الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199949
تحميل: 4972


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199949 / تحميل: 4972
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و قيل: المراد به اللبث بين حين سؤالهم عن وقتها و بين البعث و فيه أنّهم إنّما يشاهدون لبثهم على هذه الصفة عند البعث و البعث الّذي هو الإحياء بعد الموت إنّما نسبته إلى الموت الّذي قبله دون مجموع الموت و بعض الحياة الّتي بين زمان السؤال عن الوقت و زمان الموت.

على أنّه لا يلائم ظواهر سائر الآيات المتعرّضة للبثهم قبل البعث كقوله تعالى( قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ) المؤمنون: 112.

و قيل: المراد باللبث اللبث في الدنيا و هو سخيف.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ:( وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏ ) قال: هو العبد إذا وقف على معصية الله و قدر عليها ثمّ تركها مخافة الله و نهي الله و نهى النفس عنها فمكافاته الجنّة، قوله( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) قال: متى تقوم؟ فقال الله:( إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) أي علمها عندالله، قوله( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها ) قال: بعض يوم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عبّاس قال: إنّ مشركي مكّة سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: متى تقوم الساعة استهزاء منهم فنزلت( يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ) الآيات.

و فيه، أخرج البزّار و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله يسأل عن الساعة حتّى اُنزل عليه( فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى‏ رَبِّكَ مُنْتَهاها ) فلم يسأل عنها.

أقول: و رواه أيضاً عن عدّة من أصحاب الكتب عن عروة مرسلاً، و رواه أيضاً عن عدّة منهم عن شهاب بن طارق عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثله‏، و السياق لا يلائم كونه

٣٠١

جواباً عن سؤال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في بعض الروايات: كانت الأعراب إذا قدموا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوه عن الساعة فينظر إلى أحدث إنسان فيهم فيقول: إن يعش هذا قرناً قامت عليكم ساعتكم: رواها في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن عائشة.

و هي من التوقيت الّذي يجلّ عنه ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قد اُوحي إليه في كثير من السور القرآنيّة سيّما المكّيّة أنّ علم الساعة يختصّ به تعالى لا يعلمه إلّا هو و اُمر أن يجيب من سأله عن وقتها بنفي العلم به عن نفسه.

٣٠٢

( سورة عبس مكّيّة و هي اثنان و أربعون آية)

( سورة عبس الآيات 1 - 16)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ( 1 ) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ( 2 ) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ( 3 ) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ( 4 ) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ( 5 ) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ( 6 ) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ( 7 ) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ( 8 ) وَهُوَ يَخْشَىٰ ( 9 ) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ( 10 ) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ( 11 ) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ ( 12 ) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ( 13 ) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ( 14 ) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ( 15 ) كِرَامٍ بَرَرَةٍ ( 16 )

( بيان‏)

وردت الروايات من طرق أهل السنّة أنّ الآيات نزلت في قصّة ابن اُمّ مكتوم الأعمى دخل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عنده قوم من صناديد قريش يناجيهم في أمر الإسلام فعبس النبيّ عنه فعاتبه الله تعالى بهذه الآيات و في بعض الأخبار من طرق الشيعة إشارة إلى ذلك.

و في بعض روايات الشيعة أنّ العابس المتولّي رجل من بني اُميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليه ابن اُمّ مكتوم فعبس الرجل و قبض وجهه فنزلت الآيات: و سيوافيك تفصيل البحث عن ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

و كيف كان الأمر فغرض السورة عتاب من يقدّم الأغنياء و المترفين على الضعفاء و المساكين من المؤمنين فيرفع أهل الدنيا و يضع أهل الآخرة ثمّ ينجرّ الكلام

٣٠٣

إلى الإشارة إلى هوان أمر الإنسان في خلقه و تناهيه في الحاجة إلى تدبير أمره و كفره مع ذلك بنعم ربّه و تدبيره العظيم لأمره و تتخلّص إلى ذكر بعثه و جزائه إنذاراً و السورة مكّيّة بلا كلام.

قوله تعالى: ( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) أي بسر و قبض وجهه و أعرض.

قوله تعالى: ( أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏ ) تعليل لما ذكر من العبوس بتقدير لام التعليل.

قوله تعالى: ( وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) حال من فاعل( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) و المراد بالتزكّي التطهّر بعمل صالح بعد التذكّر الّذي هو الاتّعاظ و الانتباه للاعتقاد الحقّ، و نفع الذكرى هو دعوتها إلى التزكّي بالإيمان و العمل الصالح.

و محصّل المعنى: بسر و أعرض عن الأعمى لمّا جاءه و الحال أنّه ليس يدري لعلّ الأعمى الّذي جاءه يتطهّر بصالح العمل بعد الإيمان بسبب مجيئه و تعلّمه و قد تذكّر قبل أو يتذكّر بسبب مجيئه و اتّعاظه بما يتعلّم فتنفعه الذكرى فيتطهّر.

و في الآيات الأربع عتاب شديد و يزيد شدّة بإتيان الآيتين الاُوليين في سياق الغيبة لما فيه من الإعراض عن المشافهة و الدلالة على تشديد الإنكار و إتيان الآيتين الأخيرتين في سياق الخطاب لما فيه من تشديد التوبيخ و إلزام الحجّة بسبب المواجهة بعد الإعراض و التقريع من غير واسطة.

و في التعبير عن الجائي بالأعمى مزيد توبيخ لما أنّ المحتاج الساعي في حاجته إذا كان أعمى فاقداً للبصر و كانت حاجته في دينه دعته إلى السعي فيها خشية الله كان من الحريّ أن يرحم و يخصّ بمزيد الإقبال و التعطّف لا أن ينقبض و يعرض عنه.

و قيل - بناء على كون المراد بالمعاتب هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - : أنّ في التعبير عنه أوّلاً بضمير الغيبة إجلالاً له لإيهام أنّ من صدر عنه العبوس و التولّي غيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٤

لأنّه لا يصدر مثله عن مثله، و ثانياً بضمير الخطاب إجلالاً له أيضاً لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش و الإقبال بعد الإعراض.

و فيه أنّه لا يلائمه الخطاب في قوله بعد:( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) إلخ و العتاب و التوبيخ فيه أشدّ ممّا في قوله:( عَبَسَ وَ تَوَلَّى ) إلخ و لا إيناس فيه قطعاً.

قوله تعالى: ( أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) الغنى و الاستغناء و التغنّي و التغاني بمعنى على ما ذكره الراغب فالمراد بمن استغنى من تلبّس بالغنى و لازمه التقدّم و الرئاسة و العظمة في أعين الناس و الاستكبار عن اتّباع الحقّ قال تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) العلق: 7 و التصدّي التعرّض للشي‏ء بالإقبال عليه و الاهتمام بأمره.

و في الآية إلى تمام ستّ آيات إشارة إلى تفصيل القول في ملاك ما ذكر من العبوس و التولّي فعوتب عليه و محصّله أنّك تعتني و تقبل على من استغنى و استكبر عن اتّباع الحقّ و ما عليك ألا يزكّى و تتلهّى و تعرّض عمّن يجتهد في التزكّي و هو يخشى.

و قوله:( وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) قيل:( ما ) نافية و المعنى و ليس عليك بأس أن لا يتزكّى حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض و التلهّي عمّن أسلم و الإقبال عليه.

و قيل:( ما ) للاستفهام الإنكاريّ و المعنى و أيّ شي‏ء يلزمك إن لم يتطهّر من الكفر و الفجور فإنّما أنت رسول ليس عليك إلّا البلاغ.

و قيل: المعنى و لا تبالي بعدم تطهّره من دنس الكفر و الفجور و هذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثمّ الّذي قبله ثمّ الّذي قبله.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ وَ هُوَ يَخْشى‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) السعي الإسراع في المشي فمعنى قوله:( وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى‏ ) بحسب ما يفيده المقام: و أمّا من جاءك مسرعاً ليتذكّر و يتزكّى بما يتعلّم من معارف الدين.

٣٠٥

و قوله:( وَ هُوَ يَخْشى) أي يخشى الله و الخشية آية التذكّر بالقرآن قال تعالى:( ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) طه: 3 و قال:( سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى‏ ) الأعلى: 10.

و قوله:( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) أي تتلهّى و تتشاغل بغيره و تقديم ضمير أنت في قوله:( فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ) و قوله:( فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) و كذا الضميرين( لَهُ ) و( عَنْهُ ) في الآيتين لتسجيل العتاب و تثبيته.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) ( كَلَّا ) ردع عمّا عوتب عليه من العبوس و التولّي و التصدّي لمن استغنى و التلهّي عمّن يخشى.

و الضمير في( إِنَّها تَذْكِرَةٌ ) للآيات القرآنيّة أو للقرآن و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر و المعنى أنّ الآيات القرآنيّة أو القرآن تذكرة أي موعظة يتّعظ بها من اتّعظ أو مذكّر يذكّر حقّ الاعتقاد و العمل.

و قوله:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) جملة معترضة و الضمير للقرآن أو ما يذكّر به القرآن من المعارف، و المعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكّر به القرآن و هو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة ممّا تحفظه في لوحها من حقّ الاعتقاد و العمل.

و في التعبير بهذا التعبير:( فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ ) تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكّر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي و إنّما المنتفع بها المتذكّر فليختر ما يختاره.

قوله تعالى: ( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ) قال في المجمع: الصحف جمع صحيفة، و العرب تسمّي كلّ مكتوب فيه صحيفة كما تسمّيه كتاباً رقّاً كان أو غيره انتهى.

و( فِي صُحُفٍ ) خبر بعد خبر لأنّ و ظاهره أنّه مكتوب في صحف متعدّدة بأيدي ملائكة الوحي، و هذا يضعّف القول بأنّ المراد بالصحف اللوح المحفوظ و لم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف و لا الكتب و لا الألواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، و نظيره في الضعف القول بأنّ المراد بالصحف كتب الأنبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله:( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ) إلخ في أنّه صفة لصحف.

٣٠٦

و قوله:( مُكَرَّمَةٍ ) أي معظّمة، و قوله:( مَرْفُوعَةٍ ) أي قدراً عندالله، و قوله:( مُطَهَّرَةٍ ) أي من قذارة الباطل و لغو القول و الشكّ و التناقض قال تعالى:( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) حم السجدة: 42، و قال:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق: 14 و قال:( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) البقرة: 2، و قال:( وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) النساء: 82.

قوله تعالى: ( بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) صفة بعد صفة لصحف، و السفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و( كِرامٍ ) صفة لهم باعتبار ذواتهم و( بَرَرَةٍ ) صفة لهم باعتبار عملهم و هو الإحسان في الفعل.

و معنى الآيات أنّ القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعدّدة معظّمة مرفوعة قدراً مطهّراً من كلّ دنس و قذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربّهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم.

و يظهر من الآيات أنّ للوحي ملائكة يتصدّون لحمل الصحف و إيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل و تحت أمره و نسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قد قال تعالى في صفته:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) التكوير: 21 فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره و يأتي بما يريده و الإيحاء الّذي هو فعل أعوانه فعله كما أنّ فعله و فعلهم جميعاً فعل الله و ذلك نظير كون التوفّي الّذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، و فعله و فعلهم جميعاً فعل الله تعالى، و قد تقدّمت الإشارة إلى هذا البحث مراراً.

و قيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة، و الّذي تقدّم من المعنى أجلى و قيل: المراد بهم القرّاء يكتبونها و يقرؤنها و هو كما ترى.

٣٠٧

( بحث روائي‏)

في المجمع، قيل: نزلت الآيات في عبدالله بن اُمّ مكتوم و هو عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهريّ من بني عامر بن لؤيّ.

و ذلك أنّه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يناجي عتبة بن ربيعة و أباجهل بن هشام و العبّاس بن عبد المطّلب و اُبيّاً و اُميّة بن خلف يدعوهم إلى الله و يرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني و علّمني ممّا علّمك الله فجعل يناديه و يكرّر النداء و لا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتّى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقطعه كلامه و قال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان و العبيد فأعرض عنه و أقبل على القوم الّذين كان يكلّمهم فنزلت الآيات.

و كان رسول الله بعد ذلك يكرمه، و إذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي، و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرّتين في غزوتين.

أقول: روى السيوطي في الدرّ المنثور القصّة عن عائشة و أنس و ابن عبّاس على اختلاف يسير و ما أورده الطبرسيّ محصّل الروايات.

و ليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه بل فيها ما يدلّ على أنّ المعنىّ بها غيره لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله.

و قد عظّم الله خُلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال - و هو قبل نزول هذه السورة -:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و الآية واقعة في سورة( ن ) الّتي اتّفقت الروايات المبيّنة لترتيب نزول السور على أنّها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربّك، فكيف يعقل أن يعظّم الله خلقه في

٣٠٨

أوّل بعثته و يطلق القول في ذلك ثمّ يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقيّة و يذمّه بمثل التصدّي للأغنياء و إن كفروا و التلهّي عن الفقراء و إن آمنوا و استرشدوا.

و قال تعالى أيضاً:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) الشعراء: 215 فأمره بخفض الجناح للمؤمنين و السورة من السور المكّيّة و الآية في سياق قوله:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) النازل في أوائل الدعوة.

و كذا قوله:( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحجر: 88 و في سياق الآية قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94 النازل في أوّل الدعوة العلنيّة فكيف يتصوّر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العبوس و الإعراض عن المؤمنين و قد اُمر باحترام إيمانهم و خفض الجناح و أن لا يمدّ عينيه إلى دنيا أهل الدنيا.

على أنّ قبح ترجيح غنى الغنيّ - و ليس ملاكاً لشي‏ء من الفضل - على كمال الفقير و صلاحه بالعبوس و الإعراض عن الفقير و الإقبال على الغنيّ لغناه قبح عقليّ مناف لكريم الخلق الإنسانيّ لا يحتاج في لزوم التجنّب عنه إلى نهي لفظيّ.

و بهذا و ما تقدّمه يظهر الجواب عمّا قيل: إنّ الله سبحانه لم ينههصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الفعل إلّا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلّا بعده و أمّا قبل النهي فلا.

و ذلك أنّ دعوى أنّه تعالى لم ينهه إلّا في هذا الوقت تحكّم ممنوع، و لو سلم فالعقل حاكم بقبحه و معه ينافي صدوره كريم الخلق و قد عظّم الله خلقهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ذلك إذ قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) و أطلق القول، و الخلق ملكة لا تتخلّف عن الفعل المناسب لها.

و عن الصادقعليه‌السلام - على ما في المجمع - أنّها نزلت في رجل من بني اُميّة كان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء ابن اُمّ مكتوم فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك و أنكره عليه.

٣٠٩

و في المجمع، و روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبدالله بن اُمّ مكتوم قال: مرحباً مرحباً و الله لا يعاتبني الله فيك أبداً، و كان يصنع به من اللّطف حتّى كان يكفّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يفعل به.

أقول : الكلام فيه كالكلام فيما تقدّمه، و معنى قوله: حتّى أنّه كان يكفّ إلخ أنّه كان يكفّ عن الحضور عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة صنيعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به انفعالاً منه و خجلاً.

٣١٠

( سورة عبس الآيات 17 - 42)

قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( 17 ) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ( 18 ) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ( 19 ) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ( 20 ) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ( 21 ) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ( 22 ) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ( 23 ) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ( 24 ) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ( 25 ) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ( 26 ) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ( 27 ) وَعِنَبًا وَقَضْبًا ( 28 ) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ( 29 ) وَحَدَائِقَ غُلْبًا ( 30 ) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ( 31 ) مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ( 32 ) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ( 33 ) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ( 34 ) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ( 35 ) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ( 36 ) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ( 37 ) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ( 38 ) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ ( 39 ) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ( 40 ) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ( 41 ) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( 42 )

( بيان‏)

دعاء على الإنسان و تعجيب من مبالغته في الكفر بربوبيّة ربّه و إشارة إلى أمره حدوثاً و بقاءً فإنّه لا يملك لنفسه شيئاً من خلق و تدبير بل الله سبحانه هو الّذي خلقه من نطفة مهينة فقدّره ثمّ السبيل يسّره ثمّ أماته فأقبره ثمّ إذا شاء أنشره فهو سبحانه

٣١١

ربّه الخالق له المدبّر لأمره مطلقاً و هو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربّه و لا يهتدي بهداه.

و لو نظر الإنسان إلى طعامه فقطّ و هو مظهر واحد من مظاهر تدبيره و غرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير و لطيف الصنع ما يبهر عقله و يدهش لبّه و وراء ذلك نعم لا تعدّ - و إن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها -.

فستره تدبير ربّه و تركه شكر نعمته عجيب و إنّ الإنسان لظلوم كفّار و سيرون تبعة شكرهم و كفرهم من السرور و الاستبشار أو الكآبة و سواد الوجه.

و الآيات - كما ترى - لا تأبى الاتّصال بما قبلها سياقاً واحداً و إن قال بعضهم أنّها نزلت لسبب آخر كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) دعاء على الإنسان لما أنّ في طبعه التوغّل في اتّباع الهوى و نسيان ربوبيّة ربّه و الاستكبار عن اتّباع أوامره.

و قوله:( ما أَكْفَرَهُ ) تعجيب من مبالغة في الكفر و ستر الحقّ الصريح و هو يرى أنّه مدبّر بتدبير الله لا يملك شيئاً من تدبير أمره غيره تعالى.

فالمراد بالكفر مطلق ستر الحقّ و ينطبق على إنكار الربوبيّة و ترك العبادة و يؤيّده ما في ذيل الآية من الإشارة إلى جهات من التدبير الربوبيّ المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحقّ و ترك العبادة، و قد فسّر بعضهم الكفر بترك الشكر و كفران النعمة و هو و إن كان معنى صحيحاً في نفسه لكنّ الأنسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدّم.

قال في الكشّاف:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ) دعاء عليه و هي من أشنع دعواتهم لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا و فظائعها و( ما أَكْفَرَهُ ) تعجّب من إفراطه في كفران نعمة الله و لا ترى اُسلوباً أغلظ منه، و لا أخشن مسّاً، و لا أدلّ على سخط، و لا أبعد شوطاً في المذمّة مع تقارب طرفيه، و لا أجمع للّأئمة على قصر متنه، انتهى.

و قيل جملة( ما أَكْفَرَهُ ) استفهاميّة و المعنى ما هو الّذي جعله كافراً، و الوجه المتقدّم أبلغ.

٣١٢

قوله تعالى: ( مِنْ أَيِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) معناه على ما يعطيه المقام من أيّ شي‏ء خلق الله الإنسان حتّى يحقّ له أن يطغى و يستكبر عن الإيمان و الطاعة، و حذف فاعل قوله:( خَلَقَهُ ) و ما بعده من الأفعال للإشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة - و قد اعترف به المشركون - أن لا خالق إلّا الله تعالى.

و الاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله:( ما أَكْفَرَهُ ) من العجب - و العجب إنّما هو في الحوادث الّتي لا يظهر لها سبب - فاُفيد أوّلاً: أنّ من العجب إفراط الإنسان في كفره ثمّ سئل ثانياً: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الإفراط في الكفر فاُجيب بنفيه و أن لا حجّة له يحتجّ بها و لا عذر يعتذر به فإنّه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئاً من خلقته و لا من تدبير أمره في حياته و مماته و نشره، و بالجملة الاستفهام توطئة للجواب الّذي في قوله:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ) إلخ.

قوله تعالى: ( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) تنكير( نُطْفَةٍ ) للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقة فلا يحقّ له و أصله هذا الأصل أن يطغى بكفره و يستكبر عن الطاعة.

و قوله:( فَقَدَّرَهُ ) أي أعطاه القدر في ذاته و صفاته و أفعاله فليس له أن يتعدّى الطور الّذي قدّر له و يتجاوز الحدّ الّذي عيّن له فقد أحاط به التدبير الربوبيّ من كلّ جانب ليس له أن يستقلّ بنيل ما لم يقدّر له.

قوله تعالى: ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره و استكباره أنّ المراد بالسبيل - و قد اُطلق - السبيل إلى طاعة الله و امتثال أوامره و إن شئت فقل: السبيل إلى الخير و السعادة.

فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنّه إذا قيل:( مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ) أمكن أن يتوهّم السامع أنّ الخلق و التقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كلّ جهة كانت أفعال الإنسان لذاته و صفاته مقدّرة مكتوبة و متعلّقة لمشيّة الربوبيّة الّتي لا تتخلّف فتكون أفعال الإنسان ضروريّة الثبوت واجبة التحقّق و الإنسان مجبراً عليها فاقداً للاختيار فلا صنع للإنسان في كفره إذا كفر و لا في فسقه إذا فسق و لم

٣١٣

يقض ما أمره الله به و إنّما ذلك بتقديره تعالى و إرادته فلا ذمّ و لا لائمة على الإنسان و لا دعوة دينية تتعلّق به لأنّ ذلك كلّه فرع للاختيار و لا اختيار.

فدفع الشبهة بقوله:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) و محصّله أنّ الخلق و التقدير لا ينافيان كون الإنسان مختاراً فيما أمر به من الإيمان و الطاعة له طريق إلى السعادة الّتي خلق لها فكلّ ميسّر لما خلق له و ذلك أنّ التقدير واقع على الأفعال الإنسانيّة من طريق اختياره، و الإرادة الربوبيّة متعلّقة بأن يفعل الإنسان بإرادته و اختياره كذا و كذا فالفعل صادر عن الإنسان باختياره و هو بما أنّه اختياريّ متعلّق للتقدير.

فالإنسان مختار في فعله مسؤل عنه و إن كان متعلّقاً للقدر، و قد تقدّم البحث عن هذا المعنى كراراً في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب.

و قيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الإنسان من بطن اُمّه و المعنى ثمّ سهّل للإنسان سبيل الخروج و هو جنين مخلوق من نطفة.

و قيل: المراد الهداية إلى الدين و تبيين طريق الخير و الشرّ كما قال:( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) البلد: 10 و الوجه المتقدّم أوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) الإماتة إيقاع الموت على الإنسان، و المراد بالإقبار دفنه في القبر و إخفاؤه في بطن الأرض و هذا بالبناء على الغالب الّذي جرى عليه ديدن الناس و بهذه المناسبة نسب إليه تعالى لأنّه تعالى هو الّذي هداهم إلى ذلك و ألهمهم إيّاه فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس.

و قيل: المراد بالإقبار جعله ذا قبر و معنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذّى بها الناس و لا يتنفّروا.

و الوجه المتقدّم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للإنسان دون التدبير التشريعيّ الّذي عليه بناء هذا الوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ) في المجمع: الإنشار الإحياء للتصرّف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطيّ. انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، و فيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى.

٣١٤

قوله تعالى: ( كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) الّذي يعطيه السياق أنّ( كَلَّا ) ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق و يلوّح إليه قوله:( لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ ) كأنّه لمّا اُشير إلى أنّ الإنسان مخلوق مدبّر له تعالى من أوّل وجوده إلى آخره من خلق و تقدير و تيسير للسبيل و إماتة و إقبار و إنشار و كلّ ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فما ذا صنع الإنسان و الحال هذه الحال و هل خضع للربوبيّة أو هل شكر النعمة فاُجيب و قيل: كلّا، ثمّ اُوضح فقيل: لمّا يقض ما أمره الله به بل كفر و عصى.

فقد ظهر ممّا تقدّم أن ضمير( يَقْضِ ) للإنسان و المراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، و قيل: الضمير لله تعالى و المعنى لمّا يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الإيمان و الطاعة بل إنّما أمره بما أمر إتماماً للحجّة، و هو بعيد.

و ظهر أيضاً أنّ ما في الآيات من الذمّ و اللّائمة إنّما هو للإنسان بما في طبعه من الإفراط في الكفر كما في قوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: 34 فينطبق على من تلبّس بالكفر و أفرط فيه بالعناد و منه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أنّ الآية على العموم في الكافر و المسلم لم يعبده أحد حقّ عبادته.

و ذلك أنّ الضمير للإنسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الإفراط في الكفر و ينطبق على من تلبّس به بالفعل.

قوله تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ ) متفرّع على ما تقدّم تفرّع التفصيل على الإجمال ففيه توجيه نظر الإنسان إلى طعامه الّذي يقتات به و يستمدّ منه لبقائه و هو واحد ممّا لا يحصى ممّا هيّأه التدبير الربوبيّ لرفع حوائجه في الحياة حتّى يتأمّله فيشاهد سعة التدبير الربوبيّ الّتي تدهش لبّه و تحيّر عقله، و تعلّق العناية الإلهيّة - على دقّتها و إحاطتها - بصلاح حاله و استقامة أمره.

و المراد بالإنسان - كما قيل - غير الإنسان المتقدّم المذكور في قوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) فإنّ المراد به خصوص الإنسان المبالغ في الكفر بخلاف الإنسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنّه عامّ شامل لكلّ إنسان، و لذلك أظهر و لم يضمر.

٣١٥

قوله تعالى: ( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا - إلى قوله -وَ لِأَنْعامِكُمْ ) القراءة الدائرة( أَنَّا ) بفتح الهمزة و هو بيان تفصيليّ لتدبيره تعالى طعام الإنسان نعم هو مرحلة ابتدائيّة من التفصيل و أمّا القول المستوفى لبيان خصوصيّات النظام الّذي هيّأ له هذه الاُمور و النظام الوسيع الجاري في كل من هذه الاُمور و الروابط الكونيّة الّتي بين كلّ واحد منها و بين الإنسان فممّا لا يسعه نطاق البيان عادة.

و بالجملة قوله:( أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ) الصبّ إراقة الماء من العلو، و المراد بصب الماء إنزال الأمطار على الأرض لإنبات النبات، و لا يبعد أن يشمل إجراء العيون و الأنهار فإنّ ما في بطن الأرض من ذخائر الماء إنّما يتكوّن من الأمطار.

و قوله:( ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ) ظاهره شقّ الأرض بالنبات الخارج منها و لذا عطف على صبّ الماء بثمّ و عطف عليه إنبات الحبّ بالفاء.

و قوله:( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ) ضمير( فِيها) للأرض، و المراد بالحبّ جنس الحبّ الّذي يقتات به الإنسان كالحنطة و الشعير و نحوهما و كذا في العنب و القضب و غيرهما.

و قوله:( وَ عِنَباً وَ قَضْباً ) العنب معروف، و يطلق على شجر الكرم و لعلّه المراد في الآية و نظيره الزيتون.

و القضب هو الغضّ الرطب من البقول الّذي يأكله الإنسان يقضب أي يقطع مرّة بعد اُخرى، و قيل: هو ما يقطع من النبات فتعلّف به الدوابّ.

و قوله:( وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلًا ) معروفان.

و قوله:( وَ حَدائِقَ غُلْباً ) الحدائق جمع حديقة و هي على ما فسّر البستان المحوّط و الغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.

و قوله:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) قيل: الفاكهة مطلق الثمار، و قيل: ما عدا العنب و الرّمان. قيل: إنّ ذكر ما يدخل في الفاكهة أوّلاً كالزيتون و النخل للاعتناء بشأنه

٣١٦

و الأبّ الكلاء و المرعى.

و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ ) مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا ممّا تطعمونه ليكون تمتيعاً لكم و للأنعام الّتي خصصتموها بأنفسكم.

و الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ ) إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العامّ الربوبيّ للإنسان بما أنّ فيه أمراً ربوبيّاً إلهيّاً بالعبودية يقضيه الإنسان أوّلاً يقضيه و هو يوم القيامة الّذي يوفّى فيه الإنسان جزاء أعماله.

و الصاخة: الصيحة الشديدة الّتي تصمّ الأسماع من شدّتها، و المراد بها نفخة الصور.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ ) إشارة إلى شدّة اليوم فالّذين عدّوا من أقرباء الإنسان و أخصائه هم الّذين كان يأوي إليهم و يأنس بهم و يتّخذهم أعضاداً و أنصاراً يلوذ بهم في الدنيا لكنّه يفرّ منهم يوم القيامة لما أنّ الشدّة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره و يعتني بما سواه كائناً من كان فالبلبيّة إذا عظمت و اشتدّت و أطّلت على الإنسان جذبته إلى نفسها و صرفته عن كلّ شي‏ء.

و الدليل على هذا المعنى قوله بعد:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) أي يكفيه من أن يشتغل بغيره.

و قيل: في سبب فرار الإنسان من أقربائه و أخصّائه يومئذ وجوه اُخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها.

قوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ) بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة و أهل الشقاء، و إشارة إلى أنّهم يعرفون بسيماهم في وجوههم و إسفار الوجه إشراقه و إضاءته فرحاً و سروراً و استبشاره تهلّله بمشاهدة ما فيه البشرى.

٣١٧

قوله تعالى: ( وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ ) هي الغبار و الكدورة و هي سيماء الهمّ و الغمّ.

قوله تعالى: ( تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) أي يعلوها و يغشاها سواد و ظلمة، و قد بيّن حال الطائفتين في الآيات الأربع ببيان حال وجوههما لأنّ الوجه مرآة القلب في سروره و مساءته.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) أي الجامعون بين الكفر اعتقاداً و الفجور و هو المعصية الشنيعة عملاً أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، و هذا تعريف للطائفة الثانية و هم أهل الشقاء و لم يأت بمثله في الطائفة الاُولى و هم أهل السعادة لأنّ الكلام مسوق للإنذار و الاعتناء بشأن أهل الشقاء.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى فدعا عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذه الأسد بطريق الشام.

و في الاحتجاج، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حديث طويل:( قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ) أي لعن الإنسان.

و في تفسير القمّيّ:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) قال: يسّر له طريق الخير.

أقول: المراد به جعله مختاراً في فعله يسهل به سلوكه سبيل السعادة و وصوله إلى الكمال الّذي خلق له. فالخبر منطبق على ما قدّمناه من الوجه في تفسير الآية.

و فيه،: في قوله:( وَ قَضْباً ) قال: القضب القتّ.

٣١٨

و فيه: في قوله:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) قال: الأبّ الحشيش للبهائم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوعبيد في فضائله عن إبراهيم التيميّ قال: سئل أبوبكر الصديق عن قوله:( وَ أَبًّا ) فقال: أيّ سماء تظلّني و أي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

و فيه، أخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن سعد و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و الخطيب و الحاكم و صحّحه عن أنس أنّ عمر قرأ على المنبر( فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَ عِنَباً وَ قَضْباً - إلى قوله -وَ أَبًّا ) قال: كلّ هذا قد عرفناه فما الأبّ؟ ثمّ رفض عصاً كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلّف فما عليك أن لا تدري ما الأبّ؟ اتّبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب فاعملوا به و ما لم تعرفوه فكلوه إلى ربّه.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن يزيد أنّ رجلاً سأل عمر عن قوله:( وَ أَبًّا ) فلمّا رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة.

أقول: هو مبني على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتّى تفسير ألفاظه.

و في إرشاد المفيد، و روي: أنّ أبابكر سئل عن قول الله تعالى:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) فلم يعرف معنى الأبّ من القرآن فقال: أيّ سماء تظلّني أم أيّ أرض تقلّني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ أمّا الفاكهة فنعرفها و أمّا الأبّ فالله أعلم.

فبلغ أميرالمؤمنينعليه‌السلام مقاله في ذلك فقال: سبحان الله أ ما علم أنّ الأبّ هو الكلاء و المرعى؟ و أنّ قوله تعالى:( وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ) اعتداد من الله بإنعامه على خلقه فيما غذّاهم به و خلقه لهم و لأنعامهم ممّا تحيى به أنفسهم و تقوم به أجسادهم.

و في المجمع، و روي عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يبعث الناس حفاة عراة غرلا(1) يلجمهم العرق و يبلغ شحمة الاُذن

____________________

(1) الغرل بالغين المعجمة جمع أغرل و هو الأقلف غير المختون.

٣١٩

قالت: قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض إذا جاء؟ قال: شغل الناس عن ذلك و تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

و في تفسير القمّيّ: قوله:( لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) قال: شغل يشغله عن غيره.

٣٢٠