بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194117 / تحميل: 7309
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وإن أراد البيع ولا حاكم هناك ، استقلّ به ، فإن كان فوجهان لهم ، أحدهما : جواز الاستقلال ؛ لأنّه نائب عن المالك في الحفظ ، فكذا في البيع(١) .

مسألة ٣٩٤ : لو وجد بعيراً في أيّام منى في الصحراء مقلَّداً كما يُقلَّد الهدي ، لم يجز أخذه ؛ لأنّه لا يجوز مع عدم التقليد فمعه أولى.

وقال الشافعي : يأخذه ويُعرّفه أيّام منى ، فإن خاف أن يفوته وقت النحر نحره ، والأولى عنده أن يرفع إلى الحاكم حتى يأمره بنحره(٢) .

ونقل بعضهم قولاً آخَر : إنّه لا يجوز أخذه(٣) ، كما ذهبنا إليه.

ثمّ بنوا القولين على القولين فيما إذا وجد بدنة منحورة غمس ما قُلّدت به في دمها وضرب صفحة سنامها ، هل يجوز الأكل منها؟ فإن منعنا الأكل ، منعنا الأخذ هنا ، وإن جوّزنا الأكل اعتماداً على العلامة ، فكذا التقليد علامة كون البعير هدياً ، والظاهر أنّ تخلّفه كان لضعفه عن المسير ، والأُضحية المعيّنة إذا ذُبحت في وقت النحر وقع في موقعه وإن لم يأذن صاحبها(٤) .

قال الجويني : لكن ذبح الضحيّة وإن وقع في موقعه لا يجوز الإقدام عليه من غير إذنٍ(٥) .

وجوّز بعض الشافعيّة الأخذ والنحر(٦) .

ولهذا الإشكال ذهب القفّال تفريعاً على هذا القول أنّه يجب رفع

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٦.

(٢) البيان ٧ : ٤٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٣ - ٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦.

٣٠١

الأمر إلى الحاكم لينحره(١) .

وهذا ليس بشي‌ءٍ ؛ لأنّ الأخذ الممنوع منه إنّما هو الأخذ للتملّك ، ولا شكّ أنّ هذا البعير لا يؤخذ للتملّك.

المطلب الثاني : في الملتقط.

مسألة ٣٩٥ : يصحّ أخذ الضالّة في موضع الجواز لكلّ بالغٍ عاقلٍ.

ولو أخذه في موضع المنع ، لم يجز ، وضمنه ، إماماً كان أو غيره ؛ لأنّه أخذ ملك غيره بغير إذنه ، ولا أذن الشارع له ، فهو كالغاصب.

وهذا الفرض في الإمام عندنا باطل ؛ لأنّه معصوم.

أمّا عند العامّة الذين لم يوجبوا عصمة إمامهم فإنّه قد يُفرض.

وكذا يُفرض عندنا في نائب الإمام.

وكذا يجوز للصبي والمجنون أخذ الضوالّ ؛ لأنّه اكتساب ، وينتزع الوليّ ذلك من يدهما ، ويتولّى التعريف عنهما سنةً ، فإن لم يأت له مالك تملّكاه وضمناه بتمليك الوليّ لهما وتضمينهما إيّاه إن رأى الغبطة في ذلك ، وإن لم يكن في تمليكهما غبطة ، أبقاها أمانةً.

مسألة ٣٩٦ : الأقرب : عدم اشتراط الحُرّيّة ، فيجوز للعبد القِنّ والمدبَّر والمكاتَب وأُمّ الولد والمعتق بعضه التقاطُ الضوالّ في موضع الجواز ؛ لأنّه اكتساب وهؤلاء من أهله وهُمْ أهلٌ للحفظ.

والأقرب : إنّه لا يشترط الإسلام ولا العدالة ، فيجوز للكافر أخذ الضالّة ، وكذا للفاسق ؛ لأنّه اكتساب وهُما من أهله.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨١.

٣٠٢

وقال الشافعي : لا يجوز لغير الإمام وغير نائبه أخذ الضوالّ للحفظ لصاحبها ، فإن أخذها غير الامام أو نائبه ليحفظها لصاحبها لزمه الضمان ؛ لأنّه لا ولاية له على صاحبها(١) .

ولأصحابه وجهٌ آخَر : إنّه يجوز أخذها لحفظها قياساً على الإمام(٢) .

واحتجّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَع من أخذها من غير أن يفرّق بين قاصد الحفظ وقاصد الالتقاط ، والقياس على الإمام باطل ؛ لأنّ له ولايةً ، وهذا لا ولاية له(٣) .

ونحن نقول بموجبه في موضع المنع من أخذها.

أمّا لو وجدها في موضعٍ يخاف عليها فيه ، مثل أن يجدها في أرض مسبعة يغلب على الظنّ افتراس الأسد لها إن تركها فيه ، أو وجدها قريبةً من دار الحرب يخاف عليها من أهلها ، أو في موضعٍ يستحلّ أهله أخذ أموال المسلمين ، أو في برّيّة لا ماء بها ولا مرعى ، فالأولى جواز الأخذ للحفظ ، ولا ضمان على آخذها ؛ لما فيه من إنقاذها من الهلاك ، فأشبه تخليصها من غرقٍ أو حرقٍ ، وإذا حصلت في يده سلّمها إلى بيت المال ، وبرئ من ضمانها ، وله التملّك مع الضمان ؛ لأنّ الشارع نبّه على علّة عدم التملّك لها بأنّها محفوظة ، فإذا كانت في المهلكة انتفت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٥ - ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦٠ - ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٣ و ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٨ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٢ - ٥٣٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٥٦ ، البيان ٧ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٥ ، المغني ٦ : ٣٩٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٣) راجع : المغني ٦ : ٣٩٩ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

٣٠٣

العلّة.

مسألة ٣٩٧ : لو ترك دابّة بمهلكةٍ فأخذها إنسان فأطعمها وسقاها وخلّصها ، تملّكها - وبه قال الليث والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق(١) - إلّا أن يكون تركها بنيّة العود إليها فأخذها ، أو كانت قد ضلّت منه ؛ لما رواه العامّة عن الشعبي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « مَنْ وجد دابّةً قد عجز عنها أهلها فسيّبوها فأخذها فأحياها فهي له »(٢) .

وفي لفظٍ آخَر عن الشعبي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « مَنْ ترك دابّةً بمهلكةٍ فأحياها رجل فهي لمَنْ أحياها »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عبد الله بن سنان - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام قال : « مَنْ أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها لـمّا لم تتبعه فأخذها غيره فأقام عليها وأنفق نفقةً حتى أحياها من الكلال ومن الموت فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنّما هي مثل الشي‌ء المباح »(٤) .

ولأنّ القول بملكها يتضمّن إحياءها وإنقاذها من الهلاك ، وحفظاً للمال عن الضياع ، ومحافظةً على حرمة الحيوان ، وفي القول بعدم الملك‌

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦٠ - ١٦١ ، الحاوي الكبير ٨ : ٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤.

(٢) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٧ / ٣٥٢٤ ، سنن الدارقطني ٣ : ٦٨ / ٢٥٩ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٤ - ٣٥٥.

(٣) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٨ / ٣٥٢٥ ، سنن البيهقي ٦ : ١٩٨ ، المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٢٨٦ ، الهامش (٤)

٣٠٤

تضييع ذلك كلّه من غير مصلحةٍ تحصل ، ولأنّ مالكه نبذه رغبةً عنه وعجزاً عن أخذه ، فمَلَكه آخذه ، كالمتساقط من السنبل وسائر ما ينبذه الناس رغبةً عنه وزهداً فيه.

المطلب الثالث : في الأحكام.

مسألة ٣٩٨ : يجوز للإمام ونائبه أخذ الضالّة على وجه الحفظ لصاحبه ، ثمّ يرسله في الحمى الذي حماه الإمام لخيل المجاهدين والضوالّ ؛ لأنّ للإمام نظراً في حفظ مال الغائب ، وفي أخذ هذه حفظ لها عن الهلاك ، ثمّ يُعرّفها حولاً ، فإن جاء صاحبها ، وإلّا بقيت في الحمى.

وقال أحمد : لا يلزمه تعريفها ؛ لأنّ عمر لم يكن يُعرّف الضوالّ(١) .

وفعل عمر ليس حجّةً.

وإذا عرف إنسان دابّته ، أقام البيّنة عليها وأخذها ، ولا يكفي وصفها ؛ لأنّها ظاهرة بين الناس يعرف صفاتها غير أهلها ، فلا تكون الصفة(٢) لها دليلاً على ملكه لها ، ولأنّ الضالّة قد كانت ظاهرةً للناس حين كانت في يد مالكها ، فلا يختصّ هو بمعرفة صفاتها دون غيره ، ويمكنه إقامة البيّنة عليها ؛ لظهورها للناس ومعرفة خلطائه وجيرانه بملكه إيّاها.

مسألة ٣٩٩ : الأقرب عندي : إنّه يجوز لكلّ أحدٍ أخذ الضالّة ، صغيرةً كانت أو كبيرةً ، ممتنعةً عن السباع أو غير ممتنعةٍ ، بقصد الحفظ لمالكها ، والأحاديث(٣) الواردة في النهي عن ذلك محمولة على ما إذا نوى بالالتقاط‌

____________________

(١) المغني ٦ : ٣٩٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٣.

(٢) في « ث ، خ ، ر » : « الصفات ».

(٣) منها : ما تقدّم تخريجه في الهامش (١) من ص ١٦٦.

٣٠٥

التملّك إمّا قبل التعريف أو بعده ، أمّا مع نيّة الاحتفاظ فالأولى الجواز ، كما أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه أخذ ما لا يجوز أخذه على وجه التملّك.

مسألة ٤٠٠ : ما يحصل عند الإمام من الضوالّ فإنّه يُشهد عليها ويَسِمها بوَسْم أنّها ضالّة.

ثمّ إن كان له حمى ، تركها فيه إن رأى المصلحة في ذلك ، وإن رأى المصلحة في بيعها أو لم يكن له حمى ، باعها بعد أن يصفها ويحفظ صفاتها ، ويحفظ ثمنها لصاحبها ، فإنّ ذلك أحفظ لها ؛ لأنّ في تركها ضرراً على مالكها ؛ لإفضائه إلى أن تأكل جميع ثمنها.

وأمّا غير الإمام ونائبه إذا التقط الضالّة ولم يجد سلطاناً يُنفق عليها ، أنفق من نفسه ، ويرجع مع نيّة الرجوع.

وقيل : لا يرجع ؛ لأنّ عليه الحفظَ ، ولا يتمّ إلّا بالإنفاق(١) .

والأوّل أقرب ؛ دفعاً لتوجّه الضرر بالالتقاط.

ولا يبعد من الصواب التفصيلُ ، فإن كان قد نوى التملّك قبل التعريف أو بعده ، أنفق من ماله ، ولا رجوع ؛ لأنّه فَعَل ذلك لنفعه ، وإن نوى الحفظ دائماً ، رجع مع الإشهاد إن تمكّن ، وإلّا فمع نيّته.

ولو كان للّقطة نفعٌ كالظهر للركوب ، أو الحمل أو اللبن أو الخدمة ، قال الشيخرحمه‌الله : يكون ذلك بإزاء ما أنفق(٢) .

والأقرب : أن ينظر في قدر النفقة وقيمة المنفعة ، ويتقاصّان.

مسألة ٤٠١ : لا يضمن الضالّة بعد الحول إلّا مع قصد التملّك.

ولو قصد حفظها دائماً ، لم يضمن ، كما في لقطة الأموال ، إلّا مع‌

____________________

(١) كما في شرائع الإسلام ٣ : ٢٩٠.

(٢) النهاية : ٣٢٤.

٣٠٦

التفريط أو التعدّي.

ولو قصد التملّك ، ضمن ، فإن نوى الحفظ بعد ذلك ، لم يبرأ من الضمان ؛ لأنّه قد تعلّق الضمان بذمّته ، كما لو تعدّى في الوديعة ثمّ نوى الحفظ.

ولو قصد الحفظ ثمّ نوى التملّك ، لزمه الضمان من حين نيّة التملّك.

مسألة ٤٠٢ : لو وجد مملوكاً بالغاً أو مراهقاً ، لم يجز له أخذه ؛ لأنّه كالضالّة الممتنعة يتمكّن من دفع المؤذيات عنه.

ولو كان صغيراً ، كان له أخذه ؛ لأنّه في معرض التلف ، والمال إذا كان بهذه الحال جاز أخذه ، وهو نوع منه.

وإذا أخذ عبداً صغيراً للحفظ ، لم يدفع إلى مدّعيه إلّا بالبيّنة ، ولا تكفي الشهادة على شهود الأصل بالوصف ؛ لاحتمال الشركة في الأوصاف ، بل يجب إحضار شهود الأصل ليشهدوا بالعين ، فإن تعذّر إحضارهم لم يجب نقل العبد إلى بلدهم ولا بيعه على مَنْ يحمله ، ولو رأى الحاكم ذلك صلاحاً جاز ، ولو تلف قبل الوصول أو بعده ولم يثبت دعواه ، ضمن المدّعي قيمة العبد وأجره.

مسألة ٤٠٣ : لو ترك متاعاً في مهلكةٍ فخلّصه إنسان ، لم يملكه ؛ لأنّه لا حرمة له في نفسه ولا يخشى عليه التلف كالخشية على الحيوان ، فإنّ الحيوان يموت إذا لم يطعم ويسقى وتأكله السباع ، والمتاع يبقى إلى أن يعود مالكه إليه.

ولو كان المتروك عبداً ، لم يملكه آخذه ؛ لأنّ العبد في العادة يمكنه التخلّص إلى الأماكن التي يعيش فيها ، بخلاف البهيمة.

وله أخذ العبد والمتاع ليخلّصه لصاحبه.

وهل يستحقّ الأُجرة عن تخليص العبد أو المتاع؟ الوجه : إنّه لا يستحقّ إلّا مع الجُعْل ؛ لأنّه عمل في مال غيره بغير جُعْلٍ ، فلم يستحق شيئاً ، كالملتقط.

٣٠٧

وقال أحمد : يستحقّ الجُعْل(١) . وليس بجيّدٍ.

مسألة ٤٠٤ : ما يلقيه رُكْبان البحر فيه من السفينة خوفاً من الغرق إذا أخرجه غير مالكه ، فالأقرب : إنّه للمُخرج ، وبه قال الليث بن سعد والحسن البصري [ قال : ](٢) وما نضب عنه الماء فهو لأهله(٣) .

وقال ابن المنذر : يردّه على أربابه ، ولا جُعْل له(٤) ، وهو مقتضى قول الشافعي(٥) .

ويتخرّج على قول أحمد : إنّ لمن أنقذه أُجرة مثله(٦) .

والأقرب : ما قدّمناه ؛ لأنّه مال ألقاه أربابه فيما يتلف بتركه فيه اختياراً منهم ، فمَلَكه مَنْ أخرجه ، كالمنبوذ بنيّة الإعراض عن تملّكه.

ولو انكسرت السفينة في البحر فأُخرج بعض المتاع الذي فيها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، روى الشعيري فيه أنّ الصادقعليه‌السلام سئل عن ذلك ، فقال : « أمّا ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأمّا ما أُخرج بالغوص فهو لهم وهُمْ أحقّ به »(٧) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠٠ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٥.

(٢) ما بين المعقوفين أثبتناه من المغني والشرح الكبير ، وهو مقتضى ما في الإشراف على مذاهب أهل العلم.

(٣ و ٤) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ١٦١ ، المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٥) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٦) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦.

(٧) تقدّم تخريجه في ص ٢٧٧ ، الهامش (٣)

٣٠٨

وقال الشافعي وابن المنذر : إذا انكسرت السفينة فأخرجه قوم ، يأخذ أصحاب المتاع متاعهم ، ولا شي‌ء للّذين أصابوه(١) .

وعلى قياس قول أحمد يكون لمستخرجه أُجرة المثل ؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى تحصيله(٢) وحفظه لصاحبه وصيانته عن الغرق ، فإنّ الغوّاص إذا علم أنّه يُدفع إليه الأجر بادر إلى التخليص ، وإن علم أنّه يؤخذ منه بغير شي‌ءٍ لم يخاطر بنفسه في استخراجه(٣) .

مسألة ٤٠٥ : قد بيّنّا أنّه يجوز للإنسان أن يلتقط العبد الصغير وكذا الجارية الصغيرة ، ويُملك كلٌّ منهما بعد التعريف.

وقياس مذهب أحمد : إنّه لا يُملكان بالتعريف(٤) .

وقال الشافعي : يملك العبد دون الجارية ؛ لأنّ التملّك بالتعريف - عنده - كالقرض ، والجارية - عنده - لا تُملك بالقرض(٥) .

واستشكل بعض العامّة ذلك ؛ فإنّ الملقوط محكوم بحُرّيّته ، وإن كان ممّن يعبّر عن نفسه فأقرّ بأنّه مملوك لم يُقبل إقراره ؛ لأنّ الطفل لا قول له ، ولو اعتبر قوله في ذلك لاعتبر في تعريف سيّده(٦) .

____________________

(١) المغني ٦ : ٤٠١ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٦ - ٣٥٧.

(٢) الظاهر : « تخليصه ».

(٣) كما في المغني ٦ : ٤٠١ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٤) كما في المغني ٦ : ٤٠٢ ، والشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٣٩ ، حلية العلماء ٥ : ٥٣٩ ، البيان ٧ : ٤٦٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٦٧ ، المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

(٦) المغني ٦ : ٤٠٢ ، الشرح الكبير ٦ : ٣٥٧.

٣٠٩

الفصل الثالث : في اللقيط‌

وفيه مطالب :

الأوّل : الأركان.

اللقيط كلّ صبي ضائع لا كافل له ، ويُسمّى منبوذاً باعتبار أنّه يُنبذ ، أي يرمى ، ويُسمّى لقيطاً ، أي ملقوطاً ، واللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كما يقال : دهين وخضيب وجريح وطريح ، وإنّما هو مدهون ومخضوب ومجروح ومطروح ، ويُسمّى ملقوطاً باعتبار أنّه يُلقط.

إذا عرفت هذا ، فالأركان ثلاثة :

الأوّل : الالتقاط.

وهو واجب على الكفاية ؛ لاشتماله على صيانة النفس عن الهلاك ، وفي تركه إتلاف النفس المحترمة ، وقد قال الله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) (١) .

ولأنّ فيه إحياء النفس فكان واجباً ، كإطعام المضطرّ وإنجائه من الغرق ، وقد قال الله تعالى :( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً ) (٢) وقال تعالى :( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) (٣) .

ووجد سُنَين أبو جميلة منبوذاً فجاء به إلى عمر بن الخطّاب ، فقال :

____________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة المائدة : ٣٢.

(٣) سورة الحجّ : ٧٧.

٣١٠

ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال : وجدتُها ضائعةً فأخذتُها ، فقال عريفه : إنّه رجل صالح ، فقال : كذلك؟ قال : نعم ، قال : اذهب فهو حُرٌّ ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته(١) .

وهذا الخبر عندنا لا يُعوّل عليه ، والولاء عندنا لمن يتولّاه الملتقط ، فإن لم يتوال أحداً ، كان ميراثه للإمام.

وليس أخذ اللقيط واجباً على الأعيان بالإجماع وأصالة البراءة ، ولئلّا تتضادّ الأحكام ، ولأنّ الغرض الحفظ والتربية ، وذلك يحصل بأيّ واحدٍ اتّفق ، بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، ولو تركه الجماعة بأسرهم أثموا بأجمعهم إذا علموا به وتركوه مع إمكان أخذه.

مسألة ٤٠٦ : ويستحبّ الإشهاد على أخذه ؛ لأنّه أصون وأحفظ ، لأنّه يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ، ولا تعريف في اللقيط.

وللشافعيّة طريقان ، أحدهما : إنّه على وجهين أو قولين كما قدّمنا في اللّقطة ، والأصح : القطع بالوجوب ، بخلاف اللّقطة ، فإنّ الأصحّ فيها الاستحباب ؛ لأنّ اللقيط يحتاج إلى حفظ الحُرّيّة والنسب ، فجاز أن يجب الإشهاد عليه كما في النكاح(٢) .

والأصل عندنا ممنوع.

وحكى الجويني وجهاً ثالثاً هو : الفرق ، فإن كان الملتقط على ظاهر العدالة لم يكلّف الإشهاد ، وإن كان مستور العدالة كُلّف ليصير الإشهاد قرينةً‌

____________________

(١) الموطّأ ٢ : ٧٣٨ / ١٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٧.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٧ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، البيان ٨ : ٩ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

٣١١

تغلب على الظنّ الثقة(١) .

وإذا أوجبنا الإشهاد فلو تركه لم تسقط ولاية الحضانة.

وقال الشافعي : تسقط ولاية الحضانة ، ويجوز الانتزاع(٢) .

وإذا أشهد فليشهد على الملتقط وما معه من ثيابٍ وغيرها إن كان معه شي‌ء.

الركن الثاني : اللقيط.

وقد ذكرنا أنّه كلّ صبي ضائع لا كافل له ، والتقاطه من فروض الكفايات ، فيخرج بقيد الصبي البالغ ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد ، فلا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وقع في معرض هلاكٍ ، أُعين ليتخلّص.

أمّا الصبي الذي بلغ سنّ التمييز فالأقرب : جواز التقاطه ؛ لحاجته إلى التعهّد والتربية ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّه لا يلتقط ؛ لأنّه مستقلٌّ ممتنع ، كضالّة الإبل ، فلا يتولّى أمره إلّا الحاكم(٣) .

وقولنا : « ضائع » نريد به المنبوذ ؛ لأنّ غير المنبوذ يحفظه أبوه أو جدّه لأبيه أو الوصي لأحدهما ، فإن لم يكن أحد هؤلاء ، نصب القاضي له مَنْ يراعيه ويحفظه ويتسلّمه ؛ لأنّه كان له كافل معلوم ، وهو أبوه أو جدّه أو وصيّهما ، فإذا فقد قام القاضي مقامه ، كما أنّه يقوم لحفظ مال الغائبين والمفقودين ، أمّا المنبوذ فإنّه يشبه اللّقطة ولهذا يُسمّى لقيطاً فلم يختصّ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩.

(٢) الوسيط ٤ : ٣٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٤.

٣١٢

حفظه بالقاضي.

وقولنا : « لا كافل له » نريد به مَنْ لا أب له ولا جدّ للأب ومَنْ يقوم مقامهما ، والملتَقَط ممّن هو في حضانة أحد هؤلاء لا معنى لالتقاطه.

نعم ، لو وُجد في مضيعةٍ أُخذ ليُردّ إلى حاضنه.

الركن الثالث : الملتقِط.

مسألة ٤٠٧ : يعتبر في الملتقِط التكليف والحُرّيّة والإسلام والعدالة ، فلا يصحّ التقاط الصبي ولا المجنون.

ولو كان الجنون يعتوره أدواراً ، أخذه الحاكم من عنده ، كما يأخذه لو التقطه المجنون المطبق أو الصبي.

وأمّا العبد فليس له الالتقاط ؛ لأنّ منافعه ملك سيّده ، فليس له صَرفها إلى غيره إلّا بإذنه ، ولأنّ الالتقاط تبرّعٌ والعبد ليس من أهله ؛ إذ أوقاته مشغولة بخدمة مولاه.

ولو أذن له السيّد أو علم به فأقرّه في يده ، جاز ، وكان السيّد في الحقيقة هو الملتقِط ، والعبد نائبه قد استعان به عليه في الأخذ والتربية والحضانة ، فصار كما لو التقطه سيّده وسلّمه إليه.

وإذا أذن له السيّد ، لم يكن له الرجوع في ذلك.

أمّا لو كان الطفل في موضعٍ لا ملتِقط له سوى العبد ، فإنّه يجوز له التقاطه ؛ لأنّه تخليصٌ له من الهلاك ، فجاز ، كما لو أراد التخليص من الغرق.

ولو التقط العبد مع وجود ملتقطٍ غيره ، لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّه المنصوب للمصالح ، إلّا أن يرضى مولاه ويأذن بتقريره في‌

٣١٣

يده ، فيقدَّم على الحاكم.

ولا فرق بين القِنّ والمدبَّر وأُمّ الولد والمكاتَب والمحرَّر بعضه في ذلك كلّه ؛ لأنّه ليس لأحد هؤلاء التبرّعُ بماله ولا بمنافعه إلّا بإذن السيّد.

وقال الشافعي : المكاتَب إذا التقط بغير إذن السيّد انتُزع من يده ، كالقِنّ ، وإن التقط بإذن السيّد جاء فيه الخلاف في تبرّعاته بالإذن ، لكنّ الظاهر عندهم المنع ؛ لأنّ حقّ الحضانة ولاية ، وليس المكاتَب أهلاً لها(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّ الحقّ لا يعدوهما.

وللشافعيّة وجهان في الـمُعتَق نصفه إذا التقط في يوم نفسه هل يستحقّ الكفالة؟(٢) .

مسألة ٤٠٨ : لا يجوز للكافر أن يلتقط الصبي المسلم ، سواء كان الكافر ذمّيّاً أو معاهداً أو حربيّاً ؛ لأنّه لا ولاية للكافر على المسلم ، قال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣) ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه عن دينه ويُعلّمه الكفر ، بل الظاهر أنّه يُربّيه على دينه وينشأ على ذلك كولده ، فإن التقطه لم يُقرّ في يده.

أمّا لو كان الطفل محكوماً بكفره ، فإنّه يجوز للكافر التقاطه ؛ لقوله تعالى :( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٤) .

وللمسلم التقاط الطفل الكافر.

مسألة ٤٠٩ : الأقرب : اعتبار العدالة في الملتقِط ، فلو التقطه الفاسق‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥.

(٣) سورة النساء : ١٤١.

(٤) سورة الأنفال : ٧٣.

٣١٤

لم يُقر في يده ، وينتزعه الحاكم ؛ لأنّ الفاسق غير مؤتمنٍ شرعاً ، وهو ظالم ، فلا يجوز الركون إليه ؛ لقوله تعالى :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ ) (١) ولا يؤمن أن يبيع الطفل أو يسترقّه ويدّعيه مملوكاً له بعد مدّةٍ ، ولا يؤمن سوء تربيته له ولا يوثق عليه ويخشى الفساد به ، وهو قول الشافعي(٢) أيضاً.

ويفارق اللّقطة - حيث أُقرّت في يد الفاسق عندنا وفي أحد قولَي الشافعي(٣) - من ثلاثة أوجُه :

الأوّل : إنّ في اللّقطة معنى التكسّب ، والفاسق من أهل التكسّب ، وهاهنا لا كسب ، بل هو مجرّد الولاية.

الثاني : إنّ في اللّقطة وجوب ردّها إليه لو انتزعناها منه بعد التعريف حولاً ونيّة التملّك ليتملّكها ، فلم ننتزعها منه واستظهرنا عليه في حفظها وإن كان الانتزاع أحوط ، وهنا لا يردّ اللقيط إليه ، فكان الانتزاع أحوط وأسهل.

الثالث : المقصود في اللّقطة حفظ المال ، ويمكن الاحتياط عليه بالاستظهار في التعريف ، أو بنصب الحاكم مَنْ يُعرّفها ، فيزول خوف الخيانة ، ولا يحتاج إلى أن ينتزعها الحاكم ، وهنا المقصود حفظ الحُرّيّة والنسب ، ولا سبيل إلى الاستظهار عليه ؛ لأنّه قد يدّعي رقّه في بعض البلدان وبعض الأحوال.

____________________

(١) سورة هود : ١١٣.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٢ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٥ ، المغني ٦ : ٤١٣ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٦٣ ، البيان ٧ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤٢ و ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٥٥.

٣١٥

وقيل : لا يشترط العدالة ، ولا ينتزع اللقيط من يد الفاسق ؛ لإمكان حفظه في يده بالإشهاد عليه ، ويأمر الحاكم أميناً يشارفه عليه كلّ وقتٍ ويتعهّده في كلّ زمانٍ ، ويشيع أمره فيعرف أنّه [ لقيط ](١) فينحفظ بذلك من غير زوال ولايته ؛ جمعاً بين الحقّين ، كما في اللّقطة(٢) .

مسألة ٤١٠ : مَنْ ظاهر حاله الأمانة إلّا أنّه لم يختبر حاله ، لا ينتزع من يده ؛ لأنّ ظاهر المسلم العدالة ، ولم يوجد ما يعارض هذا الظاهر ، ولأنّ حكمه حكم العَدْل في لقطة المال والولاية في النكاح وأكثر الأحكام ، لكن يوكل الإمام مَنْ يراقبه من حيث لا يدري لئلّا يتأذّى ، فإذا حصلت للحاكم الثقة به صار كمعلوم العدالة.

وقبل ذلك لو أراد السفر به ، مُنع وانتُزع منه ؛ لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه وأن يكون إظهاره العدالة لمثل هذا الغرض الفاسد ، وهو أحد قولَي الشافعي ، والثاني له : إنّه يُقرّ في يده ويسافر به ؛ لأنّه يُقرّ في يده في الحضر من غير مشرفٍ يُضمّ إليه ، فكذا في السفر ، كالعَدْل ، ولأنّ الظاهر الستر والصيانة(٣) .

فأمّا مَنْ عُرفت عدالته وظهرت أمانته فيُقرّ اللقيط في يده في سفرٍ وحضرٍ ؛ لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة ، ولها وجهان.

مسألة ٤١١ : يعتبر في الملتقِط الرشد ، فلا يصحّ التقاط المبذِّر‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « لقطة ». والمثبت كما في المصدر.

(٢) المغني ٦ : ٤١٣ - ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٠٩ - ٤١٠.

(٣) الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨١ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦ ، المغني ٦ : ٤١٤ ، الشرح الكبير ٦ : ٤١١ ، وفيها القول الأوّل فقط.

٣١٦

المحجور عليه ، فلو التقط لم يُقر في يده وانتُزع منه ؛ لأنّه ليس مؤتمناً عليه شرعاً وإن كان عَدْلاً.

ولا يشترط في الملتقِط الذكورة ، فإنّ الحضانة أليق بالإناث.

ولا يشترط كونه غنيّاً ؛ إذ ليست النفقة على الملتقط.

والفقير يساوي الغني في الحضانة.

وللشافعيّة وجهٌ آخَر ، وهو : إنّه لا يُقرّ في يد الفقير ؛ لأنّه لا يتفرّغ للحضانة ؛ لاشتغاله بطلب القوت(١) .

مسألة ٤١٢ : لو ازدحم على لقيطٍ اثنان ، فإن كان ازدحامهما عليه قبل أخذه وقال كلّ واحدٍ منهما : أنا آخذه وأحضنه ، جعله الحاكم في يد مَنْ رآه منهما أو من غيرهما ؛ لأنّه لا حقّ لهما قبل الأخذ.

وإن ازدحما بعد الأخذ بأن تناولاه تناولاً واحداً دفعةً واحدة ، فإن لم يكن أحدهما أهلاً للالتقاط مُنع منه ، وسلّم اللقيط إلى الآخَر ، كما لو كان أحدهما مسلماً حُرّاً عَدْلاً والآخَر يكون كافراً أو فاسقاً أو عبداً لم يأذن له مولاه ، أو مكاتَباً كذلك ، فإنّ المسلم العَدْل الحُرّ يُقرّ في يده ، ولا يشاركه الآخَر ، ولا اعتبار بمشاركته إيّاه في الالتقاط ؛ لأنّه لو التقطه وحده لم يُقرّ في يده ، فإذا شاركه مَنْ هو من أهل الالتقاط كان أولى.

وأمّا إن كان كلّ واحدٍ منهما أهلاً للالتقاط ، فإن سبق أحدهما إلى الالتقاط ، مُنع الآخَر من مزاحمته.

ولا يثبت السبق بالوقوف على رأسه من غير أخذٍ ، وهو أظهر وجهي‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوسيط ٤ : ٣٠٤ ، البيان ٨ : ١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣١٧

الشافعيّة ، والثاني : إنّه يثبت(١) .

وإن لم يسبق أحدهما ، فإن اختصّ أحدهما بوصفٍ يوجب تقدّمه قُدّم ، وكان أولى من الآخَر.

وإن تساويا من كلّ وجهٍ ، فإن سلّم أحدهما لصاحبه ورضي بإسقاط حقّه جاز ؛ لأنّ الحقّ له ، فلا يُمنع من الإيثار به ، وإن تشاحّا أُقرع بينهما - وبه قال الشافعي(٢) - لقوله تعالى :( وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ) (٣) .

ولأنّه أمر مشكل ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، وعدم أولويّة أحدهما ، وكلّ مشكلٍ ففيه القرعة بالنصّ عن أهل البيتعليهم‌السلام (٤) .

ولأنّه لا يمكن أن يُخرج عن أيديهما ؛ لاشتماله على إبطال حقّهما الثابت لهما بالالتقاط ، أو يُترك في أيديهما إمّا جمعاً ، والاجتماع على الحضانة مشقٌّ أو متعذّر ، ولا يمكن أن يكون عندهما في حالةٍ واحدة ، وإمّا بالمهايأة ، وهو يشتمل على الإضرار باللقيط ؛ لما في تبدّل الأيدي من قطع الأُلفة واختلاف الأغذية والأخلاق ، أو يختصّ به أحدهما لا بالقرعة ، ولا سبيل إليه ؛ لتساويهما ، فلم يبق مخلص إلّا القرعة ، كالزوج يسافر بإحدى زوجاته بالقرعة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٢ - ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) الحاوي الكبير ٨ : ٣٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، الوجيز ١ : ٢٥٤ ، الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٥ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) سورة آل عمران : ٤٤.

(٤) الفقيه ٣ : ٥٢ / ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٤٠ / ٥٩٣.

٣١٨

وقال بعض الشافعيّة : يرجّح أحدهما باجتهاد القاضي ، فمَن رآه خيراً للّقيط أقرّه في يده(١) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد يستوي الشخصان في اجتهاد القاضي ولا سبيل إلى التوقّف ، فلا بدّ من مرجوعٍ إليه ، وليس سوى القرعة.

وقال بعض الشافعيّة : يخيّر الصبي في الانضمام إلى مَنْ شاء منهما(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه قد لا يكون مميّزاً بحيث يفوّض إليه التخيير ، ولو كان مميّزاً فإنّه لا يخيّر ، كما يخيّر الصبي بين الأبوين عند بلوغه سنّ التمييز - عندهم(٣) - لأنّه هناك يعوّل على الميل الناشئ من الولادة ، وهذا المعنى معدوم في اللقيط.

مسألة ٤١٣ : هذا إذا تساويا في الصفات ، فإن ترجّح أحد الملتقطين بوصفٍ يوجب تخصيصه به دون الآخَر وكانا معاً ممّن يثبت لهما جواز الالتقاط ، أُقرّ في يده ، وانتُزع من يد الآخَر.

والصفات المرجّحة أربعة :

أ : الغنى ، فلو كان أحدهما غنيّاً والآخَر فقيراً ، فللشافعيّة وجهان :

أحدهما : إنّهما يتساويان - وهو قول بعض علمائنا(٤) - لأنّ الفقير أهل للالتقاط ، كالغني.

وأظهرهما عند الشافعيّة : أولويّة الغني ؛ لأنّه ربما يواسيه بمالٍ وينفعه في كثيرٍ من الأوقات ويؤاكله أحياناً ، ولأنّ الفقير قد يشتغل بطلب القوت‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٨ : ٤٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٥٥٦ ، البيان ٨ : ١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٤.

(٤) لم نتحقّقه.

٣١٩

عن الحضانة(١) .

فإن رجّحنا الغني على الفقير وكانا معاً غنيّين إلّا أنّ أحدهما أكثر غنىً من الآخَر ، فللشافعيّة وجهان في تقديم أكثرهما مالاً(٢) .

ب : أن يكون أحدهما بلديّاً والآخَر قرويّاً ، أو كان أحدهما بلديّاً أو قرويّاً والآخَر بدويّاً ، تساويا عند بعض علمائنا(٣) ، ورجّح البلديّ على القرويّ ، والقرويّ على البدويّ ؛ لما فيه من حفظ نسبه وإمكان وصول قريبه إليه.

وللشافعيّة وجهان(٤) .

ج : مَنْ ظهرت عدالته بالاختبار يُقدّم على المستور على خلافٍ بين علمائنا.

وللشافعيّة وجهان :

أحسنهما : إنّه يقدّم احتياطاً للصبي.

والثاني : يستويان ؛ لأنّ المستور لا يسلّم ثبوت المزيّة للآخَر ويقول : لا أترك حقّي بجهلكم بحالي(٥) .

د : الحُرّ أولى من العبد والمكاتَب وإن كان التقاطه بإذن السيّد ؛ لأنّه في نفسه ناقص ، وليست يدُ المكاتَب يدَ السيّد.

مسألة ٤١٤ : لا تُقدّم المرأة على الرجل ؛ لأنّ المرأة وإن كانت

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

(٣) لم نتحقّقه.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٥٧٢ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٧ - ٤٨٨.

(٥) الوسيط ٤ : ٣٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٤٨٦.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

يدخلها حتى يوارى أشجعه

كأنّما يطلب شيئا أطعمه١

فالتفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه فقال : أكذا أنت ؟ قال : لا و اللّه لقد كذب عليّ و انصرف فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به و أمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع : إنّي قد تخوفت أن يكون قد و قر في صدرك ما قال لبيد و لست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال فأرسل إليه : إنّك لست صانعا بانتفانك مما قال لبيد شيئا و لا قادرا على ما زلّت به الألسن فالحق بأهلك٢ .

٤ الحكمة ( ١٥٨ ) و قالعليه‌السلام :

عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ اُرْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أقول : في ( المعجم ) عن أبي الفضل بن ثوابه قال : قدم البحتري النيل على أحمد الاسكافي مادحا له فلم يثبه ، فهجاه بقصيدة أوّلها « قصّة النيل فاسمعوها عجاب » و جمع إلى هجائه إيّاه هجاء بني ثوابه ، و بلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم و ثيابا و دابة بسرجها و لجامها ، فردّه و قال : قد أسلفتكم إساءة فلا يجوز معه قبول صلتكم فكتب إليه أبي : أما الإساءة فمغفورة و المعذرة مشكورة ، و الحسنات يذهبن السيئات ، و ما يأسو جراحك مثل يدك ، و قد رددت إليك ما رددته عليّ ، و أضعفته فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا و شكرنا و إن لم تفعل احتملنا و صبرنا فقبل البحتري : ما بعث به إليه و كتب إلى أبي :

كلامك و اللّه أحسن من شعري ، و قد أسلفتني ما أخجلني ، و حملتني ما أثقلني ،

____________________

( ١ ) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٥ : ٣٦٣ ٣٦٤ ، ذكر الأبيات في ديوان لبيد : ٩٢ ٩٣ بدل أطمعه « ضيّعه » .

( ٢ ) ذكره الأصفهاني في الأغاني ١٥ : ٣٦٣ ٣٦٤ .

٣٨١

و سيأتيك ثنائي ثم غدا عليه بقصيدة أوّلها « ضلال لها ما ذا أرادت من الصدّ » و قال فيه أيضا ما أوّله « برق أضاء العقيق من صرمه » و ما أوّله « إن دعاه داعي الهوى فأجابه » فلم يزل أبي بعد ذلك يصله و يتابع برّه لديه حتى افترقا١ .

و في ( شعراء القتيبي ) : كان بشر بن أبي حازم الأسدي في أوّل أمره يهجو أوس بن حارثة بن لام الطائي ، فأسرته بنو نبهان من طي فركب إليهم أوس فاستوهبه منهم و أراد إحراقه ، فقالت له سعدى امه : قبّح اللّه رأيك أكرم الرجل و أحسن إليه فانّه لا يمحو ما قال غير لسانه ففعل فجعل بشر مكان كلّ قصيدة هجاء قصيدة مدح٢ .

و في ( كامل المبرد ) : كان النعمان بن المنذر دعا بحلة و عنده و فود العرب من كلّ حي ، فقال : احضروا في غد فإنّي ملبس هذه الحلة أكرمكم .

فحضر القوم جميعا إلاّ أوس بن حارثة ، فقيل له : لم تخلفت ؟ فقال : إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألاّ أكون حاضرا ، و إن كنت أن المراد فسأطلب و يعرف مكاني فلما جلس النعمان لم ير أوسا ، فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له : احضر آمنا ممّا خفت فحضر فألبس الحلة ، فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه و لك ثلاثمائة ناقة ، فقال الحطيئة : كيف أهجو رجلا لم يكن في بيتي أثاث و لا مال إلاّ من عنده ثم قال :

كيف الهجاء و ما تنفكّ صالحة

من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فقال لهم بشر بن أبي حازم : أنا أهجوه لكم ، فأخذ الإبل و فعل ، فأغار أوس على الإبل فاكتسحها فجعل لا يستجير حيّا إلاّ قال قد أجرتك إلاّ من أوس و كان بشر في هجائه أوسا ذكر امّه فأتى به فدخل أوس على أمّه فقال : قد

____________________

( ١ ) معجم الادباء ٤ : ١٥٥ ١٥٦ .

( ٢ ) الشعراء للقتيبي : ٤٩ .

٣٨٢

أتينا ببشر الهاجي لك ولي فما ترين فيه ؟ فقالت : أو تطيعني فيه ؟ قال : نعم .

قالت : أرى أن تردّ عليه ماله و تعفو عنه و تحبوه و أحبوه فإنّه لا يغسل هجاءه إلاّ مدحه فخرج إليه فقال له : إنّ امي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا و كذا فقال : لا جرم و اللّه لا مدحت أحدا حتى أموت غيرك ، ففيه يقول :

إلى أوس بن حارثة بن لام

ليقضي حاجتي في من قضاها

و ما وطى‏ء الثرى مثل ابن سعدى

و لا لبس النعال و لا احتذاها١

و قال ابن أبي الحديد الأصل فيه قوله تعالى . ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنّه وليّ حميم٢ .

و في ( كامل المبرّد ) : عن ابن عائشة : قال رجل من أهل الشام : دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها و لا ثوبا و لا مسمنا و لا دابة منه ، فمال قلبي إليه ، فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن علي فامتلأ قلبي له بغضا و حسدت عليّا أن يكون له ابن مثله ، فصرت إليه و قلت له : أنت ابن أبي طالب ؟ فقال : أنا ابن ابنه قلت : فبك و بأبيك أسبّهما فلما انقضى كلامي قال :

أحسبك غريبا ؟ قلت : أجل قال : فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال و اسيناك أو إلى حاجة عاونّاك فانصرفت عنه و ما على الأرض أحد أحبّ إليّ منه٣ .

و قال محمود الورّاق :

إنّي شكرت لظالمي ظلمي

و غفرت ذاك له على علم

و رأيته أسدى إليّ يدا

لما أبان بجهله حلمي

____________________

( ١ ) الكامل للمبرّد ١ : ١٩٨ ١٩٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٧٨ ، و الآية ٣٤ من سورة فصلت .

( ٣ ) الكامل للمبرّد ١ : ٣٥٠ .

٣٨٣

رجعت إساءته عليه و إحساني

فعاد مضاعف الأجر

و غدوت ذا أجر و محمدة

و غدا بكسب الظلم و الإثم

فكأنّما الاحسان كان له

و أنا المسي‏ء إليه في الحكم

مازال يظلمني و أرحمه

حتى بكيت له من الظلم١

اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش ، قال له رجل منهم : إني مررت بآل فلان و هم يشتمونك شتما رحمتك منه قال : أفسمعتني أقول إلاّ خيرا ؟

قال : لا قال : فايّاهم فارحم .

قلت : شعر الوراق و كلام القرشي غير مربوط بالمقام كما لا يخفى٢ .

٥ الحكمة ( ١٧٧ ) و قالعليه‌السلام :

اُزْجُرِ اَلْمُسِي‏ءَ بِثَوَابِ اَلْمُحْسِنِ أقول : في ( كنايات الجرجاني ) : كان المخبل السعدي في سفر ، فأمّ بيتا ضخما في يوم حار ، فلما وقف عليه سلّم فقيل له : أي الشراب أحبّ إليك ؟ أنبيذ أم ماء أم لبن ؟ قال : أيسره و أوجده قالت : اسقوا الرجل ماء تمر ، و أمرت فذبحت له شاة و صنعت فأكل و شرب ، فلما راح قال : جزاك اللّه خيرا من منزل فما رأيت أكرم منك قال : فإذا امرأة ضخمة فقال لها : ما اسمك يرحمك اللّه ؟

قالت : رهوا قال : سبحان اللّه أما وجد أهلك اسما يسمّونك به أحسن من هذا ؟

فقالت : سميتني أنت به قال : إنّا للّه أخليدة أنت ؟ قالت : نعم قال : و اسوأتاه و اللّه لا هجوت بعدك أمرأة أو قال تميمية أبدا و أنشأ يقول :

لقد ضلّ حلمي في خليدة إنّني

سأعتب ربي بعدها و أتوب

____________________

( ١ ) الكامل للمبرد ١ : ٣٤٩ ، و ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ١٨ : ٣٧٨ ٣٧٩ .

( ٢ ) الكامل للمبرد ١ : ٣٤٩ ، و ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ١٨ : ٣٧٨ ٣٧٩ .

٣٨٤

و اشهد ربّ الناس أن قد ظلمتها

و جرت عليها و الهجاء كذوب

و الأصل فيه أنّ الزبرقان زوّج اخته خليدة هزالا من بني جشم بن عوف بعد أن قتل الهزال جارا للزبرقان ، فقال المخبل :

و أنكحت هزالا خليدة بعد ما

زعمت لعمر اللّه أنّك قاتله

فأنكحته رهوا كأن عجانها

مشيق أهاب أوسع السلح ناجله

يلاعبها فوق الفراش و جاركم

بذي شبرمان تزال مفاصله

و الرهو : الواسع١ .

و في ( تذكرة سبط بن الجوزي ) قال الزهري : خرج علي بن الحسينعليه‌السلام يوما من المسجد فتبعه رجل فسبّه ، فلحقته العبيد و الموالي فهمّوا بالرجل فقال : دعوه ثم قال له : ما ستر اللّه عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ فاستحيى الرجل ، فألقىعليه‌السلام عليه خميصة كانت عليه و أعطاه ألف درهم ، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول : أشهد أنّك من أولاد الرسول٢ .

و قال ابن سعد : كان هشام بن اسماعيل المخزومي و الى المدينة ، و كان يؤذي علي بن الحسينعليه‌السلام و يشتم عليّا على المنبر و ينال منه ، فلما ولي الوليد عزله و أمر به ان يوقف للناس ، فقال هشام « و اللّه ما أخاف إلاّ من علي بن الحسين إنّه رجل صالح يسمع قوله » فأوصى علي بن الحسينعليه‌السلام أصحابه و مواليه و خاصّته ألا يتعرّضوا له ، ثم مرّ عليعليه‌السلام في حاجته عليه فما عرض له فناداه هشام و هو واقف للناس اللّه أعلم حيث يجعل رسالته٣ .

____________________

( ١ ) الكنايات للجرجاني : ٨٣ ٨٤ .

( ٢ ) التذكرة لسبط بن الجوزي : ٢٤٠ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ٣٣٧ ٣٣٨ .

٣٨٥

٦ الحكمة ( ١٧٨ ) و قالعليه‌السلام :

اُحْصُدِ اَلشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ أقول : قال ابن أبي الحديد هذا يفسر على وجهين : أحدهما يعني « لا تضمر لأخيك سوءا فإنّك إلاّ تضمر ذاك لا يضمر هو لك سوءا لأنّ القلوب يشعر بعضها ببعض » و الثاني يعني « لا تعظ الناس و لا تنههم عن منكر إلاّ و أنت مقلع عنه فإنّ الواعظ الذي ليس يزكى لا ينجع وعظه و لا يؤثر نهيه »١ .

قلت : المعنى الثاني الذي قاله بمراحل عن المقام ، و أما الأوّل و إن كان قريبا إلاّ أنّه قاصر عن أداء المراد ، فمجرد عدم إضمار الشّرّ لغيرك لا يكفي في قلعه من صدر غيرك إذا كان مضمرا لشرّ لك ، بل بإظهار آثاره له .

و مما يناسبه ما في ( الأغاني ) : حضر حمّاد عجرد و مطيع بن أياس مجلس محمد بن خالد أمير الكوفة ، فتمازحا فقال حمّاد :

يا مطيع يا مطيع

أنت إنسان رفيع

و عن الخير بطي‏ء

و إلى الشرّ سريع

فقال مطيع :

إن حمّادا لئيم

الأصل عديم

لا ترى الدهر إلا

بهن العير يهيم

فقال حمّاد : و يلك أترميني بدائك و اللّه لو لا كراهتي لتمادي الشرّ و لجاج الهجاء لقلت لك قولا يبقى و لكن لا افسد مودّتك و لا اكافئك إلاّ بالمديح فقال :

كلّ شي‏ء لي فداء

لمطيع بن أياس

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١١ .

٣٨٦

رجل مستملح

في لين و شماس

عدل روحي بين جنبي

و عيني برأسي

غرس اللّه له في

كبدي أحلى غراس١

٧ الحكمة ( ٣١٤ ) و قالعليه‌السلام :

رُدُّوا اَلْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ اَلشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ اَلشَّرُّ أقول : أمّا قولهعليه‌السلام « ردوا الحجر من حيث جاء » فذكره الكرماني في ( أمثاله )٢ و قال : « يعني لا تقبل الضيم و ارم من رماك » إلاّ أنّ كونه مثلا لغيرهعليه‌السلام غير معلوم أوّلا ، و إنّما المثل قولهم « رمى فلان بحجره » ذكره العسكري في ( أمثاله )٣ و قال : أي رمى بقرنه .

قال الأحنف لعليعليه‌السلام حين بعث معاوية عمرا حكما : إنّك قد رميت بحجر الأرض و من كاد الإسلام و أهله عصرا و هو سن قريش و داهية العرب و قد رضيت بأبي موسى و هو رجل يمان و ما تدرى نصيحته ضم به رجلا من قريش و اجعلني ثانيا فليس صاحب عمرو إلاّ من دنا حتى يظنّ أنّه قد بالغه و هو منه بمنزلة النجم فقالعليه‌السلام : و اللّه ما أردت التحكيم و لا رضيت به و قد أبى الناس إلاّ أبا موسى و غلبوني٤ .

و كون معناه ما ذكره غير معلوم ثانيا ، بل الظاهر أنّ المعنى « ادفع الشر بشر من جنسه » .

____________________

( ١ ) الأغاني ١٤ : ٣٥٧ ٣٥٨ .

( ٢ ) ذكره الميداني « ردّ الحجر » ١ : ٣١٨ .

( ٣ ) جمهرة الأمثال للعسكري : ٣١٢ .

( ٤ ) تاريخ الخلفاء ١ : ١٣١ ، ما تفق معه .

٣٨٧

و في ( تاريخ بغداد ) في محمد بن جعفر الادمي العماري عن ابن الاكفاني قال : قال أبي : حججت في بعض السنين و حجّ في تلك السنة البغوي و الادمي القاري فلما صرنا بالمدينة جاءني البغوي فقال : ههنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و قعد يقصّ و يروى الأخبار المفتعلة ، فإن رأيت أن نمضي إليه لننكر عليه و نمنعه فقلت له : أنّ كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير و لسنا ببغداد فيعرف موضعنا ، و لكن ههنا أمر آخر و هو الصواب و أقبلت على الادمي و كان أحسن الناس صوتا بالقرآن و أجهرهم بالقراءة فما هو إلاّ ان ابتدأ بالقراءة حتى انفلت الحلقة و انفصلوا عنه و أحاطوا بنا يسمعون قراءة الادمي و تركوا الضرير وحده ، فسمعته يقول لقائدة : خذ بيدي فهكذا تزول النعم١ .

هذا ، و من لطائف الصاحب أنّ ابن فارس لما أرسل إليه من همدان كتابه المترجم بالحجر قال : « ردوا الحجر من حيث جاء » .

و أمّا قولهعليه‌السلام : « فإنّ الشر لا يدفعه إلاّ الشّرّ » فالمراد به واضح ، و يوضح المراد من الأول و نذكر له أمثلة .

الأول : في ( كامل الجزري ) : كان الحسن بن مخلد ، و موسى بن عبد الملك قد انقطعا إلى عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل و كان الحسن على ديوان الضياع و موسى على ديوان الخراج ، فكتب نجاح بن سلمة الكاتب رقعة إلى المتوكلّ أنّهما خانا و أنّه يستخرج منهما أربعين ألف ألف ،

فقال له المتوكل : بكّر عليّ غدا حتى أدفعهما إليك فغدا و قد رتب أصحابه لأخذهما ، فلقيه عبيد اللّه و قال له : أنا أشير عليك بمصالحتهما و تكتب رقعة أنّك كنت شاربا و تكلّمت ناسيا و أنا أصلح بينكما و أصلح الحال عند المتوكل و لم

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٢ : ١٤٧ .

٣٨٨

يزل يخدعه حتى كتب خطّه بذلك ، فصرفه و أحضر الحسن و موسى و عرفهما الحال و أمرهما أن يكتبا في نجاح و أصحابه بألفي ألف دينار ، ففعلا فأخذ عبيد اللّه الرقعتين و أدخلهما على المتوكل و قال : قد رجع نجاح عمّا قال و هذه رقعة موسى و الحسن يتقبلان بما كتبا ، فخذ ما ضمنا عليه ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريبا منه فأمر المتوكل بدفع نجاح إلى موسى و الحسن ، فأخذاه و أولاده فأقروا بنحو مائة و أربعين ألف دينار سوى الغلاّت و الغرس و الضياع ، فقبض ذلك أجمع و ضرب ثم عصرت خصيتاه حتى مات١ .

الثاني : فيه أيضا : بعث عثمان ابن الزبير لمدد عبد اللّه بن أبي سرح ، فلما دخل العسكر لم ير في القتال ابن أبي سرح فقيل إنّه سمع منادي جرجير خصمه يقول « من قتل عبد اللّه فله مائة ألف دينار و ازوّجه ابنتي » فيخاف الحضور ، فذهب ابن الزبير عنده و قال له : تأمر مناديا ينادي « من أتاني برأس جرجير نفلته ماله و زوّجته ابنته و استعملته على بلاده » ففعل ذلك و صار جرجير يخاف أشدّ من ابن أبي سرح٢ .

الثالث : في ( وزراء الجهشياري ) : شخص عمر بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك ، فتكلّم بكلام استحسنه هشام ، فأقبل على سعيد بن الوليد الكلبي و قال : ما مات من خلف مثل هذا فقال له سعيد : ليس هناك أما تراه يرشح جبينه يضيق صدره فقال ابن هبيرة : ما لذلك رشحت يا سعيد و لكن لجلوسك و لست بأهلي٣ .

الرابع : أيضا : كان سعيد الكلبي يحبّ أن يفسد حال ابن هبيرة عند

____________________

( ١ ) الكامل ٧ : ٨٨ ٨٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٨٩ ٩٠ .

( ٣ ) الوزراء للجهشياري : ٥٩ .

٣٨٩

هشام و كان يسير إذا ركب هشام بالبعد منه و كان هشام معجبا بالخيل فاتخذ سعيد عدّة خيل جياد و أضمرها و أمر المجرين لها أن يعارضوا هشاما إذا ركب ، فان سألهم قالوا : إنّها لابن هبيرة فركب هشام يوما فعورض بالخيل فنظر إلى قطعة من الخيل حسنة فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لابن هبيرة .

فاستشاط غضبا و قال : و اعجباه اختان ما اختان ثم هو يباريني في الخيل ،

عليّ به فدعي به من جانب الموكب ، فجاء مسرعا فقال : ما هذه و لمن هي ؟

و رأى الغضب في وجهه ، فعلم أنّه قد كيد فقال : خيل لك علمت عجبك بها و انا عالم بجيادها فاخترتها و طلبتها من مظانّها فمر بقبضها فأمر بقبضها ، و كان ذلك سبب إقباله عليه و لم يتهيأ لسعيد أن يتكلّم و إنّما ظنّ أنّ هشاما يغضب و لا يسأل فتتم الحيلة على صاحبه فانعكست الحيلة عليه حيلة له١ .

الخامس : في ( المروج ) : ذكر رجل من الكتّاب أنّ إسحاق بن ابراهيم أخا زيد بن ابراهيم حدّثه أنّه كان يتقلّد الصيمرة و السيروان و أنّ إبراهيم بن العباس اجتاز به يريد خراسان و المأمون بها و قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام و قد امتدحه بشعر يذكر فيه فضل آل عليعليهم‌السلام و أنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم ، فاستحسنت القصيدة و سألته أن ينسخها لي ففعل و وهبت له ألف درهم و حملته على دابة ، و ضرب الدهر من ضربه إلى أن ولّي ابراهيم ديوان الضياع مكان موسى بن عبد الملك و كنت أحد عمّال موسى و كان يحب أن يكشف أسباب موسى ، فعزلني و أمرني أن تعمل مؤامرة فعملت و كثر عليّ فيها فحضرت للمناظرة عنها فجعلت أحتجّ بما لا يدفع فلا يقبله و يحكم لي الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم و يسمعني في خلال ذلك بدعا من الكلام ، إلى أن أوجب عليّ الكتّاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت عليه

____________________

( ١ ) الوزراء و الكتاب للجهشياري : ٢٩ .

٣٩٠

فقال : ليست يمين السلطان عندك يمينا لأنّك رافضي فقلت له : تأذن في الدنو منك فاذن لي ، فقلت : ليس مع تعريضك بمهجتي للقتل صبر و هاهو المتوكل ان كتبت إليه بما أسمع منك لم آمنه على نفسي ، و قد احتملت كلّ ما جرى سوى الرفض ، و الرافضي من زعم أنّ عليّاعليه‌السلام أفضل من العباس و أنّ ولدهعليهم‌السلام أحقّ بالخلافة من ولد العباس قال : و من ذلك ؟ قلت : أنت و خطك عندي به و أخبرته بالشعر فو اللّه ما هو إلاّ أن قلت ذلك له حتى سقط في يده ،

ثم قال : أحضر الدفتر الذي بخطي فقلت له : هيهات ، لا و اللّه أو توثق لي بما أسكن إليه أنّك ، لا تطالبني بشي‏ء ممّا جرى على يدي و تخرق هذه المؤامرة و لا تنظر لي في حساب فحلف لي على ذلك ، و خرق العمل المعمول و أحضرته الدفتر فوضعه في خفّه و انصرفت و قد زالت عني المطالبة١ .

السادس : في ( تاريخ بغداد ) : لمّا عزل شريك عن القضاء تعلّق به رجل ببغداد فقال : لي عليك ثلاثمائة درهم فأعطنيها قال : و من أنا ؟ قال : شريك القاضي قال : و من أين هي لك ؟ قال : ثمن هذا البغل الذي تحتك قال : نعم تعال .

فجاء يمشي معه حتى بلغ الجسر قال : من ههنا فقام إليه الشرط فقال : خذوا هذا فاحبسوه لئن اطلقتموه لأخبرنّ أبا العباس فقالوا : إنّ هذا الرجل يتعلّق بالقاضي إذا عزل فيدعي عليه فيفتدى منه ، و قد تعلّق بسلمة الأحمر حين عزل عن واسط فأخذ منه أربعمائة درهم فقال : هكذا قالوا : نعم فكلّم فيه ، فأبى أن يطلقه فقال له أبو العباس : إلى كم تحبس هذا الرجل ؟ قال : حتى يرد على سلمة الأحمر أربعمائة درهم فردّ على سلمة أربعمائة ، فجاء سلمة إلى شريك فشكر له فقال له : يا ضعيف كلّ من سألك مالك أعطيته إيّاه٢ .

____________________

( ١ ) المروج ٤ : ٢٣ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ، لم نعثر عليه في ترجمة شريك بن عبد اللّه القاضي ٩ : ٢٧٩ و ما بعده .

٣٩١

السابع : في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : كان عبد الملك غضب غضبة فكتب إلى هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة عامله على المدينة و أبو أمّ ابنه هشام أن أقم آل علي يشتمونه و آل ابن الزبير يشتمون ابن الزبير فأبى الجميع و كتبوا وصاياهم فركبت أخت له إليه و قالت : فان كان لابد من أمر فمر آل علي يشتمون آل الزبير و مر آل الزبير يشتمون آل علي قال : هذه أفعلها فاستبشر الناس بذلك إلى أن قال بعد إباء الحسن بن الحسن لشتم آل الزبير و قبول أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لذلك و عدم حضور عامر بن عبد اللّه بن الزبير لذلك حتى قيل لهشام إنّه لا يفعل أتقتله ؟ و قال عامر : إنّ بني أمية يغرون بشتم علي و ما يريد اللّه بذلك إلاّ رفعته ،

فإن اللّه لم يرفع شيئا فاستطاع أحد خفضه فقدم ثابت بن عبد اللّه بن الزبير و كان غائبا و هو ابن خالة الحسن بن الحسن على هشام و قال له : كنت غائبا فاجمع لي الناس آخذ بنصيبي فقال له هشام : و ما تريد فلود من حضر أنّه لم يحضر قال : لتفعلن أو لأكتبن إلى عبد الملك ، فجمع له الناس فقام فقال :لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ١ إلى أن قال لعن اللّه الأشدق لطيم الشيطان المتمني ما ليس له هو أقصر ذراعا و أضيق باعا ، ألا لعن اللّه الأحول الأثعل المترادف الأسنان المتوثب في الفتنة و ثوب الحمار المقيد محمد بن أبي حذيفة رامي أمير المؤمنين برؤوس الافانين ، ألا لعن اللّه عبيد اللّه الأعور بن عبد الرحمن بن سمرة شرّ العصاة اسما و ألأمها مرعا و أقصرها فرعا لعنه اللّه و لعن التي تحته يعرض بأمّ هشام بن اسماعيل و كان عبيد اللّه خلف عليها بعد اسماعيل

____________________

( ١ ) المائدة : ٧٨ ٧٩ .

٣٩٢

فلما بلغ ثابت هذا القول أمر به هشام إلى الحبس و قال : ما أراك تشتم إلاّ رحم .

الخليفة فقال له ثابت : إنّهم عصاة مخالفون فدعني حتى أشفي الخليفة منهم ،

فلم يزل ثابت في السجن حتى بلغ خبره عبد الملك فكتب أن اطلقوه فإنّه إنّما شتم أهل الخلاف١ .

قلت : إنّ ثابتا لعن محمد بن أبي حذيفة لكونه من بني عبد شمس ،

و مراده بوثوبه في الفتنة إنكاره على عثمان بدعه و إعلانه شنائعه ، كان من الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر حقّا حتى قتلوه على ذلك فكان ثابت أولى باللعن منه .

٨ الحكمة ( ١٥٩ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ اَلتُّهَمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ اَلظَّنَّ أقول : رواه ( الكافي ) عن السكوني عن الصادقعليه‌السلام عنهعليه‌السلام ٢ ، و رواه أمالي الصدوق٣ عن أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عنهعليهم‌السلام ، و روى ( الاختصاص ) عن أبي الجارود قال : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « من أوقف نفسه موقف التهمة فلا يلو من من أساء به الظنّ ، و من كتم سرّه كانت الخيرة بيده »٤ .

و روى ( أمالي ابن الشيخ ) عن العقيلي أنّهعليه‌السلام قال لابنه الحسن « و إيّاك و مواطن التهمة و المجلس المظنون به السوء ، فإنّ قرين السوء

____________________

( ١ ) نسب قريش : ٤٧ ٤٩ بتصرف .

( ٢ ) الكافي للكليني ٨ : ٥٢ ح ١٣٧ .

( ٣ ) الأمالي للصدوق : ١٨٢ ، رواه مسندة .

( ٤ ) الاختصاص : ٢٢٦ .

٣٩٣

يغرّ جليسه »١ .

و في ( المستطرفات ) عن جامع البزنطي عن الصادقعليه‌السلام : اتقوا مواقف الريبة ، و لا يقفن أحدكم مع أمه في الطريق فإنّه ليس كلّ أحد يعرفها٢ .

و قال ابن أبي الحديد : رأى بعض الصحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا في درب من دروب المدينة و معه امرأة فسلّم عليه فرد عليه ، فلما جاوزه ناداه فقال : هذه زوجتي فلانة فقال : أو فيك يظن ؟ فقال : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم٣ .

قلت : إنّما روى ( سنن أبي داود ) في باب ( المعتكف يدخل البيت ) عن صفية أتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أزوره ليلا و كان معتكفا فحدّثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرعا فقال :

على رسلكما إنّها صفية بنت حي قالا : سبحان اللّه يا رسول اللّه قال : إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا٤ .

٩ الحكمة ( ٤٠١ ) و قالعليه‌السلام :

مُقَارَبَةُ اَلنَّاسِ فِي أَخْلاَقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِمْ أقول : و عنهعليه‌السلام : إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودّائهم و نفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم ، حسن البشر عند لقائهم و التفقد عنهم في غيبتهم

____________________

( ١ ) الأمالي للمفيد : ٣٣٥ .

( ٢ ) المستطرفات لابن إدريس : ٦٢ ورد بلفظ « الريب » و ليس « الريبة » ، عنه في البحار ٧٥ : ٩١ ، و الوسائل ٨ : ٤٢٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٨٠ .

( ٤ ) السنن لأبي داود ٢ : ٣٣٣ ح ٢٤٧٠ .

٣٩٤

و البشاشة عند حضورهم١ .

قلت : و كأن « و البشاشة . » كان نسخة بدلية من « حسن البشر . » مع التقديم و التأخير .

و في ( المعجم ) : كان الواثق يجري على المازني كلّ شهر مائة دينار لأنّه أجاب في قوله تعالى .و ما كانت أمّك بغيّا ٢ لم لم يقل « بغيّة » جوابا صحيحا قال المازني : و لما مات الواثق ذكرت للمتوكل فأشخصني فلما دخلت إليه رأيت من العدّة و السلاح و الأتراك ما راعني و الفتح بن خاقان بين يديه ، و خشيت إن سئلت عن مسألة ألا أجيب فيها ، فلما مثلت بين يديه و سلّمت قلت : أقول كما قال الاعرابي :

لا تقولواها و أدلواها دلوا

إنّ مع اليوم أخاه غدوا

فلم يفهم عني ما أردت و استبردت فأخرجت و القلو رفع السير و الدلو إدناؤه ثم دعاني بعد ذلك فقال : انشدني أحسن مرثية قالت العرب فأنشدته قول أبي ذؤيب « أمن المنون و ريبها تتوجّع » و قصيدة متمم « لعمري و ما دهري بتأبين هالك » و قول كعب الغنوي « تقول سليمى ما لجسمك شاحبا » و قصيدة محمد بن مناذر « كل حيّ لاقى الحمام يودى » فكان كلّما أنشدته قصيدة يقول ليست بشي‏ء ثم قال : من شاعركم اليوم بالبصرة ؟ قلت : عبد الصمد بن المعذل قال : فأنشدني له فأنشدته أبياتا قالها في قاضينا ابن رباح :

أيا قاضية البصرة

قومي فارقصي قطرة

و مري بروشنك فما ذا

البرد و الفترة

اراك قد تثيرين

عجاج القصف يا حرّة

____________________

( ١ ) بحار الأنوار ٧٨ : ٥٧ ح ١٢٤ الباب ( ١٦ ) .

( ٢ ) مريم : ٢٨ .

٣٩٥

بتجذيفك خديك

و تجعيدك للطرة

فاستحسنها و استطار لها و أمر لي بجائزة ، فجعلت أتعمل له أن احفظ أمثالها فأنشده إذا وصلت إليه فيقبلني١ .

و في ( تاريخ بغداد ) : شهد أبو دلامة عند ابن أبي ليلى لامرأة على حمار هو و رجل آخر من أصحاب القاضي ، فعدل الرجل و لم يعدل أبا دلامة و قال للمرأة زيديني شاهدا ، فأتت أبا دلامة فأخبرته ، فأتى ابن أبي ليلى فأنشده :

إن الناس غطوني تغطيت عنهم

و إن بحثوا عني ففيهم مباحث

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم

ليعلم قومي كيف تلك النبائث

فقال ابن أبي ليلى : أجزنا شهادتك يا أبا دلامة و بعث إلى المرأة و قال لها : كم ثمن حمارك ؟ قالت : أربعمائة فأعطاه أربعمائة٢ .

و أيضا : قدم مؤمل بن إهاب الرملة فاجتمع عليه أصحاب الحديث و كان ذعرا ممتنعا فألحّوا عليه فامتنع أن يحدّثهم ، فمضوا بأجمعهم و ألفّوا منهم فئتين فتقدّموا إلى السلطان فقالوا له : إنّ لنا عبدا خلاسيا له علينا حق صحبة و تربية و قد كان أدّبنا و أحسن لنا التأدّب و آلت بنا الحال إلى الإضافة بحمل المجرة و طلب الحديث ، و إنا أردنا بيعه فامتنع علينا فقال لهم السلطان :

و كيف أعلم صحّة ما ذكرتم ؟ قالوا : إنّ معنا بالباب جماعة من حملة الآثار و طلاّب العلوم و ثقات الناس يكتفي بالنظر إليهم دون المسألة عنهم و هم يعلمون ذلك ، فتأذن بوصولهم إليك لتسمع منهم فأدخلهم السلطان و سمع مقالتهم و وجّه خلف ( مؤمل ) بالشرط و الأعوان يدعونه إلى السلطان ، فتعذّر فجذبوه و جرروه و قالوا : أخبرنا أنّك قد استطعمت الإباق فصار معهم إلى

____________________

( ١ ) المعجم ٧ : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ٨ : ٤٩٠ .

٣٩٦

السلطان ، فلما دخل عليه قال له : ما يكفيك ما أنت فيه من الاباق حتى تتعزز على سلطانك ؟ امضوا به إلى الحبس فحبس ، و كان مؤمل من هيئته أنّه أصفر طوال خفيف اللحية يشبه عبيد أهل الحجاز ، فلم يزل في حبسه أيّاما حتى علم بذلك جماعة من اخوانه فصاروا إلى السلطان و قالوا : هذا في حبسك مظلوم .

فقال لهم : و من ظلمه ؟ قالوا : أنت قال : ما أعرف من هذا شيئا قالوا : الشيخ الذي اجتمع عليه جماعة فقال : ذاك العبد الآبق فقالوا : ما هو بآبق بل هو إمام من أئمة المسلمين في الحديث فأمر بإخراجه و سأله عن حاله فأخبره كما أخبره الذين جاؤوا يذكرون له حاله ، فصرفه و سأله أن يحلّه ، فلم ير مؤمل بعد ذلك ممتنعا امتناعه الأول١ .

أيضا : قدم شريك القاضي البصرة فأبى أن يحدّثهم ، فاتبعوه حين خرج و جعلوا يرمونه بالحجارة .

في ( الجهشياري ) : كان يحيى البرمكي إذا رأى من الرشيد شيئا ينكره لم يستقبله بالإنكار و ضرب له الأمثال و حكى له عن الملوك و الخلفاء ما يوجب مفارقة ما أنكره و يقول « في النهي إغراء و هو من الخلفاء أحرى ، فإنّك و إن لم تقصد إغراءه إذا نهيته أغريته »٢ .

و في ( المروج ) : إنّ الأمين لما حلف للرشيد بما حلف له به أي فيما عهد إليه أبوه في أخيه و أراد الخروج من الكعبة ردّه جعفر البرمكي و قال له : فان غدرت بأخيك خذلك اللّه حتى فعل ذلك ثلاثا فاضطغنت بذلك أم الأمين على جعفر ، فكانت أحد من حرّض الرّشيد عليه و على ما نزل به .

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٣ : ١٨٢ .

( ٢ ) الجهشياري : ٢٠٣ .

٣٩٧

و من لا يصانع في امور كثيرة

يضرس بأنياب و يوطأ بمنسم١

و في ( بيان الجاحظ ) : قال الشاعر :

تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم

و لا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل

فإنّي رأيت المرء يشقى بعقله

كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل٢

و قال آخر :

و أنزلني طول النوى دار غربة

إذا شئت لا قيت امرأ لا أشاكله

فحامقته حتى يقال سجيّة

و لو كان ذا عقل لكنت اعاقله٣

و أنشدني آخر :

و للدهر أيام فكن في لباسه

كلبسته يوما أجدّ و أخلقا

و كن أكيس الناس إذا كنت فيهم

و إن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا٤

و قال شاعر :

إن تلقك الغربة في معشر

قد أجمعوا فيك على بغضهم

فدارهم ما دمت في دارهم

و أرضهم ما دمت في أرضهم

و قال حمد الخطابي :

ما دمت حيّا فدار الناس كلهم

فانّما أنت في دار المداراة

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٥٤ .

( ٢ ) بيان الجاحظ ١ : ٢٤٥ مع تغيير .

( ٣ ) المصدر نفسه ٤ : ٢١ .

( ٤ ) بيان الجاحظ ٤ : ٢١ .

٣٩٨

إنّ من يدر دارى و من لم يدر سوف يرى

عمّا قليل نديما للندامات١

١٠ الحكمة ( ٣٦٢ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ اَلْمِرَاءَ أقول : في ( الكافي ) : عن الصادقعليه‌السلام : قال جبرئيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إيّاك و ملاحاة الرجال٢ .

و عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : إيّاكم و المراء و الخصومة ، فانّهما يمرضان القلوب على الاخوان و ينبت عليها النفاق٣ .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاث من لقى اللّه تعالى بهنّ دخل الجنّة من أي باب شاء : من حسن خلقه ، و خشى اللّه في المغيب و المحضر ، و ترك المراء و إن كان محقّا٤ .

هذا ، و في ( كتاب سيبويه ) : « إيّاك الأسد » لا يجوز بدون واو بينهما و عن ابن أبي إسحاق جوازه في الشعر لقوله :

إيّاك إياك المراء فإنّه

إلى الشرّ دعّاء و للشّرّ جالب٥

____________________

( ١ ) معجم الادباء ١٠ : ٢٧٢ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٣٠١ ح ٦ .

( ٣ ) الكافي ٢ : ٣٠٠ ح ١ .

( ٤ ) الكافي ٢ : ٣٠٠ ح ٢ .

( ٥ ) الكتاب ، لسيبويه ١ : ٢٧٩ .

٣٩٩

الفصل السادس و الاربعون في الاصدقاء

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617