الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199933
تحميل: 4971


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199933 / تحميل: 4971
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكريم المصدّق لما بين يديه من الكتاب و المهيمن(1) عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائماً بأمرهم حافظاً لمصالح حياتهم كما يبيّنه بأوفى البيان قوله تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: 30.

و بهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شمول الدعوة الإسلاميّة لعامّة البشر فقوله:( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ ) إلخ يشير إلى أنّه كان من الواجب في سنّة الهداية الإلهيّة أن تتمّ الحجّة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب و المشركين، و هؤلاء و إن كانوا بعض أهل الكتاب و المشركين لكن من الضروريّ أن لا فرق بين البعض و البعض في تعلّق الدعوة فتعلّقها بالبعض لا ينفكّ عن تعلّقها بالكلّ.

و قوله:( رَسُولٌ مِنَ اللهِ ) إلخ يشير إلى أنّ تلك البيّنة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قوله:( وَ ما تَفَرَّقَ ) إلخ يشير إلى أنّ تفرّقهم و كفرهم السابق بالحقّ أيضاً كان بعد مجي‏ء البيّنة.

و قوله:( وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ ) إلخ يفيد أنّ الّذي دعوا إليه و اُمروا به دين قيّم حافظ لمصالح المجتمع البشريّ فعليهم جميعاً أن يؤمنوا به و لا يكفروا.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ) لمّا فرغ من الإشارة إلى كفرهم بالبيّنة الّتي كانت توجبها سنّة الهداية الإلهيّة و ما كانت تدعو إليه من الدين القيّم أخذ في الإنذار و التبشير بوعيد الكفّار و وعد المؤمنين، و البريّة الخلق، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فيه قصر الخيريّة في المؤمنين الصالحين كما أنّ في الآية السابقة قصر الشرّيّة في الكفّار.

____________________

(1) سورة المائدة، آية 48.

٤٨١

قوله تعالى: ( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ - إلى قوله -ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) العدن الاستقرار و الثبات فجنّات عدن جنّات خلود و دوام و توصيفها بقوله:( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) تأكيد بما يدلّ عليه الاسم.

و قوله:( رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ) الرضى منه تعالى صفة فعل و مصداقه الثواب الّذي أعطاهموه جزاء لإيمانهم و عملهم الصالح.

و قوله:( ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة و قد قال تعالى:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) فاطر: 28 فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، و الخشية منه تستتبع الإيمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيّته و اُلوهيّته ثمّ العمل الصالح.

و اعلم أنّ لهم في تفسير مفردات هذه الآيات اختلافاً شديداً و أقوالاً كثيرة لا جدوى في التعرّض لها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطوّلات.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: البيّنة محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟ قال: يا عائشة أ ما تقرئين( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ؟

و فيه، أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: كنّا عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقبل عليّ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و الّذي نفسي بيده إنّ هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة و نزلت:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) فكان أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن ابن عديّ عن ابن عبّاس، و أيضاً عن ابن

٤٨٢

مردويه عن عليّعليه‌السلام و رواه أيضاً في البرهان، عن الموفّق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد بن شراحيل الأنصاريّ كاتب عليّ عنه، و كذا في المجمع، عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، و لفظه: سمعت عليّا يقول: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا مسنده إلى صدري فقال: يا عليّ أ لم تسمع قول الله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) هم شيعتك و موعدي و موعدكم الحوض إذا اجتمع الاُمم للحساب يدعون غرّاً محجّلين.

و في المجمع، عن مقاتل بن سليمان عن الضحّاك عن ابن عبّاس في قوله:( هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال: نزلت في عليّ و أهل بيته.

٤٨٣

( سورة الزلزال مدنيّة و هي ثمان آيات)

( سورة الزلزلة الآيات 1 - 8)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ( 1 ) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ( 2 ) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ( 3 ) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( 4 ) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ( 5 ) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ( 6 ) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ( 7 ) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ( 8 )

( بيان‏)

ذكر للقيامة و صدور الناس للجزاء و إشارة إلى بعض أشراطها و هي زلزلة الأرض و تحديثها أخبارها. و السورة تحتمل المكّيّة و المدنيّة.

قوله تعالى: ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) الزلزال مصدر كالزلزلة، و إضافته إلى ضمير الأرض تفيد الاختصاص، و المعنى إذا زلزلت الأرض زلزلتها الخاصّة بها فتفيد التعظيم و التفخيم أي إنّها منتهية في الشدّة و الهول.

قوله تعالى: ( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) الأثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، و على أيّ حال المراد بأثقالها الّتي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز و المعادن الّتي في بطنها أو الجميع و لكلّ قائل و أوّل الوجوه أقربها ثمّ الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، و قوله:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ ) إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء.

قوله تعالى: ( وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) أي يقول مدهوشاً متعجّباً من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للأرض تتزلزل هذا الزلزال، و قيل: المراد بالإنسان الكافر غير

٤٨٤

المؤمن بالبعث، و قيل غير ذلك كما سيجي‏ء.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم و كتاب الأعمال من الملائكة و شهداء الأعمال من البشر و غيرهم.

و قوله:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) اللّام بمعنى إلى لأنّ الإيحاء يتعدّى بإلى و المعنى تحدّث أخبارها بسبب أنّ ربّك أوحى إليها أن تحدّث فهي شاعرة بما يقع فيها من الأعمال خيرها و شرّها متحمّلة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدّث أخبارها و تشهد بما تحمّلت، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) إسراء: 44، و قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) حم السجدة: 21 أنّ المستفاد من كلامه سبحانه أنّ الحياة و الشعور ساريان في الأشياء و إن كنّا في غفلة من ذلك.

و قد اشتدّ الخلاف بينهم في معنى تحديث الأرض بالوحي أ هو بإعطاء الحياة و الشعور للأرض الميتة حتّى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها و عدّ ذلك تكلّماً منها أو دلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الأعمال، و لا محلّ لهذا الاختلاف بعد ما سمعت و لا أنّ الحجّة تتمّ على أحد بهذا النوع من الشهادة.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) الصدور انصراف الإبل عن الماء بعد وروده، و أشتات كشتّى جمع شتيت بمعنى المتفرّق، و الآية جواب بعد جواب لإذا.

و المراد بصدور الناس متفرّقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنّة و النار و أهل السعادة و الفلاح منهم متميّزون من أهل الشقاء و الهلاك، و إراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسّم الأعمال.

و قيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرّقين متميّزين بسواد الوجوه و بياضها و بالفزع و الأمن و غير ذلك لإعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب و التعبير

٤٨٥

عن العلم بالجزاء بالرؤية و عن الاعلام بالإراءة نظير ما في قوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: 30، و الوجه الأوّل أقرب و أوضح.

قوله تعالى: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) المثقال ما يوزن به الأثقال، و الذرّة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، و تقال لصغار النمل.

تفريع على ما تقدّم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنّه لا يستثني من الإراءة عمل خيراً أو شرّاً كبيراً أو صغيراً حتّى مثقال الذرّة من خير أو شرّ، و بيان حال كلّ من عمل الخير و الشرّ في جملة مستقلّة لغرض إعطاء الضابط و ضرب القاعدة.

و لا منافاة بين ما تدلّ عليه الآيتان من العموم و بين الآيات الدالّة على حبط الأعمال، و الدالّة على انتقال أعمال الخير و الشرّ من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول و سيّئات المقتول إلى القاتل، و الدالّة على تبديل السيّئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك ممّا تقدّمت الإشارة إليه في بحث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب و كذا في تفسير قوله:( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) الآية: الأنفال: 37.

و ذلك لأنّ الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإنّ من حبط عمله الخير محكوم بأنّه لم يعمل خيراً فلا عمل له خيراً حتّى يراه و على هذا القياس في غيره فافهم.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أنس بن مالك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الأرض لتخبر يوم القيامة بكلّ ما عمل على ظهرها و قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها ) حتّى بلغ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) قال أ تدرون ما أخبارها؟ جاءني جبريل قال: خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكلّ عمل عمل على ظهرها.

أقول: و روي مثله عن أبي هريرة.

٤٨٦

و فيه، أخرج الحسين بن سفيان في مسنده و أبو نعيم في الحلية عن شدّاد بن أوس قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

أيّها الناس إنّ الدنيا عرض حاضر يأكل منه البرّ و الفاجر، و إنّ الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحقّ فيها الحقّ و يبطل الباطل.

أيّها الناس كونوا من أبناء الآخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا فإنّ كلّ اُمّ يتبعها ولدها اعملوا و أنتم من الله على حذر، و اعلموا أنّكم معروضون على أعمالكم و أنّكم ملاقوا الله لا بدّ منه فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) قال: من الناس( وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها ) قال: ذلك أميرالمؤمنينعليه‌السلام ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها - إلى قوله -أَشْتاتاً ) قال: يجيئون أشتاتاً مؤمنين و كافرين و منافقين( لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ ) قال: يقفون على ما فعلوه.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) يقول: إن كان من أهل النار قد عمل مثقال ذرّة في الدنيا خيراً (كان عليه ظ) يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) يقول: إن كان من أهل الجنّة راى ذلك الشرّ يوم القيامة ثمّ غفر له.

٤٨٧

( سورة العاديات مدنيّة و هي إحدى عشرة آية)

( سورة العاديات الآيات 1 - 11)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ( 1 ) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ( 2 ) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ( 3 ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ( 4 ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ( 5 ) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ( 6 ) وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ لَشَهِيدٌ ( 7 ) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( 8 ) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ( 9 ) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ( 10 ) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( 11 )

( بيان‏)

تذكر السورة كفران الإنسان لنعم ربّه و حبّه الشديد للخير عن علم منه به و هو حجّة عليه و سيحاسب على ذلك.

و السورة مدنيّة بشهادة ما في صدرها من الإقسام بمثل قوله:( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) إلخ الظاهر في خيل الغزاة المجاهدين على ما سيجي‏ء، و إنّما شرّع الجهاد بعد الهجرة و يؤيّد ذلك ما ورد من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ السورة نزلت في عليّعليه‌السلام و سريّته في غزوة ذات السلاسل، و يؤيّده أيضاً بعض الروايات من طرق أهل السنّة على ما سنشير إليه في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) العاديات من العدو و هو الجري بسرعة و الضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها و هو المعهود المعروف من الخيل و إن ادّعي أنّه يعرض لكثير من الحيوان غيرها، و المعنى اُقسم بالخيل اللّاتي يعدون يضبحن ضبحاً.

و قيل: المراد بها إبل الحاج في ارتفاعها بركبانها من الجمع إلى منى يوم النحر،

٤٨٨

و قيل: إبل الغزاة، و ما في الآيات التالية من الصفات لا يلائم كون الإبل هو المراد بالعاديات.

قوله تعالى: ( فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ) الإيراء إخراج النار و القدح الضرب و الصكّ المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار بالقدح، و المراد بها الخيل تخرج النار بحوافرها إذا عدت على الحجارة و الأرض المحصبة.

و قيل: المراد بالإيراء مكر الرجال في الحرب، و قيل: إيقادهم النار، و قيل: الموريات ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به، و هي وجوه ظاهرة الضعف.

قوله تعالى: ( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) الإغارة و الغارة الهجوم على العدوّ بغتة بالخيل و هي صفة أصحاب الخيل و نسبتها إلى الخيل مجاز، و المعنى فاُقسم بالخيل الهاجمات على العدوّ بغتة في وقت الصبح.

و قيل: المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى و السنّة أن لا ترتفع حتّى تصبح، و الإغارة سرعة السير و هو خلاف ظاهر الإغارة.

قوله تعالى: ( فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ) أثرن من الإثارة بمعنى تهييج الغبار و نحوه، و النقع الغبار، و المعنى فهيّجن بالعدو و الإغارة غباراً.

قيل: لا بأس بعطف( فَأَثَرْنَ ) و هو فعل على ما قبله و هو صفة لأنّه اسم فاعل و هو في معنى الفعل كأنّه قيل: اُقسم باللّاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن.

قوله تعالى: ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) وسط و توسّط بمعنى، و ضمير( بِهِ ) للصبح و الباء بمعنى في أو الضمير للنقع و الباء للملابسة.

و المعنى فصرن في وقت الصبح في وسط جمع و المراد به كتيبة العدوّ أو المعنى فتوسّطن جمعاً ملابسين للنقع.

و قيل: المراد توسّط الآبال جمع منى و أنت خبير بأنّ حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الّذين يفيضون من جمع إلى منى خلاف ظاهرها جدّاً.

٤٨٩

فالمتعيّن حملها على خيل الغزاة و سياق الآيات و خاصّة قوله:( فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً ) ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ) يعطي أنّها غزاة بعينها أقسم الله فيها بخيل المجاهدين العاديات و الفاء في الآيات الأربع تدلّ على ترتّب كلّ منها على ما قبلها.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) الكنود الكفور، و الآية كقوله:( إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ) الحجّ: 66، و هو إخبار عمّا في طبع الإنسان من اتّباع الهوى و الانكباب على عرض الدنيا و الانقطاع به عن شكر ربّه على ما أنعم عليه.

و فيه تعريض للقوم المغار عليهم، و كأنّ المراد بكفرانهم كفرانهم بنعمة الإسلام الّتي أنعم الله بها عليهم و هي أعظم نعمة اُوتوها فيها طيب حياتهم الدنيا و سعادة حياتهم الأبديّة الاُخرى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ عَلى‏ ذلِكَ لَشَهِيدٌ ) ظاهر اتّساق الضمائر أن يكون ضمير( وَ إِنَّهُ ) للإنسان فيكون المراد بكونه شهيداً على كفران نفسه بكفران نفسه علمه المذموم و تحمّله له.

فالمعنى و إنّ الإنسان على كفرانه بربّه شاهد متحمّل فالآية في معنى قوله:( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى‏ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) القيامة: 14.

و قيل: الضمير لله و اتّساق الضمائر لا يلائمه.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) قيل: اللّام في( لِحُبِّ الْخَيْرِ ) للتعليل و الخير المال، و المعنى و إنّ الإنسان لأجل حبّ المال لشديد أي بخيل شحيح، و قيل: المراد أنّ الإنسان لشديد الحبّ للمال و يدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حقّ الله، و الإنفاق في الله. كذا فسّروا.

و لا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقة و يكون المراد أنّ حبّ الخير فطريّ للإنسان ثمّ إنّه يرى عرض الدنيا و زينتها خيراً فتنجذب إليه نفسه و ينسيه ذلك ربّه أن يشكره.

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ - إلى قوله -لَخَبِيرٌ ) البعثرة كالبحثرة البعث و النشر، و تحصيل ما في الصدور تمييز ما في باطن النفوس من صفة

٤٩٠

الإيمان و الكفر و رسم الحسنة و السيّئة قال تعالى:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السرّ كما تجازى على العلانية.

و قوله:( أَ فَلا يَعْلَمُ ) الاستفهام فيه للإنكار، و مفعول يعلم جملة قائمة مقام المفعولين يدلّ عليه المقام. ثمّ استؤنف فقيل: إذا بعثر ما في القبور إلخ تأكيداً للإنكار، و المراد بما في القبور الأبدان.

و المعنى - و الله أعلم - أ فلا يعلم الإنسان أنّ لكنوده و كفرانه بربّه تبعة ستلحقه و يجازى بها، إذا اُخرج ما في القبور من الأبدان و حصّل و ميّز ما في سرائر النفوس من الإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية إنّ ربّهم بهم يومئذ لخبير فيجازيهم بما فيها.

( بحث روائي‏)

في المجمع: قيل: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريّة إلى حيّ من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاريّ أحد النقباء فتأخّر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعاً فأخبر الله تعالى عنها بقوله:( وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً ) عن مقاتل.

و قيل: نزلت السورة لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم و ذلك بعد أن بعث عليهم مراراً غيره من الصحابة فرجع كلّ منهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و هو المرويّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث طويل.

قال: و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل لأنّه اُسر منهم و قتل و سبي و شدّ اُسراؤهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل.

و لما نزلت السورة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الناس فصلّى بهم الغداة و قرأ فيها( وَ الْعادِياتِ ) فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم إنّ عليّاً ظفر بأعداء الله و بشّرني بذلك جبريل في هذه الليلة فقدم عليّعليه‌السلام بعد أيّام بالغنائم و الاُسارى.

٤٩١

( سورة القارعة مكّيّة و هي إحدى عشرة آية)

( سورة القارعة الآيات 1 - 11)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَارِعَةُ ( 1 ) مَا الْقَارِعَةُ ( 2 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ( 3 ) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( 4 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( 5 ) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ( 6 ) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ( 7 ) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ( 8 ) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( 9 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( 10 ) نَارٌ حَامِيَةٌ ( 11 )

( بيان‏)

إنذار و تبشير بالقيامة يغلب فيه جانب الإنذار، و السورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ ) مبتدأ و خبر، و القارعة من القرع و هو الضرب باعتماد شديد، و هي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سمّيت بها لأنّها تقرع القلوب بالفزع و تقرع أعداء الله بالعذاب.

و السؤال عن حقيقة القارعة في قوله:( مَا الْقارِعَةُ ) مع كونها معلومة إشارة إلى تعظيم أمرها و تفخيمه و أنّها لا تكتنه علما، و قد اُكّد هذا التعظيم و التفخيم بقوله بعد:( وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ ) .

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ) ظرف متعلّق بفعل مقدّر نحو اذكر و تقرع و تأتي، و الفراش على ما نقل عن الفراء الجراد الّذي ينفرش و يركب بعضه بعضاً و هو غوغاء الجراد. قيل: شبّه الناس عند البعث بالفراش لأنّ الفراش إذا ثار لم يتّجه إلى جهة واحدة كسائر الطير و كذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجّهوا جهات شتّى أو توجّهوا إلى منازلهم المختلفة

٤٩٢

سعادة و شقاء. و المبعوث من البثّ و هو التفريق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) العهن الصوف ذو ألوان مختلفة، و المنفوش من النفش و هو نشر الصوف بندف و نحوه فالعهن المنفوش الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) إشارة إلى وزن الأعمال و أنّ الأعمال منها ما هو ثقيل في الميزان و هو ما له قدر و منزلة عندالله و هو الإيمان و أنواع الطاعات، و منها ما ليس كذلك و هو الكفر و أنواع المعاصي و يختلف القسمان أثراً فيستتبع الثقيل السعادة و يستتبع الخفيف الشقاء، و قد تقدّم البحث عن معنى الميزان في تفسير السور السابقة.

و قوله:( فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) العيشة بكسر العين كالجلسة بناء نوع، و توصيفها براضية - و الراضي صاحبها - من المجاز العقليّ أو المعنى في عيشة ذات رضى.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد بهاوية جهنّم و تسميتها بهاوية لهويّ من اُلقي فيها أي سقوطه إلى أسفل سافلين قال تعالى:( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ) التين: 6.

فتوصيف النار بالهاوية مجاز عقليّ كتوصيف العيشة بالراضية و عدّ هاوية اُمّاً للداخل فيها لكونها مأواه و مرجعه الّذي يرجع إليه كما يرجع الولد إلى اُمّه.

و قيل: المراد باُمّه اُمّ رأسه و المعنى فاُمّ رأسه هاوية أي ساقطة فيها لأنّهم يلقون في النار على اُمّ رأسهم، و يبعّده بقاء الضمير في قوله:( ما هِيَهْ ) بلا مرجع ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ ) ضمير هي لهاوية، و الهاء في( هِيَهْ ) للوقف و الجملة تفسير تفيد تعظيم أمر النار و تفخيمه.

قوله تعالى: ( نارٌ حامِيَةٌ ) أي حارّة شديدة الحرارة و هو جواب الاستفهام في( ما هِيَهْ ) و تفسير لهاوية.

٤٩٣

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) قال: العهن الصوف، و في قوله:( وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ) قال: من الحسنات، و في قوله:( فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ ) قال: اُمّ رأسه، يقذف في النار على رأسه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون: انظروا صاحبكم يستريح فإنّه كان في كرب شديد ثمّ يسألونه ما فعل فلان و فلانة؟ هل تزوّجت؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي فيقولون: إنّا لله و إنّا إليه راجعون ذُهب به إلى اُمّه الهاوية فبئست الاُمّ و بئست المربّية.

أقول: و روي هذا المعنى عن أنس بن مالك و عن الحسن و الأشعث بن عبدالله الأعمى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٩٤

( سورة التكاثر مكّيّة و هي ثمان آيات)

( سورة التكاثر الآيات 1 - 8)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ( 1 ) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ( 2 ) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 3 ) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 4 ) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( 5 ) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ( 6 ) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( 7 ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( 8 )

( بيان‏)

توبيخ شديد للناس على تلهّيهم بالتكاثر في الأموال و الأولاد و الأعضاء و غفلتهم عمّا وراءه من تبعة الخسران و العذاب، و تهديد بأنّهم سوف يعلمون و يرون ذلك و يسألون عن هذه النعم الّتي اُوتوها ليشكروا فتلهّوا بها و بدّلوا نعمة الله كفراً.

و السورة بما لها من السياق تحتمل المكّيّة و المدنيّة، و سيأتي ما ورد في سبب نزولها في البحث الروائيّ إن شاء الله.

قوله تعالى: ( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) قال في المفردات: اللهو ما يشغل الإنسان عمّا يعنيه و يهمّه. قال، و يقال: ألهاه كذا أي شغله عمّا هو أهمّ إليه، قال تعالى:( أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ) انتهى.

و قال: و المكاثرة و التكاثر التباري في كثرة المال و العزّ، انتهى. و قال: المقبرة - بكسر الميم - و المقبرة - بفتحها - موضع القبور و جمعها مقابر، قال تعالى:( حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ) كناية عن الموت، انتهى.

فالمعنى على ما يعطيه السياق شغلكم التكاثر في متاع الدنيا و زينتها و التسابق

٤٩٥

في تكثير العدّة و العدّة عمّا يهمّكم و هو ذكر الله حتّى لقيتم الموت فعمّتكم الغفلة مدى حياتكم.

و قيل: المعنى شغلكم التباهي و التباري بكثرة الرجال بأن يقول هؤلاء: نحن أكثر رجالاً، و هؤلاء: نحن أكثر حتّى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى القبور فعددتم الأموات من رجالكم فتكاثرتم بأمواتكم.

و هذا المعنى مبنيّ على ما ورد في أسباب النزول أنّ قبيلتين من الأنصار تفاخرتا بالأحياء ثمّ بالأموات، و في بعضها أنّ ذلك كان بمكّة بين بني عبد مناف و بني سهم فنزلت السورة، و سيأتي القصّة في البحث الروائيّ.

قوله تعالى: ( كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ردع عن اشتغالهم بما لا يهمّهم عمّا يعنيهم و تخطئة لهم، و قوله:( سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تهديد معناه على ما يفيده المقام سوف تعلمون تبعة تلهّيكم هذا و تعرفونها إذا انقطعتم عن الحياة الدنيا.

قوله تعالى: ( ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) تأكيد للردع و التهديد السابقين، و قيل: المراد بالأوّل علمهم بها عند الموت و بالثاني علمهم بها عند البعث.

قوله تعالى: ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) ردع بعد ردع تأكيداً و اليقين العلم الّذي لا يداخله شكّ و ريب.

و قوله:( لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) جواب لو محذوف و التقدير لو تعلمون الأمر علم اليقين لشغلكم ما تعلمون عن التباهي و التفاخر بالكثرة، و قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمََ ) استئناف في الكلام، و اللّام للقسم، و المعنى اُقسم لترونّ الجحيم الّتي جزاء هذا التلهّي كذا فسّروا.

قالوا: و لا يجوز أن يكون قوله:( لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) جواب لو الامتناعيّة لأنّ الرؤية محقّق الوقوع و جوابها لا يكون كذلك.

و هذا مبنيّ على أن يكون المراد رؤية الجحيم يوم القيامة كما قال:( وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى‏ ) النازعات: 36 و هو غير مسلّم بل الظاهر أنّ المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة و هي رؤية القلب الّتي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه،

٤٩٦

قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) الأنعام: 75، و قد تقدّم الكلام فيها، و هذه الرؤية القلبيّة قبل يوم القيامة غير محقّقة لهؤلاء المتلهّين بل ممتنعة في حقّهم لامتناع اليقين عليهم.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) المراد بعين اليقين نفسه، و المعنى لترونّها محض اليقين، و هذه بمشاهدتها يوم القيامة، و من الدليل عليه قوله بعد ذلك( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فالمراد بالرؤية الاُولى رؤيتها قبل يوم القيامة و بالثانية رؤيتها يوم القيامة.

و قيل: الاُولى قبل الدخول فيها يوم القيامة و الثانية إذ دخلوها.

و قيل: الاُولى بالمعرفة و الثانية بالمشاهدة، و قيل: المراد الرؤية بعد الرؤية إشارة إلى الاستمرار و الخلود، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة.

قوله تعالى: ( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ظاهر السياق أنّ هذا الخطاب و كذلك الخطابات المتقدّمة في السورة للناس بما أنّ فيهم من اشتغل بنعمة ربّه عن ربّه فأنساه التكاثر فيها عن ذكر الله، و ما في السورة من التوبيخ و التهديد متوجّه إلى عامّة الناس ظاهراً واقع على طائفة خاصّة منهم حقيقة و هم الّذين ألهاهم التكاثر.

و كذا ظاهر السياق أنّ المراد بالنعيم مطلقة و هو كلّ ما يصدق عليه أنّه نعمة فالإنسان مسؤل عن كلّ نعمة أنعم الله بها عليه.

و ذلك أنّ النعمة - و هي الأمر الّذي يلائم المنعم عليه و يتضمّن له نوعاً من الخير و النفع - إنّما تكون نعمة بالنسبة إلى المنعم عليه إذا استعملها بحيث يسعد بها فينتفع و أمّا لو استعملها على خلاف ذلك كانت نقمة بالنسبة إليه و إن كانت نعمة بالنظر إلى نفسها.

و قد خلق الله تعالى الإنسان و جعل غاية خلقته الّتي هي سعادته و منتهى كماله التقرّب العبوديّ إليه كما قال:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: 56 و هي الولاية الإلهيّة لعبده، و قد هيّأ الله سبحانه له كلّ ما يسعد و ينتفع به في سلوكه نحو الغاية الّتي خلق لها و هي النعم فأسبغ عليه نعمه ظاهرة و باطنة.

٤٩٧

فاستعمال هذه النعم على نحو يرتضيه الله و ينتهي بالإنسان إلى غايته المطلوبة هو الطريق إلى بلوغ الغاية و هو الطاعة، و استعمالها بالجمود عليها و نسيان ما وراءها غيّ و ضلال و انقطاع عن الغاية و هو المعصية، و قد قضى سبحانه قضاء لا يردّ و لا يبدّل أن يرجع الإنسان إليه فيسأله عن عمله فيحاسبه و يجزيه، و عمله هو استعماله للنعم الإلهيّة قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى‏ وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏ ) النجم: 42، فالسؤال عن عمل العبد سؤال عن النعيم كيف استعمله أ شكر النعمة أم كفر بها؟

( بحث روائي‏)

في المجمع، قيل: نزلت في اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان، و بنو فلان أكثر من بني فلان ألهاهم ذلك حتّى ماتوا ضلالاً: عن قتادة.

و قيل: نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا: عن أبي بريدة، و قيل: نزلت في حيّين من قريش: بني عبد مناف بن قصيّ و بني سهم بن عمر و تكاثروا و عدّوا أشرافهم فكثرهم بنو عبد مناف. ثمّ قالوا: نعدّ موتانا حتّى زاروا القبور فعدّوهم و قالوا: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم لأنّهم كانوا أكثر عدداً في الجاهليّة: عن مقاتل و الكلبيّ.

و في تفسير البرهان، عن البرقيّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله تعالى:( لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) قال: المعاينة.

أقول: الرواية تؤيّد ما قدّمناه من المعنى.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن جميل عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له:( لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) قال: تسأل هذه الاُمّة عمّا أنعم الله عليها برسوله ثمّ بأهل بيته.

و في الكافي، بإسناده عن أبي خالد الكابليّ قال: دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام فدعا بالغذاء فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ و لا ألطف فلمّا فرغنا من

٤٩٨

الطعام قال: يا أبا خالد كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ و لا أنظف و لكن ذكرت الآية الّتي في كتاب الله عزّوجلّ:( ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) فقال أبوجعفرعليه‌السلام : إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ.

و فيه، بإسناده عن أبي حمزة قال: كنّا عند أبي عبداللهعليه‌السلام جماعة فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذة و طيباً و اُتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه و حسنه فقال رجل: لتسألن عن هذا النعيم الّذي تنعّمتم به عند ابن رسول الله فقال أبو عبدالله إنّ الله عزّوجلّ أكرم و أجلّ أن يطعم طعاماً فيسوّغكموه ثمّ نسألكم عنه إنّما يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمّد و آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقول: و هذا المعنى مرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بطرق اُخرى و عبارات مختلفة و في بعضها أنّ النعيم ولايتنا أهل البيت، و يؤل المعنى إلى ما قدّمناه من عموم النعيم لكلّ نعمة أنعم الله بها بما أنّها نعمة.

بيان ذلك أنّ هذه النعم لو سئل عن شي‏ء منها فليست يسأل عنها بما أنّها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد أو أنّها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلاً و إنّما يسأل عنها بما أنّها نعمة خلقها الله للإنسان و أوقعها في طريق كماله و الحصول على التقرّب العبوديّ كما تقدّمت الإشارة إليه و ندبه إلى أن يستعملها شكراً لا كفراً.

فالمسؤل عنها هي النعمة بما أنّها نعمة، و من المعلوم أنّ الدالّ على نعيميّة النعيم و كيفيّة استعماله شكراً و المبيّن لذلك كلّه هو الدين الّذي جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نصب لبيانه الأئمّة من أهل بيته فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالدين في كلّ حركة و سكون و من المعلوم أيضا أنّ السؤال عن النعيم الّذي هو الدين سؤال عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من بعده الّذين افترض الله طاعتهم و أوجب اتّباعهم في السلوك إلى الله الّذي طريقه استعمال النعم كما بيّنه الرسول و الأئمّة.

و إلى كون السؤال عن النعيم سؤالاً عن الدين يشير ما في رواية أبي خالد من قوله:( إنّما يسألكم عمّا أنتم عليه من الحقّ) .

٤٩٩

و إلى كونه سؤالاً عن النعيم الّذي هو النبيّ و أهل بيته يشير ما في روايتي جميل و أبي حمزة السابقتين من قوله:( يسأل هذه الاُمّة عمّا أنعم الله عليها برسوله ثمّ بأهل بيته) أو ما في معناه، و في بعض الروايات:( النعيم هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنعم الله به على أهل العالم فاستنقذهم من الضلالة) ، و في بعضها: أنّ النعيم ولايتنا أهل البيت‏، و المال واحد و من ولاية أهل البيت افتراض طاعتهم و اتّباعهم فيما يسلكونه من طريق العبوديّة.

و في المجمع، و قيل: النعيم الصحّة و الفراغ: عن عكرمة، و يعضده ما رواه ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة و الفراغ.

و فيه، و قيل: هو يعني النعيم الأمن و الصحّة: عن عبدالله بن مسعود و مجاهد، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

أقول: و في روايات اُخرى من طرق أهل السنّة أنّ النعيم هو التمر و الماء البارد و في بعضها غيرهما، و ينبغي أن يحمل الجميع على إيراد المثال.

و في الحديث النبويّ من طرقهم أيضاً: ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته أو كسرة يسدّ بها جوعته أو بيت يكنّه من الحرّ و البرد. الحديث‏، و ينبغي أن يحمل على خفّة الحساب في الضروريّات و نفي المناقشة فيه و الله أعلم.

٥٠٠