بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194203 / تحميل: 7312
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

فقال ذلك المقال ، فقال له الملك : ادن مني فدنا و وضع يده على فيه حذرا من أن يشمّ الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه : ما أرى فلانا إلاّ صدق و كان الملك لا يكتب بخطّه إلاّ لجائزة أو صلة فكتب له كتابا بخطه إلى عامل من عمّاله « إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه و اسلخه وحش جلده تبنا و ابعث به إلى » ، فأخذ الكتاب و خرج ، فلقيه الرجل الذي سعى به فقال : ما هذا الكتاب ؟

قال : خط الملك بجائزة لي قال : هبه لي فوهبه له و أخذه و مضى إلى العامل ،

فقال العامل : في كتابك أن أذبحك و أسلخك قال : إنّ الكتاب ليس هو لي فاللّه اللّه في أمري حتى تراجع الملك فقال : ليس لكتاب الملك مراجعة ، فذبحه و سلخه وحشّى جلده تبنا و بعث به ثم دعا الرجل كعادته إلى الملك و قال مثل مقالته ،

فتعجب الملك و قال : ما فعلت بالكتاب ؟ فقال : لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له قال : إنّه ذكر لي أنّك تزعم أنّي أبخر قال : ما قلت ذلك قال : فلم وضعت يدك على فيك ؟ قال : لأنّه أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت أن تشمّه .

قال : صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسي‏ء إساءته١ .

« و لا تباغضو فإنّها الحالقة » أي : الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين كما يحلق الموسى الشعر .

و في قطيعة رحم ( الكافي ) : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا و إنّ في التباغض الحالقة ،

لا أعني حالقة الشعر و لكن حالقة الدين٢ .

و قال الصادقعليه‌السلام : اتقوا الحالقة فإنّها تميت الرجال قلت : فما الحالقة ؟

قال : قطيعة الرحم٣ .

____________________

( ١ ) شرح الخوئي : ١٦١ ١٦٢ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٣٤٦ ح ١ .

( ٣ ) الكافي ٢ : ٣٤٦ ح ٢ .

٣٦١

« و اعلموا أنّ الأمل يسهي العقل » في ( النهاية ) : السهو في الشي‏ء تركه عن غير علم ، و السهو عنه تركه مع العلم ، و منه قوله تعالى : الذين هم عن صلاتهم ساهون١ .

« و ينسي الذكر » و قال تعالى :فاعرض عمّن تولّى عن ذكرنا و لم يرد إلاّ الحياة الدّنيا ٢ .

« فأكذبوا الأمل فإنّه غرور و صاحبه مغرور » و في المثل : « أغر من ظبي مقمر »٣ لأنّه يخرج في الليلة المقمرة يرى أنّه النهار فتأكله السباع .

٣٠ الحكمة ( ١٨٠ ) و قالعليه‌السلام :

اَلطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ أقول : قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

تعفف و عش حرّا و لا تك طامعا

فما قطع الأعناق إلاّ المطامع٤ . .

و قالوا : العبد حر إذا قنع ، و الحر عبد إذا طمع٥ .

____________________

( ١ ) النهاية لابن الاثير ٢ : ٤٣٠ مادة ( سهى ) و الآية ٥ من سورة الماعون .

( ٢ ) النجم : ٢٩ .

( ٣ ) المنجد في اللغة للويس معلوف : ١٠٣٠ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١٣ .

( ٥ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢١٣ .

٣٦٢

٣١ الحكمة ( ٢٢٦ ) و قالعليه‌السلام :

اَلطَّامِعُ فِي وِثَاقِ اَلذُّلِّ أقول : قال الشاعر :

رأيت مخيلة فطمعت فيها

و في الطمع المذلّة للرقاب١

و قال آخر :

طمعت بليلى أن تريع و إنّما

تقطع أعناق الرجال المطامع٢

و قال أعرابي : إنّ الآمال قطعت أعناق الرجال كالسراب غرّ من رآه و أخلف من رجاه .

٣٢ الحكمة ( ٢١٩ ) و قالعليه‌السلام :

أَكْثَرُ مَصَارِعِ اَلْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ اَلْمَطَامِعِ أقول : قالوا : ما الخمر صرفها بأذهب لعقول الرجال من الطمع .

و سئلعليه‌السلام : ما ثبات الإيمان ؟ فقال : الورع فقيل له : و ما زواله ؟ قال :

الطمع٣ .

و قال ابن أبي الحديد : قال الشاعر :

إذا حدّثتك النفس أنّك قادر

على ما حوت أيدي الرجال فكذّب

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٨٥ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٤١ .

( ٣ ) عن الصادقعليه‌السلام عن الحسين بن علي ذكره المجلسي في بحار الأنوار ٧ : ٣٠٥ الرواية ٢٣ .

٣٦٣

و إيّاك و الأطماع إنّ و عودها

رقارق آل أو بوارق خلّب١

هذا ، و قالوا : رأى أشعب الطماع سلاّلا يصنع سلّة فقال : أو سعها قال له :

مالك و ذاك ؟ قال : لعلّ صاحبها يهدي لي فيها شيئا يوما .

٣٣ الحكمة ( ٢٥٥ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ اَلْجُنُونِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ مُسْتَحْكِمٌ « الحدة » بالكسر من حد يحد بالكسر .

و في الخبر : الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم ، ألم تروا إلى حمرة عينيه و انتفاخ أو داجه٢ .

أيضا : إذا غضب أحدكم ليقعد إن كان قائما و يضطجع إن كان قاعدا٣ .

و قال شاعر :

احذر مغايظ أقوام ذوي أنف

إنّ المغيظ جهول السيف مجنون

هذا ، و في ( العيون ) : كان المنصور ولّى سلمة بن قتيبة البصرة ، و ولّى مولى له كور البصرة و الإبلة ، فورد كتاب مولاه أنّ سلما ضربه بالسياط ،

فاستشاط المنصور و قال : عليّ تجرأ سلم لأجعلنه نكالا ، فقال له ابن عياش و كان جريئا عليه إنّ سلما لم يضرب مولاك بقوّته و لا قوّة أبيه و لكنّك قلّدته سيفك و أصعدته منبرك فأراد مولاك أن يطأطى‏ء منه ما رفعت و يفسد ما

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٩ : ٤١ .

( ٢ ) في الكافي ٢ : ٣٠٤ ح ١٢ ، الغضب جمرة من الشيطان و نقل المجلسي ما يماثله عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله انظر ٧٣ : ٢٧٢ ح ٢٣ الباب ١٣٢ .

( ٣ ) ذكره المجلسي عن دعوات الراوندي ٨٠ : ٣١٢ بلفظ آخر .

٣٦٤

صنعت فلم يحتمل ذلك ، إنّ غضب العربي في رأسه فإذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسان أو يد ، و إنّ غضب النبطي في استه فإذا غضب و خرئ ذهب غضبه فضحك المنصور و قال : فعل اللّه بك يا منتوف و فعل ، و كف عن سلم .

هذا مثل الحدّة في أعقاب الندامة العجلة ، و كانت العرب تكني العجلة أم الندامة ، قالوا : إنّ صاحب العجلة يقول قبل أن يعلم ، و يجيب قبل أن يفهم و يعزل قبل أن يفكّر ، و يقطع قبل أن يقدر ، و يحمد قبل أن يجرب ، و يذّم قبل أن يختبر ، و من كان معه أحد هذه الخلال يندم البتة فكيف مع الجميع١ .

____________________

( ١ ) العيون ، للقتيبي ١ : ٢٩٠ ٢٩١ .

٣٦٥

الفصل الخامس و الاربعون في آداب المعاشرة

٣٦٦

١ الحكمة ( ٩ ) و قالعليه‌السلام :

خَالِطُوا اَلنَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ أقول : في ( تذكرة سبط بن الجوزي ) : قال أبو حمزة الثمالي : حدّثنا إبراهيم بن سعيد عن الشعبي عن ضرار بن ضمرة قال : أوصى أمير المؤمنينعليه‌السلام بنيه فقال : يا بني عاشروا النّاس بالمعروف معاشرة إن عشتم حنّوا إليكم و إن متّم بكوا عليكم ثم قال :

يريد بذاكم أن يهشوا لطاعتي

و أن يكثروا بعدي الدعاء على قبري

و أن يمنحوني في المجالس ودّهم

و ان كنت عنهم غائبا أحسنوا ذكري١

____________________

( ١ ) التذكرة لسبط ابن الجوزي : ١٥٢ .

٣٦٧

و مثله عن ( مناقب ابن الجوزي ) .

و في ( أمالي الشيخ ) عن أبي المفضل مسندا عن الباقرعليه‌السلام : لما احتضر أمير المؤمنينعليه‌السلام جمع بنيه حسنا و حسينا و ابن الحنفية و الأصاغر من ولده ، فوصّاهم و كان في آخر وصيته « عاشروا النّاس عشرة إن غبتم حنّوا إليكم و إن فقدتم بكوا عليكم ، يا بني إنّ القلوب جنود مجنّدة تتلاحظ بالمودة و تتناجى بها و كذلك هي في البغض ، فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه ، و إذا أبغضتم الرجل من غير سوء سبق منه إليكم فاحذروه »١ .

« خالطوا النّاس مخالطة » قد عرفت أنّ في رواية اخرى : « عاشروا الناس بالمعروف معاشرة »٢ .

في ( قرب الاسناد ) : عن الصادقعليه‌السلام أنّ عليّاعليه‌السلام صاحب ذمّيا فقال له الذّمي : أين تريد ؟ قالعليه‌السلام : الكوفة فلما عدل الطريق بالذّمي عدل معه عليّعليه‌السلام ، فقال له الذّمي : ألست زعمت أنّك تريد الكوفة فقد تركت الطريق .

فقال له : قد علمت فقال : و لم عدلت معي ؟ قالعليه‌السلام من تمام الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه إذا فارقه ، كذلك أمرنا نبيّنا فقال : لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ، أشهدك أنّي على دينك فرجع الذّمي معهعليه‌السلام ، فلما عرفه أسلم٣ .

و قال بعضهم : إنّما الناس أحاديث ، فإن استطعت أن تكون أحسنهم حديثا فافعل .

« إن متّم معها بكوا عليكم » في ( تاريخ بغداد ) : كان ابن أبي دؤاد مؤلفا لأهل

____________________

( ١ ) الأمالي للشيخ : المجلس السادس و العشرون : ٥٩٥ ح ١٢٣٢ المجلس ( ٢٦ ) .

( ٢ ) بحار الأنوار للمجلسي ٧٨ : ٧٦ ح ٤٧ .

( ٣ ) قرب الاسناد للحميوي القمي : ١٠ .

٣٦٨

الأدب من أي بلد كانوا ، و قد كان ضمّ إليه جماعة يعولهم و يموّنهم ، فلما مات اجتمع ببابه جماعة منهم فقالوا : أيدفن من كان على ساقة الكرم و تاريخ الأدب و لا يتكلّم فيه إنّ هذا لوهن و تقصير فلما طلع سريره قام ثلاثة منهم فقال أحدهم :

اليوم مات نظام الفهم و اللسن

و مات من كان يستدعى على الزمن

و اظلمت سبل الآداب إذ حجبت

شمس المعارف في غيم من الكفن

و تقدّم الثاني فقال :

ترك المنابر و السرير تواضعا

و له منابر لو يشا و سرير

و لغيره يجبى الخراج و إنّما

يجبى إليه محامد و أجور

و قام الثالث فقال :

و ليس نسيم المسك ريح حنوطه

و لكنّه ذاك الثناء المخلف

و ليس صرير النعش ما يسمعونه

و لكنّها أصلاب قوم تقصف١

و في ( الأغاني ) : عن مسرور خادم الرشيد : لما أمرني بقتل جعفر دخلت عليه و عنده أبو زكار الأعمى و هو يغنيه بصوت لم أسمع بمثله :

فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي

عليه الموت يطرق أو يغادي

و كلّ ذخيرة لا بدّ يوما

و إن بقيت تصير إلى نفاد

و لو يفدى من الحدثان شي‏ء

فديتك بالطريف و بالتلاد

فقلت له : في هذا و اللّه أتيتك ، فأخذت بيده فأقمته و أمرت بضرب عنقه .

فقال لي أبو زكار : نشدتك اللّه إلاّ ألحقتني به فقلت له : و ما رغبتك في ذلك ؟ قال :

إنّه أغناني عمّن سواه بإحسانه فما أحبّ أن أبقى بعده٢ . .

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٤ : ١٥٠ .

( ٢ ) الأغاني ٧ : ٢٢٧ .

٣٦٩

و فيه : كان الفضل الرقاشي منقطعا إلى آل برمك مستغنيا بهم عمّن سواهم و كانوا يصولون به على الشعراء و يروون أولادهم شعره و يدونونها القليل منها و الكثير تعصبا له و حفظا لخدمته و تنويها باسمه و تحريكا لنشاطه ، فحفظ ذلك لهم ، فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم فأقام معهم مدّة أيّامهم ينشدهم حتى ماتوا ، ثم رثاهم فأكثر من رثائهم١ ، و كان فنى في حبّهم حتى خيف عليه ، فمن قوله في جعفر :

كم هاتف بك من باك و باكية

يا طيّب للضيف إذ تدعى و للجار

إن يعدم القطر كنت المزن بارقة

لمع الدنانير لا ما خيل الساري٢

و منه قوله :

فلا يبعدنك اللّه عني جعفرا

بروحي و لو دارت عليّ الدوائر

فآليت لا أنفك أبكيك ما دعت

على فنن و رقاء أو طار طائر٣

و قال المدائني : لما دارت الدوائر على آل برمك و أمر بقتل جعفر بن يحيى و صلب اجتاز به الرقاشي ، فوقف يبكي أحرّ بكاء ثم أنشأ يقول :

أما و اللّه لو لا خوف واش

و عين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك و استلمنا

كما للناس بالحجر استلام

فما أبصرت قبلك يابن يحيى

حساما حتفه السيف الحسام

على اللذات و الدنيا جميعا

و دولة آل برمك السلام

فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد فأحضره ، فقال له : ما حملك على ما قلت ؟ فقال : كان إليّ محسنا فلما رأيته على الحال التي هو عليها

____________________

( ١ ) الأغاني ١٦ : ٢٤٥ .

( ٢ ) الأغاني ١١ : ٢٣٥ ، نسبه ( ليلى بنت عبد اللّه ) .

( ٣ ) الأغاني ١٦ : ٢٤٨ .

٣٧٠

حرّكني إحسانه فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلته قال : و كم كان يجري عليك ؟ قال : ألف دينار في كلّ سنة قال : قد أضعفناها لك١ .

و في كتاب ( أخبار بني العباس ) عن خادم المأمون قال : طلبني الخليفة ليلا و قد مضى من الليل ثلثة فقال : بلغني أنّ شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة و ينشد شعرا و يذكرهم و يندبهم و يبكي عليهم ، فاذهب مسرعا إلى ذاك الموضع و استتر خلف بعض الجدر ، فإذا رأيت الشيخ قد جاء و بكى و ندبه و أنشد أبياتا فائتني به فأتيته فإذا بغلام قد أتى و معه بساط و كرسي حديد و إذا شيخ قد جاء و له جمال و عليه مهابة ، فجلس على الكرسي و جعل يبكي و ينتحب و يقول :

و لمّا رأيت السيف جندل جعفرا

و نادى مناد للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا و زاد تأسفي

عليهم و قلت الآن لا تنفع الدّنيا

مع أبيات فلما فرغ قبضنا عليه و قلنا أجب الخليفة ، ففزع و قال : دعني أوصي فأخذ من بعض الدكاكين ورقة و كتب وصيّته و سلّمها إلى غلامه فأدخلته على الخليفة فقال له : بما استوجب البرامكة معك ما تفعله في خرائب دورهم قال : كنت من أولاد الملوك و كنت في دمشق فزالت الدولة عنّي و ركبني الدين حتى احتجت إلى بيع بيتي ، فأشاروا عليّ بالخروج إلى البرامكة ، فخرجت مع نيف و ثلاثين امرأة و صبيا و صبيّة حتى دخلنا بغداد و نزلنا في بعض المساجد فدعوت ببعض ثياب كنت أعددتها فلبستها و خرجت و تركتهم جياعا ، فاذا أنا بمسجد مزخرف و في جانبه شيخ بأحسن زي و على الباب خادمان و في الجامع جماعة جلوس ، فطمعت في القوم و دخلت و أنا أقدّم رجلا و أؤخر اخرى و العرق يسيل مني ، و إذا بخادم قد أقبل

____________________

( ١ ) الأغاني ١٦ : ٢٤٩ .

٣٧١

و دعاهم فقاموا فدخلوا دار يحيى بن خالد فدخلت معهم و إذا يحيى جالس على دكّة له وسط بستان ، فسلّمنا و هو يعدنا مائة و واحدا و بين يديه عشرة من ولده ، و إذا بأمرد نبت العذار في خديه قد أقبل من بعض المقاصير و بين يديه مائة خادم متمنطقون في وسط كلّ منهم منطقة من ذهب يقرب وزنها من ألف مثقال ، و مع كلّ منهم مجمرة من ذهب في كلّ مجمرة قطعة من العود و العنبر السلطاني ، فوضعوه بين يدي الغلام و جلس إلى جنب يحيى ، فقال يحيى للقاضي : تكلّم و زوّج ابنتي فلانة من ابن أخي هذا فخطب خطبة النكاح و زوّجه و شهد أولئك الجماعة و أقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك و العنبر فالتقطت مل‏ء كمي و نظرت فإذا نحن بين يحيى و ولده و الغلام مائة و اثنا عشر نفرا و إذا بمائة و اثنا عشر خادما قد أقبلوا و مع كلّ خادم صينية من فضّة على كلّ صينية ألف دينار ، فوضعوا بين يدي كلّ رجل منّا صينية ،

فرأيت القاضي و المشائخ يضعون الدنانير في أكمامهم و يجعلون الصواني تحت آباطهم و قاموا و بقيت لا أجسر على أخذ الصينية ، فغمزني الخادم فأخذتها و جعلت أتلفت إلى ورائي مخافة أن أمنع من الذهاب و يحيى يلاحظني فقال : ما لي أراك تتلفت يمينا و شمالا ؟ فقصصت عليه قصتي فقال للخادم :

إيتني بولدي موسى و قال له : يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك و احفظه بنعمتك فأخذ يدي و أدخلني داره و أقمت عنده يومي و ليلتي في ألذّ عيش ، فلما أصبح دعا بأخيه العباس و قال له : أمرني الوزير بالعطف على هذا الفتى و قد علمت اشتغالي في بيت الخليفة فاقبضه إليك و أكرمه ففعل ثم تسلمني في الغد أخوه أحمد ، ثم تداولوا بي في عشرة أيام و لا أعرف خبر عيالي و صبياني .

فلما كان اليوم الحادي عشر جاءني خادم و قال : اخرج إلى عيالك

٣٧٢

بسلام فقلت : إنا للّه و إنّا إليه راجعون سلبت الصينية و الدنانير ، فرفع الخادم سترا ثم آخر ثم آخر إلى خمسة ، فلما رفع الأخير رأيت حجرة كالشمس حسنا و نورا و استقبلني منها رائحة العود و نفحات المسك ، و إذا بعيالي و صبياني يتقلبون في الحرير و الديباج ، و حمل إليّ مائة ألف درهم و عشرة آلاف دينار و منشور لضيعتين و تلك الصينية التي كنت أخذتها بما فيها من الدّنانير و البنادق ، و أقمت مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أنا من البرامكة أم غريب ، فلما جاءتهم البلية أجحفني عمرو بن مسعدة و ألزمني في هاتين الضيعتين من الخراج ما لا يفي دخلهما به ، فلما تحامل عليّ الدهر كنت أقصد في آخر الليل خرابات دورهم فأندبهم و أذكر حسن صنيعهم و أبكي عليهم فقال الخليفة : عليّ بعمرو بن مسعدة ، فأتى به فقال له :

تعرف هذا ؟ قال : بعض صنائع البرامكة قال : كم ألزمته في ضيعته ؟ قال : كذا و كذا فقال له : رد إليه كلّ ما أخذته منه و أفرغهما له ليكونا له و لعقبه من بعده .

فعلا نحيب الرجل ، فلما رأى الخليفة كثرة بكائه قال له : يا هذا قد أحسنّا إليك فما يبكيك ؟ قال : و هذا أيضا من صنيع البرامكة لو لم آت خراباتهم فأبكيهم و أندبهم حتى اتصل خبري بالخليفة من أين كنت أصل إلى الخليفة ،

فدمعت عينا الخليفة و قال : لعمري هذا أيضا من البرامكة فأبكهم و اشكرهم١ .

و في ( العيون ) : كان سعيد بن عمرو مؤاخيا ليزيد بن المهلب ، فلما حبس عمر ابن عبد العزيز ، يزيد و منع من الدخول عليه ، أتاه سعيد فقال له : لي على يزيد خمسون ألف درهم و قد حلت بيني و بينه فإن رأيت أن تأذن لي فأقتضيه .

فاذن لي فدخل عليه فسر به يزيد و قال له : كيف وصلت إليّ فقال : بهذا التدبير .

____________________

( ١ ) لم نعثر على كتاب اخبار بني العباس في المطبوعات و المخطوطات ، و يقول حاجي خليفة عن الكتاب إنّه لأحمد بن يعقوب المصري و لعبد اللّه بن الحسين بن بدر المتوفي سنة ٣٧٢ ، انظر كشف الظنون ١ : ٢٦ .

٣٧٣

فقال يزيد : و اللّه لا تخرج إلاّ و هي معك فامتنع سعيد فحلف يزيد ليقبضها .

فقال ابن الرقاع :

لم أر محبوسا من الناس واحدا

حبا زائرا في السجن غير يزيد

سعيد بن عمرو إذا أتاه أجازه

بخمسين ألف عجلت لسعيد١

« و ان عشتم حنّوا إليكم » من ( حنا ) أي : عطف و مال .

في ( مستجاد التنوخي ) : مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل : إنّهم يستحيون مما لك عليهم من الدين فقال : أخزى اللّه ما لا يمنع الإخوان من الزيارة ثم أمر مناديا فنادى : من كان لقيس عليه حقّ فهو منه في حلّ فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده٢ .

و في ( الجهشياري ) : ذكر مخلد بن إبان قال : كنت أكتب لمنصور بن زياد ، فشخص منصور مع الرشيد إلى خراسان و كان ابنه محمد بن منصور سخيا سريا و كان الرشيد يسمّيه فتى العسكر فأمرني بحفظ الأموال و المقام معه على السواد بحضرة محمد الأمين ببغداد ، فكنت مع محمد بن منصور و عمل على تزويج ابنه زياد بن محمد بن منصور ، فسأل محمد الأمين أن يزوره في أصحابه و قوّاده و كتّابه من غير أن يقدم في هذا قولا إليّ ،

فأجابه الأمين ثم دعاني فخبّرني الخبر فقلت له : هذا أمر علينا فيه غلظة و نحتاج إلى مال جليل فقال : قد وقع هذا و لا حيلة في إبطاله و كان موضع بابه يضيق عن عشر دواب فقلت له : فإن لم تنظر في المال و النفقة فمن أين لنا رحبة تقوم فيها دواب الناس فقال : لا و اللّه ما أدري و التدبير و الأمر إليك .

ففكرت في إحسانهم إلى جيرانهم ، فخرجت إلى مسجد على بابه فجمعتهم

____________________

( ١ ) عيون الاخبار ١ : ٣٤٤ ، و ذكره ابن قتيبة ايضا في الشعر و الشعراء : ٤١٠ ، طبع دار الكتب العلمية .

( ٢ ) المستجاد في أخبار الأجواد للتنوخي : ١٧٦ .

٣٧٤

و أعلمتهم ما عزم عليه محمد ابن منصور من أمر ابنه و استزارته الأمين و أنّه لا رحبة له ، و سألتهم تفريغ منازلهم و إعارتنا إيّاها جمعة أو عشرة أيام حتى نهدمها ثم نبنيها إذا استغنينا عنها أحسن بناء قلت لهم هذا القول و أنا خائف ألاّ يجيبوني فقالوا جميعا بلسان واحد : نعم كرامة و مسرة ، غدا نفرغها .

فشكرت ذلك لهم و قاموا من حضرتي و أخذوا في تفريغها و كان أكثرها باللبن و الاختصاص فهدمناها و جعلنا مكانها رحبة و أتانا الأمين و أنفقنا أموالا جليلة ، و كانت الغو إلى في تغارات فضة و أكثر الشمع من عنبر في طساس ذهب ، ثم انقضى العرس فبنيت للجيران منازلهم بالجص و الآجر١ .

و في ( كامل المبرد ) : كان القعقاع بن شور إذا جالسه أحد و عرفه بالقصد إليه جعل له نصيبا في ماله و أعانه على عدوّه له في حاجته و غدا إليه بعد المجالسة شاكرا له حتى شهر بذلك ، و فيه يقول القائل :

و كنت جليس قعقاع بن شور

و لا يشقى بقعقاع جليس

ضحوك السن إن أمروا بخير

و عند السوء مطراق عبوس

و جالس رجل قوما من مخزوم ، فأساؤوا عشرته و سعوا به إلى معاوية ، فقال :

شقيت بكم و كنت لكم جليسا

فلست جليس قعقاع بن ثور٢

و من جهل أبو جهل أخوكم

غزا بدرا بمجمرة و تور

و في ( تاريخ بغداد ) عن عون بن محمد الكندي قال : لعهدي بالكرخ ببغداد و ان رجلا لو قال ابن أبي دؤاد مسلم لقتل في مكانه ، ثم وقع الحريق في الكرخ و هو الذي ما كان مثله قط ، كان الرجل يقوم في صينية شارع الكرخ

____________________

( ١ ) الجهشياري : ٢٦٦ ٢٦٧ .

( ٢ ) الكامل للمبرّد ١٠ : ١٥٢ .

٣٧٥

فيرى السفن في دجلة فكلّم ابن أبي دؤاد المعتصم في الناس و قال له : رعيتك في بلد آبائك و دار ملكهم نزل بهم هذا الأمر فاعطف عليهم بشي‏ء يفرّق فيهم يمسك أرماقهم و يبنون به ما انهدم عليهم و يصلحون به أحوالهم فلم يزل ينازله حتى أطلق لهم خمسة آلاف ألف درهم فقال له : إن فرقها عليهم غيري خفت ألا يقسم بينهم بالسوية فائذن لي في تولي أمرها ليكون الأجر أوفر و الثناء أكثر قال : ذلك إليك فقسّمها على مقادير الناس و ما ذهب منهم بنهاية ما يقدر عليه من الاحتياط و احتاج إلى زيادة ، فازدادها من المعتصم و غرم من ماله في ذلك غرما كثيرا فكانت هذه من فضائله التي لم يكن لأحد مثلها .

فلعهدي بالكرخ لو إنّ إنسانا قال « زر ابن أبي دؤاد و سخ » لقتل .

فيه أيضا : اعتلّ ابن أبي دؤاد فعاده المعتصم و قال له : إنّي نذرت إن عافاك اللّه أن أتصدّق بعشرة آلاف دينار فقال له : اجعلها لأهل الحرمين فقد لقوا من غلاء الأسعار عنفا فقال : نويت أن أتصدّق بها ههنا و أنا اطلق لأهل الحرمين مثلها فقيل للمعتصم في ذلك لأنّه عاده و ليس يعود إخوته و أجلاّء أهله فقال : و كيف لا أعود رجلا ما وقعت عيني عليه قط إلاّ ساق إليّ أجرا أو أحب لي شكرا أو أفادني فائدة تنفعني في دنياي و ديني ، و ما سألني حاجة لنفسه قط١ .

و بالعكس من أساء معاشرة الناس يجتنبه الناس في حياته و يشمتون بموته بعد وفاته ، قالوا : لما مات أبو عبيدة معمّر بن المثنى مع كثرة تاليفه في الفنون المختلفة حتى قيل فيه إنّ علم الجاهلية و الاسلام كان عنده لم يحضر جنازته أحد لأنّه لا يسلم منه شريف و لا غيره .

و في ( تاريخ بغداد ) : ولّي معاذ بن معاذ و كان له منزلة من الرشيد

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٤ : ١٤٩ .

٣٧٦

قضاء البصرة ، فلم يحمدوا أمره و كثر الكارهون له و الرقائع عليه ، فلما صرف عن القضاء أظهر أهل البصرة السرور به و نحروا الجزور و تصدّقوا بلحمها و استتر في بيته خوف الوثوب عليه ثم شخص مختفيا١ .

و قالوا : لما نكب المعتصم الفضل بن مروان شمت به الناس لرداءة أفعاله و أخلاقه ، فقيل فيه :

لتبك على الفضل بن مروان نفسه

فليس له باك من الناس يعرف

لقد صحب الدّنيا منوعا بخيرها

و فارقها و هو الظلوم المعنف

إلى النار فليذهب و من كان مثله

على أي شي‏ء فاتنا منه نأسف٢

و في ( اليعقوبي ) : سخط المتوكل بعد أربعين يوما من خلافته على محمد بن عبد الملك الزيات و استصفى أمواله و عذّبه حتى مات ، كان شديد القسوة قليل الرحمة كثير الاستخفاف بهم لا يعرف له إحسان إلى أحد و لا معروف عنده و كان يقول : الحياء و الرحمة ضعف ، و السخاء حمق فلما نكب لم ير إلاّ شامت به و فرح بنكبته٣ .

و في ( الطبري ) : قيل في الأمين بعد قتله :

لم نبكيك لما ذا للطرب

يا أبا موسى و ترويج اللعب

و لترك الخمس في أوقاتها

حرصا منك على ماء العنب

و شنيف انا لا أبكي له

و على كوثر لا أخشى العطب

لم تكن تعرف ما حدّ الرضا

لا و لا ما حد الغضب٤

و في ( أنساب البلاذري ) : كان عمرو بن الزبير عظيم الكبر شديد العجب ،

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٤ : ١٤٩ ١٥٠ .

( ٢ ) تاريخ بغداد لليعقوبي ٤ : ١٣٢ .

( ٣ ) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤٨٤ .

( ٤ ) تاريخ الطبري ٤ : ٩٤ .

٣٧٧

و له يقال : « عمرو لا يكلّم ، من يكلّمه يندم » .

٢ الحكمة ( ٣٦٠ ) و قالعليه‌السلام :

لاَ تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءاً وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي اَلْخَيْرِ مُحْتَمَلاً أقول : روى ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : إنّ المؤمن إذا اتّهم أخاه المؤمن انماث الإيمان من قلبه كانمياث الملح في الماء١ .

هذا ، و قال ابن أبي الحديد : قال ثمامة : نكب الرشيد علي بن عيسى بن ماهان و ألزمه مائة ألف دينار أدّى منها خمسين ألف دينار و بلج بالباقي ،

فأقسم الرشيد إن لم يؤد اليوم قتله ، و كان ابن ماهان عدوّا للبرامكة مكاشفا ،

فلما علم أنّه مقتول سأل أن يمكّن من الناس يستنجدهم ففسح له في ذلك ،

فمضى و معه وكيل الرشيد إلى باب يحيى و جعفر فأسبلا عليه و صححا من صلب أموالهما خمسين ألف دينار و استخلصاه ، فنقل بعض المنتصحين لهما إليهما أنّ ابن ماهان قال في آخر ذاك اليوم متمثلا :

فما بقيا عليّ تركتماني

و لكن خفتما صرر النبال

فقال يحيى للناقل : إنّ المرعوب ليسبق لسانه إلى ما لم يخطر بقلبه .

و قال جعفر : و من أين لنا أنّه عنانا و لعلّه أراد أمرا آخر في تمثّله٢ . .

قلت : نقله ( الجهشياري ) بطريق آخر كما مر في فصل المكارم ، و الكلام فيما كان المقال محتملا للخير لا في مثله و انّما حمله يحيى عليه تكرّما٣ .

____________________

( ١ ) الكافي ٢ : ٣٦١ ح ١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ٢٧٧ .

( ٣ ) الجهشياري : ٢٢٨ .

٣٧٨

٣ الحكمة ( ٣٥ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ أَسْرَعَ إِلَى اَلنَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ قَالُوا فِيهِ بِمَا لاَ يَعْلَمُونَ هكذا في ( المصرية )١ و الصواب : « ما » كما في غيرها لا يعلمون .

أقول : كان المغيرة بن الأسود المعروف بالأقيشر يغضب إذا قيل له أقيشر فمرّ يوما بقوم من بني عبس فقال رجل منهم : يا أقيشر ، فسكت ساعة ثم قال :

أتدعوني الأقيشر ذاك اسمي

و أدعوك ابن مطفئة السراج

تناجي خدنها بالليل سرّا

و ربّ الناس يعلم ما تناجي٢

فسمّى الرجل « ابن مطفئة السراج » و ولده يسبون بذلك إلى اليوم .

و دسّ جرير رجلا إلى الأقيشر و قال قل له : إنّي جئت لأهجو قومك و تهجو قومي ، فصار إليه فقال له ذلك ، فقال له : ممّن أنت ؟ قال : من تميم فقال :

فلا أسدا أسبّ و لا تميما

و كيف يحلّ سب الأكرمينا

و لكن التقارض حل بيني

و بينك يابن مضرطة العجينا

فسمّي الرجل « ابن مضرطة العجين »٣ .

و قالوا : شهد أعرابي عند معاوية بشي‏ء كرهه ، فقال له معاوية : كذبت .

فقال له الأعرابي : الكاذب و اللّه متزمل في ثيابك فقال معاوية : هذا جزاء من عجل .

____________________

( ١ ) الطبعة المصرية : ٦٦٦ ح ٣٥ .

( ٢ ) الأغاني ١١ : ٢٥٣ .

( ٣ ) الشعر و الشعراء : ٤٧٢ طبعة دار الكتب العلمية .

٣٧٩

و قالوا : قل خيرا تسمع خيرا قل خيرا تغنم١ .

و من العجب أنّ ذلك مؤثر حتّى في العشّاق ، فقالوا : كان ذو الرمة المعروف بعشق مية قائلا فيها أشعارا كثيرة ، فمكثت مية زمانا طويلا لا تراه و تسمع شعره ، فجعلت للّه عليها أن تنحر بدنة إن رأته ، فلما رأته رأت رجلا أسود دميما فقالت : و اسوأتاه كأنّها لم ترضه فقال ذو الرمة :

على وجه مي مسحة من ملاحة

و تحت الثياب الشين لو كان باديا

ألم تر أنّ الماء يخبث طعمه

و إن كان لون الماء أبيض صافيا٢

و قالوا : و فد ملاعب الأسنة مع إخوته و معهم لبيد و هو غلام على النعمان ابن المنذر ، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي و كان ينادم النعمان و كانوا له أعداء ، فكان إذ خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم و ذكر معائبهم ، ففعل ذلك بهم مرارا ، فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيّرا و جفاء و قد كان يكرمهم قبل ذلك إلى أن قال غدوا بلبيد معهم إلى النعمان فوجدوه يتغدى و معه الربيع و هما يأكلان ليس معه غيره ، فلما فرغ من الغداء دخلوا عليه فذكروا له حاجتهم فاعترض الربيع في كلامهم فقام لبيد يرتجز و يقول :

يا ربّ هيجا هي خير من دعه

أكل يوم هامتي مقزّعه

نحن بنو أم البنين الأربعة

و من خيار عامر بن صعصعه

المطعمون الجفنة المذعذعة

و الضاربون الهام تحت الخيضعه

يا واهب الخير الكثير من سعه

إليك جاوزنا بلادا مسبعه

مخبر عن هذا خبيرا فاسمعه

مهلا أبيت اللعن لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمعه

و إنّه يدخل فيها إصبعه

____________________

( ١ ) نهج البلاغة ١٠ : ١٣٧ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ٣٩ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

وكلُ نعيم لا محالة زائلُ

قال عثمان : كذبت ، نعيمُ الجنة لا يزول فاستثقل « لبيد » تكذيب عثمان وتحدّيه له في ذلك الجمع فقال : يا معشر قريش واللّه ما كان يؤذى جليسُكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟؟

فقال رجلٌ مِن القوم : إنَّ هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدنَ في نفسكَ من قوله.

فردّ عليه « عثمان » حتّى تفاقم الأمر بينهما فقام إليه ذلك الرجلُ فلطم عينه فخضّرها ( واصابها ) ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما واللّه يا ابن أخي إن كانت عينُك عَمّا أصابها لغنيّة لقد كنت في ذمة منيعة ( وهو يريد أنك لو بقيت في ذمتي وجواري لما اصابك ما أصابك ).

فقال عثمان رادّاً عليه : بل واللّه إن عيني الصحيحة لفقيرةٌ إلى مِثل ما أصابَ اُختَها في اللّه ، واني لفي جوار من هو أعزُّ منكَ ، واقدرُ يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد : هلمّ يا ابنَ أخي إن شئت فعُد إلى جوارك ، فقال ابنُ مظعون : لا(١) .

وكانت هذه صورةٌ رائعةٌ من صور كثيرة لصمود المسلمين ، وتفانيهمْ في سبيل العقيدة ، وإصرارهم على النهج الّذي اختاروه ، ومواساة بعضهم لبعض في أشدّ فترة من فترات التاريخ الإسلامي.

وفدٌ مسيحيُّ لتقصّي الحقائق يدخل مكة :

قدمَ على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بمكة عشرون رجلا من النصارى حين بلغهم خبرُه من الحبشة ، مبعوثين من قِبَل أساقفتها لتقصّي الحقائق بمكة ، والتعرف على الإسلام. فوجدوا رسول اللّه في المسجد ، فجلسوا إليه ، وكلّموه وسألوه عن مسائل ، ورجالٌ من قريش فيهم « أبو جهل » في أنديتهم حول الكعبة.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٠ و ٣٧١.

٤٦١

فلما فرغوا من مسألة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما أرادوا دعاهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اللّه عز وجلّ وتلا عليهم آيات من القرآن الكريم ، فكان لها من التأثير البالغ في نفوسهم بحيث عندما سمعوها فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا له وامنوا به وصدّقوه ، بعد ما عرفوا منه ما كان يوصَف في كتابهم ( الانجيل ) من أمره.

فلما قامُوا عنه ، ورأت قريش ما نتج عنه ذلك اللقاء استثقله « ابو جهل » فقال للنصارى الذين اسلموا معترضاً وموبّخاً : خيَّبكُمُ اللّه مِن ركب بعَثكُم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئنّ مجالسُكم عنده حتّى فارقتُم دينكُم وصدَّقتموهُ بما قال ، ما نعلمُ ركباً أحمقَ مِنكُم.

فأجابه اولئك بقولهم : سلامٌ عليكم لا نُجاهِلكم ، لنا ما نحنُ عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، لم نأل أنفسنا خيراً(١) .

وبذلك الكلام الرفيق الجميل ردّوا على فرعون مكة الّذي كان يبغي ـ كسحابة داكنة ـ حجب أشعة الشمس المشرقة ، وحالوا دون وقوع صدام.

قريش توفد إلى يهود يثرب للتحقيق :

لقد ايقظ وفدُ نصارى الحبشة إلى مكة وما نجم عن لقائهم برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً ودفعهم إلى تكوين وَفد يتألف من « النضر بن الحارث » و « عُقبة بن ابي معيط » وغيرهما وإرسالهم إلى أحبار يهود المدينة ليسألونهم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه.

فقال أحبارُ اليهود لمبعوثي قريش : سَلوا محمَّداً عن ثلاث نأمركم بهنَّ ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسَل ، وان لم يفعل فالرجلُ متقوّلٌ ، فروا فيه رأيكم ، سلوه :

١ ـ عن فتية ذَهبوا في الدهر الأول ( يعنون بهم أصحاب الكهف ) ما كان

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٩٠ و ٣٩٣ وقد نزلت في هذا الشأن الآيات ٥٢ إلى ٥٥ من سورة القصص.

٤٦٢

من امرهم ، فانه قد كان لهم حديثٌ عجيبٌ.

٢ ـ وعن رجل طوّاف ( يعنون به ذا القرنين ) قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه وخبرُه؟

٢ ـ وعن الروح ما هي؟

فاذا أخبركم بذلك فاتبعوهُ ، فانه نَبيّ ، وان لم يفعل ، فهو رَجُلٌ متقوِّلٌ فاصنَعوا في أمره ما بدا لكم.

فعادَ وفد قريش إلى « مكة » ولما قدموها قالوا لقريش ما سمعوه من أحبار اليهود.

فجاؤوا إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحوا عليه الاسئلة الثلاثة السالفة. فقال رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انتظر في ذلك وحياً.(١)

ثم نزل الوحيُ يحملُ إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأجوبة المطلوبة على تلك الاسئلة.

وقد ورَدَ الجواب عن السؤال عن الروح في الآية ٨٥ من سورة الإسراء.

واُجيبَ على السؤالين الآخرين عن أصحاب « الكهف » وذي القرنين بتفصيل في سورة « الكهف » ضمن الآيات ٩ ـ ٢٨ والآيات ٧٣ ـ ٩٣.

وقدوردت تفصيلاتُ هذه الإجابات الّتي أجابَ بها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أسئلتهم في كتب التفسير.

ولابدَّ هنا من أن نُذكِّر القارئ الكريم بنقطة مفيدة وهي أنّ المراد من « الرّوح » في سؤال القوم ليس هو الرُّوح الإنسانية بل كان المراد هو جبرئيل الأمين ، ( بقرينة أنَّ المقترحين الاصليين لهذه الأسئلة : هم اليهود وكانوا يكرهون الروح الامين ، ويعادونه ) ، وهو أمرٌ مبحوثٌ في محلِّه من كتب التفسير.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ ـ ٣٠٢.

٤٦٣

٤٦٤

١٨

الأسلحةُ الصَديئة

والاساليب الفاشلة

نظّمْ أسياد قريش صفوفهم لمكافحة عقيدة التوحيد ، بعد أن أدركوا عقم المواقف المبعثرة من هذا الدّين وأهله.

فقد حاولوا في بداية الأمر أن يُثنُوا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المضيّ في مواصلة دعوته ، وذلك بتطميعه بالمال والجاه وماشابه ذلك ، ولكن لم يحصلوا من ذلك على شيء ، فقد خيّب ذلك الرجلُ المجاهدُ ظنونهم فيه ، وبدّد آمالهم في اثنائه عن هدفه بكلمته الخالدة المدوّية : « واللّه لو وَضعوا الشمس في يميني ، والقَمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لما فعلتُ » وهو يعني ان تمليكه العالم كلَه لا يثنيه عن هدفه ولا يصرفه عن تحقيق ما نُدِبَ إليه وارسل به.

فعمدوا إلى سلاح آخر هو التهديد والأذى ، والتنكيل به وباصحابه وانصاره ، ولكنهم واجهوا صمودَه وصمود أنصاره واصحابه ، وثباتهم الّذي ادى إلى انتصار المؤمنين في هذا الميدان ، وخيبة المشركين وهزيمتهم.

وقد بَلَغ من ثبات المسلمين على الطريق أنهم أقدموا على مغادرة الوطن ، وترك الأهل والعيال ، والهجرة إلى الحبشة فراراً بدينهم إلى اللّه ، وسعياً وراء نشره وبثه في غير الجزيرة من الآفاق.

ولكن رغم إخفاق أسياد قريش المشركين في جميع هذه الجهات والميادين

٤٦٥

وعجزهم عن استئصال شجرة التوحيد الفتية ، وفشل جميع الأسلحة الّتي استخدموها للقضاء على الدين الجديد وأهله ، لم تنته محاولاتهم الإجهاضيّة بل عمدوا هذه المرّة إلى استخدام سلاح جديد حسبوه أمضى من سوابقه.

وهذا السلاح هو سلاحُ الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لانه صحيحٌ أن ايذاء وتعذيب جماعة المؤمنين في « مكة » تمنع غيرهم من سُكان « مكّة » من الإنضواء إلى الإسلام إلاّ ان الحجيج الذين كانوا يسافرون إلى مكة في الأشهر الحرُم وكانوا يلتقون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوّ من الأمن والطمأنينة خلال تلك المواسم كانوا يتأثَّرون بدعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتزعزعُ اعتقادهم بالأوثان على الأقل ، ان لم يؤمنوا بدينه ، ولم يستجيبوا لدعوته ، ثم إنهم كانوا ينقلون رسالة الإسلام وانباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مواطنهم ، ومناطِقهم وكان ينتشر بذلك اسم رسول اللّه ، وأنباء دينه في شتّى مناطق الجزيرة العربية ، وكان هذا هو بنفسه ضربة قوية توجَّه إلى صرح الوثنية في مكة ، وعاملا قوياً في انتشار عقيدة التوحيد ، وسطوع أمره.

من هنا اتخذ سادةُ قريش اُسلوباً آخر ، قاصدين بذلك الحيلولة دون انتشار الإسلام ، واتساع رقعته ، وقطع علاقة المجتمع العربي به.

واليك فيما يأتي بيان تفاصيل هذا الاسلوب ، وهذه الخطة :

١ ـ الاتّهاماتُ الباطلة :

يمكن التعرف على شخصية أي واحد وتقييمها من خلال ما يرميه به اعداؤه من شتائم وسباب ، وما يكيلون له من اتهامات ونسب ، فَإن العدو يسعى دائماً إلى أن يتهم خصمَه بنوع من أنواع التهم ليُضِلَّ الناس ، ويصرفهم عنه ، وليتمكن بما يحوكُه حوله من أراجيف وأباطيل الحط من شأنه في المجتمع واسقاطه من الانظار والأعين.

ان العدوّ الذكيّ يسعى دائماً إلى أن ينسب إلى منافسه ما يُصدِّقه ولو فئة خاصة من الناس على الاقل ، ويوجبُ شكَّهم في صدقه ، ويتجنب تلك النِسَب

٤٦٦

التي لا تصدَّق في شأنه ، ولا تناسبُ اخلاقه وافعاله المعروفة عنه ، ولا تمسه بشكل من الأشكال ، لأنه سوف لا يَجني في هذه الحالة إلا عكسَ ما يقصد ، وخلاف ما يريد.

ومن هنا يستطيع المؤرخُ المحققُ أن يتعرف على الشخصية الواقعية لمن يدرسه ، وعلى مكانته الإجتماعية ، وأخلاقه وسجاياه ولو من خلال ما ينسبُه الأعداء إليه ، وما يكيلون له من أكاذيب وإفتراءات ، ونسب باطلة واتهامات ، لأنّ العدوّ الّذي لا يخاف أحداً لا يقصّرُ في كيل كلِّ تهمة تنفعُهُ وتخدمُ غرضَه إلى الطرف الآخر ، ويستخدم هذا السلاح ( أي سلاح الدعاية ) ما استطاع ، وما ساعدته معرفُته بالظروف ، ودرايته بالفَرص.

فاذا لم ينسَب إليه أيُّ شيء من تلك النسب الباطلة فان ذلك إنما هو لأجل طهارة جيبه ، ونقاء صفحته ، وتنزُّه شخصيته عن تلك النسب ، ولأنّ المجتمع لم يكن ليعبأ بها ولم يصدّقها في شأنه.

ولو أننا تصفّحنا اوراق التاريخ الإسلامي لرأينا أن قريشاً مع ما كانت تكنُّ من عداء ، وتحِملُ من حِقد على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت تسعى بكل جهدها أن تهدم صرح الإسلام الجديد الظهور ، وأن تحطّ من شأن مؤسسه وبانيه لم تستطع مع ذلك أن تستفيد من هذا السلاح ، وتستخدمه كاملا.

فقد كانت تفكّر في نفسها : ماذا تقول في حق رسول اللّه؟ وماذا ترى تنسب إليه؟؟

هل تتهمه بالخيانة المالية وها هم جماعة منهم قد ائتمنوه على أموالهم؟!(١) كما أن حياته الشريفة طوال الاربعين سنة الماضية جسدت امانته امام الجميع ، فهو الامين بلا منازع؟

هل تتهمه بالجري والانسياق وراء الشهوة واللّذة؟ وكيف تقول في حقه مثل هذا الكلام مع أنه بدأ حياته الشبابية بالتزويج بزوجة كبيرة السنّ إلى درجة

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢.

٤٦٧

مّا ، وبقي معها حتّى لحظة انعقاد هذه الشورى في « دار الندوة » بهدف الدعاية ضدَه ، ولم يُعهَد منه زلّة قدم في هذا السبيل قط؟!

وبالتالي بماذا تتهم محمَّداً الصادق الأمين ، الطاهر العفيف ، وأية تهمة ترى يمكن أن تُصدَّق في حقه ، أو يحتمل الناس صدقها في شأنه ولو بنسبة واحد في المائة؟

لقد تحيَّر سادة « دار الندوة » وأقطابها في كيفية استخدام هذا السلاح ، سلاح الدعاية ضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرَّروا في نهاية الأمر أن يطرحوا هذا الأمر على صنديد من صناديد قريش ويطلبوا رأيه فيه ، وهو « الوليد بن المُغيرة » وكان ذا سنّ فيهم ، ومكانة ، فقال لهم :

يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدَم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّبُ بعضكم بعضاً ، ويردُ قولُكم بعضُه بعضاً.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.

قال : بل أنتم قولوا أسمَع.

قالوا : نقول كاهن.

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّانَ فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.

قالوا : فنقول : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : ساحر.

فقال : ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم.

وهكذا تحيَّروا في ما ينسبون إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأخيراً اتفقوا على أن يقولوا : أنه ساحر جاء بقول هو سِحرٌ يفرق به بين المرء وابيه وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته.

ويدلُّ عليه ما أوجده من الخلاف والإنشقاق والتفرُّق بين أهل مكة الَّذين

٤٦٨

كان يضرب بهم المثل في الوحدة والاتفاق(١) .

وقد ذكر المفسِّرون في تفسير سورة « المدثر » هذه القصة بنحو آخر فقالوا : لمّا اُنزل على رسول اللّه « حم تنزيلُ الْكِتاب ) قام إلى المسجد و « الوليد بن المغيرة » قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبيُصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماعه لقراءته ، أعاد قراءة الآية ، فتركت الآية في نفس الوليد تأثيراً شديداً فانطلق إلى منزله ، ولم يخرج منه أيّاماً ، فسخرت منه قريشٌ وقالت : صبأ ـ واللّه ـ الوليدُ ثم مشى رجال من قريش إليه وسألوه رأيه في قرآن محمَّد ، واقترح كل واحد منهم أمراً ، ولكنه رد عليها بالنفي جميعاً فقالت قريش إذن ما هو؟ فتفكر « الوليد » في نفسه ثم قال : ما هو إلاّ ساحرٌ أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله ، ووُلده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(٢) .

ويرى المفسرون أن الآيات التالية في شأنه إذ يقول اللّه تعالى : «ذَرْني وَمَنْ خَلقْتُ وَحيداً. وَجَعلْتُ لَهُ مالا مَمدُوداً. وَبَنينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تمهيداً. ثُمّ يَطْمَعُ أنْ أزيدَ. كَلا انّه كانَ لآياتِنا عَنيداً. سارْهقُهُ صَعُوداً. إنّه فكَّرَ وَقدّر. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ. ثُمَّ نَظرَ. ثُمَّ عَبسَ وَبَسرَ. ثُمَّ أَدْبَر وَاْستَكْبَرَ. فَقالَ إنْ هذا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَر ... ( إلى قوله : )فَما لَهُمْ عِنَ التَذكِرَة مُعْرضيْن. كأَنَّهُمْ حُمُرٌ مستنفِرة فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَة »(٣) .

* * *

الإصرار في نسبة الجنون إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

يعتبر إتصاف النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشتهاره بين الناس بالصدق والامانة وغيرها من مكارم الأخلاق منذ شبابه من مسلَّمات التاريخ.

وهو بالتالي أمرٌ اعترف به حتّى أعداؤه الالدّاء ، فقد دانوا بفضله ، وأقرُّوا

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٠.

٢ ـ مجمع البيان : ج ١٠ ، ص ٣٨٦ و ٣٨٧.

٣ ـ المدثر : من ١١ ـ ٥١.

٤٦٩

بأخلاقه الكريمة وسجاياه النبيلة ، دون تلكؤ ، ولا إبطاء.

وقد كانَ من أوصافه الحسنة البارزة ان جميع الناس كانوا يدعونه « الصادق » « الامين » وكانوا يثقون بأمانته ثقة كبرى(١) حتّى أن المشركين كانوا يودعون ما غلى من أموالهم عنده ، واستمر هذا الأمر حتّى عشرة أعوام بعد دعوته العلنيّة.

وحيث أن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ثقلت على المعاندين فاجتهدوا في أن يصرفوا عنه الناس بما ينسبون إليه من بعض النسب الّتي توجب سوء الظنّ به ، ومن ثم إفشال دعوته ، وحيث أنهم كانوا يعلمون أن النِسَبَ الاُخرى ممّا لا يقيم لها المشركون وزناً ، لأنها امور بسيطة في نظرهم ، من هنا رأوا بأن يتهمونه بالجنون ، والزعم بان ما يقوله ويقرؤه ما هو إلاّ من نسج الخيال ، ومن أثر الجنون الّذي لا يتنافى مع الزهد ، والأمانة ، وذلك تكذيباً لدعوته.

ثم عملت قريش على إشاعة هذه النسبة ، واتخذت وسائل عديدة وما كرة لترويجها وبثّها بين الناس.

ومن شدّة مكرهم ومراءاتهم أنّهم كانوا يتخذون موقف المتسائل المحايد فيطرحون هذه التهمة في قالب الشك ، والترديد إذ يقولون : «أفترى على اللّه كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ »(٢) .

وهذه هي بعينها الحيلةُ الشيطانية الّتي يتوسَّل بها ويتستر وراءها أعداء الحقيقة دائماً عند ما يريدون تكذيب المصلحين العظام ، واسقاط خطواتهم وافكارهم من الاعتبار ، والحطّ من شأنها وأهميتها.

ويشير القرآنُ أيضاً إلى انّ هذا الاسلوب الماكر الذميم لم يكن مختصاً بالمعارضين في عهد الرسالة المحمَّدية ، بل كان المعارضون في الأعصر الغابرة أيضاً يتوسلون بهذا السلاح لتكذيب الرسل ، والانبياء إذ يقول عنهم :

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٦٢ عن عبيداللّه بن ابي رافع : كانت قريش تدعو محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجاهلية الامين وكانت تستودعه وتستحفظه أموالها وأمتعتها ، وكذلك كلُ من كان يقدم مكة من العرب في الموسم ، وجاءته النبوة والرسالة والامر كذلك.

٢ ـ سبأ : ٨.

٤٧٠

«كَذلكَ مَا أتى الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُول إلاّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتواصَوْا بِه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ »(١) .

وتحدّث الاناجيلُ الحاضرة هي الاُخرى عن ان المسيحعليه‌السلام عندما وعظ اليهود قالوا : إنّ فيه شيطاناً ، فهو يهذي فلماذا تسمعون إليه؟!(٢) .

ومن المسلّم والبديهي أنَّ قريشاً لو كان في مقدورها أن تتهم رسولَ اللّه الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير هذا الاتهام وتنسب إليه غير هذه النسبة لما تأخرت عن ذلك ، ولكن حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشرقة خلال الاربعين سنة الماضية ، وسوابقه اللامعة في المجتمع المكيّ وغير المكي كانت تحول دون أن ينسبوا إليه شيئاً من تلك النسب القبيحة ، الذميمة.

لقد كانت « قريش » مستعدة لأن تستخدم أي شيء ـ مهما صغر ـ ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فمثلا عند ما وجده أعداء الرسالة يجلس إلى غلام مسيحيّ يدعى « جبر » عند المروة ، انطلقوا يستخدمون هذا الأمر ضدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوراً فقالوا : واللّه ما يُعلِّمُ محمَّداً كثيراً ممّا يأتي به الا « جبر » النصراني.

فردّ عليهم القرآن الكريمُ بقوله : «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعلِّمُه بَشَرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أعْجَميّ وَهذا لِسانٌ عَربيّ مُبِيْنٌ »(٣) .

«وَقَدْ جاءهُم رَسولٌ مُبينٌ ثُمَّ تَولُوا عَنهُ وَقالُوا معلَّمٌ مَجنُونٌ »(٤) .

القرآن يرد على جميع الاتهامات :

وربما نسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكهانة ، والكاهن هو من يتصل بعناصر من الجن(٥) أو الشياطين ويتلقى منهم اخباراً حول الماضي والمستقبل ،

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٢ و ٥٣.

٢ ـ انجيل يوحنا : الفصل ١٠ ، الفقرة : ٢٠ ، والفصل ٧ ، الفقرة ٤٨ و ٥٢.

٣ ـ النحل : ١٠٣.

٤ ـ الدخان : ١٣ و ١٤.

٥ ـ الجن كائن من الكائنات ومخلوق من مخلوقات اللّه تعالى وقد اخبر به القرآن الكريم في مواضع عديدة كما سميت احدى السور باسم الجن.

٤٧١

وكان هذا موجوداً قبل الإسلام كما ترويه كتب السير والتواريخ(١) .

وقد رد القرآن الكريم على هذه المقالة وهذا الزعم إذ قال تعالى : «وَلا بِقَولْ كاهِن قَليلا ما تَذكَّرُونَ »(٢) كما ردّ ايضاً تهمة السحر ، والكذب والافتراء والشعر إذ قال تعالى وهو يصف المتهمين تارة بالكفر واُخرى بالظلم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرونَ هذا سَاحِرٌ كَذّابٌ »(٣) .

وقال تعالى : «وَقالَ الظالِمُونَ إنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلا مَسْحُوراً »(٤) .

وقال سبحانه متعجباً مِنهم : «قالُوا إنَّما أنتَ مِنَ المُسحَّرينَ »(٥) .

وقال تعالى : «وَقالُوا يا أيُّها الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِكْرُ إنَّكَ لَمجْنُونٌ »(٦) .

وقال سبحانه : «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون »(٧) .

وقال عزّ وجلّ : «فَذكِّر فَما أَنْتَ بِنعْمةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون »(٨) .

وقال تعالى : «قالُوا إنّما أنْتَ مُفْتَر بل أكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ »(٩) .

وقال تعالى : «أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثلِه »(١٠) .

وقال سبحانه : «وَقالَ الّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَليْهِ قَومٌ آخرونَ فَقدْ جاءوا ظُلماً وَزُوراً »(١١) .

وقال سبحانه : «أفتَرى عَلى اللّه كَذِباً أمْ بِهِ جِنَّةٌ »(١٢) .

وقال تعالى : «أَم يَقُولُونَ شاعِرٌ نَترَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُون »(١٣) .

وقال تعالى : «وَما عَلَّمْناهُ الشَّعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقران مُبِيْن »(١٤) .

وربما وصفوا القرآن بانه اضغاث احلام فردهم سبحانه بقوله.

«بَلْ قالُوا أضغاثُ أحْلام بلِ افْتراهُ بَلْ هُوَ شاعرٌ »(١٥) .

__________________

١ ـ راجع : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : ج ٣ ، ص ٢٦٩ باب علم الكهانة والعرافة.

٢ ـ الحاقة : ٤٢.

٣ ـ ص : ٤.

٤ ـ الفرقان : ٨.

٥ ـ الشعراء : ١٥٣.

٦ ـ الحجر : ٦.

٧ ـ التكوير : ٢٢.

٨ ـ الطور : ٢٩.

٩ ـ النحل : ١٠١.

١٠ ـ هود : ١٣.

١١ ـ الفرقان : ٤.

١٢ ـ سبأ : ٨.

١٣ ـ الطور : ٣٠.

١٤ ـ يس : ٦٩.

١٥ ـ الانبياء : ٥.

٤٧٢

وهكذا نجدهم ذهبوا في استخدام سلاح الاتهام والتشويش على الشخصية المحمَّدية والرسالة الإسلامية كل مذهب ، فمرة وصفوه بانه كاهن واُخرى بانه ساحر وثالثة بانه مسحور ، ورابعة بانه مجنون وخامسة بانه معلّم وسادسة بانه كذاب وسابعة بانه مفتري وثامنة بانه مفترى أو مجنون على سبيل الترديد وتاسعة بانه شاعر وعاشرة بان ما يقوله ما هو الاّ اضغاث احلام.

٢ ـ فكرةُ معارضة القرآن :

لم يُجدِ استخدام سلاح الإتهام ضد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفعاً ، ولم يأت بالثمار الّتي كان يتوخاها المشركون منه ، لأن الناس كانوا يُدركون بفطنتهم وفراستهم أن للقرآن جاذبيّة غريبة ، وأنهم لم يسمعوا كلاماً حلواً ، وحديثاً عذباً مثله.

ان لكلماته من العمق والعذوبة بحيث يتقبّلها كلُ قلب ، وتسكن اليها كل نفس.

من هنا لم ينفع اتهام قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنون وبأنَّ ما يقوله إن هو الاّ من نسج الخيال ، ونتائج الجنون ، شيئاً ، فقررت أن تخطّط لتدبير آخر ظناً منهم بأنّ تنفيذه سيصرف الناس عنه ، وعن الاستماع إلى كتابه ، ألا وهو : معارضة القرآن الكريم.

فعمدت إلى « النضر بن الحارث » وكان من شياطين قريش ، وممّن كان يؤذي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينصب له العداوة ، وكان قد قضى شطراً من حياته في الحيرة بالعراق وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس واحاديث « رُستم » و « إسفنديار » وقصصهم ، وحكاياتهم ، وأساطيرهم ، وطلبوا منه أن يجمع الناسَ ويقص عليهم من تلكم الأساطير والحكايات يلهي بها الناس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويصرفهم عن الإصغاء إلى القرآن الكريم!!

فكان إذا جلس رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجلساً فذكَّر الناس فيه باللّه ، وحذر قومه ما أصاب مَن قبلَهم من الاُمم من نقمة اللّه ، خَلفه « النضرُ » في مجلسه

٤٧٣

إذا قامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : أنا واللّه يا معشر قريش أحسنُ حديثاً منه فهلمَّ إليّ ، فأنا اُحدِّثكم أحسنَ من حديثه.

ثم يحدّثهم عن ملوك الفرس و « رستم » و « اسفنديار » ثم يقول :

بماذا محمَّد أحسن حديثاً مني وما حديثه إلاّ أساطير الأَولين اكتتبهاكما اكتتبتُها؟(١) .

وقد كانت هذه الخُطة حمقاء جداً إلى درجة أنها لم تدم إلاّ عدة ايام لا اكثر حتّى أن قريشاً سأمت من أحاديث « النضر » وسرعان ما تفرّقت عنه.

وقدنزل في هذا الشأن آيات هي : «وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّليْنَ اكتتبها فهي تمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأصِيْلا * قُلْ أَنْزلَهُ الَّذيْ يعْلَمُ السِّرّ في السَماواتِ وَالأَرْضِ إنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحيماً »(٢) .

* * *

تحججات صبيانيّة وجاهليّة :

وربما جسَّدوا معارضتهم للدعوة المحمَّدية في صورة تحججات ومجادلات جاهليّة ومآخذ سخيفة اخذوها على رسول اللّه ورسالته ، تنم عن تكبر وجهل ، وعناد ولجاج طبعوا عليه.

وها نحن نذكر ابرزها :

أ ـ لماذا لم ينزل القرآن على ثريّ من اثرياء مكة أو الطائف؟!

قال تعالى حاكيا قولهم : «لَولا نُزِّلَ هذا الْقُرانُ عَلى رَجُل مِنَ الْقَريَتَيْنِ عَظِيْم »(٣) .

ب ـ لماذا لم يرسل اليهم ملائكة ولماذا هو بشر؟!

قال تعالى عنهم : «وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أن يُؤْمِنُوا إذْ جاءهُمْ الهُدى إلاّ أَنْ قالُوا أبعَثَ اللّه بَشَراً

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٠٠ و ٣٥٨.

٢ ـ الفُرقان : ٥ و ٦.

٣ ـ الزخرف : ٣١.

٤٧٤

رَسُولا »(١) .

وقال تعالى حاكياً عنهم أيضاً : «وَقالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشي فِي الأَسْواقِ »(٢) .

ج ـ انَّه يدعو إلى خلاف ما كان عليه الآباء ، من الدين والعقيدة والسلوك؟

يقول عنهم سبحانه : «وَإذا قِيْلَ لَهُمْ تَعالَوْا إلى ما أَنْزَلَ الله وَإلى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْه آباءنا أو لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ »(٣) .

د ـ تبديل الآلهة بإلهٍ واحد.

قال اللّه عنهم : «وَعَجِبُوا أَنْ جاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّابٌ * أَجعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحِداً إنْ هذا لِشَيء عُجابٌ »(٤) .

هـ ـ القول بحشر الاجساد وتجدد الحياة في يوم القيامة.

قال تعالى عنهم : «وَقالُوا ءإذا ضَلَلْنا فِي الاْرْضِ ءإنّا لِفِي خَلْق جَدِيد »(٥) .

و ـ لماذا ليس عنده مثل ماكان لدى موسى من المعجزات كالثعبان المنقلب من العصا ، وقد توصل المشركون إلى هذا النمط من الاعتراض بسبب اتصالهم بأحبار اليهود.

يقول اللّه عنهم : «فَلَمّا جاءهُمْ الْحقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا اُوتِيَ مِثْلُ ما اُوْتيَ مُوسى »(٦) .

ز ـ لماذا ليس معه ملك يُرى ويشاهَد ويحضر معه في كل مقام ومشهد.

قال تعالى : «وَقالُوا لَولا اُنْزلَ عَلَيْهِ مَلَكْ »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٤.

٢ ـ الفرقان : ٧.

٣ ـ المائدة : ١٠٤.

٤ ـ ص : ٤ و ٥.

٥ ـ السجدة : ١٠.

٦ ـ القصص : ٤٨.

٧ ـ الانعام : ٨.

٤٧٥

مقترحات عجيبة ومطاليب غريبة :

وكان المشركون إذا نفذت تحججاتهم واعتراضاتهم الواهية ، وقوبلوا بردود قوية وقاطعة عليها عمدوا إلى طرح مقترحات سخيفة على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سياق معارضتهم لدعوته ونورد هنا ابرز تلك الاقتراحات ليعرف القارئ الكريم مدى معاناة النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قومه :

لقد اقترحوا عليه :

١ ـ ان يعبد اصنامهم سنة ويعبدوا إلهه سنة اُخرى وجعلوا ذلك شرطا لايمانهم بدعوته!!

فأنزل اللّه تعالى في ردّهم بسورة « الكافرون » : «بِسْم اللّه الرَّحْمن الرَّحيم. قُلْ يا أَيُّها الْكافِرُونَ * لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ. وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ. لَكُمْ دِينَكُمْ وَلِيَ دِيْنِ ».

٢ ـ تبديل القرآن ، فقد دفع نقدُ القرآن الكريم للوثنية ، والازاء على الاصنام ، دفعهم إلى ان يطلبوا من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يأتي لهم بقرآن آخر لا يحتوي على شجب عبادة الاوثان والازدراء بالاصنام ، وابطالها.

قال اللّه تعالى عن فعلهم هذا : «وَإذا تُتْلى عَلَيْهِم آياتُنا بيِّنات قالَ الَّذيْنَ لا يَرْجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرآن غَيْر هذا أوْ بَدّلهُ »(١) .

فردّ اللّه عليهم بقوله : «قُلْ ما يَكُونُ لِيْ أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاء نَفْسِيْ إنْ اتّبعُ إلا ما يُوْحى إلَيَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْم عَظيْم »(٢) .

٣ ـ مطاليب مادية عجيبة!!

__________________

١ و ٢ ـ يونس : ١٥.

٤٧٦

وقد عمدوا ـ بسبب عنادهم وعتوهم ـ إلى المطالبة باُمور لا ترتبط بهداية الناس ، مثل مطالبته بان يفجر لهم ينابيع ، أو يُسقط السماء على رؤوسهم قطعاً ، أو يصعد إلى السماء ، أو يأتي باللّه سبحانه وتعالى ، أو غير ذلك من الاقتراحات والمطاليب الّتي كانت إما مستحيلة في نفسها أوتناقض غرض الدعوة!!

قال اللّه حاكياً عنهم ذلك : «وَقالُوا لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأَرضِ يُنْبُوعاً. أوْ تَكُون لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخيْل وَعنَب فَتُفَجِّر الاْنهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أوْ تَأتِيَ بِاللّه وَالْمَلائكةِ قَبِيلا. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْت مِنْ زُخْرُف أوْ تَرْقى في السَّماء »(١) .

صبر النبيّ واستقامته وثباته :

ولقد قابل رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كل هذه التحججات الايذائية وما طرح مِنَ الاقتراحات المستحيلة بصبر عظيم وثبات هائل ، ايماناً منه بدعوته ، وحرصاً على ابلاغ رسالته ، وبفعل التأييد الالهي من جانب.

يقول اللّه تعالى في هذا الصدد :

١ ـ «فَاْصْبِرْ كَما صَبَرَ اُوْلوا العْزْم مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ »(٢) .

٢ ـ «وَاتّبِعْ ما يُوحْى إلَيْكَ وَاِصْبِرْ حَتّى يَحْكُمَ اللّه وَهُوَ خَيْرُ الحاكِميْن »(٣) .

٣ ـ «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إلاّ بِاللّه وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ »(٤) .

٤ ـ «وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذيْنَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَداوَة وَالعَشِيِّ »(٥) .

٥ ـ «فَاصْبِرْ لِحُكْم رَبّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوْت »(٦) .

٦ ـ «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلا »(٧) .

__________________

١ ـ الاسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

٢ ـ الاحقاف : ٣٥.

٣ ـ يونس : ١٠٩.

٤ ـ النحل : ١٢٧.

٥ ـ الكهف : ٢٨.

٦ ـ القلم : ٤٨.

٧ ـ المزمل : ١٠.

٤٧٧

معاجز النبيّ لم تنحصر في القرآن :

وبالمناسبة لابد أن نذكر أن المشركين ومن حذى حذوهم من الكفار والمعارضين للرسالة الإسلامية كانوا يطالبون رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعاجز وديات لا بدافع الرغبة في الايمان بدعوته بل بدافع اللجاج والعناد ، وإلا فان معاجز النبيّ لم تنحصر في الكتاب العزيز ، فقد اتى رسول اللّه بآيات ومعاجز كثيرة اُخرى غير القرآن ، كان كل واحد منها يكفي للاقتناع برسالته ، والايمان بصحة دعواه.

فالقرآن نفسه يشير إلى أبرز هذه المعاجز وهي :

١ ـ شقّ القمر

فقد طلب المشركون من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يشق لهم القمر نصفين حتّى يؤمنوا به ، فلمّا على ذلك لهم باذن اللّه كفروا به وقالوا انه سحر!!

يقول اللّه تعالى : «إقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإنْ يَروْا آيَة يُعْرضُوْا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتمِرّ »(١) .

٢ ـ المعراج

ان العروج برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذي سيأتي مفصلا هو الآخر معجزة من معاجزه القوية ، وقد نطق بها القرآن بقوله : «سُبْحانَ الَّذي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرام إلى الْمَسْجِدَ الأَقْصى الَّذي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُريَهُ مِنْ آياتِنا إنَّه هُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيرُ »(٢) .

____________

١ ـ القمر : ١ و ٢.

٢ ـ الاسراء : ١.

٤٧٨

٣ ـ مباهلة أهل الباطل

ان تقدم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مَن خرج بهم إلى المباهلة ، واحجام النصارى عن مباهلته ، معجزة اُخرى من معاجزهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه القضية إذ قال : «فَمَنْ حاجَّكَ فِيْهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ مِنَ العلم فَقُل تَعالوا نَدْعُ أَبْناءنا وَأَبْناءكُمْ وَنِساءنا وَنِساءكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعلْ لَعْنَةَ اللّه عَلىَ الْكافِرينَ »(١) .

وستأتي قصَّة المباهلة على نحو التفصيل في حوادث السنة العاشرة من الهجرة.

٤ ـ الاخبار بالمغيبات

فقد كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبر عن اُمور غائبة كما يقول اللّه سبحانه حاكيا عنه : «وَاُنبِّئكُمْ بِما تأكلون وما تَدَّخِرُونَ فِيْ بُيُوتكُمْ »(٢) .

هذا وقد أخبرت الاخبار والاحاديث عن معاجز كثيرة لرسول اللّه غير القرآن الكريم.

__________________

١ ـ آل عمران : ٦١.

٢ ـ آل عمران : ٤٩ ، وقد اشار القرآن الكريم إلى موارد اُخرى من هذه القبيل.

فقد اخبر عن غلبة الروم بعد سنين : قال تعالى :

«الم غُلِبَتِ الرُّومُ * في أدْنى الأرْض وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَييغْلِبُونَ. في بِضْعِ سِنْينَ * للّه الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعدُ وَيَومئذ يَفْرحُ الْمؤمنون » ( الروم : ١ ـ ٤ ).

واخبر عن هلاك ابي لهب قال تعالى :

«تَبَّت يَدا أبي لَهَب وَتَبّ ... الخ ».

وأخبر عن هزيمة المشركين في بدر قال سبحانه :

«سيهزم الجمع ويولون الدبر » ( القمر : ٤٥ ).

٤٧٩

ومن هذه المعاجز ما ذكره الامام اميرالمؤمنين علّي بن أبي طالب ـ كما في نهج البلاغة ـ حول سؤال المشركين من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلع شجرة بعروقها وجذورها ولما فعل ذلك وقال : « يا أيّتها الشجرة ان كنت تؤمنين باللّه واليوم الآخر ، وتعلمين أني رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفي بين يديّ باذن اللّه ».

فانقلعت بعروقها ولها دوّي عجيب ووقفت بين يدي رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنهم كذّبوا وقالوا ساحر كذاب ، علواً واستكباراً.

وقد صرح الامام في كلامه هذا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرهم بانهم لا يؤمنون وان ظهرت لهم المعجزة الّتي طلبوها ، وان فيهم من يطرح في القليب ( في معركة بدر ) وان منهم من يحزّب الأحزاب ( لمعركة الخندق )(١) .

اصرار النبيّ على هداية قريش :

بل كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحرص على هدايتهم وارشادهم وايقاظهم. فقد كان زعيم المسلمين وقائدهم يعلم جيداً بأن اعتقاد أغلبية الناس بالأوثان ما هو الاّ أمر نابع من تقليد الآباء ، والجدود ، أو اتباع أسياد القبيلة وكبرائها ، وهو بالتالي لا يستند إلى جذور في أعماق الناس واُسس في عقولهم ونفوسهم.

من هنا فانَّ أيَّ انقلاب يحصل ويحدث في اوساط السادة والكبراء بان يؤمن أحدهم مثلا كان كفيلا بأن يحلّ الكثير من المشاكل.

من هنا كان ثمة إصرار كبير على جرّ « الوليد بن المغيرة » الّذي أصبح ابنه « خالد » في ما بعد من قادة الجيش الاسلاميّ والمشاركين في الفتوح الإسلامية إلى صف المؤمنين بالرسالة المحمَّدية ، لأنّه كان أسنَّ مَن في قريش واكثرهم نفوذاً ، وأعلاهُم مكانة ، وأقواهم شخصية ، وكان يُدعى حكيم العرب ، وكانت العرب تحترم رأيه إذا اختلفت في أمر.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب الرقم ١٩٢.

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617