الميزان في تفسير القرآن الجزء ٢٠

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 568

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 568
المشاهدات: 199968
تحميل: 4972


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 199968 / تحميل: 4972
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 20

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة المعارج الآيات 19 - 35)

إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ( 19 ) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ( 20 ) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ( 21 ) إِلَّا الْمُصَلِّينَ ( 22 ) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ( 23 ) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ( 24 ) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ( 25 ) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ( 26 ) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ( 27 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ( 28 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ( 29 ) إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( 30 ) فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ( 31 ) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ( 32 ) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ( 33 ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 34 ) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ( 35 )

( بيان‏)

تشير الآيات إلى السبب الاُولي الّذي يدعو الإنسان إلى رذيلة الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء الّتي تؤدّيه إلى دخول النار الخالدة الّتي هي لظى نزّاعة للشوى على ما تذكره الآيات.

و ذلك السبب صفة الهلع الّتي اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يخلق الإنسان عليها ليهتدي بها إلى ما فيه خيره و سعادته غير أنّ الإنسان يفسدها على نفسه و يسيي‏ء

٨١

استعمالها في سبيل سعادته فتسلك به إلى هلكة دائمة إلّا الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فهم في جنّات مكرمون.

قوله تعالى: ( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) الهلوع صفة مشتقّة من الهلع بفتحتين و هو شدّة الحرص، و ذكروا أيضاً أنّ الهلوع تفسّره الآيتان بعده فهو الجزوع عند الشرّ و المنوع عند الخير و هو تفسير سديد و السياق يناسبه.

و ذلك أنّ الحرص الشديد الّذي جبل عليه الإنسان ليس حرصاً منه على كلّ شي‏ء خيراً كان أو شرّاً أو نافعاً أو ضارّاً بل حرصاً على الخير و النافع و لا حرصاً على كلّ خير أو نافع سواء ارتبط به أو لم يرتبط و كان له أو لغيره بل حرصاً منه على ما يراه خيراً لنفسه أو نافعاً في سبيل الخير، و لازم هذا الحرص أن يظهر منه التزعزع و الاضطراب عند مسّ الشرّ و هو خلاف الخير و أن يمتنع عن ترك الخير عند مسّه و يؤثر نفسه على غيره إلّا أن يرى الترك أكثر خيراً و أنفع بحاله فالجزع عند مسّ الشرّ و المنع عند مسّ الخير من لوازم الهلع و شدّة الحرص.

و ليس الهلع و شدّة الحرص المجبول عليه الإنسان - و هو من فروع حبّ الذات - في حدّ نفسه من الرذائل المذمومة كيف؟ و هي الوسيلة الوحيدة الّتي تدعو الإنسان إلى بلوغ سعادته و كمال وجوده، و إنّما تكون رذيلة مذمومة إذا أساء الإنسان في تدبيرها فاستعملها فيما ينبغي و فيما لا ينبغي و بالحقّ و بغير حقّ كسائر الصفات النفسانيّة الّتي هي كريمة ما لزمت حدّ الاعتدال و إذا انحرفت إلى جانب الإفراط أو التفريط عادت رذيلة ذميمة.

فالإنسان في بدء نشأته و هو طفل يرى ما يراه خيراً لنفسه أو شرّاً لنفسه بما جهّز به من الغرائز العاطفة و هي الّتي تهواه نفسه و تشتهيه قواه من غير أن يحدّه بحدّ أو يقدّره بقدر فيجزع إذا مسّه ألم أو أيّ مكروه، و يمنع من يزاحمه فيما أمسك به بكلّ ما يقدر عليه من بكاء و نحوه.

و هو على هذه الحال حتّى إذا رزق العقل و الرشد أدرك الحقّ و الباطل و

٨٢

الخير و الشرّ و اعترفت نفسه بما أدرك و حينئذ يتبدّل عنده كثير من مصاديق الحقّ و الباطل و الخير و الشرّ فعاد كثير ممّا كان يراه خيراً لنفسه شرّاً عنده و بالعكس.

فإن أقام على ما كان عليه من اتّباع أهواء النفس و العكوف على المشتهيّات و اشتغل بها عن اتّباع الحقّ و غفل عنه، طبع على قلبه فلم يواجه حقّاً إلّا دحضه و لا ذا حقّ إلّا اضطهده و إن أدركته العناية الإلهيّة عاد ما كان عنده من الحرص على ما تهواه النفس حرصاً على الحقّ فلم يستكبر على حقّ واجهه و لا منع ذا حقّ حقّه.

فالإنسان في بادئ أمره و هو عهد الصبي قبل البلوغ و الرشد مجهّز بالحرص الشديد على الخير و هو صفة كماليّة له بحسب حاله بها ينبعث إلى جلب الخير و اتّقاء الشرّ قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) العاديات: 8.

ثمّ إذا رزق البلوغ و الرشد زاد تجهيزاً آخر و هو العقل الّذي بها يدرك حقائق الاُمور على ما هي عليها فيدرك ما هو الاعتقاد الحقّ و ما هو الخير في العمل، و يتبدّل حرصه الشديد على الخير و كونه جزوعاً عند مسّ الشرّ و منوعاً عند مسّ الخير من الحرص الشديد على الخير الواقعي من الفزع و الخوف إذا مسّه شر اُخرويّ و هو المعصية و المسابقة إلى مغفرة ربّه إذا مسّه خير اُخرويّ و هو مواجهة الحسنة، و أمّا الشرّ و الخير الدنيويّان فإنّه لا يتعدّى فيهما ما حدّه الله له من الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و هذه الصفة صفة كماليّة لهذا الإنسان.

و أمّا إذا أعرض الإنسان عمّا يدركه عقله و يعترف به فطرته و عكف على اتّباع الهوى و اعتنق الباطل و تعدّى إلى حقّ كلّ ذي حقّ و لم يقف في حرصه على الخير على حدّ فقد بدّل نعمة الله نقمة و أخذ صفة غريزيّة خلقها الله وسيلة له يتوسّل بها إلى سعادة الدنيا و الآخرة وسيلة إلى الشقوة و الهلكة تسوقه إلى الإدبار و التولّي و الجمع و الإيعاء كما في الآيات.

٨٣

و قد بان ممّا تقدّم أنّه لا ضير في نسبة هلع الإنسان في الآيات إلى الخلقة و الكلام مسوق للذمّ و قد قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) السجدة 7، و ذلك أنّ ما يلحقه من الذمّ إنّما هو من قبل الإنسان و سوء تدبيره لا من قبله تعالى فهو كسائر نعمه تعالى على الإنسان الّتي يصيّرها نقماً بسوء اختياره.

و ذكر الزمخشريّ فراراً من الإشكال أنّ في الكلام استعارة، و المعنى أنّ الإنسان لإيثاره الجزع و المنع و تمكّنهما منه كأنّه مجبول مطبوع عليهما، و كأنّه أمر مخلوق فيه ضروريّ غير اختياريّ فالكلام موضوع على التشبيه لا لإفادة كونه مخلوقاً لله حقيقة لأنّ الكلام مسوق للذمّ و الله سبحانه لا يذمّ فعل نفسه، و من الدليل عليه استثناء المؤمنين الّذين جاهدوا أنفسهم فنجوا عن الجزع و المنع جميعاً.

و فيه أنّ الصفة مخلوقة نعمة و فضيلة و الإنسان هو الّذي يخرجها من الفضيلة إلى الرذيلة و من النعمة إلى النقمة و الذمّ راجع إلى الصفة من جهة سوء تدبيره لا من حيث إنّها فعله تعالى.

و استثناء المؤمنين ليس لأجل أنّ الصفة غير مخلوقة فيهم بل لأجل أنّهم أبقوها على كمالها و لم يبدّلوها رذيلة و نقمة.

و اُجيب أيضاً عن الاستثناء بأنّه منقطع و هو كما ترى.

قوله تعالى: ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) استثناء من الإنسان الموصوف بالهلع، و في تقديم الصلاة على سائر الأعمال الصالحة المعدودة في الآيات التالية دلالة على شرفها و أنّها خير الأعمال.

على أنّ لها الأثر البارز في دفع رذيلة الهلع المذموم و قد قال تعالى:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ ) العنكبوت: 45.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) في إضافة الصلاة إلى الضمير دلالة على أنّهم مداومون على ما يأتون به من الصلاة كائنة ما كانت لا أنّهم دائماً في الصلاة، و فيه إشارة إلى أنّ العمل إنّما يكمل أثره بالمداومة.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) فسّره بعضهم

٨٤

بالزكاة المفروضة، و في الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّ الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و إنّما هو مقدار معلوم ينفقونه للفقراء، و السائل هو الفقير الّذي يسأل، و المحروم الفقير الّذي يتعفّف و لا يسأل‏ و السياق لا يخلو من تأييده فإنّ للزكاة موارد مسمّاة في قوله:( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ ) التوبة 60 و ليست مختصّة بالسائل و المحروم على ما هو ظاهر الآية.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ) الّذي يفيده سياق عدّ الأعمال الصالحة أنّ المراد بتصديقهم يوم الدين التصديق العمليّ دون التصديق الاعتقاديّ و ذلك بأن تكون سيرتهم في الحياة سيرة من يرى أنّ ما يأتي به من عمل سيحاسب عليه فيجازي به إن خيراً فخيراً و إن شرّاً فشرّاً.

و في التعبير بقوله:( يُصَدِّقُونَ ) دلالة على الاستمرار فهو المراقبة الدائمة بذكره تعالى عند كلّ عمل يواجهونه فيأتون بما يريده و يتركون ما يكرهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ) أي خائفون، و الكلام في إشفاقهم من عذاب ربّهم نظير الكلام في تصديقهم بيوم الدين فهو الإشفاق العملي الظاهر من حالهم.

و لازم إشفاقهم من عذاب ربّهم مع لزومهم الأعمال الصالحة و مجاهدتهم في الله أن لا يثقوا بما يأتون به من الأعمال الصالحة و لا يأمنوا عذاب الله فإنّ الأمن لا يجامع الخوف.

و الملاك في الإشفاق من العذاب أنّ العذاب على المخالفة فلا منجى منه إلّا بالطاعة من النفس و لا ثقة بالنفس إذ لا قدرة لها في ذاتها إلّا ما أقدرها الله عليه و الله سبحانه مالك غير مملوك، قال تعالى:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً ) المائدة 17.

على أنّ الله سبحانه و إن وعد أهل الطاعة النجاة و ذكر أنّه لا يخلف الميعاد لكنّ الوعد لا يقيّد إطلاق قدرته فهو مع ذلك قادر على ما يريد و مشيّته نافذة فلا أمن بمعنى انتفاء القدرة على ما يخالف الوعد فالخوف على حاله و لذلك نرى

٨٥

أنّه تعالى يقول في ملائكته:( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) فيصفهم بالخوف و هو يصرّح بعصمتهم، و يقول في أنبيائه:( وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ ) الأحزاب: 39، و يصف المؤمنين في هذه الآية بالإشفاق و هو يعدّهم في آخر الآيات بقول جازم فيقول:( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ) تعليل لإشفاقهم من عذاب ربّهم فيتبيّن به أنّهم مصيبون في إشفاقهم من العذاب و قد تقدّم وجهه.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ - إلى قوله -هُمُ العادُونَ ) تقدّم تفسير الآيات الثلاث في أوّل سورة المؤمنون.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ) المتبادر من الأمانات أنواع الأمانة الّتي يؤتمنون عليها من المال و سائر ما يوصى به من نفس أو عرض و رعايتهم لها أن يحفظوها و لا يخونوها قيل: و لكثرة أنواعها جي‏ء بلفظ الجمع بخلاف العهد.

و قيل: المراد بها جميع ما كلّفهم الله من اعتقاد و عمل فتعمّ حقوق الله و حقوق الناس فلو ضيعوا شيئاً منها فقد خانوه.

و قيل: كلّ نعمة أعطاها الله عبده من الأعضاء و غيرها أمانة فمن استعمل شيئاً منها في غير ما أعطاه الله لأجله و أذن له في استعماله فقد خانه.

و ظاهر العهد عقد الإنسان مع غيره قولاً أو فعلاً على أمر و رعايته أن يحفظه و لا ينقضه من غير مجوّز.

و قيل: العهد كلّ ما التزم به الإنسان لغيره فإيمان العبد لربّه عهد منه عاهد به ربّه أن يطيعه في كلّ ما كلّفه به فلو عصاه في شي‏ء ممّا أمره به أو نهاه عنه فقد نقض عهده.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) الشهادة معروفة، و القيام بالشهادة عدم الاستنكاف عن تحمّلها و أداء ما تحمّل منها كما تحمّل من غير كتمان و لا تغيير، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

٨٦

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) المراد بالمحافظة على الصلاة رعاية صفات كمالها على ما ندب إليه الشرع.

قيل: و المحافظة على الصلاة غير الدوام عليها فإنّ الدوام متعلّق بنفس الصلاة و المحافظة بكيفيّتها فلا تكرار في ذكر المحافظة عليها بعد ذكر الدوام عليها.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ) الإشارة إلى المصلّين في قوله:( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) و تنكير جنّات للتفخيم، و( فِي جَنَّاتٍ ) خبر و( مُكْرَمُونَ ) خبر بعد خبر أو ظرف لقوله:( مُكْرَمُونَ ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ:( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) قال: الشرّ هو الفقر و الفاقة( وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ) قال: الغنى و السعة.

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ثمّ استثنى فقال( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) فوصفهم بأحسن أعمالهم( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) يقول: إذا فرض على نفسه شيئاً من النوافل دام عليه.

أقول: قوله: إذا فرض على نفسه إلخ استفادعليه‌السلام هذا المعنى من إضافة الصلاة إلى ضمير( هُمْ ) و قد أشرنا إليه فيما مرّ.

و في الكافي، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) قال: هي الفريضة. قلت:( الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) قال: هي النافلة.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) و روي عن أبي عبداللهعليه‌السلام أنّه قال: الحقّ المعلوم ليس من الزكاة و هو الشي‏ء الّذي تخرجه من مالك إن شئت كلّ جمعة و إن شئت كلّ يوم، و لكلّ ذي فضل فضله.

قال: و روي عنه أيضاً أنّه قال: هو أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تصدّق

٨٧

على من عاداك.

أقول: و روي هذا المعنى في الكافي، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام بعدّة طرق و رواه في المحاسن عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمّال عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ( لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ) قال: المحروم المحارف الّذي قد حرم كدّ يمينه في الشراء و البيع.

قال: و في رواية اُخرى عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام أنّهما قالا: المحروم الرجل الّذي ليس بعقله بأس و لم يبسط له في الرزق و هو محارف.

و في المجمع: في قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) روى محمّد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام أنّه قال: اُولئك أصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا.

أقول: و لعلّه مبني علىّ ما ورد عنهمعليهم‌السلام أنّ تشريع النوافل اليوميّة لتتميم الفرائض.

٨٨

( سورة المعارج الآيات 36 - 44)

فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ( 36 ) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ( 37 ) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ( 38 ) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ ( 39 ) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ( 40 ) عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ( 41 ) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ( 42 ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ( 43 ) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ( 44 )

( بيان‏)

لمّا ذكر سبحانه في الفصل الأوّل من آيات السورة في ذيل ما حكى من سؤالهم العذاب أنّ لهم عذاباً واقعاً ليس له دافع و هو النار المتلظّية النزّاعة للشوى الّتي تدعو من أدبر و تولّى و جمع فأوعى.

ثم بيّن في الفصل الثاني منها الملاك في ابتلائهم بهذه الشقوة و هو أنّ الإنسان مجهّز بغريزة الهلع و حبّ خير نفسه و يؤدّيه اتّباع الهوى في استعمالها إلى الاستكبار على كلّ حقّ يواجهه فيورده ذلك النار الخالدة، و لا ينجو من ذلك إلّا الصالحون عملاً المصدّقون ليوم الدين المشفقون من عذاب ربّهم.

انعطف في هذا الفصل من الآيات - و هو الفصل الثالث - على اُولئك الكفّار كالمتعجّب من أمرهم حيث يجتمعون على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مهطعين عن اليمين و عن

٨٩

الشمال عزين مقبلين عليه بأبصارهم لا يفارقونه فخاطبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بالهم يحيطون بك مهطعين عليك يلازمونك؟ هل يريد كلّ امرء منهم أن يُدخل جنّة نعيم و هو كافر و قد قدّر الله سبحانه أن لا يكرم بجنّته إلّا من استثناه من المؤمنين فهل يريدون أن يسبقوا الله و يعجزوه بنقض ما حكم به و إبطال ما قدّره كلّا إنّ الله الّذي خلقهم من نطفة مهينة قادر أن يبدلهم خيراً منهم و يخلق ممّا خلقهم منه، غيرهم ممّن يعبده و يدخل جنّته.

ثمّ أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع خصامهم و يذرهم يخوضوا و يلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون.

قوله تعالى: ( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ) قال في المجمع: قال الزّجاج: المهُطع المقبل ببصره على الشي‏ء لا يزايله و ذلك من نظر العدوّ، و قال أبوعبيدة الإهطاع الإسراع، و عزين جماعات في تفرقة، واحدتهم عزّة. انتهى، و قِبلُ الشي‏ء بالكسر فالفتح الجهة الّتي تليه و الفاء في( فما ) فصيحة.

و المعنى: إذا كان الإنسان بكفره و استكباره على الحقّ مصيره إلى النار إلّا من استثني من المؤمنين فما للّذين كفروا عندك مقبلين عليك لا يرفعون عنك أبصارهم و هم جماعات متفرّقة عن يمينك و شمالك أ يطمعون أن يدخلوا الجنّة فيعجزوا الله و يسبقوه فيما قضى به أن لا يدخل الجنّة إلّا الصلحاء من المؤمنين.

قوله تعالى: ( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) ، الاستفهام للإنكار أي - ما هو الّذي يحملهم على أن يحتفّوا بك و يهطعوا عليك؟ - هل يحملهم على ذلك طمع كلّ منهم أن يدخل جنّة نعيم و هو كافر فلا مطمع للكافر في دخول الجنّة.

و نسب الطمع إلى كلّ امرء منهم و لم ينسب إلى جماعتهم بأن يقال: أ يطمعون أن يدخلوا إلخ كما نسب الإهطاع إلى جماعتهم فقيل: مهطعين لأنّ النافع من الطمع في السعادة و الفلاح هو الطمع القائم بنفس الفرد الباعث له إلى الإيمان و العمل الصالح دون القائم بالجماعة بما أنّها جماعة فطمع المجموع من حيث أنّه مجموع لا يكفي في سعادة كلّ واحد واحد.

٩٠

و في قوله:( أَنْ يُدْخَلَ ) مجهولاً من باب الإفعال إشارة إلى أنّ دخولهم في الجنّة ليس منوطاً باختيارهم و مشيّتهم بل لو كان فإنّما هو إلى الله سبحانه فهو الّذي يدخلهم الجنّة إن شاء و لن يدخل بما قدّر أن لا يدخلها كافر.

قيل: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي عند الكعبة و يقرأ القرآن فكان المشركون يجتمعون حوله حلقاً حلقاً و فرقاً يستمعون و يستهزؤن بكلامه، و يقولون إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت الآيات.

و هذا القول لا يلائمه سياق الآيات الظاهر في تفرّع صنعهم ذلك على ما مرّ من حرمان الناس من دخول الجنّة إلّا من استثني من المؤمنين إذ من الضروري على هذا أنّ اجتماعهم حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إهطاعهم عليه إنّما حملهم عليه إفراطهم في عداوته و مبالغتهم في إيذائه و إهانته، و أنّ قولهم: سندخل الجنّة قبل المؤمنين - و هم مشركون مصرّون على إنكار المعاد غير معترفين بنار و لا جنّة - إنّما كان استهزاء و تهكّما.

فلا مساغ لتفريع عملهم ذاك على ما تقدّم من حديث النار و الجنّة و السؤال - في سياق التعجيب - عن السبب الحامل لهم عليه ثمّ استفهام طمعهم في دخول الجنّة و إنكاره عليهم.

فبما تقدّم يتأيّد أن يكون المراد بالّذين كفروا في قوله:( فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قوماً من المنافقين آمنوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً و لازموه ثمّ كفروا بردّ بعض ما نزل عليه كما يشير إليه أمثال قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) المنافقون 3، و قوله:( لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ) التوبة 66، و قوله:( فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ) التوبة 77.

فهؤلاء قوم كانوا قد آمنوا و دخلوا في جماعة المؤمنين و لازموا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهطعين عليه عن اليمين و عن الشمال عزين ثمّ كفروا ببعض ما نزل إليه لا يبالون به فقرعهم الله سبحانه في هذه الآيات أنّهم لا ينتفعون بملازمته و لا لهم أن يطمعوا في دخول الجنّة فليسوا ممّن يدخلها و ليسوا بسابقين و لا معجزين.

٩١

و يؤيّده قوله الآتي:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سنشير إليه.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) ردع لهم عن الطمع في دخول الجنّة مع كفرهم.

و قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) المراد بما يعلمون النطفة فإنّ الإنسان مخلوق منها، و الكلام مرتبط بما بعده و المجموع تعليل للردع، و محصّل التعليل أنّا خلقناهم من النطفة - و هم يعلمون به - فلنا أن نذهب بهم و نخلق مكانهم قوماً آخرين يكونون خيراً منهم مؤمنين غير رادّين لشي‏ء من دين الله، و لسنا بمسبوقين حتّى يعجزنا هؤلاء الكفّار و يسبقونا فندخلهم الجنّة و ينتقض به ما قدّرنا أن لا يدخل الجنّة كافر.

و قيل:( من ) في قوله:( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) تفيد معنى لام التعليل، و المعنى أنّا خلقناهم لأجل ما يعلمون و هو الاستكمال بالإيمان و الطاعة فمن الواجب أن يتلبّسوا بذلك حتّى ندخلهم الجنّة فكيف يطمعون في دخولها و هم كفّار؟ و إنّما علموا بذلك من طريق إخبار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قيل:( من ) لابتداء الغاية، و المعنى: إنّا خلقناهم من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس و الطهارة حتّى تتطهّر بالإيمان و الطاعة و تتخلّق بأخلاق الملائكة فتدخل و أنّى لهم ذلك و هم كفّار.

و قيل: المراد بما في( مِمَّا يَعْلَمُونَ ) الجنس، و المعنى إنّا خلقناهم من جنس الآدميّين الّذين يعلمون أو من الخلق الّذين يعلمون لا من جنس الحيوانات الّتي لا تعقل و لا تفقه فالحجّة لازمة لهم تامّة عليهم، و الوجوه الثلاثة سخيفة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالمشارق و المغارب مشارق الشمس و مغاربها فإنّ لها في كلّ يوم من أيّام السنة الشمسيّة مشرقاً و مغرباً لا يعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة، و من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم

٩٢

و مغاربها.

و في الآية على قصرها وجوه من الالتفات ففي قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) التفات من التكلّم مع الغير في( إِنَّا خَلَقْناهُمْ ) إلى التكلّم وحده، و الوجه فيه تأكيد القسم بإسناده إلى الله تعالى نفسه.

و في قوله:( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) التفات من التكلّم وحده إلى الغيبة، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى هي المبدأ في خلق الناس جيلا بعد جيلا و هي ربوبيّته للمشارق و المغارب فإنّ الشروق بعد الشروق و الغروب بعد الغروب الملازم لمرور الزمان دخلاً تامّاً في تكون الإنسان جيلا بعد جيل و سائر الحوادث الأرضيّة المقارنة له.

و في قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ ) التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير، و الوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكر القدرة، و في ذكر ربوبيّته للمشارق و المغارب إشارة إلى تعليل القدرة فإنّ الّذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها لا يعجزه شي‏ء من الحوادث الّتي هي أفعاله عن شي‏ء منها و لا يمنعه شي‏ء من خلقه من أن يبدّله خيراً منه و إلّا شاركه المانع في أمر التدبير و الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيّته فافهم ذلك.

و قوله:( إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) ( عَلى) متعلّق بقوله:( لَقادِرُونَ ) و المفعول الأوّل لنبدّل ضمير محذوف راجع إليهم و إنّما حذف للإشارة إلى هوان أمرهم و عدم الاهتمام بهم، و( خَيْراً ) مفعوله الثاني و هو صفة اُقيمت مقام موصوفها، و التقدير إنّا لقادرون على أن نبدّلهم قوماً خيراً منهم، و خيريّتهم منهم أن يؤمنوا بالله و لا يكفروا به و يتّبعوا الحقّ و لا يردّوه.

و قوله:( وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ) المراد بالسبق الغلبة على سبيل الاستعارة، و كونه تعالى مسبوقاً هو أن يمنعه خلقهم أن يذهب بهم و يأتي بدلهم بقوم خير منهم.

و سياق الآية لا يخلو من تأييد مّا لما تقدّم من كون المراد بالّذين كفروا قوماً من المنافقين دون المشركين المعاندين للدين النافين لأصل المعاد فإنّ ظاهر قوله:

٩٣

( خَيْراً مِنْهُمْ ) لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنّ فيهم شائبة خيريّة و لله أن يبدّل خيراً منهم، و المشركون لا خير فيهم لكن هذه الطائفة من المنافقين لا يخلو تحفّظهم على ظواهر الدين ممّا آمنوا به و لم يردّوه من خير للإسلام.

فقد بان بما تقدّم أنّ قوله:( إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) إلى آخر الآيات الثلاث تعليل للردع بقوله:( كَلَّا ) ، و أنّ محصّل مضمون الآيات الثلاث أنّهم مخلوقون من نطفة - و هم يعلمون ذلك - و هي خلقة جارية و الله الّذي هو ربّ الحوادث الجارية الّتي منها خلق الإنسان جيلاً بعد جيل و المدبّر لها قادر أن يذهب بهم و يبدّلهم خيراً منهم يعتنون بأمر الدين و يستأهلون لدخول الجنّة، و لا يمنعه خلق هؤلاء أن يبدّلهم خيراً منهم و يدخلهم الجنّة بكمال إيمانهم من غير أن يضطرّ إلى إدخال هؤلاء الجنّة فلا ينتقض تقديره أنّ الجنّة للصالحين من أهل الإيمان.

قوله تعالى: ( فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ) أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتركهم و ما هم فيه، و لا يلحّ عليهم بحجاج و لا يتعب نفسه فيهم بعظة، و قد سمّي ما هم عليه بالخوض و اللعب دلالة على أنّهم لا ينتفعون به انتفاعاً حقيقيّاً على ما لهم فيه من الإمعان و الإصرار كاللعب الّذي لا نفع فيه وراء الخيال فليتركوا حتّى يلاقوا اليوم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و في إضافة اليوم إليهم إشارة إلى نوع اختصاص له بهم و هو الاختصاص بعذابهم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) بيان ليومهم الّذي يوعدون و هو يوم القيامة.

و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و سراعاً جمع سريع، و النصب ما ينصب علامة في الطريق يقصده السائرون للاهتداء به، و قيل: هو الصنم المنصوب للعبادة و هو بعيد من كلامه تعالى، و الإيفاض الإسراع و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الخشوع تأثّر خاصّ في القلب عن مشاهدة العظمة و الكبرياء، و يناظره الخضوع في الجوارح، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور آثاره فيها، و الرهق غشيان الشي‏ء بقهر.

٩٤

و قوله:( ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ ) الإشارة إلى ما مرّ من أوصافه من الخروج من الأجداث سراعاً و خشوع الأبصار و رهق الذلّة.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عبادة بن أنس قال: دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد فقال: ما لي أراكم عزين حلقاً حلق الجاهليّة قعد رجل خلف أخيه.

أقول: و رواه عن ابن مردويه عن أبي هريرة و لفظه: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه جلوس حلقاً حلقاً فقال: ما لي أراكم عزين‏، و روي هذا المعنى أيضاً عن جابر بن سمرة.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ) قال: من نطفة ثمّ علقة، و قوله:( فَلا أُقْسِمُ ) أي اُقسم( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ ) قال: مشارق الشتاء و مشارق الصيف و مغارب الشتاء و مغارب الصيف.

و في المعاني، بإسناده إلى عبدالله بن أبي حماد رفعه إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: لها ثلاثمائة و ستّون مشرقاً و ثلاثمائة و ستّون مغرباً فيومها الّذي تشرق فيه لا تعود فيه إلّا من قابل.

و في تفسير القمّيّ: و قوله:( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ) قال: من القبر( كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ ) قال: إلى الداعي ينادون، و قوله:( تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ) قال: تصيبهم ذلّة.

٩٥

( سورة نوح مكّيّة و هي ثمان و عشرون آية)

( سورة نوح الآيات 1 - 24)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 1 ) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 2 ) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ( 3 ) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 4 ) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ( 5 ) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ( 6 ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ( 7 ) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ( 8 ) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ( 9 ) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ( 10 ) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا ( 11 ) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ( 12 ) مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ( 13 ) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( 14 ) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ( 15 ) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ( 16 ) وَاللهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا ( 17 ) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ( 18 ) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا ( 19 ) لِّتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ( 20 ) قَالَ نُوحٌ رَّبِّ

٩٦

إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ( 21 ) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ( 22 ) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ( 23 ) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا ( 24 )

( بيان‏)

تشير السورة إلى رسالة نوحعليه‌السلام إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثمّ شكواه إلى ربّه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمناً و للمؤمنين و المؤمنات ثمّ حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكّيّة بشهادة سياق آياتها.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ( أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ) إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر إلخ.

و في الكلام دلالة على أنّ قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدلّ عليه ما حكي من قولهعليه‌السلام في الآية التالية:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ ) و ذلك أنّ الإنذار تخويف و التخويف إنّما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذّر، و قد أفاد قوله:( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أنّه متوجّه إليهم غير تاركهم لو لا تحذّرهم منه.

قوله تعالى: ( قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) بيان لتبليغه رسالته إجمالاً بقوله:( إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) و تفصيلاً بقوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) إلخ.

و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي إنّكم قومي يجمعكم و إيّاي مجتمعنا القوميّ تسوؤني ما أساءكم فلست اُريد إلّا ما فيه خيركم و سعادتكم إنّي

٩٧

لكم نذير إلخ.

و في قوله:( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ) دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإنّ القوم كانوا وثنيّين يعبدون الأصنام، و الوثنيّة لا تجوّز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنّما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوّزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.

و في قوله:( وَ اتَّقُوهُ ) دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة الّتي في تركها معصية.

و في قوله:( وَ أَطِيعُونِ ) دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم ممّا يعبد به الله سبحانه و يستنّ به في الحياة منهعليه‌السلام ففي قوله:( اعْبُدُوا اللهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ ) ندب إلى اُصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله:( اعْبُدُوا اللهَ ) و المعاد الّذي هو أساس التقوى(1) و التصديق بالنبوّة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.

قوله تعالى: ( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) مجزوم في جواب الأمر و كلمة( مِنْ ) للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتّقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب الّتي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أمّا الذنوب الّتي لم تقترف بعد ممّا سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحقّقها، و لا معنى أيضاً للوعد بمغفرتها إن تحقّقت في المستقبل أو كلّما تحقّقت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينيّة بإلغاء المجازاة على مخالفتها.

و يؤيّد ذلك ظاهر قوله تعالى:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) الأحقاف: 31، و قوله:( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) إبراهيم: 10 و قوله:( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ ) الأنفال: 38.

____________________

(1) إذ لو لا المعاد بما فيه من الحساب و الجزاء لم يكن للتقوى الدينيّ وجه، منه.

٩٨

و أمّا قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الاُمّة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى‏ تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ ) الصفّ: 12 فهو و إن كان ظاهراً في مغفرة جميع الذنوب لكن رتّبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلّقة بما لم يتحقّق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلّما تحقّقت.

و قد مال بعضهم اعتماداً على عموم المغفرة في آية الصفّ إلى القول بأنّ المغفور بسبب الإيمان في هذه الاُمّة جميع الذنوب و في سائر الاُمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لاُمّته:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم( يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) و قول الجنّ كما في سورة الأحقاف لقومهم:( يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و فيه أنّ آية الصفّ موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه. على أنّ آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفّار هذه الاُمّة.

و ذهب بعضهم إلى كون( مِنْ ) في قوله:( مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) زائدة، و لم تثبت زيادة( من ) في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أنّ( مِنْ ) بيانيّة، و قول من ذهب إلى أنّها لابتداء الغاية.

قوله تعالى: ( وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمّى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدلّ على أنّ هناك أجلين أجل مسمّى يؤخّرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجّل إليهم لو بقوا على الكفر، و أنّ الأجل المسمّى أقصى الأجلين و أبعدهما.

ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا و في قوله:( إِنَّ أَجَلَ

٩٩

اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ ) تعليل للتأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضيّ المتحتّم أعمّ من الأجل المسمّى و غير المسمّى فلا رادّ لقضائه تعالى و لا معقّب لحكمه.

و المعنى: أن اعبدوا الله و اتّقوه و أطيعوني يؤخّركم الله إلى أجل مسمّى هو أقصى الأجلين فإنّكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمّى بكفركم و لم تؤخّروا فإنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر، ففي الكلام مضافاً إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمّى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجّل إن لم يؤمنوا.

و قد ظهر بما تقدّم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمّى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمّى.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنّه يفسّر الأجل المسمّى أيضاً بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجّل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخّركم إلى يوم القيامة إنّه إذا جاء لا يؤخّر.

و أنت خبير بأنّه لا يلائم التبشير الّذي في قوله:( يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ) .

و قوله:( لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) متعلّق بأوّل الكلام أي لو كنتم تعلمون أنّ لله أجلين و أنّ أجله إذا جاء لا يؤخّر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتّقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول( تَعْلَمُونَ ) محذوف يدلّ عليه سابق الكلام.

و قيل: إنّ( تَعْلَمُونَ ) منزّل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلّق بأوّل الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلّق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخّر.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) القائل هو نوحعليه‌السلام و الّذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلاً و نهاراً كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.

و قوله:( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً ) أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرّد و التأبّي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة

١٠٠