بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة9%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194081 / تحميل: 7305
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وقال: (إن العمامة حاجزة بين الكفر والإيمان)(1) .

وعن ابن شاذان في مشيخته عن علي (عليه‌السلام ): أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) عممه بيده، فذنب العمامة من ورائه، ومن بين يديه، ثم قال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أدبر.

فأدبر.

ثم قال له: أقبل.

فأقبل.

وأقبل على أصحابه، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): هكذا تكون تيجان الملائكة(2) .

____________

1- مسند أبي داود ص23 وكنز العمال ج15 ص306 و 482 و 483 والسمط المجيد ص99 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج2 ص42 وفرائد السمطين ج1 ص75 و 76 وعن ابن أبي شيبة، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم ج1 ص301 والسنن الكبرى للبيهقي ج10 ص14 والرياض النضرة ج3 ص170 والغدير ج1 ص291 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص234 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج5 ص10 وشرح الأخبار ج1 ص321 والفصول المهمة لابن الصباغ ص41 وعن الصراط السوي.

2- الغدير ج1 ص291 وفرائد السمطين ج1 ص76 ونظم درر السمطين ص112 وكنز العمال ج15 ص484 وراجع: وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج5 ص56 و (ط دار الإسلامية) ج3 ص377. =

= وراجع: كشف اللثام (ط.ج) ج3 ص263 والحدائق الناضرة ج7 ص127 والكافي ج6 ص461 وجواهر الكلام ج8 ص247 وغنائم الأيام ج2 ص353 وبحار الأنوار ج42 ص69 وج80 ص198 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص747 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص120 ورياض المسائل ج3 ص213.

٢٠١

والعمامة التي عممه بها تسمى السحاب(1) .

وقال ابن الأثير: (كان اسم عمامة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) السحاب)(2) .

قال الملطي: (قولهم ـ يعني الروافض ـ: علي في السحاب. فإنما ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لعلي: أقبل، وهو معتم بعمامة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كانت تدعى (السحاب).

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): قد أقبل علي في السحاب، يعني في تلك العمامة التي تسمى (السحاب)، فتأولوه هؤلاء على غير تأويله)(3) .

وقال الغزالي والحلبي والشعراني: (وكانت له عمامة تسمى السحاب،

____________

1- الفردوس ج3 ص87 وفرائد السمطين ج1 ص76 وخلاصة عبقات الأنوار ج9 ص236 والغدير ج1 ص290 و 291.

2- النهاية في اللغة ج2 ص345 وراجع: بحار الأنوار ج10 ص5 وج16 ص97 و 121 و 126 وج30 ص94 وشرح السير الكبير للسرخسي ج1 ص71 ونهج الإيمان لابن جبر ص497 وسبل الهدى والرشاد ج7 ص271 ولسان العرب ج1 ص461 وتاج العروس ج2 ص68.

3- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص19 والغدير ج1 ص292.

٢٠٢

فوهبها من علي، فربما طلع علي فيها، فيقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): طلع علي في السحاب)(1) .

قال الزبيدي: (ومن المجاز: عُمِّمَ ـ بالضم ـ أي سُوِّد، لأن تيجان العرب العمائم، فكلما قيل في العجم: توج، من التاج قيل في العرب: عمم.. وكانوا إذا سودوا رجلاً عمموه عمامة حمراء، وكانت الفُرْسُ تتوج ملوكها، فيقال له: المتوج..)(2) .

وقال: (والعرب تسمي العمائم التاج، وفي الحديث: (العمائم تيجان العرب) جمع تاج، وهو ما يصاغ للملوك من الذهب والجوهر، أراد أن العمائم للعرب بمنزلة التيجان للملوك؛ لأنهم أكثر ما يكونون في البوادي مكشوفي الرؤوس أو بالقلانس، والعمائم فيهم قليلة.. والأكاليل: تيجان

____________

1- إحياء علوم الدين ج2 ص345 والبحر الزخار ج1 ص215 والسيرة الحلبية ج3 ص341 و (ط دار المعرفة) ج3 ص452 والغدير ج1 ص292 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص563 و 564 والإمام علي بن أبي طالب "عليه‌السلام " للهمداني ص 283 وراجع: مناقب آل أبي طالب ج2 ص59 وبحار الأنوار ج16 ص250 وج38 ص297 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص499 وج7 ص380 وسنن النبي للطباطبائي ص174 وتفسير الميزان ج6 ص319.

2- تاج العروس ج8 ص410 و (ط دار الفكر) ج17 ص506 والغدير ج1 ص290 وراجع: لسان العرب ج17 ص506.

٢٠٣

ملوك العجم. وتوّجه: أي سوّده، وعممه)(1) .

وعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (العمائم تيجان العرب)(2) .

ونقول:

1 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مازج بين حركة الواقع، وبين رمزه المشير إليه، الأمر الذي يجعل الإنسان يعيش الشعور التمثلي الرابط بين الواقع وبين الرمز بصورة واقعية..

2 ـ من أجل ذلك نلاحظ: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) اسبغ على علي (عليه‌السلام ) مقام الرئاسة والسيادة بإعلانه إمامته من بعده، ثم عممه بيده، ولم يطلب منه أن يلبس العمامة، وذلك لتتوافق هذه الحركة العملية الواقعية مع مضمون الموقف النبوي القاضي بنصبه (عليه‌السلام ) من قبل الله تعالى..

وكأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يريد للناس أن يربطوا بأنفسهم بين هذه الحركة

____________

1- تاج العروس ج2 ص12 و (ط دار الفكر) ج3 ص305 والغدير ج1 ص290 ولسان العرب ج2 ص219.

2- راجع بالإضافة إلى تاج العروس ج2 ص12: الجامع الصغير ج2 ص193 والنهاية في غريب الحديث ج1 ص199 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج5 ص56 و 57 و (ط دار الإسلامية) ج3 ص378 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص119 وأدب الإملاء والإستملاء للسمعاني ص39 ومسند الشهاب لابن سلامة ج1 ص75 والغدير ج1 ص290 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص746 ونور الأبصار ص58 والفردوس للديلمي ج3 ص87 حديث رقم 4246.

٢٠٤

الرمز ـ وهي أنه عممه بيده ـ وبين إنشاء الحاكمية له، لتصبح هذه الحركة بمثابة إنشاء عملي آخر منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ).. والعمائم تيجان العرب..

3 ـ إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يتوِّجه (عليه‌السلام ) بأية عمامة كانت، بل توجه بعمامة تميزت عما سواها، ولها إسم خاص بها، فعرَّف الناس أن العمامة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، وذلك ليشير بذلك: أنه إنما يعطيه موقع خلافته، بما له من خصوصية امتاز بها عن كل ما سواه ـ وليفهمهم أنه يريده امتداداً له فيما يمثّله وفيما يوكل إليه من مهام، وبما هو مبلغ لرسالات الله تبارك، وتعالى.

كما أن اسم هذه العمامة (السحاب) ربما يشير إلى رفعة المقام، وصعوبة الوصول إليه من سائر الناس.

4 ـ ثم هو يتجاوز هذا الفعل التعبيري إلى التصريح القولي، بأنه يقصد بهذا التتويج معنى السيادة والحاكمية، فإن العمائم تيجان..

5 ـ ثم انتقل إلى ما هو أوضح وأدل، حين أعطى تصرفه هذا مضموناً دينياً عميقاً ومثيراً بإعلانه أن ما فعله بعلي من تتويجه بعمامته لا يشبه لبس غيره من الحكام والأسياد لعمائم السادة، بل هي سيادة خاصة ومقدسة، تمتد قداستها بعمقها الروحي، وبمضمونها الإيماني لترتبط بالسماء.. من حيث أن الملائكة فقط هم الذين يعتمون بهذه العمامة..

6 ـ ولم يكن فعل الملائكة هذا مجرد ممارسة لأمر يخصهم، ولا كان يريد لعلي أن يتشبه بهم في ذلك، أو أن يكون له شبه بهم، بل هو فعل له امتداداته الواقعية التي ترتبط بفعل جهادي وإيماني تجعل الملائكة يستمدون هذه

٢٠٥

الخصوصية من علي نفسه، وذلك حين ذكر أن الملائكة تعتم بهذه العمامة في خصوص بدر وحنين، المتشابهتين في كثير من خصوصياتهما.

وهاتان الواقعتان هما لخصوص علي (عليه‌السلام )، لأنه هو الذي جاء بالنصر فيهما.. أما غير علي (عليه‌السلام )، فقد فر في إحداهما، ولم يظهر له أثر إيجابي جهادي في الأخرى..

7 ـ ثم جاء التصريح بعد التلميح، بأن هذه العمامة هي الحد الفاصل بين تلويثات الشرك، وبين الإيمان الخالص من دنس الشرك، مهما كان خفيفاً وضئيلاً، ولو كان أخفى من دبيب النمل، فإنه مرفوض بمختلف مظاهره وحالاته، ولو بمستوى أن يراود الخاطر، أو يلوث الوجدان أية استجابة لأي نوع من أنواع إيثار شيء من متاع الدنيا.

8 ـ أما ما نسبه الملطي للروافض، من أنهم قد تأولوا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (طلع علي في السحاب)، فلعله لا يقصد بالروافض الإمامية الاثني عشرية أعزهم الله تعالى.. فإننا لا نشعر أن لديهم أي تأويل يعاني من أية شائبة تذكر..

أما غيرهم، فإن كان الملطي صادقاً فيما ينسبه لهم، فلسنا مسؤولين عن أفعال وأقوال أهل الزيغ، بل سنكون مع من يناوئهم، ويدفع كيدهم، ويسقط أباطيلهم.

أكثر من خطبة:

ويبدو: أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قد خطب الناس في أيام إقامته في غدير خم أكثر من مرة، فإن النصوص تارة تذكر أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله )

٢٠٦

خطبهم في حر الهاجرة، بعد صلاة الظهر.. كما تقدم عن قريب، وتارة تقول: إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبهم عشية بعد الصلاة(1) .

ويؤيد ذلك أمران:

أحدهما: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بقي في ذلك المكان ثلاثة أيام، واختلاف أوقات الخطب.. في حر الهاجرة بعد صلاة الظهر تارة، وبعد صلاة العشاء أخرى يصبح أمراً طبيعياً..

والثاني: اختلاف نصوص الخطب المنقولة..

وتصرح بعض النصوص: بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كان ينادي بأعلى صوته(2) .

____________

1- المستدرك للحاكم ج3 ص109 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج4 ص437 وج9 ص321 وج18 ص272 وج21 ص41 وج24 ص189 وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص153 وج7 ص105 و 261 و 339 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص24 والغدير ج1 ص31 والإكمال في أسماء الرجال ص119.

2- راجع: المناقب للخوارزمي ص94 والغدير ج1 ص277 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص235 وكتاب الولاية لابن عقدة ص198 وغاية المرام ج2 ص108 و 244 و 256 وج3 ص336 وكتاب الغيبة للنعماني ص75 وبحار الأنوار ج33 ص47 وراجع ج28 ص98 وكشف الغمة ج1 ص237 وراجع: الكافي ج8 ص27 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص185 وج2 ص42 والدرجات الرفيعة ص297 وتفسير نور الثقلين ج1 ص588.

٢٠٧

هذا وقد تضمنت خطبته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في ذلك المقام أموراً كثيرة، نود أن نشير إلى بعضها، ضمن ما يلي من عناوين..

الضلال والهدى:

استهل (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبته يوم الغدير بالحديث عن الهدى والضلال، وكل الناس يحبون ـ ويعتزون بالهدى، وبانتسابهم إليه، حتى لو لم تكن النسبة واقعية، ويربأون بأنفسهم عن الوصف بالضلال حتى لو كانوا من أهل الضلال بالفعل..

فإذا كان المتحدث نبياً، فالكل يحب أن يجد نفسه في عداد الفريق الذي يحبه ذلك النبي..

ولعل الكثيرين منهم قد أشعرتهم هذه البداية بأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يريد أن يبين لهم أمراً له مساس بموضوع الهدى والضلال.. وذلك يعني أن كل شخص منهم سيكون معنياً بما سيقوله..

يوشك أن أدعى فأجيب:

وأكد لهم على لزوم التنبه الشديد لما سيقوله لهم، حين ساق كلامه باتجاه مثيرٍ لمشاعر الخوف من المستقبل، الذي لا سبيل إلى معرفته، والرهبة من فقدان ما يرونه ضماناً لهم من كل شر وسوء، وما يشعرون معه بالسكينة والأمان في كل حركة وموقف، حيث قال لهم: (يوشك أن ادعى فأجيب..).

وهذا معناه: أن عليهم أن يهتموا بما سيقوله لهم، لأنه سيكون مفيداً في هدايتهم، وفي حفظهم في خصوص تلك المرحلة المخيفة، وأعني بها مرحلة

٢٠٨

ما بعد موته (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

كما أن ذلك يثير لديهم مشاعر الحب والحنان متمازجة مع الشعور بالحزن لموت الحبيب والطبيب.. ألا وهو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )..

إني مسؤول، وأنتم مسؤولون:

ثم أكد لهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) شدة حساسية هذا الأمر، الذي يريد أن يثيره أمامهم حين قال: إني مسؤول، وأنتم مسؤولون..، فما أنتم قائلون؟!..

فساوى نفسه بهم في المسؤولية عن هذا الأمر، مما دل على أنه أمر بالغ الخطورة، وأن المسؤولية عنه تلاحقهم، والمطالبة به تنتظرهم، ولا سيما في الآخرة..

ثم أفهمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) أنه لا يريد أن يفرض عليهم أمراً بعينه، بل ترك الخيار لهم، في أن يقبلوا وأن يرفضوا، ولذلك قال: فما أنتم قائلون؟!..

أي أن المطلوب هنا هو إعطاء العهد والإلتزام، والإستجابة إلى الحق.. فمن نكث بعد ذلك، فإنما ينكث على نفسه..

التذكير بالمنطلقات العقائدية:

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ذكرهم بالركائز العقائدية، والإيمانية، ووضعهم أمام العقل والضمير لكي يكونا هما الحافز لهم لتقبل القرار الرباني، الذي سيثقل عليهم، بسبب هيمنة الأهواء والعصبيات عليهم، لكي تحميهم

٢٠٩

تلك الركائز الإعتقادية، وحياة الضمير من طغيان الهوى، وجذبات الغرائز.. وارتكاس الجاهلية.. وحدد لهم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيته مرجعاً لهم في ظلمات الجهالة، وعند حيرة الضلالة..

بماذا.. ولماذا قررهم؟!:

ثم واجههم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأسئلة تقريرية تفرض عليه التنبه التام، والوعي لكل كلمة ينطق بها، فالسؤال يتطلب الإجابة، والإجابة مسؤولية وقرار، والتزام يحتاج منهم إلى استنطاق كل حرف ينطق به الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، والتعامل معه بجدية تامة وبمسؤولية بالغة.

وستأتي النتيجة بعد ذلك كله في غاية الوضوح، وذات نتائج دقيقة وصادقة بالنسبة لبراءة ذمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) مما هو مسؤول عنه، وهو البلاغ التام لما أنزل عليه من ربه..

وبأسلوب التقرير الذي انتهجه معهم، منع أي تأويل، أو ادعاء لوجوهٍ اجتهادية في المعنى، أو اللجوء إلى التنصل بحجة عدم السماع، أو عدم الفهم، أو عدم الإلتفات أو غير ذلك مما يمكِّن ذوي الأغراض من تمييع القضية، أو الإنتقاص من حيويتها، أو من الشعور بأهميتها وخطورتها..

أما مضمون أسئلته التقريرية، فكان هوالأهم، من حيث أنه يدفع بوضوح القضية، وسلامة وصحة الإلتزام منهم أمام الله، وأمام ضمائرهم إلى أقصى مداه، فقد سألهم أولاً ـ بما هم جماعة ـ ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ثم سألهم عن أولويته بكل فردٍ منهم من نفسه.. ليدلهم بذلك على أن الأمر يعنيهم بما هم جماعة لها شؤونها العامة.. ويعنيهم أيضاً بما هم أفراد

٢١٠

فرداً فرداً، بلحمه ودمه، وبكل وجوده..

ثم سألهم ثالثاً: عن حدود سلطتهم على أنفسهم، ويريد أن يسمع إقرارهم له بأن سلطته وولايته عليهم، وموقعه منهم فوق سلطة وموقعية وولاية حتى أمهاتهم وآبائهم، وحتى أنفسهم على أنفسهم.

وهذا يؤكد لهم: أن القرار الذي يريد أن يتخذه يعنيهم في صميم وجودهم، وينالهم في أخص شؤونهم وحالاتهم.

ولا بد أن يزيد ذلك من اهتمامهم بمعرفة هذا الأمر الخطير، والتعامل معه بإيجابية متناهية.

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يكتف بسؤالهم عن ذلك لمرة واحدة، بل كرر السؤال عن هذه الأمور الأساسية والحساسة عليهم ثلاث مرات، على سبيل التعميم أولاً، ثم على سبيل التحديد والتشخيص بفرد بعينه أخرى، فقد روي أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال: أيها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين.

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: أولى الناس بالمؤمنين أهل بيتي. يقول ذلك ثلاث مرات.

ثم قال في الرابعة، وأخذ بيد علي: اللهم من كنت مولاه، فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ـ يقولها ثلاث مرات ـ ألا فليبلغ الشاهد الغائب(1) .

____________

1- الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص237 ـ 241 وكشف الغمة ج1 ص49 ـ 50 عن الزهري، وينابيع المودة ج1 ص118 ـ 119 وخلاصة عبقات الأنـوار ج7 = = ص229 وج9 ص109 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص234 و 301 وج21 ص93 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص118 وسعد السعود لابن طاووس ص71 وبحار الأنوار ج42 ص156 والغدير ج1 ص11 و 33 و 176 وحياة الإمام الحسين "عليه‌السلام " للقرشي ج1 ص199 وغاية المرام ج1 ص298 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص215 وتنبيه الغافلين لابن كرامة ص66 وراجع: الإصابة لابن حجر (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص34.

٢١١

وفي نص آخر: كرر ذلك أربع مرات(1) .

وعن البراء بن عازب: أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) نزل بعد حجته في بعض الطريق، وأمر بالصلاة جامعة، فأخذ بيد علي، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!

قالوا: بلى.

قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟!

قالوا: بلى.

____________

1- مشكاة المصابيح ج3 ص360 وتذكرة الخواص ص29 وفضائل الصحابة لأحمد بن حنبل ج2 ص586 وعن مسند أحمد ج5 ص494 وكفاية الطالب ص285 وعن ابن عقدة، والغدير ج1 ص11 و 33 وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص258 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص54 وكتاب الأربعين للماحوزي ص143 و 144 و 145.

٢١٢

قال: فهذا ولي من أنا مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه(1) .

وفي نص آخر عن البراء: خرجنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) حتى نزلنا غدير خم، بعث منادياً ينادي.

فلما اجتمعنا قال: ألست أولى بكم من أنفسكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: ألست أولى بكم من أمهاتكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

____________

1- الطرائف ص149 وكتاب الأربعين للشيرازي ص116 والعمدة لابن البطريق ص96 و 100 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص236 وبحار الأنوار ج37 ص159 ومسند أحمد ج4 ص281 وسنن ابن ماجة ج1 ص43 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج1 ص442 وج2 ص370 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص80 و 86 و 115 و 122 و 147 و 294 و 301 و 335 وج8 ص117 و 218 و 247 وج9 ص261 والغدير ج1 ص220 و 272 و 274 و 277 و 279 ونظم درر السمطين ص109 وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص89 وتفسير الثعلبي ج4 ص92 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص221 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص632 وبشارة المصطفى ص284 والمناقب للخوارزمي ص155 ونهج الإيمان لابن جبر ص120 وينابيع المودة ج1 ص102 وج2 ص284 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص235 و 238 وج14 ص34 وج20 ص173 و 357 وج21 ص34 و 38 و 39 وج23 ص325 و 554 وج30 ص418 و 419.

٢١٣

قال: ألست أولى بكم من آبائكم؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: ألست؟! ألست؟! ألست؟!

قلنا: بلى يا رسول الله.

قال: (من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه).

فقال عمر بن الخطاب: هنيئاً لك يا بن أبي طالب، أصبحت اليوم ولي كل مؤمن(1) .

التزيين الشيطاني:

وقد بدأ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) خطبته بالإستعاذة بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا.. باعتبار أن الإنسان قد لا يبادر إلى بعض المعاصي إلا إذا زينها له الشيطان، وأظهرها له على غير واقعها، وقلب له الحقائق، فجعل له

____________

1- تاريخ مدينة دمشق ج42 ص220 ومناقب الإمام أمير المؤمنين "عليه‌السلام " للكوفي ج2 ص368 و 441 وخلاصة عبقات الأنوار ج7 ص29 و 146 وج9 ص93 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص386 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص361 و 376 والغدير (ط مركز الغدير) ج1 ص50 ـ 53 و (ط دار الكتاب العربي) ج1 ص19 و 20 متناً وهامشاً عن مصادر كثيرة جداً.

٢١٤

القبيح حسناً، والعكس، ولو بإيهامه أن هذا من مصاديق ذلك العمل الحسن مثلاً قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ..(1) .

وقال تعالى: ( زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ) (2) .

وهناك أمور تكون زينتها ظاهرة فيها، من حيث أنها تلاءم نوازع النفس الأمارة، فيتلهي بزينتها عن التدبر في واقعها السيء، ومثال هذا جميع ما يندفع إليه الإنسان بغرائزه وشهواته، ومنها الإمارة والحكم..

فإن الإندفاع إلى الإمارة لا يحتاج إلى تزيين، بل النفس تشتهيها وتميل إليها، وربما يرتكب الإنسان من أجلها العظائم، والجرائم.

ولأجل ذلك استعاذ (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) من شرور النفس وسيئات الأعمال..

ولعله يريد بذلك الإلماح إلى ما سيكون بعده من منازعة الأمر أهله، والتحذير منه، لا سيما وأن بوادر ذلك قد ظهرت في عرفة، كما أوضحناه..

الله يعيذهم:

وقد أفهمهم (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): أن الله تعالى هو الذي يعيذهم من شرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، من حيث إنه المالك الحقيقي للتصرف،

____________

1- الآية 137 من سورة الأنعام.

2- الآية 37 من سورة التوبة.

٢١٥

فإذا كانوا صادقين في لجوئهم إليه تعالى، بقطعهم أية علاقة أو أمل بغيره، فسيجدون أنفسهم في حصن حصين، وسيعني هذا اللجوء الصادق استحقاقهم أن يعود تعالى عليهم بالفضل، ويفتح لهم أبواب الرحمة.. لتكون استقامتهم على طريق الحق ضماناً للكون في أمانه الدائم..

كما أنه حين يكون الإنسان نفسه هو السبب في أن توصد أبواب الرحمة في وجهه، فلن يستطيع أحد أن يفتحها له، إلا أن يصلح الإنسان نفسه ما أفسده، فإن الله وحده المالك الحقيقي لذلك، ولأجل ذلك قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): لا هادي لمن أضل إلخ..

وقد قال تعالى:( مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (1) .

الإعلان بالشهادتين:

وقد شهد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لله بالوحدانية، ولنفسه بالعبودية لله وبالرسولية، لينال ثواب الجهر بالشهادة، وليتلذذ بهذه العبارة، ولتكون موطئة لإقرار ذلك الحشد العظيم بمثل ذلك، وتسهيلاً لذلك عليهم، ورفعاً لاستهجانهم، وإبعاداً لأي احتمال قد يراود ذهن بعضهم حول مستوى ثقته (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بصدق إيمانهم، وحقيقة إسلامهم..

كل ذلك لأنه يريد أن يأخذ منهم عهداً، ويريد أن يغلظ عليهم فيه، ليكون ذلك أدعى لإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، وأقوى وأشد في تعظيم

____________

1- الآية 2 من سورة فاطر.

٢١٦

أمر النكث وتهجينه، واستقباح صدوره منهم، إن لم يكن تديناً، وخوفاً من العقوبة الأخروية، فالتزاماً بالإعتبارات التي يلزمون أنفسهم بها في الحياة الدنيا.

ولصاحب الحق أن يضيق الخناق على الباطل، وأن يؤكد وضوح الحق بكل وسيلة مشروعة، (أي لا تتضمن تمرداً على أمر الله تعالى)، فهو نظير ما فعله من إثارة معاني الغيرة، والحياء في الناس، لأجل ضبط حركة النساء في محيط الرجال، الذي استفاد منه أمير المؤمنين في قوله: أما تستحيون، ولا تغارون؟! نساؤكم يخرجن إلى الأسواق ويزاحمن العلوج(1) .

وهكذا فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله )، فإنه ذكرهم بأصل التوحيد، فشهدوا لله تعالى بالوحدانية، وبأصل النبوة، فشهدوا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بأنه رسول من الله إليهم، مما يعني أن ما يأتيهم به هو من عند الله؟!

وذكَّرهم بالنار التي يعاقب بها المتمردون على الله، المخالفون لرسوله، وبالجنة التي يثاب بها المطيعون لهما، وبأن الموت حق، والبعث والحساب

____________

1- الكافي ج5 ص537 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص236 و (ط دار الإسلامية) ج14 ص174 ومشكاة الأنوار ص417 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص271 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج8 ص243 ومسند أحمد ج1 ص133 والشرح الكبير لابن قدامة ج8 ص144 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج3 ص780.

٢١٧

حق، فلماذا يتعلقون بالدنيا، ويفسدون آخرتهم من أجلها؟!

ثم ذكَّرهم بالإمامة، وبما يحفظ من الهداية والضلال، وبميزان الأعمال من خلال التأكيد على حديث الثقلين.

كل ذلك توطئة لنصب أمير المؤمنين (عليه الصلاة السلام) ولياً وهادياً، ومرجعاً وإماماً.

فليبلغ الشاهد الغائب:

ثم إنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لم يتكل على ما يعرفه من رغبة الناس بنقل ما يصادفونه في أسفارهم، إلى زوارهم بعد عودتهم، فلعل أحداً يكتفي بذكر ذلك مرة واحدة فور عودته، ثم لا يعود لديه دافع إلى ذكره في الفترات اللاحقة، فجاء أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لهم ليلزمهم بإبلاغ كل من غاب عن هذا المشهد، مهما تطاول الزمن، وجعل ذلك مسؤولية شرعية في أعناقهم، فقال: (فليبلغ الشاهد الغائب)(1) .

____________

1- الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص238 وكتاب الأربعين للماحوزي ص144 وكشف الغمة ج1 ص49 ـ 50 عن الزهري، وخلاصة عبقات الأنوار ج1 ص258 وج7 ص229 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص234 و 301 وج21 ص93 والروضة في فضائل أمير المؤمنين ص118 وسعد السعود لابن طاووس ص71 وبحار الأنوار ج42 ص156 والغدير ج1 ص11 و 33 و 176 ونظرة إلى الغدير للمروج الخراساني ص55 وحياة الإمام الحسين "عليه‌السلام " للقـرشي ج1 ص199 وغـايـة المـرام ج1 ص299 وكشف المهم في = = طريق خبر غدير خم ص147 وراجع: الإصابة لابن حجر (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص34.

٢١٨

وبذلك يكون قد سد باب التعلل من أي كان من الناس بادعاء أن أحداً لم يبلغه هذا الأمر، وأنه إنما كان قضية في واقعة، وقد لا ينشط الكثيرون لذكرها، إن لم يكن ثمة ما يلزمهم بذلك.. ولعلهم قد كانت لديهم اهتمامات أخرى شغلتهم عنها..

الحب والبغض إختياريان:

وإثبات العقوبة الإلهية على الحب والبغض، والعداء والموالاة، يدل على أنهما من الأمور الاختيارية المقدورة للإنسان، ولو بواسطة قدرته على أسبابهما، فإن القدرة على السبب قدرة على المسبب..

وأكثر الأمور لا يقدر الإنسان عليها إلا بعد الإتيان بمقدماتها، فإن من يريد زيارة كربلاء مثلاً، يحتاج إلى قطع المسافة أولاً..

ولأجل ذلك دعا (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) في غدير خم، فقال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه..

وأدر الحق معه حيث دار:

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (وأدر الحق معه حيث دار) يدل على أن المولوية المجعولة لعلي (عليه‌السلام ) تختزن معنى الحق، والمسؤولية عنه، علماً، أو عملاً، أو كليهما.. ولولا ذلك لم يحتج إلى هذا الدعاء.

٢١٩

أي مولى الخلق لا بد أن يعرف الحق، وأن يلتزم به، وأن يفرضه في كل الواقع الذي يتحمل مسؤوليته.. ولذلك جاء هذا الدعاء: (وأدر الحق معه حيث دار).

حديث الثقلين:

وهذه المسؤولية عن الحق هي التي فرضت أن يقرن (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بين القرآن والعترة لحفظ الأمة من الضلال، وأن يجعل استمرار هذا الاقتران بينهما من مسؤولية الأمة أيضاً.

ولا بد أن يكون اقتراناً متناسباً مع شمولية القرآن، ومع ما تضمنه من حقائق، وما يتوخى من موقف للأمة تجاهه.. ومتناسباً مع مسؤولية العترة تجاه القرآن في مجال العلم والعمل، والتربية، وما يترتب على ذلك من لزوم الطاعة والنصرة، وما إلى ذلك.. ولا يكون ذلك إلا بالتمسك به، وبالعترة، في العلم، وفي العمل والممارسة.. سواء في الأحكام أو في القضاء بين الناس، أو في السياسات، أو الإعتقادات، أو الأخلاق، و في كل ما عدا ذلك من حقائق، لهج وصرح بها القرآن الكريم. وهذا يختزن معنى الإمامة بكل أبعادها وشؤونها..

وانصر من نصره:

ويؤكد هذا المعنى، ويزيده رسوخاً قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ): (وانصر من نصره، واخذل من خذله..)، فإن إيجاب النصر له على الناس، وتحريم الخذلان إنما هو في صورة التعرض للتحدي، والمواجهة بالمكروه، من أي

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

و قال أبو الغوث : النحيرة آخر ليلة من الشهر مع يومها ، لأنّها تنحر الشهر الذي بعدها ، أي تصير في نحره أو تصيب نحره ، فهي ناحرة و الجمع النواحر ، و احتجّ بقول ابن أحمر الباهلي :

ثم استمر عليها و اكف همع

في ليلة نحرت شعبان أو رجبا١

و قال ابن دريد : أقبل فلان في نحر الجيش ، أي في أوّله ، و الليلة تنحر شهر كذا و كذا أي هي أوّله ثم ذكر البيت الأخير ، فترى الأوّل جعله الآخر بلا خلاف لكن تردّد في أنّه آخر يوم فقط أو مع ليلة ، و الثاني جعله أول ليلة بلا خلاف ثم قال : و النحيرة و المنحورة واحد ، و قال : قيل في قوله تعالىفصلّ لربك و انحر ٢ أي استقبل نحر النهار أي أوّله ، و قيل يعني ضع يدك على نحرك٣ .

و الصواب قول ابن دريد لأخذه عن الخليل و لكثرة أوهام الجوهري و لأن ( الأساس ) وافقه فقال : قال الكميت :

و الغيث بالمتالفات

من الأهلّة في النواحر٤

إذا وقع الغيث في أوّل الشهر كان غزيرا . .

و منه يظهر ان الجوهري صحّف البيت الأول و أنّه كان بلفظ « في النواحر » لا « و النواحر » و بالجملة هو أيضا لم يشر إلى خلاف في كونه بمعنى الأول .

____________________

( ١ ) الجمهرة لابن دريد ١ : ٥٢٥ .

( ٢ ) الكوثر : ٢ .

( ٣ ) جمهرة اللغة لابن دريد ١ : ٥٢٥ .

( ٤ ) أساس البلاغة : ٤٤٩ .

٥٦١

١٢ من غريب كلامه رقم ( ٧ ) و في حديثهعليه‌السلام أنه شيّع جيشا يغزيه فقال :

اِعْذِبُوا عَنِ اَلنِّسَاءِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ و معناه اصدفوا عن ذكر النساء و شغل القلب بهن و امتنعوا من المقاربة لهن لأن ذلك يفت في عضد الحمية و يقدح في معاقد العزيمة و يكسر عن العدو و يلفت عن الإبعاد في الغزو فكل من امتنع من شي‏ء فقد أعزب عنه و العاذب و العذوب الممتنع من الأكل و الشرب أقول : قال في النهاية : و في حديث عليعليه‌السلام أنّه شيّع سرية فقال : اعذبوا عن ذكر النساء أنفسكم ، فإنّ ذلكم يكسركم عن الغزو١ .

قولهعليه‌السلام « اعذبوا عن النساء ما استطعتم » في ( كامل المبرّد ) : كتب صاحب اليمن إلى عبد الملك في وقت محاربة ابن الأشعث معه إنّي قد وجهت إليك بجارية اشتريتها بمال عظيم و لم ير مثلها قط ، فلما دخل بها عليه رأى وجها جميلا و خلقا نبيلا فألقى إليها قضيبا كان في يده فنكست لتأخذه فرأى منها جسما بهره ، فلما همّ بها أعلمه الإذن أنّ رسول الحجاج بالباب ،

فإذن له و نحى الجارية فأعطاه كتابا من عبد الرحمن فيه سطور أربعة يقول فيها :

سائل مجاور جرم هل جنيت لها

حربا يزيل بين الجيرة الخلط

و هل سموت بجرار له لجب

جم الصواهل بين الجم و الفرط

و هل تركت نساء الحي ضاحية

في ساحة الدار يستوقدن بالغبط

و تحتها بيت آخر على غير الروي و هو :

____________________

( ١ ) النهاية ٣ : ١٩٥ مادة ( عذب ) .

٥٦٢

قتل الملوك و صار تحت لوائه

شجر العرى و عراعر الأقوام

فكتب جوابه و جعل في طيّه جوابا لابن الأشعث :

ما بال من أسعى لأجبر عظمه

حفاظا و ينوي من سفاهته كسري

أظن خطوب الدهر بيني و بينهم

ستحملهم مني على مركب و عر

و إنّي و إيّاهم كمن نبّه القطا

و لو لم تنبه باتت الطير لا تسري

أناة و حلما و انتظارا بهم غدا

فما أنا بالواني و لا الضرع الغمر

ثم بات يقلّب كفّ الجارية و يقول : ما أخذت فائدة أحبّ إليّ منك ، فتقول :

فما بالك و ما يمنعك ؟ فقال : يمنعني قول الأخطل و إن خرجت منه كنت ألأم العرب فإنّه قال :

قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم

دون النساء و لو باتت بأطهار١

فما إليك سبيل أو يحكم اللّه بيني و بين ابن الأشعث ، فلم يقربها حتى قتل عبد الرحمن٢ .

قول المصنّف : « و معناه اصدفوا عن ذكر النساء » أي : اعرضوا عن ذكرهن « و شغل القلب بهن » و لا تكونوا كما قال الشاعر :

ذكرتك و الخطي يخطر بيننا

و قد نهلت منّا المثقفة السمر

« و امتنعوا من المقاربة لهن » و كان المهلب لما خرج ابن الأشعث على الحجاج في أهل العراق كتب إلى الحجاج أنّ أهل العراق أقبلوا إليك و هم مثل السيل المنحدر من عل ليس شي‏ء يرده حتى ينتهي إلى قراره ، و إنّ لأهل العراق شرة في أوّل مخرجهم و صبابة إلى ابنائهم و نسائهم فليس شي‏ء يردّهم حتى يسقطوا إلى أهليهم و يشمّوا أولادهم ، ثم واقعهم عندها فتغلب

____________________

( ١ ) ديوان الأخطل : ١٤٤ .

( ٢ ) الكامل ١ : ٢٣٥ ٢٣٦ .

٥٦٣

عليهم فلم يقبل ذلك فاستقبلهم إلى تستر فهزموه بها ، فتركهم حتى دخلوا الكوفة على نسائهم ثم حاربهم فهزم١ .

« فإن ذلك يفتّ » أي يضعف و يوهن .

« في عضد الحمية و يقدح » من « قدح الدود في الأسنان و الشجر قدحا » و هو تأكل يقع فيه ، و القادحة : الدودة .

« في معاقد العزيمة » فيحلها .

« و يكسر عن العدو » بالفتح فالسكون في الحرب ، و قد عرفت أنّ الجزري جعل كلامهعليه‌السلام تعليلا للإعذاب بلفظ « فان ذلكم يكسركم عن الغزو »٢ .

« و يلفت » أي : يصرف .

« عن الإبعاد في الغزو » و لما بلغ ابن الزبير قتل أخيه مصعب ، قال : قدم أيره و أخّر خيره ، و تشاغل بنكاح فلانة و فلانة و ترك جلبة أهل الشام حتى غشيته في داره .

« و كل من امتنع من شي‏ء فقد أعذب عنه » اعترض ابن أبي الحديد على المصنف٣ لما رأى أنّ الجوهري قال « أعذبته عن الأمر إذا منعته عنه ، يقال اعذب نفسك عن كذا أي اظلفها » بأنّ قوله « و كلّ من امتنع من شي‏ء فقد أعذب عنه » غير صحيح و ان الصواب ان يقال « و كل من منعته من شي‏ء فقد أعذب عنه » و ان كلامهعليه‌السلام بلفظ « اعذبوا » بكسر الهمزة لا « اعذبوا » بفتحها ، و استدل بأن الممتنع من الأكل و الشرب يقال له العاذب و العذوب لا المعذب .

إلاّ أن اعتراضه ساقط ، كما ان اقتصار الجوهري على ان « اعذب »

____________________

( ١ ) الكامل في التاريخ لابن الاثير ٤ : ٤٦٤ ٤٦٥ ، و قد مر ذلك في صفحة ١٨٨ .

( ٢ ) النهاية لابن الاثير ٣ : ١٩٥ ، مادة ( عذب ) .

( ٣ ) ذكر انه ليس بجيد ، شرح نهج البلاغة ١٩ : ١١٤ ح ٢٦٤ .

٥٦٤

بمعنى منع خطأ ، فقد قال الفيروز آبادي : العذب المنع كالإعذاب و الكف و الترك كالإعذاب و قال الجزري : اعذب ، لازم و متعد بل اقتصر ابن دريد على أن ( أعذب ) بمعنى ( امتنع ) فقال : أعذب عن الشي‏ء إذا امتنع عنه ، و في الحديث « فأعذبوا عن النساء » أي امتنعوا عن ذكرهن١ .

و الظاهر أنّ المصنف استند إليه حيث نقل العنوان مثله و جعله من أعذب و كون معنى « اعذب » امتنع .

و مثله الزمخشري ، ففي ( الأساس ) في حديث عليعليه‌السلام لسرية « اعذبوا عن النساء » اعذب عن الشي‏ء و استعذب عنه إذا امتنع ، لكن إن صح نقل الجزري لكلامهعليه‌السلام بلفظ « اعذبوا عن ذكر النساء أنفسكم » يكون « اعذبوا » بمعنى امنعوا٢ .

« و العاذب و العذوب الممتنع من الأكل و الشرب » و في ( الجمهرة ) : بات لرجل عاذبا و عذوبا إذا كان ممتنعا عن النوم جائعا ، و قول عبيد بن الأبرص الأسدي :

باتت على ارم عذوبا

كأنّها شيخة رقوب٣

أي جائعة ممتنعة من المأكل و المشرب ، و في ( الصحاح ) : العذوب من الدوابّ و غيرها القائم الذي لا يأكل و لا يشرب ، و كذلك العاذب و في ( القاموس ) : العذب ترك الأكل من شدّة العطش ، و هو عاذب و عذوب ، و العاذب و العذوب الذي ليس بينه و بين السماء ستر٤ .

____________________

( ١ ) القاموس المحيط للفيروز آبادي : ١٤٤ .

( ٢ ) أساس البلاغة للزمخشري : ٢٩٥ مادة ( عذب ) .

( ٣ ) الجمهرة لابن دريد ١ : ٣٠٤ .

( ٤ ) راجع المصدرين السابقين الصحاح ١ : ١٨٧ ، و القموس : ١٤٤ .

٥٦٥

١٣ الكتاب ( ٦١ ) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى كميل بن زياد النخعيّ و هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدوّ طالبا للغارة :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْيِيعَ اَلْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَ تَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْيٌ مُتَبَّرٌ وَ إِنَّ تَعَاطِيَكَ اَلْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ ؟ قِرْقِيسِيَا ؟ وَ تَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ اَلَّتِي وَلَّيْنَاكَ لَيْسَ بِهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَ لاَ يَرُدُّ اَلْجَيْشَ عَنْهَا لَرَأْيٌ شَعَاعٌ فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ اَلْغَارَةَ مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ غَيْرَ شَدِيدِ اَلْمَنْكِبِ وَ لاَ مَهِيبِ اَلْجَانِبِ وَ لاَ سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لاَ كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً وَ لاَ مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لاَ مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ قول المصنّف : « إلى كميل بن زياد النخعي » في ( ذيل الطبري ) : هو كميل بن زياد بن نهيك بن هيثم بن سعد بن مالك بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع .

و روى أنّه جاء كميل إلى الحجاج يأخذ عطاءه فقال له : أنت الذي فعلت بعثمان و كلّمه بشي‏ء فقال له كميل : لا تكثر عليّ اللوم و لا تهل عليّ الكثيب و ما ذاك رجل لطمني فاصبرني فعفوت عنه ، فأيّنا كان المسي‏ء ؟ فأمر بضرب عنقه١ .

و في ( الإرشاد ) : روى جرير عن المغيرة قال : لما وليّ الحجاج طلب كميلا فهرب منه فحرم قومه عطاءهم ، فلما رأى كميل ذلك قال : أنا شيخ كبير و قد نفد عمري و لا ينبغي أن أحرم قومي عطاءهم ، فخرج فدفع بيده إلى الحجاج ، فلما رآه قال : لقد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا فقال له : لا تصرف

____________________

( ١ ) ذيل الطبري : ١٤٧ مؤسسة الاعلمي .

٥٦٦

علي أنيابك و لا تهدم عليّ ، فو اللّه ما بقي من عمري إلاّ كمثل كواسل الغبار فاقض ما أنت قاض فإنّ الموعد اللّه و بعد القتل الحساب ، و لقد أخبرني أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّك قاتلي فقال له الحجاج : الحجّة عليك إذن فقال له كميل : إذا كان القضاء إليك قال : بلى كنت فيمن قتل عثمان اضربوا عنقه فضربت و هذا خبر رواه و نقله العامّة عن ثقاتهم١ .

« و هو عامله على هيت » في ( المعجم ) : هيت بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخيل كثير و خيرات واسعة٢ .

« ينكر عليه دفع من يجتاز به » أي : يمر عليه .

« من جيش العدو طالبا » حال من كميل .

« الغارة » في ( الطبري ) : وجّه معاوية في سنة ( ٣٩ ) سفيان بن عوف في ستة آلاف رجل و أمره أن يأتي هيت فيقطعها و أن يغير عليها ثم يمضي حتى يأتي الأنبار و المدائن فيوقع بأهلها ، فسار حتى أتى هيت فلم يجد بها أحدا .٣ .

قولهعليه‌السلام « فإنّ تضييع المرء ما وليّ » فكانعليه‌السلام ولاّه هيتا فضيعه .

« و تكفله ما كفي » من إرادة الاستيلاء على بلد آخر لم يكلف به .

« لعجز حاضر و رأي متبر » أي : هالك مهلك .

و نظير فعل كميل أنّ خالد بن عبد اللّه بن أسيد و لاّه عبد الملك الكوفة فعزل مهلبا عن حرب الخوارج و ولاّه الجباية و ولّى أخاه عبد العزيز حربهم ،

فانهزم فكتب إليه عبد الملك : إنّي كنت قد حدّدت لك حدّا في أمر المهلب فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي و استبددت برأيك فوليّت المهلب الجباية و وليت

____________________

( ١ ) الإرشاد للمفيد : ١٧٢ .

( ٢ ) معجم البلدان ٥ : ٤٢١ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٠٣ .

٥٦٧

أخاك حرب الأزارفة ، فقبّح اللّه هذا رأيا أتبعث غلاما غرّا لم يجرّب الحروب و تترك سيّدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب تشغله بجبايتك ، أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه ، و لكن تذكرت رحمك فلفتتني عنك فجعلت عقوبتك عزلك١ .

« و إنّ تعاطيك » أي : تناولك .

« الغارة على أهل قرقيسيا » في ( المعجم ) : قرقيسيا بلد على نهر خابور قرب رحبة مالك بن طوق على ستة فراسخ ، و عندها مصبّ الخابور في الفرات ، فهي مثلث بين الخابور و الفرات قال حمزة : هو معرب كركيسيا من كركيس اسم لإرسال الخيل المسمّى بالعربية الحلبة٢ .

« و تعطيلك مسالحك » جمع المسلحة ، و في ( الصحاح ) : المسلحة قوم ذوو سلاح ، و المسلحة كالثغر و المرقب ، و في الحديث « كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العريب »٣ .

« التي ولّيناك ليس بها من يمنعها و لا يردّ الجيش عنها لرأي شعاع » بالفتح أي : متفرّق .

في ( فتوح البلاذري ) : أقام يزيد بن المهلب بخراسان شتوة ثم غزا جرجان و كان عليها حائط من آجر قد تحصنوا به من الترك و أحد طرفيه في البحر ثم غلبت الترك عليه و سمّوا ملكهم الصول ، فقال يزيد : قبّح اللّه قتيبة ترك هؤلاء و هم في بيضة العرب و أراد غزو الصين٤ .

و في ( الطبري ) : ولّى المنصور رجلا من العرب حضر موت ، فكتب إليه

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٤ : ١٧٨ .

( ٢ ) معجم البلدان ٤ : ٣٢٨ .

( ٣ ) الصحاح ١ : ٣٧٦ مادة ( سلح ) .

( ٤ ) الفتوح للبلاذري : ٤٦٩ ٤٧٠ .

٥٦٨

والي البريد انّه يكثر الخروج في طلب الصيد ببزاة و كلاب قد أعدّها ، فعزله و كتب إليه : ثكلتك امّك و عدمتك عشيرتك ما هذه العدّة التي أعددتها للنكاية في الوحش ، انّما استكفيناك أمور المسلمين و لم نستكفك أمور الوحش ، سلم ما كنت تلي من عملنا إلى فلان بن فلان و الحق بأهلك ملوما مدحورا١ .

« فقد صرت جسرا لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك » أي كما أنّ الجسر وسيلة لعبور اليم كذلك تعطيل المسلحة وسيلة لعبور العدو إلى البلاد و نيله المراد و قال ابن أبي الحديد : أي كما أنّ الجسر لا يمنع من يعبر به فكذلك أنت و هو كما ترى٢ و نظير تشبيههعليه‌السلام قول ذي الرمة :

فلا وصل إلاّ أن تقارب بيننا

قلائص يجسرن الفلاة بنا جسرا

« غير شديد المنكب و لا مهيب الجانب » كنايتان عن الضعف ، كما أنّ شدّة المنكب و شدّة العضد كنايتان عن القوة .

« و لا سادّ » من سداد الثغر بالكسر ، قال العرجي :

أضاعوني و أيّ فتى أضاعوا

ليوم كريهة و سداد ثغر٣

« ثغرة » المراد به هنا موضع المخافة في فروج البلدان و مما يتصل ببلاد العدو ، و يأتي الثغر لمقدّم الأسنان .

« و لا كاسر لعدو » هكذا في ( المصرية )٤ أخذا من ابن أبي الحديد و ليس « لعدو » في ( ابن ميثم ) .

« شوكة »٥ الأصل فيه شوك الشجر .

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٣١٣ .

( ٢ ) شرح نهج البلغة لابن ابي الحديد ١٧ : ١٠٥ .

( ٣ ) ديوان المعاني ١ : ٨١ .

( ٤ ) الطبعة المصرية المصححة « كاسر شوكة » بخلاف ابن ابي الحديد انظر المصرية : ٦٣٢ و ابن أبي الحديد ١٧ : ١٤٩ .

( ٥ ) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ٥ : ٢٠٠ .

٥٦٩

« و لا مغن عن أهل مصر و لا مجز » أي : كاف .

« عن أميره » قال بعضهم :

و ليس فتى الفتيان من راح و اغتدى

لشرب صبوح أو لشرب غبوق

و لكن فتى الفتيان من راح و اغتدى

لضرّ عدو أو لنفع صديق

١٤ الكتاب ( ٣٣ ) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى قثم بن العباس و هو عامله على مكة :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى اَلْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ ؟ اَلشَّامِ ؟ اَلْعُمْيِ اَلْقُلُوبِ اَلصُّمِّ اَلْأَسْمَاعِ اَلْكُمْهِ اَلْأَبْصَارِ اَلَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَ يُطِيعُونَ اَلْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ اَلْخَالِقِ وَ يَحْتَلِبُونَ اَلدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ وَ يَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ اَلْأَبْرَارِ اَلْمُتَّقِينَ وَ لَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلاَّ عَامِلُهُ وَ لاَ يُجْزَى جَزَاءَ اَلشَّرِّ إِلاَّ فَاعِلُهُ فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ اَلْحَازِمِ اَلصَّلِيبِ وَ اَلنَّاصِحِ اَللَّبِيبِ وَ اَلتَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ اَلْمُطِيعِ لِإِمَامِهِ وَ إِيَّاكَ وَ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ وَ لاَ تَكُنْ عِنْدَ اَلنَّعْمَاءِ بَطِراً وَ لاَ عِنْدَ اَلْبَأْسَاءِ فَشِلاً وَ اَلسَّلاَمُ قول المصنّف : « و من كتاب لهعليه‌السلام إلى قثم بن العباس » قال ابن أبي الحديد : روى ( الاستيعاب ) عن عبد اللّه بن جعفر قال : كنت أنا و عبيد اللّه و قثم نلعب ، فمرّ بنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله راكبا فقال : ارفعوا إليّ هذا الفتى يعني قثم فرفع إليه فأردفه خلفه ثم جعلني بين يديه و دعا لنا فاستشهد قثم بسمرقند١ .

قلت : انما في ( الاستيعاب ) : « استشهد . » إنشاء منه لا جزء الخبر كلام عبد اللّه بن جعفر كما يفهم من ابن أبي الحديد ، قال ابن أبي الحديد : قال أبو

____________________

( ١ ) الاستيعاب ٢ : ٥٥١ ترجمة قثم بن العباس طبع حيدر آباد ، كذلك نظر ابن ابي الحديد ١٦ : ١٤٠ .

٥٧٠

عمر : كان قثم يشبه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، و فيه يقول داود بن مسلم :

عتقت من حل و من رحله

يا ناق إن أدنيتني من قثم

إنّك إن أدنيت منه غدا

حالفني اليسر و مات العدم

في كفّه بحر و في وجهه

بدر و في العرنين منه شمم

أصمّ عن قيل الخنا سمعه

و ما عن الخير به من صمم

لم يدر مالا و بلى قد درى

فعافها و اعتاض منها نعم١

قلت : و نقل أيضا عن الزبير بن بكار أنّ الشعر الذي أوّله :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

و البيت يعرفه و الحل و الحرم

أيضا قيل في قثم و قال هو بل هو شعر آخر في عروضه و قافيته .

و الأمر كما ذكر أبو عمر ، فإن تلك الأبيات إنّما هي في علي بن الحسينعليهما‌السلام كما رواه جمع من أهل السير .

« و هو عامله على مكّة » قال ابن أبي الحديد : قال أبو عمر : قال خليفة :

استعمل عليعليه‌السلام قثما على مكّة بعد أبي قتادة ، و كان عليها حتى قتل علي .

و قال الزبير : استعمله على المدينة٢ .

قلت : لم ينقل الطبري خلافا في كون قثم عاملهعليه‌السلام على مكّة في سنة ( ٣٨ ٣٩ ) و إنّما نقل الخلاف في من حج سنة ( ٣٩ )٣ .

قولهعليه‌السلام « أما بعد فإنّ عيني » ذكر أهل اللغة للعين معاني كثيرة ، و المراد بها هنا الجاسوس .

« بالمغرب » أي : الشام .

____________________

( ١ ) نهج ١٦ : ١٤١ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ١٤٠ .

( ٣ ) تاريخ الطبري ٤ : ٢١٨ .

٥٧١

« كتب إليّ يعلمني أنّه وجّه إلى الموسم » أي : مجمع الحاج .

« اناس من أهل الشام » في ( الطبري ) : قال أبو زيد : يقال ان عليّاعليه‌السلام وجّه في سنة ( ٣٩ ) ابن عباس ليشهد الموسم ، و بعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي و زعم المدائني ان ذلك باطل و ان الذي نازعه يزيد بن شجرة هو قثم حتى اصطلحا على شيبة بن عثمان ، و مثله أبو معشر١ .

و قال الواقدي : بعث عليعليه‌السلام على الموسم في سنة ( ٣٩ ) عبيد اللّه بن عباس و بعث معاوية يزيد بن شجرة الرهاوي ليقيم للناس الحجّ ، فلما اجتمعا بمكة تنازعا فاصطلحا على شيبة٢ .

و قال ابن أبي الحديد كان معاوية بعث إلى مكّة دعاة في السر يدعون إلى طاعته و يثبطون العرب عن نصرتهعليه‌السلام و يوقعون في أنفسهم أنّه إمّا قاتل عثمان أو خاذله و الخلافة لا تصلح فيمن قتله أو خذله ، و ينشرون عندهم محاسن معاوية بزعمهم ، و في قولهعليه‌السلام « و يحتلبون الدنيا درها بالدين » دلالة على ما قلنا أنّهم كانوا دعاة يظهرون سمت الدين و ناموس العبادة ، و فيه إبطال قول من ظنّ أن المراد بذلك السرايا التي كان معاوية يبعثها فتغير على عمّالهعليه‌السلام ٣ .

قلت : بل المراد ما نقلناه عن الطبري عن أبي زيد و المدائني و أبي معشر و الواقدي من بعث معاوية في سنة ( ٣٩ ) يزيد بن شجرة الرهاوي في جمع وقت الموسم لإقامة الحج ، إلا أنّ الأول قال انّهعليه‌السلام بعث في قبال ابن شجرة عبد اللّه بن عباس و الأخير عبيد اللّه بن العباس و الأوسطان قثما نفسه ، و هو

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٤ : ١٠٤ .

( ٢ ) الكامل لابن الاثير ٣ : ٣٧٧ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ١٣٨ .

٥٧٢

الأوسط بشهادة العنوان و أما استشهاد ابن أبي الحديد لاجتهاده بقولهعليه‌السلام « و يحتلبون . » فأعمّ فيكفي في صدق الكلام بعث معاوية ابن شجرة لإقامة الحج و جزؤه الصلاة هذا ، و في ( كامل المبرد ) : خرجت طائفة من الخوارج بعد قتل عليعليه‌السلام لهم بالنهروان ثم النخيلة نحو مكّة ، فوجّه معاوية من يقيم للناس حجّهم فناوشه هؤلاء الخوارج ، فبلغ ذلك معاوية فوجّه بسر بن أرطاة فتوافقوا و تراضوا بعد الحرب بأن يصلّي بالناس رجل من بني شيبة لئلا يفوت الناس الحج ، فلما انقضى الحجّ قالت الخوارج إنّ عليّا و معاوية أفسدا الأمر١ .

و الأصل في الجميع واحد ، و لا تنافي فمكة لا ريب أنّها كانت بيدهعليه‌السلام و عاملها من قبله ، و لما بعث معاوية من يقيم للناس حجّهم و كان جمع من الخوارج شهدوا الموسم للحج لا بدّ أنّهم يناوشون من جاء من قبل معاوية مع عاملهعليه‌السلام و إن لم يكن لهم عقيدة بهعليه‌السلام أيضا .

« العمى القلوب » قال تعالى .فإنّها لا تعمى الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور ٢ .

و في ( معارف ابن قتيبة ) : كان ابن عباس و أبوه و جدّه مكافيف ، و لذلك قال له معاوية : أنتم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم فقال له ابن عباس :

و انتم يا بني امية تصابون في بصائركم٣ .

« الصم الأسماع » و صمّ الأسماع أشدّ من صمّ الآذان كعمي القلوب و الأعين .

____________________

( ١ ) الكامل ، للمبرّد ٣ : ٩٢٥ ٩٢٦ .

( ٢ ) الحج : ٤٦ .

( ٣ ) معارف ابن قتيبة : ٥٨٩ .

٥٧٣

« الكمه » جمع الأكمه الذي يولد أعمى .

« الأبصار » أرادعليه‌السلام عدم استعداد بصائرهم للحق كالأكمه ، قال تعالى .لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم أضل .١ .

« الذين يلتمسون » هكذا في ( المصرية )٢ و الصواب : « يلبسون » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم )٣ .

« الحق بالباطل » و الأصل فيه قوله تعالىو لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون ٤ .

« و يطيعون المخلوق في معصية الخالق » في ( المروج ) : سأل معاوية صعصعة عن قبائل مضر و ربيعة ، فأجابه ثم سكت معاوية فقال له صعصعة : سل و إلاّ أخبرتك بما تحيد عنه قال معاوية : و ما ذاك ؟

قال صعصعة : أهل الشام قال ، فأخبرني عنهم فقال صعصعة : هم أطوع الناس للمخلوق و أعصاهم للخالق ، عصاة الجبّار و خلفة الأشرار ، فعليهم الدمار و لهم سوء الدار٥ .

« و يحتلبون الدّنيا درّها بالدين » في ( صفين نصر ) : أنّهعليه‌السلام لمّا أراد المسير إلى الشام استشار أصحابه ، فقام هاشم المرقال و قال : إنّا بالقوم خبير ، هم لك و لأشياعك أعداء ، و هم لمن يطلب حرث الدّنيا أولياء ، و هم مقاتلوك لا يبقون جهدا مشاحة على الدّنيا و ضنّا بما في أيديهم منها ، و ليس

____________________

( ١ ) الاعراف : ١٧٩ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٥٧٣ ، شرح محمد عبده .

( ٣ ) شرح نهج البلغة لابن أبي الحديد ١٦ : ١٣٨ ، و ذكر رواية يلتمسون أيضا .

( ٤ ) البقرة : ٤٢ .

( ٥ ) مروج الذهب ٣ : ٤١ .

٥٧٤

لهم إربة غيرها الا ما يخدعون به الجهّال من الطلب بدم عثمان ، كذبوا ليسوا بدمه يثأرون ، و لكن الدّنيا يطلبون ، و أين معاوية و الدين١ .

و في ( مقاتل أبي الفرج ) : قال سعيد بن سويد : صلّى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثم خطب فقال : إنّي و اللّه ما قاتلتكم لتصلّوا و لا لتصوموا و لا لتحجّوا و لا لتزكّوا إنّكم لتفعلون ذلك ، إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم و قد أعطاني اللّه ذلك و أنتم كارهون قال شريك في حديثه هذا هو التهتك٢ .

« و يشترون عاجلها بآجل الأبرار و المتقين » هكذا في ( المصرية )٣ و الصواب ما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) : « المتقين »٤ في ( صفين نصر ) بعد ذكر قصّة معاهدة عمرو بن العاص مع معاوية في مساعدته لهعليه‌السلام على أن يعطيه مصر فقبل منه و أعطاه مصر ، فغضب مروان و قال : ما بالي لا أشتري كما اشترى عمرو٥ .

و في ( الاستيعاب ) : أعطى معاوية في و فد تميم عليه الحتات المجاشعي و جارية بن قدامة و الأحنف بن قيس و أعطاهما أكثر ، فقال له الحتات : لم فضّلتهما عليّ و كانا شيعيين و كان أمويا قال : اشتريت منهما دينهما قال :

فاشتر مني ديني٦ .

« و لن يفوز بالخير إلاّ عامله و لا يجزى جزاء الشرّ إلاّ فاعله »فمن يعمل

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ١٠٣ طبع القاهرة .

( ٢ ) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني : ٤٥ .

( ٣ ) الطبعة المصرية : ٥٧٣ .

( ٤ ) ابن ابي الحديد ١٦ : ١٣٨ ، و ابن ميثم ٥ : ٧٢ ، الرواية ٣٣ .

( ٥ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٤٢ .

( ٦ ) الاستيعاب لابن عبد البر ١ : ١٥٤ ، ترجمة حتات بن يزيد بن علقمة .

٥٧٥

مثقال ذرّة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرّة شرّا يره ١ .

« فأقم على ما في يديك قيام الحازم الصليب و الناصح اللبيب و التابع » هكذا في ( المصرية )٢ و الصواب : « التابع » كما في ( ابن أبي الحديد : و ابن ميثم ) .

« لسلطانه و المطيع لإمامه »٣ قد عرفت أنّه نازع يزيد بن شجرة الذي بعثه معاوية حتى اصطلحا على شيبة ، و الظاهر أنّه لم يكن قادرا على إخراجه لضعف جنده .

« و إيّاك و ما يعتذر منه » قال ابن أبي الحديد يقال : ما شي‏ء أشدّ على الإنسان من حمل المروة ، و المروة ألا يعمل الإنسان في غيبة صاحبه ما يعتذر منه عند حضوره٤ .

و في ( العقد ) : قال أبو عبيدة : ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول :

و اللّه يعلم ما تركت قتالهم

حتى رموا مهري بأشقر مزبد

فصدفت عنهم و الأحبّة فيهم

طمعا لهم بعقاب يوم مرصد

و هذا الذي سمعه صاحب رتبيل فقال : يا معشر العرب حسّنتم كلّ شي‏ء فحش حتى الفرار٥ .

« و لا تكن عند النعماء بطرا و لا عند البأساء فشلا » قال ابن أبي الحديد قال الشاعر :

فلست بمفراح إذا الدهر سرّني

و لا جازع من صرفه المتقلّب

____________________

( ١ ) الزلزلة : ٧ ٨ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٥٧٣ .

( ٣ ) ابن أبي الحديد ١٦ : ١٣٨ ، و ابن ميثم شرح نهج البلاغة ٥ : ٧٢ .

( ٤ ) ابن ابي الحديد ١٦ : ١٣٩ .

( ٥ ) العقد الفريد لابن عبد ربه ١ : ١٤٠ .

٥٧٦

و لا أتمنى الشرّ و الشرّ تاركي

و لكن متى أحمل على الشر أركب١

قلت : الأصل في قولهعليه‌السلام قوله تعالىإنّ الإنسان خلق هلوعا إذا مسّه الشرّ جزوعا و إذا مسّه الخير منوعا إلاّ المصلّين الذين هم على صلاتهم دائمون ٢ .

١٥ الكتاب ( ٤ ) و من كتاب لهعليه‌السلام إلى بعض أمراء جيشه :

فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ اَلطَّاعَةِ فَذَلِكَ اَلَّذِي نُحِبُّ وَ إِنْ تَوَافَتِ اَلْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى اَلشِّقَاقِ وَ اَلْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطَاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ وَ اِسْتَغْنِ بِمَنِ اِنْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ فَإِنَّ اَلْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وَ قُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ أقول : قال ابن ميثم روي أنّ الأمير الذي كتب إليهعليه‌السلام هو عثمان بن حنيف عامله على البصرة ، و ذلك حين انتهت أصحاب الجمل إليها و عزموا على الحرب ، فكتب عثمان إليهعليه‌السلام يخبره بحالهم ، فكتبعليه‌السلام إليه هذا الكتاب٣ .

قلت : لم يأت لما قال بمستند ، فان رأى رواية و إن كان قاله حدسا فهو كما ترى ، فابن حنيف لم يكن من أمراء جيشه حتى يقول المصنف « إلى بعض امراء جيشه » بل عامله على البصرة ، و لم ينقل أنّهعليه‌السلام كتب إليه بحربهم قبل وصولهعليه‌السلام ، و إنما ورد مضمونه في كتابه إلى قيس بن سعد مع عثماني

____________________

( ١ ) ابن ابي الحديد ١٦ : ١٣٩ .

( ٢ ) المعارج : ١٩ ٢٣ .

( ٣ ) شرح ابن ميثم ٥ : ٣٤٩ الرواية ( ٤ ) .

٥٧٧

مصر ، ففي ( الطبري ) : أن قيسا كتب من مصر إليهعليه‌السلام : إنّ قبله رجالا معتزلين سألوه أن يكفّ عنهم و أنّه رأى ألاّ يتعجّل حربهم و أن يتألّفهم ، فكتبعليه‌السلام إليه :

سر إلى القوم الذين ذكرت ، فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون و إلاّ فناجزهم .١ .

و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) : فصل : و من كتاب كتبه إلى بعض امراء جيشه في قوم كانوا قد شردوا عن الطاعة و فارقوا الجماعة ، رواه الشعبي عن ابن عباس : سلام عليك أما بعد ، فإن عادت هذه الشرذمة إلى الطاعة فذلك الذي أوثره ، و إن تمادى بهم العصيان إلى الشقاق فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك و استعن بمن انقاد معك على من تقاعس عنك ، فإنّ المتكاره مغيبه خير من حضوره و عدمه خير من وجوده و قعوده أغنى من نهوضه٢ .

« فإن عادوا إلى ظلّ الطاعة فذاك الذي نحبّ » فإنّ الأنبياء و الأوصياءعليهم‌السلام إنّما يحبّون هداية الخلق لنجاتهم ، و قولهعليه‌السلام « ظل الطاعة » استعارة لطيفة ،

فطاعة الوالي كالظلّ توجب الراحة ، و مخالفته كالحرور توجب المشقّة .

« و إن توافت الامور » أي : تتامت .

« بالقوم إلى الشقاق » و الأصل في الشقاق نزول الخصم في شقّ غير شقّك .

« و العصيان فانهد » أي : انهض من ( ينهد ) بالفتح .

« بمن أطاعك إلى من عصاك و استعن بمن انقاد معك عمّن تقاعس » أي : تأخّر .

« عنك فإنّ المتكاره مغيبه خير من مشهده » قال تعالىفي المنافقين الذين

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٥٤ .

( ٢ ) التذكرة لسبط بن الجوزي : ١٦٦ .

٥٧٨

كانوا متكارهين عن الخروج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الجهاد لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة . .١ .

« و قعوده أغنى من نهوضه » أي : قيامه ، و أكثر انهزام العساكر في الأغلب من شهود المتكارهين .

١٦ الحكمة ( ٨٦ ) و قالعليه‌السلام :

رَأْيُ اَلشَّيْخِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَلَدِ اَلْغُلاَمِ و روي من مشهد الغلام أقول : و رواه الجاحظ في ( بيانه ) : « رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد الشاب »٢ .

و في ( العقد الفريد ) : وقع عليعليه‌السلام في كتاب جاءه من الحسن بن عليعليهما‌السلام : رأي الشيخ خير من جلد الغلام٣ .

« رأي الشيخ أحبّ إليّ من جلد » بفتحتين ، أي الشدّة و الضرب بالسيف .

« الغلام » فإنّ رأي الشيخ في الظفر يمكن أن يكون أشدّ تأثيرا من قوّة ألف غلام .

و في ( الطبري ) : حضر مع هوازن في غزوة حنين دريد بن الصمة و كان شيخا كبيرا ليس فيه شي‏ء إلاّ معرفته بالحرب و لرأيه إلى أن قال فلما نزلوا بأوطاس قال لمالك بن عوف رئيس القوم : إنّك قد أصبحت رئيس قومك و إنّ

____________________

( ١ ) التوبة : ٤٧ .

( ٢ ) البيان و التبيين ٢ : ١٤ .

( ٣ ) العقد الفريد ٤ : ٢٠٦ ، و في بعض النسخ « مشهد » بدل « جلد » كذا في نسخة التحقيق .

٥٧٩

هذا يوم له ما بعده ، مالي أسمع رغاء البعير و نهاق الحمير و يعار الشاء و بكاء الصغير قال : سقت مع الناس أبناءهم و نساءهم و أموالهم قال : لم ؟ قال :

ليقاتل كلّ رجل عن أهله و ماله قال : هل يردّ المنهزم شي‏ء ، إنّها إن كانت لك لم ينفعك إلاّ رجل بسيفه و رمحه و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك ،

ارفعهم إلى متمنع بلادهم و عليا قومهم ثم الق الشبّان على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، و إن كانت عليك كفاك ذلك و قد أحرزت أهلك و مالك قال : لا أفعل إنّك قد كبرت و كبر علمك و قال لقومه : لتطيعنني أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري .

و كره أن يكون لدريد فيها ذكر و رأي فقال دريد : هذا يوم لم أشهده و لم يفتني . و كان صواب الرأي ما قال دريد١ .

و في ( الكامل ) للمبرد : قال المهلب ما يسرّني أنّ في عسكري ألف شجاع بدل بيهس بن صهيب ، فيقال له : أيّها الأمير بيهس ليس بشجاع فيقول : أجل و لكنّه سديد الرأي محكم العقل ، و ذو الرأي حذر سؤول ، فأنا آمن أن يغتفل ،

فلو كان مكانه ألف شجاع قلت إنّهم يتشأمون حتى يحتاطون٢ .

و كان المهلب شيخا ذا رأي متين ، فلو لا تدابيره في حرب الخوارج لخربوا البصرة و قتلوا رجالها و سبوا نساءها و لمّا أرجفوا بأنّ المهلب قتل يوم سلى و سلبرى و هم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية ثم ورد كتابه بظفره فأقام الناس و تراجع من ذهب منهم قال الأحنف : البصرة بصرة المهلب ، بل لو لاه لغلبوا على جميع العراق الكوفة و غيرها ، و لذا قال الحجاج لأهل الكوفة بعد ظفر المهلب بالخوارج : أنتم عبيد المهلب .

____________________

( ١ ) تاريخ الطبري ٢ : ٣٤٤ .

( ٢ ) الكامل ، للمبرّد ٣ : ١١٣١ .

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617