الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199897
تحميل: 4969


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199897 / تحميل: 4969
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

و المراد بالأمر كما قيل واحد الأوامر لقوله تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: 16 و شأن الملك المطاع، الأمر بالمعنى المقابل للنهي، و الأمر بمعنى الشأن لا يلائم المقام تلك الملاءمة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ) قال: تنشقّ فتخرج الناس منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن حذيفة قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من استنّ خيراً فاستنّ به فله أجره و مثل اُجور من اتّبعه غير منتقص من اُجورهم و من استنّ شرّاً فاستنّ به فله وزره و مثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم، و تلا حذيفة( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ ) .

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن صالح بن مسمار قال: بلغني أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلا هذه الآية( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ثمّ قال: جهله.

و في تفسير القمّيّ:( فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ ) قال: لو شاء ركّبك على غير هذه الصورة.

أقول: و رواه في المجمع، عن الصادقعليه‌السلام مرسلاً.

و فيه،:( وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) قال: الملكان الموكّلان بالإنسان.

و عن سعد السعود، و في رواية: إنّهما - يعني الملكين الموكّلين - يأتيان المؤمن عند حضور صلاة الفجر فإذا هبطا صعد الملكان الموكّلان باللّيل فإذا غربت الشمس نزل إليه الموكّلان بكتابة اللّيل، و يصعد الملكان الكاتبان بالنهار بديوانه إلى الله عزّوجلّ.

فلا يزال ذلك دأبهم إلى وقت حضور أجله فإذا حضر أجله قالا للرجل الصالح: جزاك الله من صاحب عنّا خيراً فكم من عمل صالح أريتناه، و كم من قول حسن أسمعتناه، و كم من مجلس خير أحضرتناه فنحن اليوم على ما تحبّه و شفعاء إلى

٣٤١

ربّك، و إن كان عاصياً قالا له: جزاك الله من صاحب عنّا شرّاً فلقد كنت تؤذينا فكم من عمل سيّي‏ء أريتناه، و كم من قول سيّي‏ء أسمعتناه، و( كم) من مجلس سوء أحضرتناه و نحن اليوم لك على ما تكره، و شهيدان عند ربّك.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) روى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: الأمر يومئذ و اليوم كلّه لله. يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام فلم يبق حاكم إلّا الله.

أقول: مرادهعليه‌السلام أنّ كون الأمر لله لا يختصّ بيوم القيامة بل الأمر لله دائماً، و تخصيصه بيوم القيامة باعتبار ظهوره لا باعتبار أصله فالّذي يختصّ به ظهور هذه الحقيقة ظهور عيان فيسقط اليوم أمر غيره تعالى و حكمه، و نظير الأمر سائر ما عدّ في كلامه تعالى من مختصّات يوم القيامة، فالرواية من غرر الروايات.

٣٤٢

( سورة المطفّفين مكّيّة أو مدنيّة و هي ستّ و ثلاثون آية)

( سورة المطفّفين الآيات 1 - 21)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ( 1 ) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ( 2 ) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ( 3 ) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ( 4 ) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ( 5 ) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 6 ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ( 7 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ( 8 ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( 9 ) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ( 10 ) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 11 ) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ( 12 ) إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( 13 ) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ( 15 ) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ( 16 ) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ( 17 ) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ( 18 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ( 19 ) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ( 20 ) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ( 21 )

( بيان‏)

تفتتح السورة بوعيد أهل التطفيف في الكيل و الوزن و تنذرهم بأنّهم مبعوثون للجزاء في يوم عظيم و هو يوم القيامة ثمّ تتخلّص لتفصيل ما يجري يومئذ على الفجّار و الأبرار.

٣٤٣

و الأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون أوّل السورة المشتمل على وعيد المطفّفين نازلاً بالمدينة و أمّا ما يتلوه من الآيات إلى آخر السورة فيقبل الانطباق على السياقات المكّيّة و المدنيّة.

قوله تعالى: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) دعاء على المطفّفين و التطفيف نقص المكيال و الميزان، و قد نهى الله تعالى عنه و سمّاه إفساداً في الأرض كما فيما حكاه من قول شعيب:( وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) هود: 84، و قد تقدّم الكلام في تفسير الآية في معنى كونه إفساداً في الأرض.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) الاكتيال من الناس الأخذ منهم بالكيل، و تعديته بعلى لإفادة معنى الضرر، و الكيل إعطاؤهم بالمكيال يقال: كاله طعامه و وزنه و كال له طعامه و وزن له و الأوّل لغة أهل الحجاز و عليه التنزيل و الثاني لغة غيرهم كما في المجمع، و الاستيفاء أخذ الحقّ تامّاً كاملاً، و الإخسار الإيقاع في الخسارة.

و المعنى: الّذين إذا أخذوا من الناس بالكيل يأخذون حقّهم تامّاً كاملاً، و إذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصون فيوقعونهم في الخسران.

فمضمون الآيتين جميعاً ذمّ واحد و هو أنّهم يراعون الحقّ لأنفسهم و لا يراعونه لغيرهم و بعبارة اُخرى لا يراعون لغيرهم من الحقّ مثل ما يراعونه لأنفسهم و فيه إفساد الاجتماع الإنسانيّ المبنيّ على تعادل الحقوق المتقابلة و في إفساده كلّ الفساد.

و لم يذكر الاتّزان مع الاكتيال كما ذكر الوزن مع الكيل إذ قال:( وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ) قيل: لأنّ المطفّفين كانوا باعة و هم كانوا في الأغلب يشترون الكثير من الحبوب و البقول و نحوهما من الأمتعة ثمّ يكسبون بها فيبيعونها يسيراً يسيراً تدريجاً، و كان دأبهم في الكثير من هذه الأمتعة أن يؤخذ و يعطى بالكيل لا بالوزن فذكر الاكتيال وحده في الآية مبنيّ على الغالب.

و قيل: لم يذكر الاتّزان لأنّ الكيل و الوزن بهما البيع و الشراء فذكر

٣٤٤

أحدهما يدلّ على الآخر. و فيه أنّ ما ذكر في الاكتيال جار في الكيل أيضاً و قد ذكر معه الوزن فالوجه لا يخلو من تحكّم.

و قيل: الآيتان تحاكيان ما كان عليه دأب الّذين نزلت فيهم السورة فقد كانوا يشترون بالاكتيال فقط و يبيعون بالكيل و الوزن جميعاً، و هذا الوجه دعوى من غير دليل.

إلى غير ذلك ممّا ذكروه في توجيه الاقتصار على ذكر الاكتيال في الآية، و لا يخلو شي‏ء منها من ضعف.

قوله تعالى: ( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) الاستفهام للإنكار و التعجيب، و الظنّ بمعناه المعروف و الإشارة إلى المطفّفين باُولئك الموضوعة للإشارة البعيدة للدلالة على بعدهم من رحمة الله، و اليوم العظيم يوم القيامة الّذي يجازون فيه بعملهم.

و الاكتفاء بظنّ البعث و حسبانه - مع أنّ من الواجب الاعتقاد العلميّ بالمعاد - لأنّ مجرّد حسبان الخطر و الضرر في عمل يوجب التجنّب عنه و التحرّز عن اقترافه و إن لم يكن هناك علم فالظنّ بالبعث ليوم عظيم يؤاخذ الله فيه الناس بما كسبوا من شأنه أن يردعهم عن اقتراف هذا الذنب العظيم الّذي يستتبع العذاب الأليم.ليم.

و قيل: الظنّ في الآية بمعنى العلم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) المراد به قيامهم من قبورهم - كناية عن تلبّسهم بالحياة بعد الممات - لحكمه تعالى و قضائه بينهم.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) ردع - كما قيل - عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن البعث و الحساب.

و قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) إلخ الّذي يعطيه التدبّر في سياق

٣٤٥

الآيات الأربع بقياس بعضها إلى بعض و قياس المجموع إلى مجموع قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ) إلى تمام أربع آيات أنّ المراد بسجّين ما يقابل علّيّين و معناه علو على علو مضاعف ففيه شي‏ء من معنى السفل و الانحباس فيه كما يشير إليه قوله:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ ) التين: 5 فالأقرب أن يكون مبالغة من السجن بمعنى الحبس كسكّير و شرّيب من السكر و الشرب فمعناه الّذي يحبس من دخله على التخليد كما قيل.

و الكتاب بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء المحتوم و المراد بكتاب الفجّار ما قدّره الله لهم من الجزاء و أثبته بقضائه المحتوم.

فمحصّل الآية أنّ الّذي أثبته الله من جزائهم أو عدّه لهم لفي سجّين الّذي هو سجن يحبس من دخله حبساً طويلاً أو خالداً.

و قوله:( وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ) مسوق للتهويل.

و قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) خبر لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى سجّين و الجملة بيان لسجّين و( كتاب ) أيضاً بمعنى المكتوب من الكتابة بمعنى القضاء و الإثبات، و( مرقوم ) من الرقم، قال الراغب: الرقم الخطّ الغليظ، و قيل: هو تعجيم الكتاب، و قوله تعالى:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) حمل على الوجهين. انتهى، و المعنى الثاني أنسب للمقام فيكون إشارة إلى كون ما كتب لهم متبيّناً لا إبهام فيه أي إنّ القضاء حتم لا يتخلّف.

و المحصّل أنّ سجّين مقضيّ عليهم مثبت لهم متبيّن متميّز لا إبهام فيه.

و لا ضير في لزوم كون الكتاب ظرفاً للكتاب على هذا المعنى لأنّ ذلك من ظرفية الكلّ للجزء و هي ممّا لا ضير فيه فيكون سجّين كتاباً جامعاً فيه ما قضي على الفجّار و غيرهم من مستحقّي العذاب.

و قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) نعي و دعاء على الفجّار و فيه تفسيرهم بالمكذّبين، و( يَوْمَئِذٍ ) ظرف لقوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) بحسب

٣٤٦

المعنى أي ليهلك الفجّار - و هم المكذّبون - يومئذ تحقّق ما كتب الله لهم و قضى عليهم من الجزاء و حلّ بهم ما أعدّ لهم من العذاب.

هذا ما يفيده التدبّر في هذه الآيات الأربع، و هي ذات سياق واحد متّصل متلائم الأجزاء.

و للقوم في تفسير مفردات الآيات الأربع و جملها أقوال متفرّقة كقولهم: إنّ الكتاب في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) بمعنى المكتوب و المراد به صحيفة أعمالهم، و قيل: مصدر بمعنى الكتابة و في الكلام مضاف محذوف و التقدير كتابة عمل الفجّار لفي سجّين.

و قولهم: إنّ الفجّار أعمّ من المكذّبين فيشمل الكفّار و الفسقة جميعاً.

و قولهم: إنّ المراد بسجّين الأرض السابعة السفلى يوضع فيها كتاب الفجّار و قيل: واد في جهنّم، و قيل: جبّ فيها، و قيل: سجّين اسم لكتابهم، و قيل: سجّين الأوّل اسم الموضع الّذي يوضع فيه كتابهم و الثاني اسم كتابهم، و قيل: هو اسم كتاب جامع هو ديوان الشرّ دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين، و قيل: المراد به الخسار و الهوان فهو كقولهم: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول، و قيل: هو السجّيل بدّل لامه نوناً كما يقال جبرين في جبريل إلى غير ذلك ممّا قيل.

و قولهم: إنّ قوله:( كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ليس بياناً و تفسيراً لسجّين بل تفسير للكتاب المذكور في قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) .

و قولهم: إنّ قوله:( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) متّصل بقوله:( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ) و الآيات الثلاث الواقعة بين الآيتين اعتراض.

و أنت إن تأمّلت هذه الأقاويل وجدت كثيراً منها تحكّماً محضاً لا دليل عليه.

على أنّها تقطع ما في الآيات من السياق الواحد المتّصل الّذي يحاذي به ما في الآيات الأربع الآتية في صفة كتاب الأبرار من السياق الواحد المتّصل فلا نطيل الكلام بالتعرّض لواحد واحد منها و المناقشة فيها.

٣٤٧

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) تفسير للمكذّبين و ظاهر الآية - و يؤيّده الآيات التالية - أنّ المراد بالتكذيب هو التكذيب القوليّ الصريح فيختصّ الذمّ بالكفّار و لا يشمل الفسقة من أهل الإيمان فلا يشمل مطلق المطفّفين بل الكفّار منهم.

اللّهمّ إلّا أن يراد بالتكذيب ما يعمّ التكذيب العمليّ كما ربّما أيّده قوله السابق:( أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ) فيشمل الفجّار من المؤمنين كالكفّار.

قوله تعالى: ( وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ) المعتدي اسم فاعل من الاعتداء بمعنى التجاوز و المراد به المتجاوز عن حدود العبوديّة، و الأثيم كثير الآثام بحيث تراكم بعضها على بعض بانهماكه في الأهواء.

و من المعلوم أنّ المانع الوحيد الّذي يردع عن المعصية هو الإيمان بالبعث و الجزاء، و المنهمك في الأهواء المتعلّق قلبه بالاعتداء و الإثم تأبى نفسه التسليم لما يردع عنها و التزهّد عن المعاصي و ينتهي إلى تكذيب البعث و الجزاء قال تعالى:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) الروم: 10.

قوله تعالى: ( إِذا تُتْلى‏ عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) المراد بالآيات آيات القرآن بقرينة قوله( تُتْلى) و الأساطير ما سطروه و كتبوه و المراد بها أباطيل الاُمم الماضين و المعنى إذا تتلى عليه آيات القرآن ممّا يحذّرهم المعصية و ينذرهم بالبعث و الجزاء قال: هي أباطيل.

قوله تعالى: ( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ردع عمّا قاله المكذّبون:( أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) قال الراغب: الرين صدا يعلو الشي‏ء الجليل(1) قال تعالى:( بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) أي صار ذلك كصدء على جلاء قلوبهم فعمي عليهم معرفة الخير من الشرّ، انتهى. فكون ما كانوا يكسبون و هو الذنوب ريناً على

____________________

(1) الجلي ظ.

٣٤٨

قلوبهم هو حيلولة الذنوب بينهم و بين أن يدركوا الحقّ على ما هو عليه.

و يظهر من الآية:

أوّلاً: أنّ للأعمال السيّئة نقوشاً و صوراً في النفس تنتقش و تتصوّر بها.

و ثانياً: أنّ هذه النقوش و الصور تمنع النفس أن تدرك الحقّ كما هو و تحول بينها و بينه.

و ثالثاً: أنّ للنفس بحسب طبعها الأوّلي صفاءً و جلاءً تدرك به الحقّ كما هو و تميّز بينه و بين الباطل و تفرّق بين التقوى و الفجور قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: 8.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ) ردع عن كسب الذنوب الحائلة بين القلب و إدراك الحقّ، و المراد بكونهم محجوبين عن ربّهم يوم القيامة حرمانهم من كرامة القرب و المنزلة و لعلّه مراد من قال: إنّ المراد كونهم محجوبين عن رحمة ربّهم.

و أمّا ارتفاع الحجاب بمعنى سقوط الأسباب المتوسّطة بينه تعالى و بين خلقه و المعرفة التامّة به تعالى فهو حاصل لكلّ أحد قال تعالى:( لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن: 16 و قال:( وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) النور: 25.

قوله تعالى: ( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ ) أي داخلون فيها ملازمون لها أو مقاسون حرّها على ما فسّره بعضهم و( ثُمَّ ) في الآية و ما بعدها للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) هو توبيخ و تقريع و القائل خزنة النار أو أهل الجنّة.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) ردع في معنى الردع الّذي في قوله:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ) و

٣٤٩

علّيّون - كما تقدّم - علو على علو مضاعف، و ينطبق على الدرجات العالية و منازل القرب من الله تعالى كما أنّ السجّين بخلافه.

و الكلام في معنى الآيات الثلاث نظير الكلام في الآيات الثلاث المتقدّمة الّتي تحاذيها من قوله:( إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ ) .

فالمعنى أنّ الّذي كتب للأبرار و قضي جزاءً لبرّهم لفي علّيّين و ما أدراك ما علّيّون هو أمر مكتوب و مقضيّ قضاءً حتماً لازماً متبيّن لا إبهام فيه.

و للقوم أقاويل في هذه الآيات نظير ما لهم في الآيات السابقة من الأقوال غير أنّ من أقوالهم في علّييّن أنّه السماء السابعة تحت العرش فيه أرواح المؤمنين، و قيل سدرة المنتهى الّتي إليها تنتهي الأعمال، و قيل: لوح من زبرجدة تحت العرش معلّق مكتوب فيه أعمالهم، و قيل: هي مراتب عالية محفوفة بالجلالة، و الكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من أقوالهم.

قوله تعالى: ( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) الأنسب لما تقدّم من معنى الآيات السابقة أن يكون( يَشْهَدُهُ ) من الشهود بمعنى المعاينة و المقرّبون قوم من أهل الجنّة هم أعلى درجة من عامّة الأبرار على ما سيأتي استفادته من قوله:( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) فالمراد معاينتهم له بإراءة الله إيّاه لهم و قد قال الله تعالى في مثله من أمر الجحيم:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر: 6 و منه يظهر أنّ المقرّبين هم أهل اليقين.

و قيل: الشهادة هي الحضور و المقرّبون الملائكة، و المراد حضور الملائكة على صحيفة عملهم إذا صعدوا بها إلى الله سبحانه.

و قيل: المقرّبون هم الأبرار و الملائكة جميعاً.

و القولان مبنيّان على أنّ المراد بالكتاب صحيفة الأعمال و قد تقدّم ضعفه.

٣٥٠

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: نزلت يعني سورة المطفّفين على نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قدم المدينة و هم يومئذ أسوأ الناس كيلاً فأحسنوا الكيل.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: إنّ الله عزّوجلّ خلقنا من أعلى علّيّين و خلق قلوب شيعتنا ممّا خلقنا منه و خلق أبدانهم من دون ذلك فقلوبهم تهوي إلينا لأنّها خلقت ممّا خلقنا ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) .

و خلق قلوب عدوّنا من سجّين و خلق قلوب شيعتهم ممّا خلقهم منه و أبدانهم من دون ذلك، قلوبهم تهوي إليهم لأنّها خلقت ممّا خلقوا منه ثمّ تلا هذه الآية( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .

أقول: و روي مثله في اُصول الكافي، بطريق آخر عن الثماليّ عنهعليه‌السلام ، و رواه في علل الشرائع، بإسناد فيه رفع عن زيد الشحّام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : مثله‏، و الأحاديث - كما ترى - تؤيّد ما قدّمناه في معنى الآيات.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ) قال: ما كتب الله لهم من العذاب لفي سجّين.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: السجّين الأرض السابعة و علّيّون السماء السابعة.

أقول: الرواية لو صحّت مبنيّة على انتساب الجنّة و النار إلى جهتي العلو و السفل بنوع من العناية و لذلك نظائر في الروايات كعدّ القبر روضة من رياض

٣٥١

الجنّة أو حفرة من حفر النار و عدّ وادي برهوت مكاناً لجهنّم.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب قال: التقى سلمان و عبدالله بن سلام فقال أحدهما لصاحبه: إن متّ قبلي فالقني فأخبرني بما صنع ربّك بك و إن أنا متّ قبلك لقيتك فأخبرتك فقال عبدالله: كيف يكون هذا؟ قال: نعم إنّ أرواح المؤمنين تكون في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت و نفس الكافر في سجّين و الله أعلم.

و في اُصول الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما من عبد إلّا و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً و هو قول الله عزّوجلّ:( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن عدّة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن محمّد الحجّال عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تذاكروا و تلاقوا و تحدّثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب إنّ القلوب لترين كما يرين السيف و جلاؤه الحديث.

و عن روضة الواعظين، قال الباقرعليه‌السلام : ما شي‏ء أفسد للقلب من الخطيئة إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه فيصير أسفله أعلاه و أعلاه أسفله.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب و نزع و استغفر صقل قلبه منه و إن ازداد زادت فذلك الران الّذي ذكره الله تعالى في كتابه( كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

٣٥٢

( سورة المطفّفين الآيات 22 - 36)

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 22 ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( 23 ) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ( 24 ) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ( 25 ) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( 26 ) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ ( 27 ) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ( 28 ) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ( 29 ) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ( 30 ) وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ( 31 ) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ( 32 ) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ( 33 ) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ( 34 ) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ( 35 ) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 )

( بيان‏)

بيان فيه بعض التفصيل لجلالة قدر الأبرار و عظم منزلتهم عند الله تعالى و غزارة عيشهم في الجنّة، و أنّهم على كونهم يستهزئ بهم الكفّار و يتغامزون بهم و يضحكون منهم سيضحكون منهم و ينظرون إلى ما ينالهم من العذاب.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) النعيم النعمة الكثيرة و في تنكيره دلالة على فخامة قدره، و المعنى إنّ الأبرار لفي نعمة كثيرة لا يحيط بها الوصف.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ ) الأرائك جمع أريكة و الأريكة السرير

٣٥٣

في الجملة و هي البيت المزيّن للعروس و إطلاق قوله:( يَنْظُرُونَ ) من غير تقييد يؤيّد أن يكون المراد نظرهم إلى مناظر الجنّة البهجة و ما فيها من النعيم المقيم، و قيل: المراد به النظر إلى ما يجزي به الكفّار و ليس بذاك.

قوله تعالى: ( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) النضرة البهجة و الرونق، و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتبار أنّ له أن ينظر فيعرف فالحكم عامّ و المعنى كلّ من نظر إلى وجوههم يعرف فيها بهجة النعيم الّذي هم فيه.

قوله تعالى: ( يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ) الرحيق الشراب الصافي الخالص من الغشّ، و يناسبه وصفه بأنّه مختوم فإنّه إنّما يختم على الشي‏ء النفيس الخالص ليسلم من الغشّ و الخلط و إدخال ما يفسده فيه.

قوله تعالى: ( خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قيل الختام بمعنى ما يختم به أي إنّ الّذي يختم به مسك بدلاً من الطين و نحوه الّذي يختم به في الدنيا، و قيل: أي آخر طعمه الّذي يجده شاربه رائحة المسك.

و قوله:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) التنافس التغالب على الشي‏ء و يفيد بحسب المقام معنى التسابق قال تعالى:( سابِقُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ ) الحديد: 21، و قال:( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) المائدة: 48، ففيه ترغيب إلى ما وصف من الرحيق المختوم.

و استشكل في الآية بأنّ فيها دخول العاطف على العاطف إذ التقدير فليتنافس في ذلك إلخ.

و اُجيب بأنّ الكلام على تقدير حرف الشرط و الفاء واقعة في جوابه و قدّم الظرف ليكون عوضاً عن الشرط و التقدير و إن اُريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون.

و يمكن أن يقال: إنّ قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) معطوف على ظرف آخر محذوف متعلّق بقوله:( فَلْيَتَنافَسِ ) يدلّ عليه المقام فإنّ الكلام في وصف نعيم الجنّة فيفيد قوله:( وَ فِي ذلِكَ ) ترغيباً مؤكّداً بتخصيص الحكم بعد التعميم، و المعنى فليتنافس

٣٥٤

المتنافسون في نعيم الجنّة عامّة و في الرحيق المختوم الّذي يسقونه خاصّة فهو كقولنا: أكرم المؤمنين و الصالحين منهم خاصّة، و لا تكن عيّاباً و للعلماء خاصّة.

قوله تعالى: ( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) المزاج ما يمزج به، و التسنيم على ما تفسّره الآية التالية عين في الجنّة سمّاه الله تسنيماً و في لفظه معنى الرفع و المل‏ء يقال: سنّمه أي رفعه و منه سنام الإبل، و يقال: سنّم الإناء أي ملأه.

قوله تعالى: ( عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) يقال: شربه و شرب به بمعنى و( عَيْناً ) منصوب على المدح أو الاختصاص و( يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) وصف لها و المجموع تفسير للتسنيم.

و مفاد الآية أنّ المقرّبين يشربون التسنيم صرفاً كما أنّ مفاد قوله:( وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ) أنّه يمزج بها ما في كأس الأبرار من الرحيق المختوم، و يدلّ ذلك أوّلاً على أنّ التسنيم أفضل من الرحيق المختوم الّذي يزيد لذّة بمزجها، و ثانياً أنّ المقرّبين أعلى درجة من الأبرار الّذين يصفهم الآيات.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ) يعطي السياق أنّ المراد بالّذين آمنوا هم الأبرار الموصوفون في الآيات و إنّما عبّر عنهم بالّذين آمنوا لأنّ سبب ضحك الكفّار منهم و استهزائهم بهم إنّما هو إيمانهم كما أنّ التعبير عن الكفّار بالّذين أجرموا للدلالة على أنّهم بذلك من المجرمين.

قوله تعالى: ( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) عطف على قوله:( يَضْحَكُونَ ) أي كانوا إذا مرّوا بالّذين آمنوا يغمز بعضهم بعضاً و يشيرون بأعينهم استهزاءً بهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى‏ أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ) الفكه بالفتح فالكسر المرح البطر، و المعنى و كانوا إذا انقلبوا و صاروا إلى أهلهم عن ضحكهم و تغامزهم انقلبوا ملتذّين فرحين بما فعلوا أو هو من الفكاهة بمعنى حديث ذوي الاُنس و المعنى انقلبوا و هم يحدّثون بما فعلوا تفكّها.

قوله تعالى: ( وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ ) على سبيل الشهادة عليهم بالضلال أو القضاء عليهم و الثاني أقرب.

٣٥٥

قوله تعالى: ( وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ ) أي و ما اُرسل هؤلاء الّذين أجرموا حافظين على المؤمنين يقضون في حقّهم بما شاؤا أو يشهدون عليهم بما هووا، و هذا تهكّم بالمستهزئين.

قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ) المراد باليوم يوم الجزاء، و التعبير عن الّذين أجرموا بالكفّار رجوع إلى حقيقة صفتهم. قيل: تقديم الجار و المجرور على الفعل أعني( مِنَ الْكُفَّارِ ) على( يَضْحَكُونَ ) لإفادة قصر القلب، و المعنى فاليوم الّذين آمنوا يضحكون من الكفّار لا الكفّار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا.

قوله تعالى: ( عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ) الثواب في الأصل مطلق الجزاء و إن غلب استعماله في الخير، و قوله( عَلَى الْأَرائِكِ ) خبر بعد خبر للّذين آمنوا و( يَنْظُرُونَ ) خبر آخر، و قوله:( هَلْ ثُوِّبَ ) إلخ متعلّق بقوله:( يَنْظُرُونَ ) قائم مقام المفعول.

و المعنى: الّذين آمنوا على سرر في الحجال ينظرون إلى جزاء الكفّار بأفعالهم الّتي كانوا يفعلونها في الدنيا من أنواع الإجرام و منها ضحكهم من المؤمنين و تغامزهم إذا مرّوا بهم و انقلابهم إلى أهلهم فكهين و قولهم: إنّ هؤلاء لضالّون.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ) قال: فيما ذكرناه من الثواب الّذي يطلبه المؤمن.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ‏ ) قيل نزلت في عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و ذلك أنّه كان في نفر من المسلمين جاؤا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع

٣٥٦

فضحكنا منه فنزلت الآية قبل أن يصل عليّ و أصحابه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عن مقاتل و الكلبيّ.

أقول: و قد أورده في الكشّاف.

و فيه ذكر الحاكم أبوالقاسم الحسكانيّ في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ) منافقوا قريش و( الَّذِينَ آمَنُوا ) عليّ بن أبي طالب و أصحابه.

و في تفسير القمّيّ:( إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا - إلى قوله -فَكِهِينَ ) قال: يسخرون.

٣٥٧

( سورة الانشقاق مكّيّة و هي خمس و عشرون آية)

( سورة الانشقاق الآيات 1 - 25)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ( 1 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 2 ) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ( 3 ) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ( 4 ) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ( 5 ) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ( 6 ) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ( 7 ) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ( 8 ) وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 9 ) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ( 10 ) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ( 11 ) وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ( 12 ) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا ( 13 ) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ( 14 ) بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ( 15 ) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ( 16 ) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ ( 17 ) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ( 18 ) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ( 19 ) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ( 20 ) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ( 21 ) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ( 22 ) وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ ( 23 ) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 24 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ( 25 )

٣٥٨

( بيان‏)

تشير السورة إلى قيام الساعة، و تذكر أنّ للإنسان سيراً إلى ربّه حتّى يلاقيه فيحاسب على ما يقتضيه كتابه و تؤكّد القول في ذلك و الغلبة فيها للإنذار على التبشير. و سياق آياتها سياق مكّي.

قوله تعالى: ( إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ) شرط جزاؤه محذوف يدلّ عليه قوله:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) و التقدير: لاقى الإنسان ربّه فحاسبه و جازاه على ما عمل.

و انشقاق السماء و هو تصدّعه و انفراجه من أشراط الساعة كمدّ الأرض و سائر ما ذكر في مواضع من كلامه تعالى من تكوير الشمس و اجتماع الشمس و القمر و انتثار الكواكب و نحوها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) الإذن الاستماع و منه الاُذن لجارحة السمع و هو مجاز عن الانقياد و الطاعة، و( حُقَّتْ ) أي جعلت حقيقة و جديرة بأن تسمع، و المعنى و أطاعت و انقادت لربّها و كانت حقيقة و جديرة بأن تستمع و تطيع.

قوله تعالى: ( وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ) الظاهر أنّ المراد به اتّساع الأرض، و قد قال تعالى:( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ) إبراهيم: 48.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ ) أي ألقت الأرض ما في جوفها من الموتى و بالغت في الخلوّ ممّا فيها منهم.

و قيل: المراد إلقائها الموتى و الكنوز كما قال تعالى:( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) الزلزال: 2.

و قيل: المعنى ألقت ما في بطنها و تخلّت ممّا على ظهرها من الجبال و البحار، و لعلّ أوّل الوجوه أقربها.

قوله تعالى: ( وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ ) ضمائر التأنيث للأرض كما أنّها في

٣٥٩

نظيرتها المتقدّمة للسماء، و قد تقدّم معنى الآية.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) قال الراغب: الكدح السعي و العناء. انتهى. ففيه معنى السير، و قيل: الكدح جهد النفس في العمل حتّى يؤثّر فيها انتهى. و على هذا فهو مضمّن معنى السير بدليل تعدّيه بإلى ففي الكدح معنى السير على أيّ حال.

و قوله:( فَمُلاقِيهِ ) عطف على( كادِحٌ ) و قد بيّن به أنّ غاية هذا السير و السعي و العناء هو الله سبحانه بما أنّ له الربوبيّة أي إنّ الإنسان بما أنّه عبد مربوب و مملوك مدبّر ساع إلى الله سبحانه بما أنّه ربّه و مالكه المدبّر لأمره فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة و لا عملاً فعليه أن يريد و لا يعمل إلّا ما أراده ربّه و مولاه و أمره به فهو مسؤل عن إرادته و عمله.

و من هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) يتضمّن حجّة على المعاد لما عرفت أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا مع عبوديّة و لا تتمّ العبوديّة إلّا مع مسؤليّة و لا تتمّ مسؤليّة إلّا برجوع و حساب على الأعمال و لا يتمّ حساب إلّا بجزاء.

و ثانياً: أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلى حيث لا حكم إلّا حكمه من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.

و ثالثاً: أنّ المخاطب في الآية هو الإنسان بما أنّه إنسان فالمراد به الجنس و ذلك أنّ الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) تفصيل مترتّب على ما يلوّح إليه قوله:( إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ ) أنّ هناك رجوعاً و سؤالاً عن الأعمال و حساباً، و المراد بالكتاب صحيفة الأعمال بقرينة ذكر الحساب، و قد تقدّم الكلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين في سورتي الإسراء و الحاقّة.

قوله تعالى: ( فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً ) الحساب اليسير ما سوهل فيه و خلا عن المناقشة.

قوله تعالى: ( وَ يَنْقَلِبُ إِلى‏ أَهْلِهِ مَسْرُوراً ) المراد بالأهل من أعدّه الله له في

٣٦٠