بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194172 / تحميل: 7310
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

معاوي ان تأتنا مزبدا

بخضرية تلق رجراجه

أسنتها من دماء الرجال

إذا جالت الخيل مجاجه

فوارسها كأسود الضراب

إلى اللّه في القتل محتاجه

و ليست لدى الموت و قافة

و ليست لدى الخوف فجاجه

و ليس لهم غير جدّ اللقاء

إلى طول أسيافهم حاجه

خطاهم مقدم أسيافهم

و أذرعهم غير اخداجه

و عندك من وقعهم مصدق

و قد أخرجت أمس اخراجه

فشنت عليهم ببيض السيوف

بها فقع لجاجه

فقال أهل الشام له : يا أخي بني الحارث اروناها فانّها جيدة فأعادها عليهم حتى رووها١ .

« و اعلموا أنّكم بعين اللّه و مع ابن عم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله » في ( صفين نصر ) : قال قيس بن سعد بن عبادة لأصحابه في خطبته في صفين : أنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبرئيل و عن يساره ميكائيل ، و القوم مع لواء أبي جهل و الأحزاب٢ .

و في ( العقد ) : في وفود ام سنان المذحجية أنّها قالت في صفين :

يا آل مذحج لا مقام فشمّروا

ان العدو لآل أحمد يقصد

هذا عليّ كالهلال تحفّه

وسط السماء من الكواكب أسعد

خير الخلائق و ابن عم محمد

ان يهدكم بالنور منه تهتدوا

ما زال مذ شهد الحروب مظفّرا

و النصر فوق لوائه ما يفقد٣

____________________

( ١ ) صفين ، لنصر بن مزاحم : ٤٥٤ .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٤٤٦ .

( ٣ ) العقد الفريد ٢ : ١٠٩ .

٥٢١

« فعاودوا الكر و استحيوا من الفر » في ( العقد ) في وفود ام الخير بنت حريش على معاوية ، التفت معاوية إلى جلسائه فقال : أيّكم يحفظ كلامها يوم صفين لما قتل عمار ؟ فقال رجل : أنا أحفظ بعض كلامها قال : هات قال : كأني بها بين بردين زئبرين كثيفي النسيج ، و هي على جمل أرمك و بيدها سوط منتشر الضفيرة ، و هي كالفحل يهدر في شقشقته تقول : أيّها الناس اتقوا ربّكم إلى أن قال فأين تريدون ، أفرارا عن أمير المؤمنين أم رغبة عن الاسلام ،

هلموا إلى الامام العادل و الوصي التقي و الصديق الأكبر ، انّها إحن بدرية و أحقاد جاهلية ، فإلى أين تريدون عن ابن عم رسول اللّه و صهره و أبي سبطيه الذي خلق من طينته و تفرّع من نبعته و جعله باب دينه و أبان ببعضه المنافقين ، و ها هو ذا مفلق الهام و مكسّر الأصنام صلّى و النّاس مشركون و أطاع و الناس كارهون ، فلم يزل في ذلك حتى قتل مبارزيه و أفنى أهل أحد و هزم الأحزاب و قتل اللّه به أهل خيبر و فرّق به جمع أهوائهم ، فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقا و ردة و شقاقا و زادت المؤمنين ايمانا١ .

« فإنّه عار في الأعقاب فالناس يعيرون بفعال آبائهم و امهاتهم » ففي ( مقاتل الطالبيين ) : أرسل معاوية إلى ابنة الأشعث ، اني مزوّجك بيزيد ابني على أن تسمّي الحسن بن علي ، و بعث إليها بمائة ألف درهم ، فسوّغها المال و لم يزوّجها منه فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها ، فكان إذا وقع بينهم و بين بطون قريش كلام عيّروهم و قالوا : يا بني مسمّة الأزواج٢ .

و في ( الطبري ) : قال هشام بن عمرو التغلبي للمنصور : انصرفت إلى منزلي فلقيتني اختي فرأيت من جمالها و عقلها و دينها ما رضيتها للخليفة

____________________

( ١ ) بن عبد ربه : العقد الفريد ٢ : ١١٦ .

( ٢ ) أبو الفرج الاصفهاني : مقاتل الطالبيين : ٤٦ .

٥٢٢

فجئت لأعرضها عليه ، فأطرق المنصور و جعل ينكت الأرض بخيزرانة في يده و قال : اخرج يأتك أمري فلما ولى قال : يا ربيع لو لا بيت قاله جرير في بني تغلب لتزوّجت أخته ، و هو قول جرير :

لا تطلبن خؤولة في تغلب

فالزنج أكرم منهم أخوالا

فأخاف أن تلد لي ولدا

فيعيّر بهذا البيت١ .

و في ( كامل المبرد ) : لمّا رأى أبو بلال مرداس و كان لا يرى الخروج جد ابن زياد في طلب الشراة عزم على الخروج ، فقال لأصحابه : انّه و اللّه ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين ، تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفصل و اللّه ان الصبر على هذا لعظيم و ان تجريد السيف و اخافة السبيل لعظيم ، و لكنّا ننتبذ عنهم و لا نجرّد سيفا و لا نقاتل إلاّ من قاتلنا .

ثم مضى حتى نزل آسك بين رامهرمز و ارجان فجهّز ابن زياد اسلم بن زرعة في ألفين و وجّهه إليه و قد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا ، فلما صار إليهم أسلم صاح به أبو بلال : انّا لا نريد قتالا و لا نحتجن فيئا ، فما الذي تريد ؟ قال : اريد أن أردكم إلى ابن زياد قال مرداس : اذن يقتلنا قال : و ان ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد ، فانهزم هو و أصحابه من غير قتال ، فلما ورد أسلم على ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا و قال : ويلك تمضي في ألفين فتنهزم لحمة أربعين٢ .

و كان أسلم يقول : لأن يذمّني ابن زياد حيّا أحبّ إليّ من أن يمدحني ميّتا .

و كان إذا خرج إلى السوق أو مرّ بصبيان صاحوا به : أبو بلال و راك ،

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٢٩٠ .

( ٢ ) ابو العباس المبرد ٣ : ٩٩١ .

٥٢٣

و ربما صاحوا به : يا معبد خذه كان معبد أحد أصحاب أبي بلال كاد أن يأخذه لما انهزم مبرّد فشكا ذلك إلى ابن زياد فأمر الشرط أن يكفّوا الناس عنه ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك من الشراة :

أ ألفا مؤمن فيما زعمتم

و يهزمهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس كما زعمتم

و لكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك

على الفئة الكثيرة ينصرونا١

« و نار يوم الحساب » قال ابن أبي الحديد و الجهاد مع الإمام كالجهاد مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ٢ ، و قال تعالىفي الفرار عن الجهاد مع النبي و من يولهم يومئذ دبره الاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأواه جهنّم .٣ .

قلت : و قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و آله مأمورا بجهاد الكفّار و المنافقين في قوله تعالى لهيا أيها النبي جاهد الكفّار و المنافقين .٤ و تصدّى للجهاد مع الكفار بنفسه ، و فوّض جهاد المنافقين إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام لكونه كنفسه .

« و طيبوا عن أنفسكم نفسا » يعني : طيبوا نفسا في قتل نفوسكم في سبيل اللّه لأنّه يبدل بحياة طيبة ، قال تعالىو لا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون ٥ .

و في ( الطبري ) : لما خطب الحسينعليه‌السلام أصحابه بذي حسم بعد ورود الحر قام زهير بن القين و قال : و اللّه لو كانت الدنيا لنا باقية و كنّا فيها مخلدين

____________________

( ١ ) أبو العباس المبرد : الكامل ٣ : ٩٩٥ .

( ٢ ) شرح ابن ابي الحديد ٥ : ١٧٤ .

( ٣ ) الأنفال : ١٦ .

( ٤ ) التوبة : ٧٣ .

( ٥ ) آل عمران : ١٦٩ .

٥٢٤

الا ان فراقها في نصرك و مواساتك لآثرنا الخروج معك١ .

« و امشوا إلى الموت مشيا سجحا » بتقديم الجيم على الحاء ، أي : سهلا .

و في ( صفين نصر ) : قال عتبة بن جويرية يوم صفين : ألا ان مرعى الدنيا قد أصبح شجرها هشيما و أصبح زرعها حصيدا و جديدها سملا و حلوها مرّ المذاق ، ألا و اني انبئكم نبأ امرئ صادق اني سئمت الدنيا و عزفت نفسي عنها و قد كنت أتمنى الشهادة و أتعرّض لها في كلّ حين فأبى اللّه إلاّ أن يبلغني في هذا اليوم ، ألا و اني متعرّض ساعتي هذه لها و قد طمعت ان لا احرمها ، فما تنتظرون عباد اللّه من جهاد أعداء اللّه ، أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بأنفسكم لا محالة أو من ضربة كف أو جبين بالسيف ، أتستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه اللّه عز و جل أو مرافقة النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين في دار القرار ؟ ما هذا بالرأي السديد ، يا إخوتاه اني قد بعت هذه الدار بالتي امامها ، و هذا وجهي إليه لا يبرح اللّه وجوهكم و لا يقطع اللّه أرحامكم .

فتبعه أخواه عبيد اللّه و عوف و قالا : لا نطلب رزق الدنيا بعدك ، قبّح اللّه العيش بعدك ، اللّهم انّا نحتسب أنفسنا عندك فاستقدموا فقاتلوا حتى قتلوا٢ .

و في خطبة الأشتر في صفين : ان هؤلاء القوم و اللّه لن يقاتلوكم إلاّ عن دينكم ليطفئوا السنّة و يحيوا البدعة ، و يدخلوكم في أمر قد أخرجكم اللّه منه بحسن البصيرة ، فطيبوا عباد اللّه نفسا بدمائكم دون دينكم .٣ .

« و عليكم بهذا السواد الأعظم » و كان الأشتر أيضا يحرّض و يقول : عليكم

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ٣٠٥ .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٦٣ .

( ٣ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٥٠ .

٥٢٥

بهذا السواد الأعظم ، فان اللّه عز و جل لو قد فضّه تبعه من بجانبيه كما يتبع مؤخر السيل مقدّمه١ .

« و الرواق المطنب » في ( صفين نصر ) : نصب لمعاوية منبر ، فقعد عليه في قبّة ضربها ألقي عليها الثياب و الأرائك و أحاط به أهل يمن و قال : لا يقربن أحد هذا المنبر لا تعرفونه إلا قتلتموه كائنا من كان ، و كان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهّب يستره من الشمس٢ .

و لقد قصد رواق معاوية جمع من أصحابهعليه‌السلام كما أمرهم لكن لم يكن طيه مقدرا ، فممن قصده أبو شداد قيس بن المكشوح ، ففي ( صفين نصر ) :

قالت بجيلة له : خذ رايتنا فقال : غيري خير لكم مني قالوا : لا نريد غيرك قال :

فو اللّه لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب فقالوا :

اصنع ما شئت فأخذها ثم زحف بها و هم حوله يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس فاقتتلوا هنا لك قتالا شديدا و شدّ بسيفه نحو صاحب الترس ، فعرض له رومي من دونه لمعاوية فضرب قدم أبي شدّاد فقطعها ،

و ضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله ، و أسرعت إلى أبي شداد الأسنّة فقتل .

فأخذ الراية بعده عبد اللّه بن قلع الأحمسي و قال :

لا يبعد اللّه أبا شداد

حيث أصاب دعوة المنادي

و شدّ بالسيف على الأعادي

نعم الفتى كان له الطراد

و في طعان الخيل و الجلاد

ثم قاتل حتى قتل ، فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع ، فقاتل حتى قتل ، ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي ، فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس .

____________________

( ١ ) المصدر نفسه .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٥٨ .

٥٢٦

و منهم عكبر بن جدير الأسدي و كان فارس أهل الكوفة الذي لا ينازع فلما نادى عوف بن مجزأة المرادي الذي كان فارس أهل الشام لا ينازع هل من مبارز ؟ خرج إليه عكبر فطعن عوفا فصرعه و معاوية على التل في اناس من قريش و غيرهم ، فوجّه عكبر فرسه فملا فروجه ركضا يضربه بالسوط مسرعا نحو التل ، فنظر إليه معاوية فقال : ان هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن فاسألوه فناداه رجل فلم يجبه حتى انتهى إلى معاوية و جعل يطعن في أعراض الخيل و رجا أن يفردوا له معاوية ، فقتل رجالا و قام القوم دون معاوية بالسيوف و الرماح ، فلما لم يصل إلى معاوية نادى :

أولى لك يابن هند

أنا الغلام الأسدي

فرجع إلى علي فقالعليه‌السلام : ما ذا دعاك يا عكبر إلى ما صنعت ؟ قال : أردت غرة ابن هند و انكسر أهل الشام لقتل المرادي و هدر معاوية دم عكبر فقال عكبر : يد اللّه فوق يد معاوية١ .

و منهم عبد اللّه بن بديل الخزاعي ، ففي ( صفين نصر ) : قال الشعبي : كان على ابن بديل سيفان و درعان ، فجعل يضرب الناس بسيفه قدما و هو يقول :

لم يبق إلاّ الصبر و التوكل

و أخذك الترس و سيفا مصقل

ثم التمشي في الرعيل الأول

مشي الجمال في حياض المنهل

و اللّه يقضي ما يشا و يفعل

و لم يزل يضرب بسيفه حتى انتهى إلى معاوية ، فأزاله عن موقفه و جعل ينادي : يا آل ثارات عثمان يعني أخا له كان قتل فظن معاوية و أصحابه انّه يعني عثمان بن عفان حتى أزال معاوية عن موقفه ، فأقبل أصحابه على ابن بديل يرضخونه بالصخر حتى أثخنوه و قتل ، و أقبل إليه

____________________

( ١ ) نصر بن مزاحم : وقعة صفين ٢٥٨ .

٥٢٧

معاوية و معه عبد اللّه بن عامر و كان لابن بديل أخا و صديقا فألقى ابن عامر عمامته على وجهه و ترحّم عليه ، فقال له معاوية : اكشف عن وجهه فقال له ابن عامر : و اللّه لا يمثل به و فيّ الروح فقال له معاوية : اكشف عن وجهه قد وهبته لك ، فكشف فلما رآه معاوية قال : هذا كبش القوم و ربّ الكعبة ، و ما مثله إلاّ كما قال الشاعر :

أخو الحرب ان عضّت به عضّها

و ان شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

و يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه

لدى الشتر يحمي الأنف ان يتأخرا

كليث هزبر كان يحمى ذماره

رمته المنايا قصدها فتفطرا

لو قدرت نساء خزاعة على أن يقاتلنني لفعلن فضلا عن رجالها١ .

و منهم أخوان من الأنصار ، ففي ( صفين نصر ) : حمل غلامان من الأنصار أخوان حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده٢ .

و منهم رجل آخر ، ففيه قال رجل من أصحاب عليعليه‌السلام : أما و اللّه لأحملن على معاوية حتى أقتله ، فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه ثم دفعه فلم ينهنهه شي‏ء عن الوقوف على رأس معاوية ، فهرب معاوية و دخل خباء ،

فنزل الرجل عن فرسه و دخل عليه ، فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر ،

فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس ، فأحاطوا به و حالوا بينهما ،

فقال معاوية : و يحكم ان السيوف لم يؤذن لها في هذا و لو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة ، فرضخوه حتى همد فعاد معاوية إلى مجلسه٣ .

و منهم سبعة آلاف من ربيعة التي كانعليه‌السلام يمدحها و يقول فيهم

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٤٥ .

( ٢ ) المصدر نفسه : ٤٢٥ ( طبعة القاهرة ) .

( ٣ ) المصدر نفسه : ٢٧٠ .

٥٢٨

« ربيعة السامعة المطيعة » الاّ انّهم لم يظفروا لغدر أميرهم خالد بن المعمر ،

أطمعه معاوية و خيّب اللّه رجاءه ففي ( صفين نصر ) : تبايع سبعة آلاف من ربيعة و تحالفت بالأيمان العظيمة على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يردوا سرادق معاوية ، فأقبلوا نحوه فلما نظر إليهم معاوية قال :

إذا قلت قد ولّت ربيعة أقبلت

كتائب منها كالجبال تجالد

و قال لعمرو : ما ترى ؟ قال : ان تخلّي سرادقك اليوم فقام معاوية و خلّى لهم سرادقه و رحله ، و خرج فارا عنه ببعض مضارب أهل الشام في أخريات الناس ، فانتهت ربيعة إلى سرادقه و رحله و بعث معاوية إلى خالد بن المعمر انّك قد ظفرت و لك إمرة خراسان ان لم تتمّ ، فقطع خالد القتال و لم يتمّه و قال لربيعة قد برّت أيمانكم فحسبكم ، فلما كان عام الجماعة أمّره معاوية على خراسان فمات قبل أن يبلغها ١ .

« فاضربوا ثبجه » بالفتح أي : وسطه .

« فان الشيطان » و المراد به معاوية .

« كامن » أي : مختف .

« في كسره » بكسره أي أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر جانباه من عن يمينك و يسارك .

« قد قدم للوثبة » أي : المساورة إلى قدام .

« يدا و أخّر للنكوص » أي : الرجوع إلى العقب .

« رجلا » قد عرفت ان من يقصد رواقه يهرب منه في خباء إلى خباء و يعمل حيلة لدفعه .

و برز يوما في قبال سعيد بن قيس ثم فر منه و ركض فرسه ،

____________________

( ١ ) وقعة صفّين لنصر بن مزاحم : ٣٠٦ .

٥٢٩

فقال سعيد :

يا لهف نفسي فاتني معاوية

فوق طمر كالعقاب هاوية

و قال أيمن بن خريم و كان أنسك رجل من أهل الشام و أشعره و كان في ناحية معتزلا :

و ان سعيدا إذ برزت لرمحه

لفارس همدان الذي يشعب الصدعا

ملي‏ء بضرب الدارعين بسيفه

إذا الخيل أبدت من سنابكها نقعا

رجعت فلم تظفر بشي‏ء أردته

سوى فرس أعيت و أبت بها طلعا

« فصمدا صمدا » بالتسكين أي : قصدا قصدا ، و اما بالتحريك فهو : السيد الذي يقصد إليه في الحوائج .

« حتى ينجلي عمود الحق و أنتم الأعلون و اللّه معكم و لن يتركم أعمالكم » في ( الصحاح ) : « و لن يتركم أعمالكم » أي : لن ينتقصكم في أعمالكم كما تقول « دخلت البيت » و أنت تريد دخلت في البيت١ .

و قولهعليه‌السلام « و أنتم الأعلون و اللّه معكم و لن يتركم أعمالكم » لفظ القرآن ،

قال تعالى :فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون و اللّه معكم و لن يتركم أعمالكم ٢ .

في ( صفين نصر ) : ركب عليعليه‌السلام بغلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الشهباء ، ثم تعصّب بعمامة النبي السوداء ، ثم نادى : أيها الناس من يشري نفسه للّه بربح ، هذا يوم له ما بعده ، ان عدوّكم قد قرح كما قرحتم .

فانتدب له ما بين العشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا وضعوا سيوفهم على عواتقهم و تقدّمهم عليعليه‌السلام منقطعا على بغلة النبي و هو يقول :

____________________

( ١ ) الصحاح للجوهري ٢ : ٨٤٣ .

( ٢ ) محمّد : ٣٥ .

٥٣٠

دبّوا دبيب النمل لا تفوتوا

و أصبحوا بحربكم و بيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا

أو لا فإنّي طالما عصيت

قد قلتم لو جيتنا فجيت

ليس لكم ما شيتم و شيت

بل ما يريد المحيي المميت

فتبعه عدي بن حاتم بلوائه و هو يقول :

أ بعد عمار و بعد هاشم

و ابن بديل فارس الملاحم

نرجو البقاء مثل حلم الحالم

و قد عضضنا أمس بالأباهم

فاليوم لا نقرع سن نادم

ليس امرؤ من يومه بسالم

و تقدّم الأشتر و هو يقول :

حرب بأسباب الردى تأجج

يهلك فيها البطل المدجّج

يكفيك همدانها و مذحج

قوم إذا ما أحمشوها أنفجوا

روحوا إلى اللّه و لا تعرجوا

دين قويم و سبيل منهج

و حمل الناس حملة واحدة ، فلم يبق لأهل الشام صف إلاّ انتقض و اهمدوا ما أتوا عليه حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية ، و عليعليه‌السلام يضربهم بسيفه و هو يقول :

أضربهم و لا أرى معاوية

الأخزر العين العظيم الحاوية

هوت به في النار ام هاوية

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه ، فلما وضع رجله في الركاب تمثّل بأبيات عمرو بن الأطنابة :

أبت لي عفّتي و أبي بلائي

و أخذي الحمد بالثمن الربيح

و اعزامي على المكروه نفسي

و ضربي هامة البطل المشيح

و قولي كلّما جشأت و جاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

٥٣١

فثنى رجله من الركاب و نزل و استصرخ بعك و الأشعريين ، فجالدوا عنه . و انتهى إلى مكيدة عمرو في رفع المصاحف١ .

١٠ الخطبة ( ٢٣٩ ) و من كلام لهعليه‌السلام يحثّ أصحابه على الجهاد :

وَ اَللَّهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَ مُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ وَ مُمْهِلُكُمْ فِي مِضْمَارٍ مَمْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَهُ فَشُدُّوا عُقَدَ اَلْمَآزِرِ وَ اِطْوُوا فُضُولَ اَلْخَوَاصِرِ لاَ تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَ وَلِيمَةٌ مَا أَنْقَضَ اَلنَّوْمَ لِعَزَائِمِ اَلْيَوْمِ وَ أَمْحَى اَلظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ اَلْهِمَمِ وَ صَلَّى اَللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ اَلنَّبِيِ اَلْأُمِّيِ ، وَ عَلَى آلِهِ مَصَابِيحِ اَلدُّجَى وَ اَلْعُرْوَةِ اَلْوُثْقَى ، وَ سَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا أقول : هذا العنوان في نسخنا و في ( ابن ميثم ) آخر الخطب ( ٢٣٦ )٢ و لكن ابن أبي الحديد نقله بعد عنوان « قد أحيى عقله » ( ٢١٥ )٣ .

قول المصنّف : « و من كلام لهعليه‌السلام يحثّ أصحابه على الجهاد » هكذا في ( المصرية )٤ و فيه سقط ، ففي ( ابن ميثم ) : ( يحثّ فيه )٥ .

قولهعليه‌السلام « و اللّه مستأديكم » أي : طالب أدائكم .

« شكره » استأدى شكر عباده في آيات كثيرة .و اشكروا لي و لا تكفرون ٦ ، .و اشكروا للّه إن كنتم إيّاه تعبدون ٧ ، .ان اشكر لي

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٤٠٣ .

( ٢ ) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٤ : ٣٣٤ .

( ٣ ) شرح ابن ابي الحديد ١١ : ١٤٢ .

( ٤ ) الطبعة المصرية : ٥١٠ هكذا الاصل ص ١٨٧ .

( ٥ ) في ابن ميثم : ٤ : ٣٣٤ ذكره في خطبة : ٢٤٠ و ليس ٢٣٦ .

( ٦ ) البقرة : ١٥٢ .

( ٧ ) البقرة : ١٧٢ .

٥٣٢

و لوالديك إليّ المصير ١ ،و لقد آتينا لقمان الحكمة ان اشكر للّه و من يشكر فانّما يشكر لنفسه و من كفر فان اللّه غني حميد ٢ و عن الصادقعليه‌السلام : أو حى تعالى إلى موسىعليه‌السلام ان اشكر لي حقّ شكري قال : كيف و ليس شكر أشكرك به إلاّ و أنت أنعمت به علي ؟ قال : الآن شكرتني حين قلت ان ذلك مني٣ .

« و مورثكم أمره »وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم و ليمكنَّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم و ليبدّلنّهم من بعد خوفهم أَمنا .٤ .

« و يمهلكم في مضمار » في ( القاموس ) : تضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده إلى القوت و ذلك أربعين يوما ، و هذه المدّة تسمّى المضمار ،

و الموضع الذي يضمر فيه الخيل أيضا مضمار٥ .

« محدود » هكذا في ( المصرية )٦ و الصواب : « ممدود » كما في ( ابن ميثم و الخطية )٧ .

« لتتنازعوا سبقه » أي : سبق المضمار .فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم اللّه جميعاً .٨ ، .فاستبقوا الخيرات إلى اللّه مرجعكم

____________________

( ١ ) لقمان : ١٤ .

( ٢ ) لقمان : ١٢ .

( ٣ ) الكافي للكليني ٢ : ٩٨ رواية ٢٧ .

( ٤ ) النور : ٥٥ .

( ٥ ) الفيروز آبادي القاموس المحيط : ٥٥١ .

( ٦ ) الطبعة المصرية : ٥١٠ .

( ٧ ) ابن ميثم ٤ : ٣٣٤ بلفظ ( محدود ) اما النسخة الخطية : ٢٢٨ بلفظ ( محدود ) .

( ٨ ) البقرة : ١٤٨ .

٥٣٣

جميعاً .١ ،سابقوا إلى مغفرة من ربّكم و جنّة عرضها كعرض السماء و الأرض أُعدّت للذين آمنوا باللّه و رسله . .٢ .

« فشدوا عقد المآزر » .

قوم إذا ما حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النساء و لو باتت بأطهار

و في السير : لما بلغ المهلب خلع ابن الأشعث للحجاج لما أرسله إلى رتبيل في أهل العراق و رجوعهم إلى حربه ، كتب إليه ان أهل العراق قد أقبلوا إليك و هم مثل السيل ليس يردّهم شي‏ء حتى ينتهي إلى قراره ، و ان لأهل العراق شدّه في أوّل مخرجهم و صبابة إلى أبنائهم و نسائهم ، فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم و يشمّوا أولادهم ثم واقعهم فإنّك منصور فلما قرأ كتابه سبّه و قال : ما الي نظر بل لابن عمه يعني ابن الأشعث حيث ان كلاّ منهما كان يمنيا ثم سار الحجاج من البصرة ليلقي ابن الأشعث ، فنزل تستر و قدم بين يديه مقدمة إلى دجيل ، فلقوا عنده خيلا لابن الأشعث فانهزم أصحاب الحجاج و قتل جمع كثير منهم ، فرجع إلى البصرة فتبعه ابن الأشعث فقتل منهم و أصاب بعض أثقالهم ، فترك الحجاج البصرة لأهل العراق و أقبل حتى نزل الزاوية ، و لما رجع نظر في كتاب المهلب فقال : للّه درّه أي صاحب حرب هو٣ .

هذا و في ( الأغاني ) عن حمّاد الراوية دخلت يوما على الوليد و كان آخر يوم لقيته فاستنشدني فأنشدته كلّ ضرب من شعر الجاهلية و الاسلام فما هشّ لشي‏ء منه حتى أخذت في السخف ، فأنشدته لعماد بن كناذ :

اشتهى منك منك منك مكانا بجنب ذا

فأجي فيه فيه فيه بأير كمثل ذا

____________________

( ١ ) المائدة : ٤٨ .

( ٢ ) الحديد : ٢١ .

( ٣ ) الكامل في التاريخ لبن الأثير ٤ : ٤٦٤ ٤٦٥ .

٥٣٤

ليت أيري و حرك يوما جميعا تجابذا

فأخذ ذا بشعر ذا و أخذ ذا بقعر ذا

فضحك حتى استلقى و شرب حتى سكر ، فعلمت ان أمره قد أدبر ، ثم أدخلت على أبي مسلم فاستنشدني فأنشدته قول الأفوه إلى قوله :

تهدى الأمور بأهل الرشد ما صلحت

و ان تولّت فبالأشرار تنقاد

فقال : انا ذاك الذي تنقاد به الناس ، فأيقنت حينئذ أن أمره مقبل١ و فيه : لما ظهرت المسودة بخراسان كتب نصر بن سيار إلى الوليد يستمدّه ، فتشاغل عنه فكتب نصر إليه :

أرى خلل الرماد و ميض جمر

و أحر بأن يكون له ضرام

فان النار بالعودين تذكى

و ان الحرب مبدؤها الكلام

فقلت من التعجب ليت شعري

أ أيقاظ اميّة أم نيام

فكتب إليه الوليد : قد أقطعتك خراسان فاعمل لنفسك أو دع ، فانّي مشغول عنك بابن سريج و معبد و الغريض٢ .

و فيه قال أبو سفيان في غزوة سويق بعد بدر يحرّض قريشا :

ان يك يوم القليب كان لهم

فان ما بعده لكم دول

آليت لا أقرب النساء و لا

يمس رأسي و جلدي الغسل

حتى تبيدوا قبائل الأوس

و الخزرج ان الفؤاد مشتعل٣

و في ( الجزري ) : و قد بلغ من حزم عضد الدولة انّه تدلّه بفتاة ، فلما خشي على ملكه من تدلّهه بها أمر بتغريقها .

و لبعضهم :

____________________

( ١ ) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ٧ : ٥٦ ٥٧ .

( ٢ ) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ٧ : ٥٦ .

( ٣ ) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني ٦ : ٣٥٨ .

٥٣٥

و من كان بالبيض الكواعب مغرما

فما زلت بالبيض القواطع مغرما

و من تيمت سمر الحسان فؤاده

فما زلت بالسمر العوالي متيما١

« و اطووا فضول الخواصر » جمع الخصر ، أي وسط الإنسان ، و طي فضول الخواصر كناية عن عدم اهتمامهم بطعامهم و عدم كونهم عبيد بطونهم .

و في ( الكامل ) : لما ولّى المعتز يعقوب الصفار و علي بن شبل كرمان ليغلب أحدهما الآخر ، أقبل يعقوب نفسه و طوق بن المغلس من قبل علي بن شبل إليها و لم يقاتلا ، و ارتحل يعقوب بعد شهرين و أظهر الارتحال إلى سجستان ، فقعد طوق للأكل و الشرب و الملاهي و إذا هو بيعقوب قد طوى مرحلتين في يوم و رجع ، ففرّ أصحاب طوق و اسر طوق ، فنزع يعقوب خفّه فتساقط منه كسر خبز يابسة ، فقال : يا طوق هذا خفي لم أنتزعه منذ شهرين من رجلي و خبزي فيه آكل منه و أنت جالس في الشراب٢ .

« و لا » هكذا في ( المصرية )٣ و الصواب : « لا » كما في ( ابن ميثم ) لأنّه مستأنفة كالمثل لا عطف٤ .

« تجتمع عزيمة » ما صممت على فعله .

« و وليمة » في ( الجمهرة ) : الوليمة : طعام العرس ، و الوضيمة : طعام المأتم٥ .

في ( الكامل ) : مات يعقوب الصفار بجنديسابور من قولنج و كان

____________________

( ١ ) ابن الاثير الكامل في التاريخ لم نعثر عليه .

( ٢ ) الكامل ٧ : ١٩١ .

( ٣ ) الطبعة المصرية : ٥١٠ .

( ٤ ) ابن ميثم ٤ : ٣٣٤ بلفظ « لا » .

( ٥ ) ابن دريد ضمهرة اللغة ٢ : ٩٨٧ .

٥٣٦

المعتمد قد أرسل إليه رسولا يستميله و يقلّده أعمال فارس فجعل عنده سيفا و رغيفا من الخبز الخشكار و بصلا ، فقال لرسوله : قل له اني عليل ، فان متّ استرحت أنا و أنت و ان عوفيت فليس بيني و بينك إلاّ هذا السيف ، اما آخذ ثاري و اما أرجع إلى هذا الخبز و البصل١ .

« ما أنقض النوم لعزائم اليوم » كرّره المصنف في ( ٤٤٠ ٣ ) و كيف كان فهو كالمثل لحال كثير من الناس يمنعهم الكسل عن كثير من مقاصدهم ، و من أمثالهم « أحزم لو أعزم » .

و قال الشاعر :

لست بليلي و لكني نهر

لا أدلج الليل و لكن ابتكر

قال سيبويه معنى « نهر » نهاريّ في مقابل الليلي٢ .

« و أمحى الظلم » جمع الظلمة .

« لتذاكير الهمم » هو في معنى الأول لبيان حال ناس ليسوا بذوي جدّ في الامور ، قال الشاعر :

فلا تقربن أمر الصريمة بامرى‏ء

إذا رام أمرا عوّقته عواذله

و قل للفؤاد ان نزابك نزوة

من الروع أفرغ أكثر الروع باطله

و قريب منه و ان كان لفظه بالعكس قولهم « كلام الليل يمحوه النهار » .

« و صلّى اللّه على سيّدنا محمّد النبيّ الامّي » زادت ( الخطية ) قبل الكلام :

« و الحمد للّه كثيرا »٣ .

« و على آله مصابيح الدجى » أي : سرج الظلم .

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ لابن الاثير ٧ : ٣٢٥ .

( ٢ ) كتاب سيبويه ٣ : ٣٨٤ .

( ٣ ) النسخة الخطية ، لا وجود للعبارة : ٢٢٩ .

٥٣٧

« و العروة الوثقى » لأن و لايتهم شرط قبول الايمان باللّه الذي قال . .

فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى .١ .

قال الرضاعليه‌السلام لأهل نيسابور بعد روايته لهم عن آبائهعليهم‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن اللّه تعالى كون « لا إله إلاّ اللّه » حصنه الذي من دخل فيه أمن من عذابه : بشروطها و أنا من شروطها٢ .

« و سلّم تسليما كثيرا » ليس قوله « و صلّى اللّه » إلى هنا في ( ابن ميثم ) و لعلّه ترك نقله لعدم تعلّق غرض به٣ ، لكن فيه بعد شرح العنوان : « و هذا آخر الخطب و الأوامر و يتلوه المختار من الكتب و الرسائل إن شاء اللّه تعالى بعونه و عصمته و توفيقه و هدايته » فان لم يكن من إنشائه فكذا كان كلام المصنّف ، و قد عرفت ان ابن أبي الحديد نقله في الوسط فلا مجال لأن يكون فيه شي‏ء غير العنوان٤ .

١١ الخطبة ( ١٢٢ ) و من كلام لهعليه‌السلام في حثّ أصحابه على القتال :

فَقَدِّمُوا اَلدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا اَلْحَاسِرَ وَ عَضُّوا عَلَى اَلْأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ اَلْهَامِ وَ اِلْتَوُوا فِي أَطْرَافِ اَلرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ وَ غُضُّوا اَلْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ وَ أَمِيتُوا اَلْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ وَ رَايَتَكُمْ فَلاَ تُمِيلُوهَا وَ لاَ تُخِلُّوهَا وَ لاَ تَجْعَلُوهَا إِلاَّ بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ وَ اَلْمَانِعِينَ اَلذِّمَارَ مِنْكُمْ فَإِنَّ اَلصَّابِرِينَ

____________________

( ١ ) البقرة : ٢٥٦ .

( ٢ ) المجلسي بحار الأنوار ٣ : ٥ الرواية ١٤ الباب ١ .

( ٣ ) ابن ميثم لم ترد العبارة انظر ٤ : ٣٣٥ .

( ٤ ) شرح ابن ابي الحديد ذكر بعده ( ٢٧ ) خطبة أو كلام للامام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

٥٣٨

عَلَى نُزُولِ اَلْحَقَائِقِ هُمُ اَلَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ وَ يَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا لاَ يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا وَ لاَ يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا أَجْزَأَ اِمْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ اَلْعَاجِلَةِ لاَ تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ اَلْآخِرَةِ وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ اَلْعَرَبِ وَ اَلسَّنَامُ اَلْأَعْظَمُ إِنَّ فِي اَلْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اَللَّهِ وَ اَلذُّلَّ اَللاَّزِمَ وَ اَلْعَارَ اَلْبَاقِيَ وَ إِنَّ اَلْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ وَ لاَ مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ يَوْمِهِ اَلرَّائِحُ إِلَى اَللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ اَلْمَاءَ اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ اَلْعَوَالِي اَلْيَوْمَ تُبْلَى اَلْأَخْبَارُ وَ اَللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ اَللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا اَلْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ اَلنَّسِيمُ وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ اَلْهَامَ وَ يُطِيحُ اَلْعِظَامَ وَ يُنْدِرُ اَلسَّوَاعِدَ وَ اَلْأَقْدَامَ وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا اَلْمَنَاسِرُ وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا اَلْحَلاَئِبُ وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ اَلْخَمِيسُ يَتْلُوهُ اَلْخَمِيسُ وَ حَتَّى تَدْعَقَ اَلْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ أقول الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم و نواحر أرضهم متقابلاتها و يقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل أقول : العنوان جمع بين روايات ، فصدره إلى قوله « لا تسلموا من سيف الآخرة » رواية مع زيادة و نقيصة ، ففي ( الطبري ) : قال أبو مخنف : حدّثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري عن أبيه و مولى له ان علياعليه‌السلام حرّض الناس يوم صفين فقال : ان اللّه عز و جل قد دلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ،

٥٣٩

تشفي بكم على الخير و الإيمان باللّه عز و جل و برسوله و الجهاد في سبيله ،

و جعل ثوابه مغفرة الذنب و مساكن طيبة في جنّات عدن ، ثم أخبركم أنّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بنيان مرصوص ، فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص و قدّموا الدارع و أخّروا الحاسر ، و عضّوا على الأضراس فانّه أنبى للسيوف عن الهام ، و التووا في أطراف الرماح فانّه أصون للأسنة ،

و غضوا الأبصار فانّه أربط للجأش و اسكن للقلوب ، و أميتوا الأصوات فانّه أطرد للفشل و أولى بالوقار ، راياتكم فلا تميلوها و لا تجعلوها إلاّ بأيدي شجعانكم ، فان المانع للذمار و الصابر عند نزول الحقائق هم أهل الحفاظ الذين يحفون براياتهم و يكنفونها يضربون حفافيها خلفها و أمامها و لا يضيعونها أجزأ أمرء قذقرنه و آسى أخاه بنفسه و لم يكل قرنه إلى أخيه فيكسب بذلك لائمة و يأتي به دناءة ، و انى لا يكون هذا هكذا و هذا يقاتل اثنين و هذا ممسك بيده يدخل قرنه على أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه ، من يفعل هذا يمقته اللّه عز و جل ، فلا تعرضوا لمقت اللّه سبحانه فانّما مردّكم إلى اللّه ، قال اللّه عز من قائل لقوم . لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذا لا تمتعون إلاّ قليلاً١ و ايم اللّه لئن سلمتم من سيف العاجلة لا تسلمون من سيف الآخرة ، استعينوا بالصدق و الصبر ، فان بعد الصبر ينزل اللّه النصر٢ و رواه نصر في ( صفينه ) عن عمر عن عبد الرحيم بن عبد الرحمن عن أبيه مثله٣ .

و رواه ( الكافي ) في باب ما يوصيعليه‌السلام عند القتال عن مالك بن أعين

____________________

( ١ ) تاريخ الامم و الملوك للطبري ٤ : ١٦ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ١١ .

( ٣ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٢٣٥ .

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617