاها و تسمّى الداهية الّتي لا يستطاع دفعها طامّة. انتهى، فالمراد بالطامّة الكبرى القيامة لأنّها داهية تعلو و تغلب كلّ داهية هائلة، و هذا معنى اتّصافها بالكبرى و قد اُطلقت إطلاقاً.

و تصدير الجملة بفاء التفريع للإشارة إلى أنّ مضمونها أعني مجي‏ء القيامة من لوازم خلق السماء و الأرض و جعل التدبير الجاري فيهما المترتّبة على ذلك كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى‏ ) ظرف لمجي‏ء الطامّة الكبرى، و السعي هو العمل بجدّ.

قوله تعالى: ( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) التبريز الإظهار و مفعول( يَرى) منسيّ معرض عنه و المراد بمن يرى من له بصر يرى به، و المعنى و اُظهرت الجحيم بكشف الغطاء عنها لكلّ ذي بصر فيشاهدونها مشاهدة عيان.

فالآية في معنى قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ

٢٩٣

فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22 غير أنّ آية ق أوسع معنى.

و الآية ظاهرة في أنّ الجحيم مخلوقة قبل يوم القيامة و إنّما تظهر يومئذ ظهوراً بكشف الغطاء عنها.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى‏ وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) تفصيل حال الناس يومئذ في انقسامهم قسمين اُقيم مقام الإجمال الّذي هو جواب إذا المحذوف استغناء بالتفصيل عن الإجمال، و التقدير فإذا جاءت الطامّة الكبرى انقسم الناس قسمين فأمّا من طغى إلخ.

و قد قسّم تعالى الناس في الآيات الثلاث إلى أهل الجحيم و أهل الجنّة - و قدّم صفة أهل الجحيم لأنّ وجه الكلام إلى المشركين - و عرّف أهل الجحيم بما وصفهم به في قوله:( مَنْ طَغى‏ وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) و قابل تعريفهم بتعريف أهل الجنّة بقوله:( مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) و سبيل ما وصف به الطائفتين على أيّ حال سبيل بيان الضابط.

و إذ كانت الطائفتان متقابلتين بحسب حالهما كان ما بيّن لكلّ منهما من الوصف مقابلاً لوصف الآخر فوصف أهل الجنّة بالخوف من مقام ربّهم - و الخوف تأثّر الضعيف المقهور من القويّ القاهر و خشوعه و خضوعه له - يقتضي كون طغيان أهل الجحيم - و الطغيان التعدّي عن الحدّ - هو عدم تأثّرهم من مقام ربّهم بالاستكبار و خروجهم عن زيّ العبوديّة فلا يخشعون و لا يخضعون و لا يجرون على ما أراده منهم و لا يختارون ما اختاره لهم من السعادة الخالدة بل ما تهواه أنفسهم من زينة الحياة الدنيا.

فمن لوازم طغيانهم اختيارهم الحياة الدنيا و هو الّذي وصفهم به بعد وصفهم بالطغيان إذ قال:( وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا ) .

و إذ كان من لوازم الطغيان رفض الآخرة و إيثار الحياة الدنيا و هو اتّباع النفس فيما تريده و طاعتها فيما تهواه و مخالفته تعالى فيما يريده كان لما يقابل الطغيان من

٢٩٤

الوصف و هو الخوف ما يقابل الإيثار و اتّباع هوى النفس و هو قريحة الردع عن الإخلاد إلى الأرض و نهى النفس عن اتّباع الهوى و هو قوله في وصف أهل الجنّة بعد وصفهم بالخوف:( وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ ) .

و إنّما أخذ في وصفه النهي عن الهوى دون ترك اتّباعه عملاً لأنّ الإنسان ضعيف ربّما ساقته الجهالة إلى المعصية من غير استكبار و الله واسع المغفرة قال تعالى( وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ ) النجم: 32، و قال:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: 31.

و يتحصّل معنى الآيات الثلاث في إعطاء الضابط في صفة أهل الجحيم و أهل الجنّة في أنّ أهل الجحيم أهل الكفر و الفسوق و أهل الجنّة أهل الإيمان و التقوى، و هناك غير الطائفتين طوائف اُخر من المستضعفين و الّذين اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيّئا و غيرهم أمرهم إلى الله سبحانه عسى أن يشملهم المغفرة بشفاعة و غيرها.

فقوله:( فَأَمَّا مَنْ طَغى ‏ - إلى قوله -هِيَ الْمَأْوى) أي هي مأواه على أن تكون اللّام عوضاً عن الضمير أو الضمير محذوف و التقدير هي المأوى له.

و قوله:( وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ) إلخ المقام اسم مكان يراد به المكان الّذي يقوم فيه جسم من الأجسام و هو الأصل في معناه ككونه اسم زمان و مصدراً ميميّاً لكن ربّما يعتبر ما عليه الشي‏ء من الصفات و الأحوال محلاً و مستقرّاً للشي‏ء بنوع من العناية فيطلق عليه المقام كالمنزلة كما في قوله تعالى في الشهادة:( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) المائدة: 107 و قول نوحعليه‌السلام لقومه على ما حكاه الله:( إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ ) يونس: 71، و قول الملائكة على ما حكاه الله:( وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ) الصافّات: 164.

فمقامه تعالى المنسوب إليه بما أنّه ربّ هو صفة ربوبيّته بما تستلزمه أو تتوقّف

٢٩٥

عليه من صفاته الكريمة كالعلم و القدرة المطلقة و القهر و الغلبة و الرحمة و الغضب و ما يناسبها قال إيذاناً به:( وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‏ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) طه: 82، و قال:( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) الحجر: 50.

فمقامه تعالى الّذي يخوّف منه عباده مرحلة ربوبيّته الّتي هي المبدأ لرحمته و مغفرته لمن آمن و اتّقى و لأليم عذابه و شديد عقابه لمن كذّب و عصى.

و قيل: المراد بمقام ربّه مقامه من ربّه يوم القيامة حين يسأله عن أعماله و هو كما ترى.

و قيل: معنى خاف مقام ربّه خاف ربّه بطريق الإقحام كما قيل في قوله( أَكْرِمِي مَثْواهُ ) .

( بحث روائي‏)

في الفقيه، و روى عليّ بن مهزيار قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : قوله عزّوجلّ:( وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى‏ وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ) و قوله عزّوجلّ:( وَ النَّجْمِ إِذا هَوى) و ما أشبه هذا؟ فقال إنّ لله عزّوجلّ أن يقسم من خلقه بما شاء و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به.

أقول: و تقدّم في هذا المعنى رواية الكافي، عن محمّد بن مسلم عن الباقرعليه‌السلام في تفسير أوّل سورة النجم.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن المنصور و ابن المنذر عن عليّ في قوله:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ) قال: هي الملائكة تنزع أرواح الكفّار( وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ) هي الملائكة تنشط أرواح الكفّار ما بين الأظفار و الجلد حتّى تخرجها( وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ) هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين بين السماء و الأرض( فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ) هي الملائكة يسبق بعضها بعضاً بأرواح المؤمنين إلى الله( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قال هي الملائكة تدبّر أمر العباد من السنة إلى السنة.

٢٩٦

أقول: ينبغي أن تحمل الرواية - لو صحّت - على ذكر بعض المصاديق، و قوله:( تنشط أرواح الكفّار ما بين الأظفار و الجلد حتّى تخرجها) ضرب من التمثيل لشدّة العذاب.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب أنّ ابن الكوّاء سأله عن( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) قال: الملائكة يدبّرون ذكر الرحمن و أمره.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) قال: تنشقّ الأرض بأهلها و الرادفة الصيحة.

و فيه: في قوله:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) قال: قالت قريش: أ نرجع بعد الموت؟

و فيه: في قوله:( تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ ) قال: قالوا هذه على حدّ الاستهزاء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قوله:( أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ) يقول: في الخلق الجديد، و أمّا قوله:( فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ) و الساهرة الأرض كانوا في القبور فلمّا سمعوا الزجرة خرجوا من قبورهم فاستووا على الأرض.

و في اُصول الكافي، بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ:( وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) ، قال: من علم أنّ الله يراه و يسمع ما يقول و يعلم ما يعمله من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الّذي خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى.

أقول: يؤيّد الحديث ما تقدّم من معنى الخوف من مقامه تعالى.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن عقيل قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّما أخاف عليكم الاثنين: اتّباع الهوى و طول الأمل أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة.

٢٩٧

( سورة النازعات الآيات 42 - 46)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ( 42 ) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ( 43 ) إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا ( 44 ) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( 45 ) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( 46 )

( بيان‏)

تعرّض لسؤالهم عن وقت قيام الساعة و ردّ له بأنّ علمه ليس لأحد إلّا الله فقد خصّه بنفسه.

قوله تعالى: ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) الظاهر أنّ التعبير بيسألونك لإفادة الاستمرار فقد كان المشركون بعد ما سمعوا حديث القيامة يراجعون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يسألونه أن يعيّن لهم وقتها مصرّين على ذلك و قد تكرّر في القرآن الكريم الإشارة إلى ذلك.

و المرسى مصدر ميميّ بمعنى الإثبات و الإقرار و قوله:( أَيَّانَ مُرْساها ) بيان للسؤال و المعنى يسألك هؤلاء المنكرون للساعة المستهزؤن به عن الساعة متى إثباتها و إقرارها؟ أي متى تقوم القيامة؟

قوله تعالى: ( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) استفهام إنكاريّ و( فِيمَ أَنْتَ ) مبتدأ و خبر، و( مِنْ ) لابتداء الغاية، و الذكرى كثرة الذكر و هو أبلغ من الذكر على ما ذكره الراغب.

و المعنى في أيّ شي‏ء أنت من كثرة ذكر الساعة أي ما ذا يحصل لك من العلم بوقتها من ناحية كثرة ذكرها و بسبب ذلك أي لست تعلمها بكثرة ذكرها.

أو الذكرى بمعنى حضور حقيقة معنى الشي‏ء في القلب، و المعنى - على الاستفهام

٢٩٨

الإنكاريّ - لست في شي‏ء من العلم بحقيقتها و ما هي عليه حتّى تحيط بوقتها و هو أنسب من المعنى السابق.

و قيل: المعنى ليس ذكراها ممّا يرتبط ببعثتك إنّما بعثت لتنذر من يخشاها.

و قيل:( فِيمَ ) إنكار لسؤالهم، و قوله:( أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) استئناف و تعليل لإنكار سؤالهم، و المعنى فيم هذا السؤال إنّما أنت من ذكرى الساعة لاتّصال بعثتك بها و أنت خاتم الأنبياء، و هذا المقدار من العلم يكفيهم، و هو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي:( بعثت أنا و الساعة كهاتين إن كادت لتسبقني) .

و قيل: الآية من تمام سؤال المشركين خاطبوا به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المعنى ما الّذي عندك من العلم بها و بوقتها؟ أو ما الّذي حصل لك و أنت تكثر ذكرها.

و أنت خبير بأنّ السياق لا يلائم شيئاً من هذه المعاني تلك الملاءمة، على أنّها أو أكثرها لا تخلو من تكلّف.

قوله تعالى: ( إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) في مقام التعليل لقوله:( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ) و المعنى لست تعلم وقتها لأنّ انتهاءها إلى ربّك فلا يعلم حقيقتها و صفاتها و منها تعيّن الوقت إلّا ربّك فليس لهم أن يسألوا عن وقتها و ليس في وسعك أن تجيب عنها.

و ليس من البعيد - و الله أعلم - أن تكون الآية في مقام التعليل بمعنى آخر و هو أنّ الساعة تقوم بفناء الأشياء و سقوط الأسباب و ظهور أن لا ملك إلّا لله الواحد القهّار فلا ينتسب اليوم إلّا إليه تعالى من غير أن يتوسّط بالحقيقة بينه تعالى و بين اليوم أيّ سبب مفروض و منه الزمان فليس يقبل اليوم توقيتاً بحسب الحقيقة.

و لذا لم يرد في كلامه تعالى من التحديد إلّا تحديد اليوم بانقراض نشأة الدنيا كقوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ) الزمر: 68 و ما في معناه من الآيات الدالّة على خراب الدنيا بتبدّل الأرض و السماء و انتثار الكواكب و غير ذلك.

و إلّا تحديده بنوع من التمثيل و التشبيه كقوله تعالى:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ

٢٩٩

يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) و قوله:( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: 35، و قوله:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ ) ثمّ ذكر حقّ القول في ذلك فقال:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) الروم: 56.

و يلوّح إلى ما مرّ ما في مواضع من كلامه أنّ الساعة لا تأتي إلّا بغتة، قال تعالى:( ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) الأعراف: 187 إلى غير ذلك من الآيات.

و هذا وجه عميق يحتاج في تمامه إلى تدبّر واف ليرتفع به ما يتراءى من مخالفته لظواهر عدّة من آيات القيامة و عليك بالتدبّر في قوله تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: 22 و ما في معناه من الآيات و الله المستعان.

قوله تعالى: ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) أي إنّما كلّفناك بإنذار من يخشى الساعة دون الإخبار بوقت قيام الساعة حتّى تجيبهم عن وقتها إذا سألوك عنه فالقصر في الآية قصر إفراد بقصر شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإنذار و تنفي عنه العلم بالوقت و تعيينه لمن يسأل عنه.

و المراد بالخشية على ما يناسب المقام الخوف منها إذا ذكّر بها أي شأنيّة الخشية لا فعليّتها قبل الإنذار.

قوله تعالى: ( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) بيان لقرب الساعة بحسب التمثيل و التشبيه بأنّ قرب الساعة من حياتهم الدنيا بحيث مثلهم حين يرونها مثلهم لو لبثوا بعد حياتهم في الأرض عشيّة أو ضحى تلك العشيّة أي وقتاً نسبته إلى نهار واحد نسبة العشيّة إلى ما قبلها منه أو نسبة الضحى إلى ما قبله منه.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ المراد باللبث لبث ما بين الحياة الدنيا و البعث أي لبثهم في القبور لأنّ الحساب يقع على مجموع الحياة الدنيا.

٣٠٠