بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194181 / تحميل: 7310
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

١ ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

٢٢١

فادهش الجميع ذلك(١) .

٢ ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا(٢) .

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ...ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »(٣) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢ ـ المناقب لابن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢٤.

٣ ـ مريم : ٢٤ و ٢٥.

٢٢٢

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم »عليها‌السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريمعليها‌السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟(١) .

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب(٢) .

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

__________________

١ ـ «وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : ٣٧ ).

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٤٠١.

٢٢٣

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيحعليه‌السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره(١) .

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : «وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »(٢) .

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٢ ـ الصف : ٦.

٣ ـ «الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : ١٥٧ ).

٢٢٤

٧

العَوْدة

إلى اَحضان العائلة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم

٢٢٥

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

٢٢٦

لقد حافظت مرضعةُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) وارضعت في بني سعد »(١) .

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه »(٢) .

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن(٣) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣ ـ كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه »عليه‌السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

٢٢٧

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب‍ « الابواء »(١) .

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به(٢) .

ان القرآن الكريم يُذكّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفترة يتمه ويقول : «ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٨.

٢٢٨

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!!(١) .

كفالة أبي طالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(٢) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

__________________

١ ـ كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ٢ ، ص ١٠ و ١١ من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

٢ ـ في حوادث السنة العاشرة.

٢٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً(١) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب(٢) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٧٩ ، وامهما هي فاطمة المخزومية.

٢ ـ لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ١ ، ص ١٥ طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

٢٣٠

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة(١) .

لقد كانت سفرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

__________________

١ ـ ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات :

إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً

عِندي يفوقُ منازل الأولاد

لما تعَلّق بالزمام رحمتُه

والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد

فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

راعيتُ فيه قرابة موصولة

وحفَظت فيه وصية الأجداد

وأمرتُه بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجاد

حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحُسّاد

( تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ وديوان ابي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ).

٢٣١

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه(١) .

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام(٢) .

وربما قيل أنه تابع ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

__________________

١ ـ روى تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٢ و ٣٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٣ هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٢٣٢

ما أظهره رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد ٢٨ عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

١ ـ لقد كان « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب‍ « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

٢ ـ إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

٢٣٣

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

٣ ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

٤ ـ إذا كان محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرةْ عند

٢٣٤

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : «ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ »(١) .

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

٥ ـ إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام(٢) .

٦ ـ إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

٧ ـ يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم مسبق

__________________

١ ـ النحل : ١٠٣.

٢ ـ تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

٢٣٥

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (٤٤) هكذا : «وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (٤٩) بعد نقل قصة نوح : «تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (٤٤) من سورة « آل عمران » : «ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

٢٣٦

١ ـ داودعليه‌السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة(١) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!!(٢) .

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داودعليه‌السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية ١٥ و ١٦ من سورة النمل ) : «وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

٢ ـ النبيّ سليمانعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمانعليه‌السلام :

١ ـ « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا »(٣) .

أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!!

__________________

١ ـ أي في مقدمة الجيش المحارب.

٢ ـ العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر ٣ إلى ٢٧.

٣ ـ إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول ٦.

٢٣٧

٢ ـ وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!!(١) .

إن سليمان ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمانعليه‌السلام «ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً »(٢) .

ويقول : «وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »(٣) .

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

٣ ـ يعقوبعليه‌السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوبعليه‌السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

__________________

١ ـ التوراة : الملوك الأول الاصحاح : ١١ ، العبارات ١ : ١١.

٢٣٨

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!!(١) .

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : «وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »(٢) .

ويقول تعالى أيضاً : «وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »(٣) .

٤ ـ إبْراهيمعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيمعليه‌السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : ١ إلى ٤٦ ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

٢٣٩

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب »(١) .

إن ابراهيم الخليلعليه‌السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

١ ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٢ ـ إمامُ الناس : «إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : ١٣٤ ).

٣ ـ مُسْلِمٌ : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٤ ـ حَليمٌ : «إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٥ ـ امة كامِلَة بمفرده : «إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : ١٢٠ ).

٦ ـ أواهٌ يَخشى اللّه : «إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٧ ـ مصطفى : «لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : ٤٨ ).

٨ ـ ذو قلب سَليم : «إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : ٤٨ ).

٥ ـ المسيحعليه‌السلام :

إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!!(٢)

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر ١ ـ ٢٠.

٢ ـ إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : ٣١ ـ ٣٥.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

يدخلها حتى يوارى أشجعه

كأنّما يطلب شيئا أطعمه١

فالتفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه فقال : أكذا أنت ؟ قال : لا و اللّه لقد كذب عليّ و انصرف فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به و أمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع : إنّي قد تخوفت أن يكون قد و قر في صدرك ما قال لبيد و لست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال فأرسل إليه : إنّك لست صانعا بانتفانك مما قال لبيد شيئا و لا قادرا على ما زلّت به الألسن فالحق بأهلك٢ .

٤ الحكمة ( ١٥٨ ) و قالعليه‌السلام :

عَاتِبْ أَخَاكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ وَ اُرْدُدْ شَرَّهُ بِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِ أقول : في ( المعجم ) عن أبي الفضل بن ثوابه قال : قدم البحتري النيل على أحمد الاسكافي مادحا له فلم يثبه ، فهجاه بقصيدة أوّلها « قصّة النيل فاسمعوها عجاب » و جمع إلى هجائه إيّاه هجاء بني ثوابه ، و بلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم و ثيابا و دابة بسرجها و لجامها ، فردّه و قال : قد أسلفتكم إساءة فلا يجوز معه قبول صلتكم فكتب إليه أبي : أما الإساءة فمغفورة و المعذرة مشكورة ، و الحسنات يذهبن السيئات ، و ما يأسو جراحك مثل يدك ، و قد رددت إليك ما رددته عليّ ، و أضعفته فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا و شكرنا و إن لم تفعل احتملنا و صبرنا فقبل البحتري : ما بعث به إليه و كتب إلى أبي :

كلامك و اللّه أحسن من شعري ، و قد أسلفتني ما أخجلني ، و حملتني ما أثقلني ،

____________________

( ١ ) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٥ : ٣٦٣ ٣٦٤ ، ذكر الأبيات في ديوان لبيد : ٩٢ ٩٣ بدل أطمعه « ضيّعه » .

( ٢ ) ذكره الأصفهاني في الأغاني ١٥ : ٣٦٣ ٣٦٤ .

٣٨١

و سيأتيك ثنائي ثم غدا عليه بقصيدة أوّلها « ضلال لها ما ذا أرادت من الصدّ » و قال فيه أيضا ما أوّله « برق أضاء العقيق من صرمه » و ما أوّله « إن دعاه داعي الهوى فأجابه » فلم يزل أبي بعد ذلك يصله و يتابع برّه لديه حتى افترقا١ .

و في ( شعراء القتيبي ) : كان بشر بن أبي حازم الأسدي في أوّل أمره يهجو أوس بن حارثة بن لام الطائي ، فأسرته بنو نبهان من طي فركب إليهم أوس فاستوهبه منهم و أراد إحراقه ، فقالت له سعدى امه : قبّح اللّه رأيك أكرم الرجل و أحسن إليه فانّه لا يمحو ما قال غير لسانه ففعل فجعل بشر مكان كلّ قصيدة هجاء قصيدة مدح٢ .

و في ( كامل المبرد ) : كان النعمان بن المنذر دعا بحلة و عنده و فود العرب من كلّ حي ، فقال : احضروا في غد فإنّي ملبس هذه الحلة أكرمكم .

فحضر القوم جميعا إلاّ أوس بن حارثة ، فقيل له : لم تخلفت ؟ فقال : إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألاّ أكون حاضرا ، و إن كنت أن المراد فسأطلب و يعرف مكاني فلما جلس النعمان لم ير أوسا ، فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له : احضر آمنا ممّا خفت فحضر فألبس الحلة ، فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه و لك ثلاثمائة ناقة ، فقال الحطيئة : كيف أهجو رجلا لم يكن في بيتي أثاث و لا مال إلاّ من عنده ثم قال :

كيف الهجاء و ما تنفكّ صالحة

من آل لام بظهر الغيب تأتيني

فقال لهم بشر بن أبي حازم : أنا أهجوه لكم ، فأخذ الإبل و فعل ، فأغار أوس على الإبل فاكتسحها فجعل لا يستجير حيّا إلاّ قال قد أجرتك إلاّ من أوس و كان بشر في هجائه أوسا ذكر امّه فأتى به فدخل أوس على أمّه فقال : قد

____________________

( ١ ) معجم الادباء ٤ : ١٥٥ ١٥٦ .

( ٢ ) الشعراء للقتيبي : ٤٩ .

٣٨٢

أتينا ببشر الهاجي لك ولي فما ترين فيه ؟ فقالت : أو تطيعني فيه ؟ قال : نعم .

قالت : أرى أن تردّ عليه ماله و تعفو عنه و تحبوه و أحبوه فإنّه لا يغسل هجاءه إلاّ مدحه فخرج إليه فقال له : إنّ امي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا و كذا فقال : لا جرم و اللّه لا مدحت أحدا حتى أموت غيرك ، ففيه يقول :

إلى أوس بن حارثة بن لام

ليقضي حاجتي في من قضاها

و ما وطى‏ء الثرى مثل ابن سعدى

و لا لبس النعال و لا احتذاها١

و قال ابن أبي الحديد الأصل فيه قوله تعالى . ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنّه وليّ حميم٢ .

و في ( كامل المبرّد ) : عن ابن عائشة : قال رجل من أهل الشام : دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها و لا ثوبا و لا مسمنا و لا دابة منه ، فمال قلبي إليه ، فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن علي فامتلأ قلبي له بغضا و حسدت عليّا أن يكون له ابن مثله ، فصرت إليه و قلت له : أنت ابن أبي طالب ؟ فقال : أنا ابن ابنه قلت : فبك و بأبيك أسبّهما فلما انقضى كلامي قال :

أحسبك غريبا ؟ قلت : أجل قال : فمل بنا فإن احتجت إلى منزل أنزلناك أو إلى مال و اسيناك أو إلى حاجة عاونّاك فانصرفت عنه و ما على الأرض أحد أحبّ إليّ منه٣ .

و قال محمود الورّاق :

إنّي شكرت لظالمي ظلمي

و غفرت ذاك له على علم

و رأيته أسدى إليّ يدا

لما أبان بجهله حلمي

____________________

( ١ ) الكامل للمبرّد ١ : ١٩٨ ١٩٩ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٧٨ ، و الآية ٣٤ من سورة فصلت .

( ٣ ) الكامل للمبرّد ١ : ٣٥٠ .

٣٨٣

رجعت إساءته عليه و إحساني

فعاد مضاعف الأجر

و غدوت ذا أجر و محمدة

و غدا بكسب الظلم و الإثم

فكأنّما الاحسان كان له

و أنا المسي‏ء إليه في الحكم

مازال يظلمني و أرحمه

حتى بكيت له من الظلم١

اخذ هذا المعنى من قول رجل من قريش ، قال له رجل منهم : إني مررت بآل فلان و هم يشتمونك شتما رحمتك منه قال : أفسمعتني أقول إلاّ خيرا ؟

قال : لا قال : فايّاهم فارحم .

قلت : شعر الوراق و كلام القرشي غير مربوط بالمقام كما لا يخفى٢ .

٥ الحكمة ( ١٧٧ ) و قالعليه‌السلام :

اُزْجُرِ اَلْمُسِي‏ءَ بِثَوَابِ اَلْمُحْسِنِ أقول : في ( كنايات الجرجاني ) : كان المخبل السعدي في سفر ، فأمّ بيتا ضخما في يوم حار ، فلما وقف عليه سلّم فقيل له : أي الشراب أحبّ إليك ؟ أنبيذ أم ماء أم لبن ؟ قال : أيسره و أوجده قالت : اسقوا الرجل ماء تمر ، و أمرت فذبحت له شاة و صنعت فأكل و شرب ، فلما راح قال : جزاك اللّه خيرا من منزل فما رأيت أكرم منك قال : فإذا امرأة ضخمة فقال لها : ما اسمك يرحمك اللّه ؟

قالت : رهوا قال : سبحان اللّه أما وجد أهلك اسما يسمّونك به أحسن من هذا ؟

فقالت : سميتني أنت به قال : إنّا للّه أخليدة أنت ؟ قالت : نعم قال : و اسوأتاه و اللّه لا هجوت بعدك أمرأة أو قال تميمية أبدا و أنشأ يقول :

لقد ضلّ حلمي في خليدة إنّني

سأعتب ربي بعدها و أتوب

____________________

( ١ ) الكامل للمبرد ١ : ٣٤٩ ، و ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ١٨ : ٣٧٨ ٣٧٩ .

( ٢ ) الكامل للمبرد ١ : ٣٤٩ ، و ذكره ابن أبي الحديد في شرحه ١٨ : ٣٧٨ ٣٧٩ .

٣٨٤

و اشهد ربّ الناس أن قد ظلمتها

و جرت عليها و الهجاء كذوب

و الأصل فيه أنّ الزبرقان زوّج اخته خليدة هزالا من بني جشم بن عوف بعد أن قتل الهزال جارا للزبرقان ، فقال المخبل :

و أنكحت هزالا خليدة بعد ما

زعمت لعمر اللّه أنّك قاتله

فأنكحته رهوا كأن عجانها

مشيق أهاب أوسع السلح ناجله

يلاعبها فوق الفراش و جاركم

بذي شبرمان تزال مفاصله

و الرهو : الواسع١ .

و في ( تذكرة سبط بن الجوزي ) قال الزهري : خرج علي بن الحسينعليه‌السلام يوما من المسجد فتبعه رجل فسبّه ، فلحقته العبيد و الموالي فهمّوا بالرجل فقال : دعوه ثم قال له : ما ستر اللّه عنك من أمرنا أكثر ، ألك حاجة نعينك عليها ؟ فاستحيى الرجل ، فألقىعليه‌السلام عليه خميصة كانت عليه و أعطاه ألف درهم ، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول : أشهد أنّك من أولاد الرسول٢ .

و قال ابن سعد : كان هشام بن اسماعيل المخزومي و الى المدينة ، و كان يؤذي علي بن الحسينعليه‌السلام و يشتم عليّا على المنبر و ينال منه ، فلما ولي الوليد عزله و أمر به ان يوقف للناس ، فقال هشام « و اللّه ما أخاف إلاّ من علي بن الحسين إنّه رجل صالح يسمع قوله » فأوصى علي بن الحسينعليه‌السلام أصحابه و مواليه و خاصّته ألا يتعرّضوا له ، ثم مرّ عليعليه‌السلام في حاجته عليه فما عرض له فناداه هشام و هو واقف للناس اللّه أعلم حيث يجعل رسالته٣ .

____________________

( ١ ) الكنايات للجرجاني : ٨٣ ٨٤ .

( ٢ ) التذكرة لسبط بن الجوزي : ٢٤٠ .

( ٣ ) تذكرة الخواص : ٣٣٧ ٣٣٨ .

٣٨٥

٦ الحكمة ( ١٧٨ ) و قالعليه‌السلام :

اُحْصُدِ اَلشَّرَّ مِنْ صَدْرِ غَيْرِكَ بِقَلْعِهِ مِنْ صَدْرِكَ أقول : قال ابن أبي الحديد هذا يفسر على وجهين : أحدهما يعني « لا تضمر لأخيك سوءا فإنّك إلاّ تضمر ذاك لا يضمر هو لك سوءا لأنّ القلوب يشعر بعضها ببعض » و الثاني يعني « لا تعظ الناس و لا تنههم عن منكر إلاّ و أنت مقلع عنه فإنّ الواعظ الذي ليس يزكى لا ينجع وعظه و لا يؤثر نهيه »١ .

قلت : المعنى الثاني الذي قاله بمراحل عن المقام ، و أما الأوّل و إن كان قريبا إلاّ أنّه قاصر عن أداء المراد ، فمجرد عدم إضمار الشّرّ لغيرك لا يكفي في قلعه من صدر غيرك إذا كان مضمرا لشرّ لك ، بل بإظهار آثاره له .

و مما يناسبه ما في ( الأغاني ) : حضر حمّاد عجرد و مطيع بن أياس مجلس محمد بن خالد أمير الكوفة ، فتمازحا فقال حمّاد :

يا مطيع يا مطيع

أنت إنسان رفيع

و عن الخير بطي‏ء

و إلى الشرّ سريع

فقال مطيع :

إن حمّادا لئيم

الأصل عديم

لا ترى الدهر إلا

بهن العير يهيم

فقال حمّاد : و يلك أترميني بدائك و اللّه لو لا كراهتي لتمادي الشرّ و لجاج الهجاء لقلت لك قولا يبقى و لكن لا افسد مودّتك و لا اكافئك إلاّ بالمديح فقال :

كلّ شي‏ء لي فداء

لمطيع بن أياس

____________________

( ١ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٤١١ .

٣٨٦

رجل مستملح

في لين و شماس

عدل روحي بين جنبي

و عيني برأسي

غرس اللّه له في

كبدي أحلى غراس١

٧ الحكمة ( ٣١٤ ) و قالعليه‌السلام :

رُدُّوا اَلْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ فَإِنَّ اَلشَّرَّ لاَ يَدْفَعُهُ إِلاَّ اَلشَّرُّ أقول : أمّا قولهعليه‌السلام « ردوا الحجر من حيث جاء » فذكره الكرماني في ( أمثاله )٢ و قال : « يعني لا تقبل الضيم و ارم من رماك » إلاّ أنّ كونه مثلا لغيرهعليه‌السلام غير معلوم أوّلا ، و إنّما المثل قولهم « رمى فلان بحجره » ذكره العسكري في ( أمثاله )٣ و قال : أي رمى بقرنه .

قال الأحنف لعليعليه‌السلام حين بعث معاوية عمرا حكما : إنّك قد رميت بحجر الأرض و من كاد الإسلام و أهله عصرا و هو سن قريش و داهية العرب و قد رضيت بأبي موسى و هو رجل يمان و ما تدرى نصيحته ضم به رجلا من قريش و اجعلني ثانيا فليس صاحب عمرو إلاّ من دنا حتى يظنّ أنّه قد بالغه و هو منه بمنزلة النجم فقالعليه‌السلام : و اللّه ما أردت التحكيم و لا رضيت به و قد أبى الناس إلاّ أبا موسى و غلبوني٤ .

و كون معناه ما ذكره غير معلوم ثانيا ، بل الظاهر أنّ المعنى « ادفع الشر بشر من جنسه » .

____________________

( ١ ) الأغاني ١٤ : ٣٥٧ ٣٥٨ .

( ٢ ) ذكره الميداني « ردّ الحجر » ١ : ٣١٨ .

( ٣ ) جمهرة الأمثال للعسكري : ٣١٢ .

( ٤ ) تاريخ الخلفاء ١ : ١٣١ ، ما تفق معه .

٣٨٧

و في ( تاريخ بغداد ) في محمد بن جعفر الادمي العماري عن ابن الاكفاني قال : قال أبي : حججت في بعض السنين و حجّ في تلك السنة البغوي و الادمي القاري فلما صرنا بالمدينة جاءني البغوي فقال : ههنا رجل ضرير قد جمع حلقة في مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و قعد يقصّ و يروى الأخبار المفتعلة ، فإن رأيت أن نمضي إليه لننكر عليه و نمنعه فقلت له : أنّ كلامنا لا يؤثر مع هذا الجمع الكثير و لسنا ببغداد فيعرف موضعنا ، و لكن ههنا أمر آخر و هو الصواب و أقبلت على الادمي و كان أحسن الناس صوتا بالقرآن و أجهرهم بالقراءة فما هو إلاّ ان ابتدأ بالقراءة حتى انفلت الحلقة و انفصلوا عنه و أحاطوا بنا يسمعون قراءة الادمي و تركوا الضرير وحده ، فسمعته يقول لقائدة : خذ بيدي فهكذا تزول النعم١ .

هذا ، و من لطائف الصاحب أنّ ابن فارس لما أرسل إليه من همدان كتابه المترجم بالحجر قال : « ردوا الحجر من حيث جاء » .

و أمّا قولهعليه‌السلام : « فإنّ الشر لا يدفعه إلاّ الشّرّ » فالمراد به واضح ، و يوضح المراد من الأول و نذكر له أمثلة .

الأول : في ( كامل الجزري ) : كان الحسن بن مخلد ، و موسى بن عبد الملك قد انقطعا إلى عبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل و كان الحسن على ديوان الضياع و موسى على ديوان الخراج ، فكتب نجاح بن سلمة الكاتب رقعة إلى المتوكلّ أنّهما خانا و أنّه يستخرج منهما أربعين ألف ألف ،

فقال له المتوكل : بكّر عليّ غدا حتى أدفعهما إليك فغدا و قد رتب أصحابه لأخذهما ، فلقيه عبيد اللّه و قال له : أنا أشير عليك بمصالحتهما و تكتب رقعة أنّك كنت شاربا و تكلّمت ناسيا و أنا أصلح بينكما و أصلح الحال عند المتوكل و لم

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد ٢ : ١٤٧ .

٣٨٨

يزل يخدعه حتى كتب خطّه بذلك ، فصرفه و أحضر الحسن و موسى و عرفهما الحال و أمرهما أن يكتبا في نجاح و أصحابه بألفي ألف دينار ، ففعلا فأخذ عبيد اللّه الرقعتين و أدخلهما على المتوكل و قال : قد رجع نجاح عمّا قال و هذه رقعة موسى و الحسن يتقبلان بما كتبا ، فخذ ما ضمنا عليه ثم تعطف عليهما فتأخذ منهما قريبا منه فأمر المتوكل بدفع نجاح إلى موسى و الحسن ، فأخذاه و أولاده فأقروا بنحو مائة و أربعين ألف دينار سوى الغلاّت و الغرس و الضياع ، فقبض ذلك أجمع و ضرب ثم عصرت خصيتاه حتى مات١ .

الثاني : فيه أيضا : بعث عثمان ابن الزبير لمدد عبد اللّه بن أبي سرح ، فلما دخل العسكر لم ير في القتال ابن أبي سرح فقيل إنّه سمع منادي جرجير خصمه يقول « من قتل عبد اللّه فله مائة ألف دينار و ازوّجه ابنتي » فيخاف الحضور ، فذهب ابن الزبير عنده و قال له : تأمر مناديا ينادي « من أتاني برأس جرجير نفلته ماله و زوّجته ابنته و استعملته على بلاده » ففعل ذلك و صار جرجير يخاف أشدّ من ابن أبي سرح٢ .

الثالث : في ( وزراء الجهشياري ) : شخص عمر بن هبيرة إلى هشام بن عبد الملك ، فتكلّم بكلام استحسنه هشام ، فأقبل على سعيد بن الوليد الكلبي و قال : ما مات من خلف مثل هذا فقال له سعيد : ليس هناك أما تراه يرشح جبينه يضيق صدره فقال ابن هبيرة : ما لذلك رشحت يا سعيد و لكن لجلوسك و لست بأهلي٣ .

الرابع : أيضا : كان سعيد الكلبي يحبّ أن يفسد حال ابن هبيرة عند

____________________

( ١ ) الكامل ٧ : ٨٨ ٨٩ .

( ٢ ) المصدر نفسه ٣ : ٨٩ ٩٠ .

( ٣ ) الوزراء للجهشياري : ٥٩ .

٣٨٩

هشام و كان يسير إذا ركب هشام بالبعد منه و كان هشام معجبا بالخيل فاتخذ سعيد عدّة خيل جياد و أضمرها و أمر المجرين لها أن يعارضوا هشاما إذا ركب ، فان سألهم قالوا : إنّها لابن هبيرة فركب هشام يوما فعورض بالخيل فنظر إلى قطعة من الخيل حسنة فقال : لمن هذه ؟ فقالوا : لابن هبيرة .

فاستشاط غضبا و قال : و اعجباه اختان ما اختان ثم هو يباريني في الخيل ،

عليّ به فدعي به من جانب الموكب ، فجاء مسرعا فقال : ما هذه و لمن هي ؟

و رأى الغضب في وجهه ، فعلم أنّه قد كيد فقال : خيل لك علمت عجبك بها و انا عالم بجيادها فاخترتها و طلبتها من مظانّها فمر بقبضها فأمر بقبضها ، و كان ذلك سبب إقباله عليه و لم يتهيأ لسعيد أن يتكلّم و إنّما ظنّ أنّ هشاما يغضب و لا يسأل فتتم الحيلة على صاحبه فانعكست الحيلة عليه حيلة له١ .

الخامس : في ( المروج ) : ذكر رجل من الكتّاب أنّ إسحاق بن ابراهيم أخا زيد بن ابراهيم حدّثه أنّه كان يتقلّد الصيمرة و السيروان و أنّ إبراهيم بن العباس اجتاز به يريد خراسان و المأمون بها و قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الرضاعليه‌السلام و قد امتدحه بشعر يذكر فيه فضل آل عليعليهم‌السلام و أنّهم أحقّ بالخلافة من غيرهم ، فاستحسنت القصيدة و سألته أن ينسخها لي ففعل و وهبت له ألف درهم و حملته على دابة ، و ضرب الدهر من ضربه إلى أن ولّي ابراهيم ديوان الضياع مكان موسى بن عبد الملك و كنت أحد عمّال موسى و كان يحب أن يكشف أسباب موسى ، فعزلني و أمرني أن تعمل مؤامرة فعملت و كثر عليّ فيها فحضرت للمناظرة عنها فجعلت أحتجّ بما لا يدفع فلا يقبله و يحكم لي الكتاب فلا يلتفت إلى حكمهم و يسمعني في خلال ذلك بدعا من الكلام ، إلى أن أوجب عليّ الكتّاب اليمين على باب من الأبواب فحلفت عليه

____________________

( ١ ) الوزراء و الكتاب للجهشياري : ٢٩ .

٣٩٠

فقال : ليست يمين السلطان عندك يمينا لأنّك رافضي فقلت له : تأذن في الدنو منك فاذن لي ، فقلت : ليس مع تعريضك بمهجتي للقتل صبر و هاهو المتوكل ان كتبت إليه بما أسمع منك لم آمنه على نفسي ، و قد احتملت كلّ ما جرى سوى الرفض ، و الرافضي من زعم أنّ عليّاعليه‌السلام أفضل من العباس و أنّ ولدهعليهم‌السلام أحقّ بالخلافة من ولد العباس قال : و من ذلك ؟ قلت : أنت و خطك عندي به و أخبرته بالشعر فو اللّه ما هو إلاّ أن قلت ذلك له حتى سقط في يده ،

ثم قال : أحضر الدفتر الذي بخطي فقلت له : هيهات ، لا و اللّه أو توثق لي بما أسكن إليه أنّك ، لا تطالبني بشي‏ء ممّا جرى على يدي و تخرق هذه المؤامرة و لا تنظر لي في حساب فحلف لي على ذلك ، و خرق العمل المعمول و أحضرته الدفتر فوضعه في خفّه و انصرفت و قد زالت عني المطالبة١ .

السادس : في ( تاريخ بغداد ) : لمّا عزل شريك عن القضاء تعلّق به رجل ببغداد فقال : لي عليك ثلاثمائة درهم فأعطنيها قال : و من أنا ؟ قال : شريك القاضي قال : و من أين هي لك ؟ قال : ثمن هذا البغل الذي تحتك قال : نعم تعال .

فجاء يمشي معه حتى بلغ الجسر قال : من ههنا فقام إليه الشرط فقال : خذوا هذا فاحبسوه لئن اطلقتموه لأخبرنّ أبا العباس فقالوا : إنّ هذا الرجل يتعلّق بالقاضي إذا عزل فيدعي عليه فيفتدى منه ، و قد تعلّق بسلمة الأحمر حين عزل عن واسط فأخذ منه أربعمائة درهم فقال : هكذا قالوا : نعم فكلّم فيه ، فأبى أن يطلقه فقال له أبو العباس : إلى كم تحبس هذا الرجل ؟ قال : حتى يرد على سلمة الأحمر أربعمائة درهم فردّ على سلمة أربعمائة ، فجاء سلمة إلى شريك فشكر له فقال له : يا ضعيف كلّ من سألك مالك أعطيته إيّاه٢ .

____________________

( ١ ) المروج ٤ : ٢٣ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ، لم نعثر عليه في ترجمة شريك بن عبد اللّه القاضي ٩ : ٢٧٩ و ما بعده .

٣٩١

السابع : في ( نسب قريش مصعب الزبيري ) : كان عبد الملك غضب غضبة فكتب إلى هشام بن اسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة عامله على المدينة و أبو أمّ ابنه هشام أن أقم آل علي يشتمونه و آل ابن الزبير يشتمون ابن الزبير فأبى الجميع و كتبوا وصاياهم فركبت أخت له إليه و قالت : فان كان لابد من أمر فمر آل علي يشتمون آل الزبير و مر آل الزبير يشتمون آل علي قال : هذه أفعلها فاستبشر الناس بذلك إلى أن قال بعد إباء الحسن بن الحسن لشتم آل الزبير و قبول أبي هاشم بن محمد بن الحنفية لذلك و عدم حضور عامر بن عبد اللّه بن الزبير لذلك حتى قيل لهشام إنّه لا يفعل أتقتله ؟ و قال عامر : إنّ بني أمية يغرون بشتم علي و ما يريد اللّه بذلك إلاّ رفعته ،

فإن اللّه لم يرفع شيئا فاستطاع أحد خفضه فقدم ثابت بن عبد اللّه بن الزبير و كان غائبا و هو ابن خالة الحسن بن الحسن على هشام و قال له : كنت غائبا فاجمع لي الناس آخذ بنصيبي فقال له هشام : و ما تريد فلود من حضر أنّه لم يحضر قال : لتفعلن أو لأكتبن إلى عبد الملك ، فجمع له الناس فقام فقال :لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ١ إلى أن قال لعن اللّه الأشدق لطيم الشيطان المتمني ما ليس له هو أقصر ذراعا و أضيق باعا ، ألا لعن اللّه الأحول الأثعل المترادف الأسنان المتوثب في الفتنة و ثوب الحمار المقيد محمد بن أبي حذيفة رامي أمير المؤمنين برؤوس الافانين ، ألا لعن اللّه عبيد اللّه الأعور بن عبد الرحمن بن سمرة شرّ العصاة اسما و ألأمها مرعا و أقصرها فرعا لعنه اللّه و لعن التي تحته يعرض بأمّ هشام بن اسماعيل و كان عبيد اللّه خلف عليها بعد اسماعيل

____________________

( ١ ) المائدة : ٧٨ ٧٩ .

٣٩٢

فلما بلغ ثابت هذا القول أمر به هشام إلى الحبس و قال : ما أراك تشتم إلاّ رحم .

الخليفة فقال له ثابت : إنّهم عصاة مخالفون فدعني حتى أشفي الخليفة منهم ،

فلم يزل ثابت في السجن حتى بلغ خبره عبد الملك فكتب أن اطلقوه فإنّه إنّما شتم أهل الخلاف١ .

قلت : إنّ ثابتا لعن محمد بن أبي حذيفة لكونه من بني عبد شمس ،

و مراده بوثوبه في الفتنة إنكاره على عثمان بدعه و إعلانه شنائعه ، كان من الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر حقّا حتى قتلوه على ذلك فكان ثابت أولى باللعن منه .

٨ الحكمة ( ١٥٩ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ اَلتُّهَمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ اَلظَّنَّ أقول : رواه ( الكافي ) عن السكوني عن الصادقعليه‌السلام عنهعليه‌السلام ٢ ، و رواه أمالي الصدوق٣ عن أبي الجارود عن أبي جعفر عن أبيه عنهعليهم‌السلام ، و روى ( الاختصاص ) عن أبي الجارود قال : قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « من أوقف نفسه موقف التهمة فلا يلو من من أساء به الظنّ ، و من كتم سرّه كانت الخيرة بيده »٤ .

و روى ( أمالي ابن الشيخ ) عن العقيلي أنّهعليه‌السلام قال لابنه الحسن « و إيّاك و مواطن التهمة و المجلس المظنون به السوء ، فإنّ قرين السوء

____________________

( ١ ) نسب قريش : ٤٧ ٤٩ بتصرف .

( ٢ ) الكافي للكليني ٨ : ٥٢ ح ١٣٧ .

( ٣ ) الأمالي للصدوق : ١٨٢ ، رواه مسندة .

( ٤ ) الاختصاص : ٢٢٦ .

٣٩٣

يغرّ جليسه »١ .

و في ( المستطرفات ) عن جامع البزنطي عن الصادقعليه‌السلام : اتقوا مواقف الريبة ، و لا يقفن أحدكم مع أمه في الطريق فإنّه ليس كلّ أحد يعرفها٢ .

و قال ابن أبي الحديد : رأى بعض الصحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا في درب من دروب المدينة و معه امرأة فسلّم عليه فرد عليه ، فلما جاوزه ناداه فقال : هذه زوجتي فلانة فقال : أو فيك يظن ؟ فقال : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم٣ .

قلت : إنّما روى ( سنن أبي داود ) في باب ( المعتكف يدخل البيت ) عن صفية أتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أزوره ليلا و كان معتكفا فحدّثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرعا فقال :

على رسلكما إنّها صفية بنت حي قالا : سبحان اللّه يا رسول اللّه قال : إنّ الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا٤ .

٩ الحكمة ( ٤٠١ ) و قالعليه‌السلام :

مُقَارَبَةُ اَلنَّاسِ فِي أَخْلاَقِهِمْ أَمْنٌ مِنْ غَوَائِلِهِمْ أقول : و عنهعليه‌السلام : إنّ أحسن ما يألف به الناس قلوب أودّائهم و نفوا به الضغن عن قلوب أعدائهم ، حسن البشر عند لقائهم و التفقد عنهم في غيبتهم

____________________

( ١ ) الأمالي للمفيد : ٣٣٥ .

( ٢ ) المستطرفات لابن إدريس : ٦٢ ورد بلفظ « الريب » و ليس « الريبة » ، عنه في البحار ٧٥ : ٩١ ، و الوسائل ٨ : ٤٢٣ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ٣٨٠ .

( ٤ ) السنن لأبي داود ٢ : ٣٣٣ ح ٢٤٧٠ .

٣٩٤

و البشاشة عند حضورهم١ .

قلت : و كأن « و البشاشة . » كان نسخة بدلية من « حسن البشر . » مع التقديم و التأخير .

و في ( المعجم ) : كان الواثق يجري على المازني كلّ شهر مائة دينار لأنّه أجاب في قوله تعالى .و ما كانت أمّك بغيّا ٢ لم لم يقل « بغيّة » جوابا صحيحا قال المازني : و لما مات الواثق ذكرت للمتوكل فأشخصني فلما دخلت إليه رأيت من العدّة و السلاح و الأتراك ما راعني و الفتح بن خاقان بين يديه ، و خشيت إن سئلت عن مسألة ألا أجيب فيها ، فلما مثلت بين يديه و سلّمت قلت : أقول كما قال الاعرابي :

لا تقولواها و أدلواها دلوا

إنّ مع اليوم أخاه غدوا

فلم يفهم عني ما أردت و استبردت فأخرجت و القلو رفع السير و الدلو إدناؤه ثم دعاني بعد ذلك فقال : انشدني أحسن مرثية قالت العرب فأنشدته قول أبي ذؤيب « أمن المنون و ريبها تتوجّع » و قصيدة متمم « لعمري و ما دهري بتأبين هالك » و قول كعب الغنوي « تقول سليمى ما لجسمك شاحبا » و قصيدة محمد بن مناذر « كل حيّ لاقى الحمام يودى » فكان كلّما أنشدته قصيدة يقول ليست بشي‏ء ثم قال : من شاعركم اليوم بالبصرة ؟ قلت : عبد الصمد بن المعذل قال : فأنشدني له فأنشدته أبياتا قالها في قاضينا ابن رباح :

أيا قاضية البصرة

قومي فارقصي قطرة

و مري بروشنك فما ذا

البرد و الفترة

اراك قد تثيرين

عجاج القصف يا حرّة

____________________

( ١ ) بحار الأنوار ٧٨ : ٥٧ ح ١٢٤ الباب ( ١٦ ) .

( ٢ ) مريم : ٢٨ .

٣٩٥

بتجذيفك خديك

و تجعيدك للطرة

فاستحسنها و استطار لها و أمر لي بجائزة ، فجعلت أتعمل له أن احفظ أمثالها فأنشده إذا وصلت إليه فيقبلني١ .

و في ( تاريخ بغداد ) : شهد أبو دلامة عند ابن أبي ليلى لامرأة على حمار هو و رجل آخر من أصحاب القاضي ، فعدل الرجل و لم يعدل أبا دلامة و قال للمرأة زيديني شاهدا ، فأتت أبا دلامة فأخبرته ، فأتى ابن أبي ليلى فأنشده :

إن الناس غطوني تغطيت عنهم

و إن بحثوا عني ففيهم مباحث

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم

ليعلم قومي كيف تلك النبائث

فقال ابن أبي ليلى : أجزنا شهادتك يا أبا دلامة و بعث إلى المرأة و قال لها : كم ثمن حمارك ؟ قالت : أربعمائة فأعطاه أربعمائة٢ .

و أيضا : قدم مؤمل بن إهاب الرملة فاجتمع عليه أصحاب الحديث و كان ذعرا ممتنعا فألحّوا عليه فامتنع أن يحدّثهم ، فمضوا بأجمعهم و ألفّوا منهم فئتين فتقدّموا إلى السلطان فقالوا له : إنّ لنا عبدا خلاسيا له علينا حق صحبة و تربية و قد كان أدّبنا و أحسن لنا التأدّب و آلت بنا الحال إلى الإضافة بحمل المجرة و طلب الحديث ، و إنا أردنا بيعه فامتنع علينا فقال لهم السلطان :

و كيف أعلم صحّة ما ذكرتم ؟ قالوا : إنّ معنا بالباب جماعة من حملة الآثار و طلاّب العلوم و ثقات الناس يكتفي بالنظر إليهم دون المسألة عنهم و هم يعلمون ذلك ، فتأذن بوصولهم إليك لتسمع منهم فأدخلهم السلطان و سمع مقالتهم و وجّه خلف ( مؤمل ) بالشرط و الأعوان يدعونه إلى السلطان ، فتعذّر فجذبوه و جرروه و قالوا : أخبرنا أنّك قد استطعمت الإباق فصار معهم إلى

____________________

( ١ ) المعجم ٧ : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ بغداد ٨ : ٤٩٠ .

٣٩٦

السلطان ، فلما دخل عليه قال له : ما يكفيك ما أنت فيه من الاباق حتى تتعزز على سلطانك ؟ امضوا به إلى الحبس فحبس ، و كان مؤمل من هيئته أنّه أصفر طوال خفيف اللحية يشبه عبيد أهل الحجاز ، فلم يزل في حبسه أيّاما حتى علم بذلك جماعة من اخوانه فصاروا إلى السلطان و قالوا : هذا في حبسك مظلوم .

فقال لهم : و من ظلمه ؟ قالوا : أنت قال : ما أعرف من هذا شيئا قالوا : الشيخ الذي اجتمع عليه جماعة فقال : ذاك العبد الآبق فقالوا : ما هو بآبق بل هو إمام من أئمة المسلمين في الحديث فأمر بإخراجه و سأله عن حاله فأخبره كما أخبره الذين جاؤوا يذكرون له حاله ، فصرفه و سأله أن يحلّه ، فلم ير مؤمل بعد ذلك ممتنعا امتناعه الأول١ .

أيضا : قدم شريك القاضي البصرة فأبى أن يحدّثهم ، فاتبعوه حين خرج و جعلوا يرمونه بالحجارة .

في ( الجهشياري ) : كان يحيى البرمكي إذا رأى من الرشيد شيئا ينكره لم يستقبله بالإنكار و ضرب له الأمثال و حكى له عن الملوك و الخلفاء ما يوجب مفارقة ما أنكره و يقول « في النهي إغراء و هو من الخلفاء أحرى ، فإنّك و إن لم تقصد إغراءه إذا نهيته أغريته »٢ .

و في ( المروج ) : إنّ الأمين لما حلف للرشيد بما حلف له به أي فيما عهد إليه أبوه في أخيه و أراد الخروج من الكعبة ردّه جعفر البرمكي و قال له : فان غدرت بأخيك خذلك اللّه حتى فعل ذلك ثلاثا فاضطغنت بذلك أم الأمين على جعفر ، فكانت أحد من حرّض الرّشيد عليه و على ما نزل به .

____________________

( ١ ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ١٣ : ١٨٢ .

( ٢ ) الجهشياري : ٢٠٣ .

٣٩٧

و من لا يصانع في امور كثيرة

يضرس بأنياب و يوطأ بمنسم١

و في ( بيان الجاحظ ) : قال الشاعر :

تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم

و لا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل

فإنّي رأيت المرء يشقى بعقله

كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل٢

و قال آخر :

و أنزلني طول النوى دار غربة

إذا شئت لا قيت امرأ لا أشاكله

فحامقته حتى يقال سجيّة

و لو كان ذا عقل لكنت اعاقله٣

و أنشدني آخر :

و للدهر أيام فكن في لباسه

كلبسته يوما أجدّ و أخلقا

و كن أكيس الناس إذا كنت فيهم

و إن كنت في الحمقى فكن أنت أحمقا٤

و قال شاعر :

إن تلقك الغربة في معشر

قد أجمعوا فيك على بغضهم

فدارهم ما دمت في دارهم

و أرضهم ما دمت في أرضهم

و قال حمد الخطابي :

ما دمت حيّا فدار الناس كلهم

فانّما أنت في دار المداراة

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٥٤ .

( ٢ ) بيان الجاحظ ١ : ٢٤٥ مع تغيير .

( ٣ ) المصدر نفسه ٤ : ٢١ .

( ٤ ) بيان الجاحظ ٤ : ٢١ .

٣٩٨

إنّ من يدر دارى و من لم يدر سوف يرى

عمّا قليل نديما للندامات١

١٠ الحكمة ( ٣٦٢ ) و قالعليه‌السلام :

مَنْ ضَنَّ بِعِرْضِهِ فَلْيَدَعِ اَلْمِرَاءَ أقول : في ( الكافي ) : عن الصادقعليه‌السلام : قال جبرئيل للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : إيّاك و ملاحاة الرجال٢ .

و عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : إيّاكم و المراء و الخصومة ، فانّهما يمرضان القلوب على الاخوان و ينبت عليها النفاق٣ .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاث من لقى اللّه تعالى بهنّ دخل الجنّة من أي باب شاء : من حسن خلقه ، و خشى اللّه في المغيب و المحضر ، و ترك المراء و إن كان محقّا٤ .

هذا ، و في ( كتاب سيبويه ) : « إيّاك الأسد » لا يجوز بدون واو بينهما و عن ابن أبي إسحاق جوازه في الشعر لقوله :

إيّاك إياك المراء فإنّه

إلى الشرّ دعّاء و للشّرّ جالب٥

____________________

( ١ ) معجم الادباء ١٠ : ٢٧٢ .

( ٢ ) الكافي ٢ : ٣٠١ ح ٦ .

( ٣ ) الكافي ٢ : ٣٠٠ ح ١ .

( ٤ ) الكافي ٢ : ٣٠٠ ح ٢ .

( ٥ ) الكتاب ، لسيبويه ١ : ٢٧٩ .

٣٩٩

الفصل السادس و الاربعون في الاصدقاء

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617