بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة6%

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 617

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤
  • البداية
  • السابق
  • 617 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194094 / تحميل: 7307
الحجم الحجم الحجم
بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الثاني: الصحابة في القران الكريم

وتعرّض القرآن الكريم لأحوال الصحابة وصفاتهم، منذ بداية بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتّى وفاته في كثيرٍ من سوره وآياته ...

لقد قسّم القرآن الكريم الملتّفين حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مقابل الكافرين، والذين أُوتوا الكتاب، إلى ثلاثة طوائف، هم:

١ - الذين آمنوا.

٢ - الذين في قلوبهم مرض.

٣ - المنافقون.

والجدير بالدراسة والبحث وجود عنوان:( الّذين في قلوبهم مرض ) إلى جنب( الّذين آمنوا ) في بعض السِّوَر المكيّة،

ففي سورة (المدّثّر)، المكيّة بالإجماع، وهي من أُوليات السِّوَر، جاء قوله تعالى:

( وَما جَعلنا أصحَابَ النَّارِ إلاّ مَلائكةً * وما جَعلنَا عِدّتهُم إلاّ فِتنَةً للَّذينَ كَفرُوا ليستيقِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ ويَزدادَ الَّذينَ آمَنُوا إيماناً ولايَرتَابَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتابَ والمؤمنُونَ وليقُولَ الَّذينَ في قُلوبِهمِ مَرضٌ والكافِرونَ ماذا

٢١

أرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) (١) .

دلّت الآية المباركة على وجود أُناس( في قلوبهم مرض ) حول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منذ الأيّام الأُولى من الدعوة الإسلامية، و (المرض) بأيِّ معنىً فُسّر، فهؤلاء غير المنافقين الذين ظهروا بالمدينة المنوَّرة، قال الله تعالى:

( وممّن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة ) (٢) .

فالّذين في قلوبهم مرضٌ لازموا النبيّ منذ العهد المكّي، حيث كان الإسلام ضعيفاً، والنبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مطارداً.

أمّا المنافقون فقد ظهروا بعد أن ظهرت شوكة الإسلام، فتظاهروا بالإسلام؛ حفظاً لأنفسهم وأموالهم وشؤونهم.

وبناءً على هذا، فكلُّ آيةٍ من القرآن الكريم، ورد في ظاهرها شيءٌ من الثناء على عموم الصحابة، فهي - لو تمّ الاستدلال بها - محفوفة بما يخرجها عن الإطلاق والعموم وتكون مخصّصةً بـ( الّذين آمنوا ) حقيقةً، فلا يُتوهّم شمولها للذين في قلوبهم مرضٌ، والمنافقين، الذين وقع التصريح بذمّهم - كذلك - في كثيرٍ من الآيات(٣) .

وفيما يلي، نستعرض الآيات القرآنية التي نزلت في الصحابة، في مختلف مراحل الدعوة الإسلامية، وفي مختلف ظروفهم من حيث القرب والبُعد عن الأُسس الثابتة في العقيدة والشريعة، ومن حيث درجة الانقياد لله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الأوامر والنواهي:

____________________

١) سورة المدّثر ٧٤: ٣١.

١) سورة التوبة ٩: ١٠١.

٣) اُنظر تفسير الميزان ٢٠: ٩٠.

٢٢

آيات المدح والثناء:

ذكر غير واحدٍ من المؤلفين، آياتٍ من القرآن الكريم للاستدلال، على أنّ الله قد أثنى في كتابه على الصحابة بنحو العموم:

الآية الأُولى:

قال تعالى:

( كُنتُمْ خيرَ أُمَّةٍ أُخرجَتْ للنّاسِ تأمُرُونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المنكرِ وتؤمنونَ باللهِ ) (١) .

قالوا: نزلت هذه الآية في المهاجرين من مكّة إلى المدينة، كما ورد عن عبدالله بن عبّاس أنّه قال:

(هم الذين هاجروا مع رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلّم - من مكّة إلى المدينة)(٢) .

وعن عِكْرِمة ومقاتل:

(نزلت في ابن مسعود واُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة، وذلك أنّ مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إنَّ ديننا خيرٌ مما تدعوننا إليه، ونحن خيرٌ وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية ...)(٣) .

لكنّ قول ابن عباس لو ثبت مقيّدٌ بما أشرنا إليه، فلا يكون المراد عموم المهاجرين الشامل للذين في قلوبهم مرضٌ قطعاً.

كما أنّ قول عِكْرِمة وأمثاله ليس بحجّة.

____________________

١) سورة آل عمران ٣: ١١٠.

٢) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٣٩٩. والدر المنثور، للسيوطي ٢: ٢٩٣. وبنحوه في الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٠.

٣) أسباب نزول القرآن، للواحدي: ١٢١.

٢٣

والآية حتّى لو كانت نازلةً في موردٍ خاصٍ إلاّ أنّ المفسرين وسّعوا المفهوم ليشمل جميع الأُمّة الإسلامية، كما يقول ابن كثير:

(والصحيح أنَّ هذه الآية عامّة في جميع الأُمّة كلّ قرنٍ بحسبه)(١) .

واختلف العلماء في تشخيص من تشمله الآية، هل هو الأُمّة بأفرادها فرداً فرداً؟

أي أنّ كلّ فرد من الأُمّة الإسلامية هو موصوف بالخيريّة، أو هو الأُمة إجمالاً، أي: بمجموعها دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً.

فذهب جماعةٌ إلى الرأي الأول، ومنهم: الخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار الحنبلي(٢) .

فالآية في نظرهم شاملة لجميع أفراد الأُمّة وهم الصحابة آنذاك، فكُلُّ صحابيٍّ يتصف بالخيرية والعدالة مادام يشهد الشهادتين.

وذهب آخرون إلى الرأي الثاني، وهو اتصاف مجموع الأُمّة بالخيرية دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، وقيّدوا هذه الصفة بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يتصف بالخيريّة من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، سواء كان فرداً أو أُمّة.

قال الفخر الرازي:

( المعنى أنّكم كنتم في اللّوح المحفوظ خير الأُمم وأفضلهم، فاللاّئق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كلِّ ما يتوجّه عليكم من التكاليف والألف

____________________

١) تفسير القرآن العظيم ١: ٣٩٩.

٢) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. الإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٢٧٤.

٢٤

واللاّم في لفظ (المعروف)، ولفظ (المنكر) يفيدان الاستغراق، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكلِّ معروف وناهين عن كلِّ منكر (تأمرون) المقصود به بيان علة تلك الخيرية)(١) .

وقال الفضل الطبرسي:

(كان بمعنى صار، ومعناه: صرتم خير أُمّة خلقت لأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر، وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال شرطاً في كونهم خيراً)(٢) .

وقال القرطبي:

(تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر: مدح لهذه الأُمّة ما أقاموا ذلك واتصفوا به، فإذا تركوا التغيير وتواطئوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سبباً لهلاكهم)(٣) .

فالخيرية تزول إن زالت علّتها، وذهب إلى ذلك - أيضاً - نظام الدين النيسابوري(٤) ، والشوكاني(٥) ، وآخرون.

وذكر ابن كثير قولين - في ذكر الشروط - أحدهما لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والآخر لعمر بن الخطّاب:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

( خيرُ الناس أقرأهم، وأتقاهم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرحم ) (٦) .

____________________

١) التفسير الكبير ٨: ١٨٩ - ١٩١.

٢) مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسي ١: ٤٨٦.

٣) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ٤: ١٧٣.

٤) تفسيرغرائب القرآن، للنيسابوري ٢: ٢٣٢.

٥) فتح القديرللشوكاني: ٣٧١.

٦) تفسيرالقرآن العظيم: لابن كثير ١: ٣٩٩

٢٥

فالآية الكريمة ناظرةٌ إلى مجموع الأُمّة، أمّا الأفراد، فقد وضع (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقياساً لاتصافهم بالخيرية، كما جاء في قوله.

وفي حجةٍ حجّها عمر بن الخطاب رأى من الناس دعةً، فقرأ هذه الآية، ثم قال:

(من سرّه أن يكون من هذه الأُمّة فليؤدِ شرط الله فيها)(١) .

وذهب أحمد مصطفى المراغي إلى أنّ الخيريّة مختصةٌ بمن نزلت فيهم الآية في حينها، ثم وسّع المفهوم مشروطاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( أنتم خير أُمّةٍ في الوجود الآن، لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون إيماناً صادقاً، يظهر أثره في نفوسكم وهذا الوصف يصدُق على الذين خوطبوا به أولاً، وهم النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وأصحابه الذين كانوا معه وقت التنزيل وما فتئت هذه الأُمّة خير الأُمم حتّى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)(٢) .

وأضاف محمد رشيد رضا: الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرّق، إلى شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:

( شهادة من الله تعالى للنبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - ومن اتّبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها، بأنّها خير أُمّةٍ أُخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث، ومن اتّبعهم فيها كان له حكمهم لامحالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام، واتّباع - النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم - إلاّ الدعوى وجعل الدين جنسية لهم، بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحجّ البيت الحرام والتزم الحلال واجتنب الحرام، مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلاّ بعد القيام بالأمر

____________________

١) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير ١: ٤٠٤.

٢) تفسير المراغي، لأحمد مصطفى المراغي ٤: ٢٩.

٢٦

بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله، مع اتّقاء التفرّق والخلاف في الدين ...

إنّ هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل، لم تكن لكلِّ من يُطْلق عليه المحدّثون اسم الصحابي )(١) .

ومن خلال طرح هذه الآراء نجد أنّ الرأي الثاني هو الأقرب للمعنى المراد، فإنَّ الآية ناظرةٌ إلى مجمل الأُمّة وليس إلى الأفراد فرداً فرداً.

وأكدّ الدكتور عبدالكريم النملة هذا المعنى فقال:

( لا يجوز استعمال اللفظ في معنيين مختلفين، فالمراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، فلا يُراد كل واحد منهم أي من الصحابة -)(٢) .

الآية الثانية :

قال تعالى:

( وكذلِكَ جعلناكُم أُمَّةً وسطاً لِتكونُوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليكم شهيداً ) (٣).

جعل الله تعالى المسلمين أُمّةً وسطاً بين الأُمم، لا سيّما اليهود والنصارى، فالأُمّة الوسط بعيدة عن التقصير والغُلوّ في الاعتقاد وفي المواقف العملية من الأنبياء، قال النيسابوري:

(إنّهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط، والغالي والمقصّر في شأن الأنبياء لا كالنصارى ولا كاليهود)(٤) .

ويُطْلق الوسط - أيضاً - على الخيار والعدل.

____________________

١) تفسير المنار ٤: ٥٨ - ٥٩.

٢) مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف: ٨٢.

٣) سورة البقرة ٢: ١٤٣.

٤) تفسير غرائب القرآن ١: ٤٢١.

٢٧

قال الزمخشري: ( وقيل للخيار وسط لأنّ الأطراف يتسارع إليها الخلل والإعوار، والأوساط محميّة محوطة.. أو عدولاً لأنَّ الوسط عدل بين الأطراف، ليس إلى بعضها أقرب من بعض)(١) .

وقال القرطبي نحو ذلك(٢) .

والوسطيّة بمعنى الاعتدال بين الإفراط والتفريط هي المستعملة في آراء المشهور من المفسّرين(٣) .

فهذه الآية كسابقتها في أنّ المراد مجموع الأُمّة من حيث المجموع، وإنْ حاول جماعةٌ - ومنهم: عبدالرحمان ابن أبي حاتم الرازي، والخطيب البغدادي، وابن حجر العسقلاني، وابن عبدالبر القرطبي، وابن الصلاح، وابن النجّار(٤) - تنزيلها على الأفراد، فجعلوا كلّ مسلمٍ وسطاً وعدلاً، فالصحابة جميعهم عدولٌ بشهادة القرآن لهم.

قال الفضل الطبرسي:

( إنّه - تعالى - جعل أُمّة نبيه محمّدٍ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - عدلاً وواسطة بين الرسول والناس، ومتى قيل: إذا كان في الأُمّة من ليس هذه صفته، فكيف وصف جماعتهم بذلك؟

فالجواب: إنّ المراد به من كان بتلك الصفة، ولأنّ كلَّ عصرٍ لا يخلو من جماعةٍ هذه صفتهم)(٥) .

____________________

١) الكشّاف ١: ٣١٨.

٣) الجامع لأحكام القرآن ٢: ١٥٤.

٤) مجمع البيان ١: ٢٤٤. وتفسير المراغي ٢: ٦. وتفسير المنار ٢: ٥.

٥) الجرح والتعديل ١: ٧. والكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. والاستيعاب ١: ٢. ومقدمة ابن الصلاح: ٤٢٧. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٤.

٦) مجمع البيان ١: ٢٢٤.

٢٨

وجعل أحمد مصطفى المراغي شرطاً للاتصاف بالعدالة والوسطيّة، وهو اتّباع سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمن لم يتّبعْها يُعتبر خارجاً عن هذه الأُمّة فقال:

( فنحن إنّما نستحق هذا الوصف إذا اتّبعنا سيرته وشريعته، وهو الذي يحكم على من اتّبعها، ومن حاد عنها وابتدع لنفسه تقاليد أُخرى، وانحرف عن الجادّة، وحينئذٍ يكون الرسول بدينه وسيرته حجّةً عليه بأنّه ليس من أُمتّه.. وبذلك يخرج من الوسط ويكون في أحد الطرفين )(١) .

وذهب إلى هذا الرأي محمد رشيد رضا في تفسير المنار(٢) .

وخصّص العلاّمة الطباطبائي هذه الصفة بالأولياء دون غيرهم، فقال:

(ومن المعلوم أنّ هذه الكرامة ليست تنالها جميع الأُمّة، إذ ليست إلاّ كرامة خاصة للأولياء الطاهرين منهم)(٣) .

وقال - أيضاً -:

( فالمراد بكون الأُمّة شهيدةً أنّ هذه الشهادة فيهم، كما أنّ المراد بكون بني إسرائيل فُضّلوا على العالمين، أنّ هذه الفضيلة فيهم من غير أن يتصف بها كلُّ واحدٍ منهم، بل نُسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه )(٤) .

وممّا يشهد على أنَّ المقصود ليس أفراد الأُمّة، هو أنَّ الذين ذهبوا إلى حجيّة إجماع الأُمّة استندوا إلى هذه الآية، واعتبروا إجماع الأُمّة هو الحجّة، دون النظر إلى الأفراد فرداً فرداً، كما حكى عنهم الشريف

____________________

١) تفسير المراغي ٢: ٦.

٢) تفسير المنار ٢: ٥.

٣) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٤) الميزان في تفسير القرآن ١: ٣٢١.

٢٩

المرتضى(١) وأبو حيان الأندلسي(٢) .

وأكدّ علاء الدين البخاري على أنّ المقصود هو مجموع الأُمّة فقال:

(فيقتضي ذلك أن يكون مجموع الأُمّة موصوفاً بالعدالة، إذ لا يجوز أن يكون كلُّ واحدٍ موصوفاً بها؛ لأنّ الواقع خلافه)(٣) .

وبعد، فإنَّ من غير الصحيح الاستدلال بالآية الكريمة على عدالة الصحابة أجمعين، أمّا على تفسير العلاّمة الطباطبائي فالأمر واضح، وأمّا على ما ذكرنا سابقاً من ضرورة لحاظ آيات القرآن الكريم كلّها، وضمّ بعضها إلى البعض الآخر، فهي وإنْ شملت الأفراد لكن(الذين آمنوا) فقط، دون(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) ، وأمّا على أقوال الجمهور، فلا يمكن أن يكون المقصود أفراد الأُمّة واحداً واحداً ليستفاد منها عدالة الصحابة، لأن الواقع خلافه، كما نصّ عليه العلاء البخاري.

فالآية الكريمة جعلت المسلمين أُمّةً وسطاً أو عدلاً، وهذه الوسطيّة والعدليّة ممتدة مع امتداد الأُمّة الإسلامية في كلِّ عصرٍ وزمان، فالأُمّة الإسلامية في مراحل لاحقة هي أُمّة وسط في عقيدتها وشريعتها وتطبيقها للمنهج الإسلامي، وفي مرحلتنا الراهنة حينما نقول إنّ الأُمّة الإسلامية أُمّةٌ وسط أو أُمّة عادلة، يصح القول إذا كان المقصود مجموع الأُمّة، أمّا سراية الوسطيّة والعدليّة للأفراد فرداً فرداً فلا تصح، لأنّ الواقع يخالف ذلك، فكثير من المسلمين بعيدون عن الإسلام كلّ البعد في تصوراتهم

____________________

١) الشافي في الإمامة ١: ٢٣٢ وما قبلها.

٢) تفسير البحر المحيط ١: ٤٢١.

٣) كشف الأسرار، لعلاء الدين البخاري، دار الكتاب العربي - بيروت ١٣٩٤ هـ.

٣٠

ومشاعرهم ومواقفهم، فكيف نعمّم العدالة على الأفراد؟

وما نقوله هنا نقوله في حقِّ أفراد الأُمّة في زمن النزول، فالآية مختصة بمجموع الأُمّة، بما فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والعترة الطاهرة، والمهاجرون والأنصار السابقون للخيرات والذين لم يخالفوا الأوامر الإلهيّة والنبويّة، طرفة عين، واستمروا على ذلك حتّى بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

الآية الثالثة:

قال تعالى:

( وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تبيَّنَ لهُ الهدى ويتَّبِع غيرَ سبيلِ المؤمنين نولِّه ما تولّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وساءت مصيراً ) (١) .

استدل البعض على طهارة وعدالة جميع الصحابة فرداً فرداً بهذه الآية الكريمة، ومنهم عبدالرحمان الرازي(٢) .

ووجه الاستدلال:

أنّ الله - تعالى - جمع بين مشاقّة الرسول واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فيكون اتّباع سبيلهم واجباً، ولا يصح الأمر باتّباع سبيل من يجوز عليهم الانحراف والريبة والفسق.

ولا علاقة للآية بمسألة عدالة الصحابة أبداً كما لا يخفى. ومع التنزل فإنّ الاستدلال بهذه الآية على عدالة جميع الصحابة فرداً فرداً لا يصح من عدة وجوه:

الأوّل :

ذهب كثيرٌ من المفسرِّين والمتكلِّمين إلى أنَّ المقصود بسبيل المؤمنين هو مجموع الأُمّة ومنهم: القصّار المالكي والسبكي(٣) .

____________________

١) سورة النساء ٤: ١١٥.

٢) الجرح والتعديل، لعبدالرحمان الرازي ١: ٧.

٣) المقدمة في الأُصول، للقصّار المالكي: ٤٥. والإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي ٢: ٣٥٣.

٣١

الثاني:

المراد بسبيل المؤمنين هو الاجتماع على الإيمان وطاعة الله ورسوله، فإنَّ ذلك هو (الحافظ لوحدة سبيلهم)(١) .

الثالث :

أن يكون سبيل المؤمنين خالياً من الإثم والعدوان، كما ورد في الآيات الكريمة، ومنها: قوله تعالى:

( وتَعاونُوا على البرِّ والتَّقوى ولا تَعاونُوا على الإثمِ والعُدوانِ ) (٢) .

وقوله تعالى:

( يا أيُّها الذين آمنُوا إذا تناجَيتُم فلا تَتَناجَوا بالإثمِ والعُدوانِ ومعصِيةِ الرَّسُولِ وتناجَوا بالبّرِ والتَّقوى ) (٣) .

فالله تعالى ينهى عن التعاون والمناجاة بالإثم والعدوان، لإمكان وقوعه من قبل المسلمين.

الرابع :

اختلف الصحابة فيما بينهم حتّى وصل الحال بهم إلى الاقتتال، كما حدث في معركة الجمل وصفّين، فيجب على الرأي المتقدِّم اتّباع الجميع، اتّباع علي بن أبي طالب (عليه السلام) والخارجين عليه، وهذا محال، واتّباع أحدهم دون الآخر يعني:

عدم اتّباع الجميع، بل البعض منهم، وهذا هو الوجه الصحيح، وهو وجوب اتّباع من وافق الحقّ والشريعة وليس اتّباع كل سبيل.

فالسبيل المقصود هو سبيل المؤمنين الموافق للحق وللأُسس الثابتة في الشريعة، وليس هو سبيل كلِّ فردٍ من أفراد المؤمنين.

وقد أشار ابن قيّم الجوزية إلى استحالة توزيع سبيل المؤمنين على

____________________

١) الميزان في تفسير القرآن ٥: ٨٢.

٢) سورة المائدة ٥: ٢.

٣) سورة المجادلة ٥٨: ٩.

٣٢

الأفراد فقال:

( إنّ لفظ الأُمّة ولفظ سبيل المؤمنين، لا يمكن توزيعه على أفراد الأُمّة وأفراد المؤمنين )(١) .

الآية الرابعة :

قال الله تعالى:

( يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ ) (٢) .

في هذه الآية تطييب لخاطر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأنّ الله حسبه أي كافيه وناصره ومؤيده على عدوه، واختلف في بيان المقصود من ذيل الآية، فقال مجاهد: (حسبك الله والمؤمنون)(٣) .

فجعل المؤمنين معطوفين على الله تعالى، فالله تعالى، والمؤمنون، هم الذين ينصرون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويؤيّدوه.

وذهب ابن كثير إلى جعل المؤمنين معطوفين على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّ الله تعالى ناصرهم ومؤيّدهم، فقال:

(يخبرهم أنّه حسبهم، أي كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم)(٤) .

وذكر العلاّمة الطباطبائي كلا الرأيين ورجَّحَ الرأي الأوّل(٥) .

وهنالك قرينة تدل على ترجيح الرأي الأوّل، وهي قوله تعالى:

( ...فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ هو الذي أيَّدَكَ بنصرِهِ وبالمؤمنين ) (٦) .

والآية تُسمّي من كان مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالمؤمنين سواء كان الله تعالى

____________________

١) أعلام الموقعين ٤: ١٢٧.

٢) سورة الانفال ٨: ٦٤.

٣) الدُّر المنثور ٤: ١٠١.

٤) تفسير القرآن العظيم ٢: ٣٣٧.

٥) الميزان في تفسير القرآن ٩: ١٢١.

٦) سورة الأنفال ٨: ٦٢.

٣٣

ناصره وناصرهم، أو كان الله والمؤمنون ناصرين له (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولا دلالة على أكثر من ذلك.

وقد ذهب الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني إلى أنّ الآية تدل على ثبوت عدالة الصحابة أجمعين وطهارتهم(١) .

وجعلوا الآية شاملةً لجميع الصحابة، حتّى الّذين لم يشتركوا في أيّ غزوةٍ من الغزوات، وهذا التعميم بحاجةٍ إلى دليل، ولا يكفي أن نقول:

إنَّ العبرة بعموم اللفظ لابخصوص المورد، فالآية قد نزلت في موردٍ خاصٍ وفي معركة بدرٍ بالخصوص، فكيف نعمّمها على جميع الصحابة حتّى الّذين كانوا يقاتلون في صف المشركين ثمّ أسلموا فيما بعد؟

وتسالم المفسرون على نزول الآية في موردٍ خاص، وهو غزوة بدر، وفي جماعةٍ خاصةٍ من الصحابة، وهم الصحابة الأوائل الذين اشتركوا في الغزوة ولم يتخلّفوا، لا في مطلق الصحابة.

فقيل: أنّها نزلت في الأنصار(٢) .

وقيل: أنّها نزلت في الأربعين الذين أسلموا في بداية البعثة(٣) .

وعن الإمام محمد الباقر (عليه السلام):

( إنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب ) (٤) .

والجامع المشترك لهذه الآراء أنّها نزلت في الصحابة الذين شاركوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في القتال.

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة في تمييز الصحابة ١: ٦.

٢) التفسير الكبير ١٥: ١٩١. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٣) أسباب النزول، للسيوطي: ١٨٣. والدر المنثور ٤: ١٠١.

٤) شواهد التنزيل، للحسكاني ١: ٢٣٠.

٣٤

وبهذا يتضح عدم صحة ما ذهب إليه الخطيب البغدادي، وابن حَجَر العسقلاني، من شمولها لجميع الصحابة، فرداً فرداً، فالمتسالَم عليه أنّ عدد الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدرٍ كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، أمّا بقيّة الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، وخصوصاً بعد فتح مكة، فقد كان بعضهم في صفوف المشركين الذين قاتلوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكيف تشملهم الآية التي نزلت لتطييب خاطر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإبلاغه بأنّ الله تعالى كافيه وناصره، على أعدائه الذين جمعوا له، للقضاء عليه وعلى رسالته، وجميعهم من الصحابة الذين أسلموا فيما بعد، كمعاوية، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهم!

ومع نزول الآية في الصحابة الأوائل، إلاّ أنّها مشروطة بحسن العاقبة، كما سيأتي فيما بعد(١) .

وهذا كلّه بحسب الأقوال والآراء في معنى الآية ونزولها.

أمّا بالنظر إلى ما قدّمناه فإنّ الآية المباركة تقول للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

(حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المـُؤمِنينَ) .

وهل يعمّ هذا اللّسان غير(الذين آمنوا) من(الذين في قلوبهم مرض) ومن(المنافقين) ؟!

الآية الخامسة :

قال الله تعالى:

( والسّابِقُونَ الاَوّلُونَ مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ والَّذينَ اتّبعُوهُم بإحسانٍ رّضيَ اللهُ عنهُم ورضُوا عنهُ وأعدَّ لهُم جنّاتٍ تجري تَحتَها الأنهارُ خالدِينَ فيها أبداً ) (٢) .

____________________

١) راجع الآية السابعة من هذا الفصل.

٢) سورة التوبة ٩: ١٠٠.

٣٥

في هذه الآية ثناء من الله تعالى للسابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وتصريح منه تعالى برضاه عنهم لما قدّموا من تضحيات في سبيل الله.

واختلف المفسرون في مصداق السابقين على آراء(١) :

الرأي الأوّل: أهل بدر.

الرأي الثاني: الذين صلّوا إلى القبلتين.

الرأي الثالث: الذين شهدوا بيعة الرضوان.

واختلفوا في تفسير التابعين على آراء:

الأوّل: هم الأنصار، على قراءة من حذف الواو من قوله (والذين)(٢) .

الثاني: هم المسلمون الذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار(٣) .

الثالث: هم المسلمون الذين جاءوا بعد عصر الصحابة(٤) .

الرابع: هم المسلمون في كلِّ زمانٍ إلى أن تقوم الساعة(٥) .

واستدل الخطيب البغدادي وابن حجر العسقلاني وابن النجّار، حسب رأيهم المعروف بهذه الآية، على رضوان الله تعالى عن جميع الصحابة

____________________

١) مجمع البيان ٣: ٦٤. والجامع لأحكام القرآن ٨: ٢٣٦. والكشاف ٢: ٢١٠. وتفسير القرآن العظيم ٢: ٣٩٨. والدُّر المنثور ٤: ٢٦٩.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧١.

٣) المصدر السابق ١٦: ١٧٢.

٤) الجرح والتعديل ١: ٨.

٥) الدُّر المنثور ٤: ٢٧٢.

٣٦

الذين عاصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإن أسلموا فيما بعد، أو ارتدّوا ثم عادوا إلى الإسلام، حسب تعريفهم للصحابة، وبهذا الرضوان كانوا عدولاً(١) .

وهذا الاستدلال خلاف للواقع، فالآية مختصّة بالمهاجرين والأنصار الذين سبقوا غيرهم في الهجرة والنصرة، من غير(الذين في قلوبهم مرض) و(المنافقين) أمّا التبعيّة لهم فمشروطة بالإحسان، سواءٌ فُسِّر بإحسان القول فيهم كما ذهب الفخر الرازي(٢) ، أو حال كونهم محسنين في أفعالهم وأقوالهم، كما قال المراغي:

(فإذا اتّبعوهم في ظاهر الإسلام، كانوا منافقين مسيئين غير محسنين، وإذا اتّبعوهم محسنين في بعض أعمالهم ومسيئين في بعض، كانوا مذنبين)(٣) .

فمن لم يُحسِن القول فيهم أو من لا يتّبعهم بإحسان، لا يكون مستحِقاً لرضوان الله - تعالى - فمن أمر بشتم الإمام عليّ (عليه السلام) وذمّه، لا تشمله الآية، فقد جاء في وصيّة معاوية للمغيرة بن شعبة: (لا تترك شتم عليٍّ وذمّه)، فكان المغيرة (لا يدع شتم عليٍّ والوقوع فيه)(٤) .

فكيف يدّعون رضوان الله عنهم، وقد خالفوا شرطه في الاتّباع بإحسان، وخرجوا على أول المؤمنين ووصي رسول ربِّ العالمين، أو من استقرّت له الخلافة ببيعة أهل الحل والعقد حسب رأيهم، وسفكوا في هذا الخروج دماء السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦. وشرح الكوكب المنير ٢: ٤٧٢.

٢) التفسير الكبير ١٦: ١٧٢.

٣) تفسير المراغي ١١: ١١.

٤) الكامل في التاريخ ٣: ٤٧٢.

٣٧

كعمّار بن ياسر، وذي الشهادتين، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وغيرهم كما هو مشهور؟!

وإضافةً إلى ذلك، فرضوان الله - تعالى - مشروطٌ بحسن العاقبة، كما ورد عن البراء بن عازب، حينما قيل له: ( طوبى لك صحبت النبي - صلّى الله عليه وآله وسلّم - وبايعته تحت الشجرة)، فقال للقائل: ( إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده)(١) .

وقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ ) (٢) .

الآية السادسة:

قال تعالى:

( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المـُؤمِنينَ إذ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهُمْ فتحاً قرِيباً) (٣) .

أثنى الله تعالى على الصحابة(المؤمنين) الذين بايعوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، ومصداق الثناء هو رضوان الله عنهم، وإنزال السَكِينة على قلوبهم.

وعلى الرغم من نزول الآية في بيعة الرضوان عام الحديبية، واختصاصها بالمبايعين فقط، وعددهم - حسب المشهور من الروايات - كان ألفاً وأربعمائة(٤) ، وهي بقرينة الآيات الأُخرى مخصّصةً بالذين آمنوا ولم يكن في قلوبهم مرض، واستقاموا على الإيمان، ولم ينحرفوا عن لوازم البيعة، إلاّ أنّ الخطيب البغدادي أدرج جميع الصحابة في هذه الآية،

____________________

١) صحيح البخاري ٥: ١٦٠.

٢) مسند أحمد ٦: ١٩.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٨.

٤) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٢٢. والسيرة النبوية، لابن كثير ٣: ٣٢٤.

٣٨

وتابعه ابن حجر العسقلاني مستشهداً برأيه(١) ، ولهذا ادّعوا عدالة جميع الصحابة كما هو المشهور في تعريفهم للصحابي.

وهذا الادّعاء غير صحيح، فرضوان الله وسكينته مختصّة بالمبايعين الموصوفين بما ذكرناه فقط، أمّا غيرهم فخارج عن ذلك، ولأنّ سبب البيعة هو وصول الخبر بمقتل عثمان من قِبَل المشركين، بعد أن أرسله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مبعوثاً عنه إلى قريش، فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى البيعة على قتال المشركين(٢) .

وهؤلاء المشركون هم الذين أسلموا فيما بعد وأصبحوا من الصحابة، فكيف يشملهم رضوان الله وسكينته، وهم السبب الأساسي في الدعوة إلى البيعة، فكيف يُعقل أن يكون رضوان الله شاملاً للمبايعين، وللمراد قتالهم في آن واحد؟!

وإضافةً إلى ذلك فإنّ الأجر المترتِّب على البيعة موقوفٌ على الوفاء بالعهد، كما جاء في الآية الكريمة:

( إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِمْ فمن نَكَثَ فإنَّما يَنكُثُ على نفسِهِ وَمَنْ أوفى بما عاهَدَ عَلَيه اللهَ فسيؤتيهِ أجراً عظيماً ) (٣)

فرضوان الله وسكينته مشروطةٌ بالوفاء بالعهد وعدم نكثه(٤) .

وكلُّ ذلك مشروطٌ بحسن العاقبة، كما في رواية البراء بن عازب المتقدِّمة، ولم تمضِ على البيعة إلاّ أيّامٌ معدودة حتّى عقد رسول

____________________

١) الكفاية في علم الرواية: ٤٦. والإصابة ١: ٦ - ٧.

٢) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٣٠.

٣) سورة الفتح ٤٨: ١٠.

٤) الكشّاف ٣: ٥٤٣. ومجمع البيان ٥: ١١٣. وتفسير القرآن العظيم ٤: ١٩٩.

٣٩

الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معاهدة الصُلْح في الحديبية، فدخل الشك والريب قلوب بعض الصحابة، حتّى خالفوا أوامر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلم يستجيبوا له حينما أمرهم بالحلْق والنحر(١) إلاّ بعد التكرار وقيامه بنفسه بالحلْق والنحر، وهذا يدّل على أنّ لحسن العاقبة دوراً كبيراً في الحكم على البعض بالعدالة وعدمها، فرضوان الله تعالى، إنّما خُصّص بالبيعة، ولا دليل لشموله لجميع المراحل التي تعقب مرحلة البيعة، فمثلاً:

أنّ قاتل عمّار بن ياسر في صفّين، كان من المبايعين تحت الشجرة(٢) ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عمّار:

( قاتِلهُ وسالِبُه في النار ) (٣) .

وقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

( ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله، ويدعونه إلى النّار ) (٤) .

الآية الثامنة :

قال الله تعالى:

( مُحَمّدٌ رسُولُ اللهِ والَّذينَ معَهُ أشدّاءُ على الكفّار رُحماءُ بَينَهُم تراهُم رُكَّعاً سُجَّداً يبتغُونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً وَعَدَ اللهُ الَّذينَ آمنوا وعَمِلُوا الصَّالحاتِ مِنهُم مَغفِرةً وأجراً عظيماً ) (٥) .

وصف الله تعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأصحابه بأنّهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، عُرفوا بالركوع والسجود وابتغاء الفضل والرضوان من الله، ووعد تعالى المؤمنين منهم والذين عملوا الصالحات، مغفرةً وأجراً عظيماً.

____________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٥. والكامل في التاريخ ٢: ٢٠٥.

٢) الفصل في الأهواء والملل والنحل ٤: ١٦١.

٣) سِيَر أعلام النبلاء ١: ٤٢٠ - ٤٢٦. والطبقات الكبرى ٣: ٢٦١. وأُسد الغابة ٤: ٤٧. وكنز العمّال ١٣: ٥٣١ / ٧٣٨٣. ومجمع الزوائد ٩: ٢٩٧ وقال: رجاله رجال الصحيح.

٤) صحيح البخاري ٤: ٢٥. وبنحوه في العقد الفريد ٥: ٩٠. والكامل في التاريخ ٣: ٣١٠.

٥) سورة الفتح ٤٨: ٢٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

و كانت الخوارج تسمّيه الساحر ، لأنّهم كانوا يدبّرون أمرا فيجدونه سبقهم إلى نقضه ، و تمثّل كل من قطري رئيس الخوارج و الحجاج في شأن المهلب بأبيات لقيط الأيادي :

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شزر سريرته

مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

و من آرائه في التدبير على الخوارج : أنّ رجلا حدادا من الأزارقة كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب ، فرفع ذلك إليه فقال : أنا أكفيكموه ، فوجّه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري فقال : الق هذا الكتاب في عسكره و احذر على نفسك ففعل ، و كان في الكتاب « أما بعد ، فإنّ نصالك قد وصلت إليّ و قد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها و زدنا من هذه النصال » فوقع الكتاب و الدراهم إلى قطري فدعا بالرجل فقال :

ما هذا الكتاب ؟ قال : لا أدري قال : فهذه الدراهم ؟ قال : ما أعلم فأمر به فقتل ،

فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة فقال له : أقتلت رجلا على غير ثقة و لا تبيّن فقال له : ما حال هذه الدراهم ؟ فقال : يجوز أن يكون أمرها كذبا و يجوز أن يكون حقّا فقال له قطري : قتل رجل في صلاح الناس غير منكر ،

و للامام أن يحكم بما رآه صالحا ، و ليس للرعية أن تعترض عليه فتنكر له عبد ربه و جماعة و لم يفارقوه .

فبلغ ذلك المهلب فدسّ إليه رجلا نصرانيا فقال له : إذا رأيت قطريا فاسجد له ، فإذا نهاك فقل سجدت لك ففعل فقال له قطري : إنّما السجود للّه .

فقال له : ما سجدت إلاّ لك فقال له رجل من الخوارج :إنّكم و ما تعبدون من دون اللّه حصب جهنّم أنتم لها واردون ١ فقال قطري : إنّ هؤلاء النصارى قد

____________________

( ١ ) الأنبياء : ٩٨ .

٥٨١

عبدوا عيسى ابن مريم فما ضرّ ذلك عيسى شيئا فقام رجل من الخوارج إلى النصراني ، فقتله ، فأنكر ذلك عليه قطري و قال : أقتلت ذمّيا ؟ فاختلفت الكلمة ،

فبلغ ذلك المهلب فوجّه إليهم رجلا يسألهم عن شي‏ء تقدم به إليه ، فأتاهم الرجل فقال : أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم فمات أحدهما في الطريق و بلغكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة فقال بعضهم : أمّا الميت فمؤمن من أهل الجنّة و أمّا الآخر الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيزها و قال قوم آخرون : بل هما كافران حتى يجيزا المحنة ، فكثر الاختلاف ، فخرج قطري إلى حدود اصطخر فأقام شهرا و القوم في اختلافهم١ .

و من أمثالهم « زاحم بعود أودع » و العود المسن من الإبل و الشاء ، قال الكرماني في ( أمثاله )٢ : أي لا تستعن إلاّ بأهل السن و التجربة في الامور .

و قال الشاعر :

حنى الشيب ظهري فاستمرت عزيمتي

و لو لا انحناء القوس لم ينفذ السهم٣

و قال ابن المعتز :

و ما ينتقص من شباب الرجال

يزد في نهاها و ألبابها٤

و قال البحتري في خضر بن أحمد :

و مصيب مفاصل الرأي ان حارب

كانت آراؤه من جنوده٥

و قال المتنبي كما في ( ابن أبي الحديد ) :

____________________

( ١ ) ذكر وقعة المهلب ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٤ : ١٩٥ ١٩٧ .

( ٢ ) الأمثال للميداني ١ : ٣٣٣ .

( ٣ ) نهج ٢٠ : ١٩١ .

( ٤ ) ديوان ابن المعتز : ٣١ .

( ٥ ) البحتري ٢ : ١٦٧ .

٥٨٢

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أوّل و هي المحلّ الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس مرّة

بلغت من العلياء كلّ مكان

و لربما طعن الفتى أقرانه

بالرأي قبل تطاعن الأقران

لو لا العقول لكان أدنى ضيغم

أدنى إلى شرف من الإنسان١

قول المصنّف : « و روي » هكذا في ( المصرية )٢ و ابن ميثم ) و لكن في ( ابن أبي الحديد )٣ « و يروى » .

« من مشهد الغلام » قد عرفت أنّ الجاحظ رواه « من جلد الشاب » .

و كيف كان فنظير قولهعليه‌السلام هذا قوله « وصول مقل خير من جاف مكثر » .

هذا ، و كما أنّ رأي الشيخ خير من جلد الشاب ، قالوا : قضاء الحوائج عند الشبّان أسرع منها عند الشيوخ .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : قال عثمان بن عطا : قضاء الحوائج عند الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ثم قرأ شاهدا قول يوسف لإخوته .لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم .٤ و قول يعقوب لهم .سوف استغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم ٥ ٦ .

قال البحتري في محمد بن يوسف :

علم الروم أنّ غزوك ما كان

عقابا لهم و لكن فناء

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٢٣٧ ، و ٢٠ : ٤٣ .

( ٢ ) الطبعة المصرية : ٦٧٥ رواية ٨٦ ، ابن ميثم شرح نهج البلاغة ٥ : ٢٨٤ حكمة ٧٨ .

( ٣ ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ١٨ : ٢٣٧ رواية ٧٣ .

( ٤ ) يوسف : ٩٢ .

( ٥ ) يوسف : ٩٨ .

( ٦ ) عيون الأخبار ٣ : ١٣٤ .

٥٨٣

بسباء سقاهم البين صرفا

و بقتل نسوا لديه السباء

يوم فرّقت من كتائب آرائك

جندا لا يأخذون عطاء

بين حزب يفلق الهام انصافا

و طعن يفرج الغماء

و بود العدو لو تضعف الجيش

عليهم و تصرف الآراء١

____________________

( ١ ) ديوان البحتري ٢ : ٣٠١ .

٥٨٤

الفصل التاسع و الاربعون في ذمّ أهل الشام و مدح أهل الكوفة

٥٨٥

ذكر في ( ١١ ) من فصل أخبارهعليه‌السلام بالغيوب ذمّ البصرة و أهلها ، و كذلك في ١٢ منه و في ( ١٤ ) منه مدح الكوفة و أهلها و في ( ١٢ ) من فصل عثمان مدح أهلها .

١ الخطبة ( ٢٣٦ ) و من خطبة لهعليه‌السلام في شأن الحكمين و ذم أهل الشام :

جُفَاةٌ طَغَامٌ عَبِيدٌ أَقْزَامٌ جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ وَ تُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ مِمَّنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهَ وَ يُؤَدَّبَ وَ يُعَلَّمَ وَ يُدَرَّبَ وَ يُوَلَّى عَلَيْهِ وَ يُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسُوا مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصَارِ وَ لاَ مِنَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدَّارَ وَ اَلْإِيمانَ ٢ ٦ ٥٩ : ٩ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ اَلْقَوْمِ مِمَّا يُحِبُّونَ وَ إِنَّكُمُ اِخْتَرْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أَقْرَبَ اَلْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ وَ إِنَّمَا عَهْدُكُمْ ؟ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ قَيْسٍ ؟ بِالْأَمْسِ يَقُولُ إِنَّهَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وَ شِيمُوا سُيُوفَكُمْ فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِيرِهِ غَيْرَ مُسْتَكْرَهٍ وَ إِنْ كَانَ

٥٨٦

كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ اَلتُّهْمَةُ فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ ؟ عَمْرِو بْنِ اَلْعَاصِ ؟ ؟ بِعَبْدِ اَللَّهِ بْنِ اَلْعَبَّاسِ ؟ وَ خُذُوا مَهَلَ اَلْأَيَّامِ وَ حُوطُوا قَوَاصِيَ اَلْإِسْلاَمِ أَ لاَ تَرَوْنَ إِلَى بِلاَدِكُمْ تُغْزَى وَ إِلَى صَفَاتِكُمْ تُرْمَى أقول : روى صدره ابن قتيبة في ( خلفائه )١ و الكليني في ( رسائله )٢ و الثقفي في كتابه ، ففي الأول : إنّ حجر بن عدي و عمرو بن الحمق و غيرهما قاموا إلى عليعليه‌السلام ٣ و قالوا : بيّن لنا قولك في أبي بكر و عمر و عثمان فقال عليعليه‌السلام : أو قد تفرغتم لهذا و هذه مصر قد افتتحت و شيعتي فيها قد قتلت ، إنّي مخرج إليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتموني عنه إلى أن قال في كتابهعليه‌السلام بعد ذكر الثلاثة و طلحة و الزبير ثم نظرت بعد ذلك في أهل الشام فإذا هم أعراب و أحزاب ، و أهل طمع جفاة تجمّعوا من كلّ أوب ممّن كان ينبغي أن يؤدّب و يولّى عليه و يؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و التابعين بإحسان .

و في الثاني : نظرت إلى أهل الشام فإذا هم بقية الأحزاب و ذئاب طمع ممن ينبغي له أن يؤدّب و يحمل على السنّة ، ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان ، فدعوتهم إلى الطاعة و الجماعة فأبوا إلاّ فراقي و شقاقي ،

ثم نهضوا في وجه المسلمين ينضحونهم بالنبل و يشجرونهم بالرماح . .

و في الثالث : ثم إنّي نظرت في أمر أهل الشام فإذا أعراب أحزاب و أهل طمع جفاة طغاة ، يجتمعون من كلّ أوب ممّن كان ينبغي أن يؤدّب و يولّى عليه و يؤخذ على يديه ، ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان ،

____________________

( ١ ) الخلفاء لابن قتيبة : ١٥٤ .

( ٢ ) لا وجود لكتاب رسائل الائمة للكليني ، و قد نقل العلامة الكليني رسائل للائمة سندا لهذا الكتاب عن طريق السيد ابن طاووس في كتاب كشف المحجة : راجع ٥٠ : ١٥٥ في بحار الأنوار .

( ٣ ) كتاب الثقفي .

٥٨٧

فسرت إليهم . .

قول المصنّف : « و من خطبة لهعليه‌السلام » حكم بكون الكلام من خطبتهعليه‌السلام الأخير ، و أما الأوّلان و ان ذكرا تفصيلا بأنّهم سألوه عن الثلاثة فكتب لهم كتابا منه ما مر ، إلاّ أنّ في الثاني أنّ عبيد اللّه بن أبي رافع خطب بكتابهعليه‌السلام و بالجملة هو من خطبة لهعليه‌السلام إلاّ أنّه كتبها ليقرأها على الناس بعض أصحابه لمقام ذمه للمتقدّمين .

« في شأن الحكمين و ذمّ أهل الشام » ليس في تلك الخطبة ما نقله من قوله « ألا . » في الحكمين ، فلا بدّ أنّه نقله من موضع آخر و جمعه مع ذاك الكلام بالمناسبة .

و في ( اشتقاق أبي بكر الأنباري ) : قال أهل الأثر : سميت الشام شاما لأنّ قوما من كنعان بن حام خرجوا عند التفريق فتشاموا إليها أي أخذوا ذات الشمال .

قولهعليه‌السلام « جفاة » أي : أهل الجفاء .

« طغام » أي : أوغاد و رذال .

« عبيد أقزام » أي : سفلة ، قال الشاعر :

حصنوا أمّهم من عبدهم

تلك أفعال القزام الوكعة١

« جمعوا من كلّ أوب » أي : ناحية لما استولى يزيد بن المهلب على البصرة في خلعه يزيد بن عبد الملك و جاءه مسلمة بن عبد الملك و العباس بن الوليد في جنود أهل الشام لحربه قال : أتياكم في برابرة و صقالبة و جرامقة و أقباط و أنباط و أخلاط ، أقبل إليكم الفلاحون و الأوباش كأشلاء اللحم و في ( لطائف الثعالبي ) : إنّ أهل الشام مخصوصون من جميع البلدان

____________________

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ٣٨٥ .

٥٨٨

طاعة السلطان ، و يقال : إنّ « الطّائين » من خصائص الشام يعني الطاعة و الطاعون و لم تزل الشام كثير الطواعين حتى صارت تواريخ ، و منها كانت تمتدّ إلى العراق و غيرها١ .

« و تلقطوا » أي : أخذوا ، و في ( الصحاح ) : تلقط فلان التمر أي التقطه من ههنا و ههنا ، و الألقاط من الناس : القليل المتفرقون٢ .

« من كل شوب » أي : خلط ، قال الشاعر :

من معشر كحلت باللؤم أعينهم

قفر الأكف لئام غير صياب

[ و قال آخر : ]

إن ينتسب ينسب إلى عرق و رب

أهل خزومات و شحاح و صخب٣

و قال آخر :

أبيت أهوى في شياطين ترن

مختلف نجراهم حن و جن

هذا ، و في ( المعجم ) : طلب المنصور رجالا يجعلهم بوّابين له ، فقيل له : لا يضبطهم إلاّ قوم لئام الأصول أنذال النفوس صلاّب الوجوه و لا تجدهم إلاّ في رقيق اليمامة فاشتري له مائتا غلام٤ .

في ( تفسير القمي ) : قيل لأمير المؤمنينعليه‌السلام معاوية في مائة ألف من أهل الشام فقالعليه‌السلام : لا تقولوا من أهل الشام و لكن قولوا من الشؤم ، هم من أبناء مصر لعنوا على لسان داودعليه‌السلام فجعل منهم القردة و الخنازير٥ .

و في ( صفين نصر ) : حرّض عليعليه‌السلام الناس لقتال أهل الشام فقال :

____________________

( ١ ) لا وجود له في الظرائف و اللطائف و لا في مخطوطة اللطائف للثعالي .

( ٢ ) الصحاح ٢ : ١١٥٧ ١١٥٨ مادة ( لقط ) .

( ٣ ) لسان العرب ١١ : ٢٥٢ .

( ٤ ) لا وجود له في المعجم .

( ٥ ) تفسير القمي ٢ : ٢٦٨ .

٥٨٩

سيروا إلى أعداء السنن و القرآن ، سيروا إلى بقية الأحزاب و قتلة المهاجرين و الأنصار فقام أربد الفزاري فقال : أتريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام فنقتلهم لك كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلناهم كلا فقام الأشتر و قال : من لهذا ؟ فهرب فلحق في مكان من السوق تباع فيه البراذين ،

فوطؤوه بأرجلهم و ضربوه بأيديهم و نعالهم حتى قتل فقال عليعليه‌السلام : قتيل عمية ، لا يدرى من قتله ، ديته من بيت المال فقال علاقة التيمي :

أعوذ بربي أن تكون منيتي

كما مات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم

إذا رفعت عنه يد وضعت يد١

و في ( صفين نصر ) : لما كتبت صحيفة الصلح في التحكيم بين عليعليه‌السلام و معاوية و أهل الشام ، قيل لعليعليه‌السلام : أتقرّ أنّهم مؤمنون مسلمون ؟ فقال : ما أقرّ لمعاوية و لا لأصحابه أنّهم مؤمنون و لا مسلمون و لكن يكتب معاوية ما شاء٢ .

و في ( الاستيعاب ) : قام عبد اللّه بن بديل يوم صفين فقال : ألا إنّ معاوية ادّعى ما ليس له و نازع الأمر أهله و جادل بالباطل ليدحض به الحق و صال عليكم بالأحزاب و الأعراب و زيّن لهم الضلالة و زرع في قلوبهم حبّ الفتنة و لبّس عليهم الأمر ، و أنتم و اللّه على الحق على نور من ربكم ، فقاتلوا الطغاة الجفاة ، قاتلوهم يعذّبهم اللّه بأيديكم و يشف صدور قوم مؤمنين ، قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله و قد قاتلتموهم مع رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فو اللّه ما هم في هذه بأزكى و لا أتقى و لا أبرّ٣ .

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٩٤ .

( ٢ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٥٠٩ .

( ٣ ) الاستيعاب ، لابن عبد البر ١ : ٣٥١ في ترجمة عبد اللّه بن بديل .

٥٩٠

و في ( مروج المسعودي ) : دخل صعصعة على معاوية فقال له معاوية :

يابن صوحان إنّك لذو معرفة بالعرب و بحالها فسأله عن أهل البصرة و أهل الكوفة و أهل الحجاز ، ثم أمسك معاوية فقال له صعصعة : سل يا معاوية و إلاّ أخبرتك بما تحيد عنه قال : و ما ذاك يابن صوحان ؟ قال : أهل الشام قال :

فأخبرني عنهم قال : أطوع الناس لمخلوق و أعصاهم للخالق ، عصاة الجبّار و خلفة الأشرار ، فعليهم الدمار و لهم سوء الدار فقال معاوية : يابن صوحان إنّك لحامل مديتك منذ أزمان ، و لكن حلم ابن أبي سفيان يردّ عنك فقال صعصعة : بل أمر اللّه و قدره ، إنّ أمر اللّه كان قدرا مقدورا١ .

و في ( الطبري ) : لما خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك و خرج بالبصرة مرّ الحسن البصري على الناس و قد اصطفوا و نصبوا الرايات و الرماح ينتظرون خروج ابن المهلب و يقولون إنّه يدعونا إلى سنّة العمرين .

فقال الحسن : إنّما كان ابن المهلب بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون ثم يسرح بها إلى بني مروان يريد رضاهم ، فلما غضب غضبة نصب قصبا ثم وضع عليها خرقا و قال : إنّي خالفتهم فخالفوهم ، فقال له ناس من أصحابه :

و اللّه لكأنّك راض عن أهل الشام فقال : أنا راض عن أهل الشام قبّحهم اللّه و برحهم ، أليس هم الذين أحلّوا حرم الرسول ، يقتلون أهله ثلاثة أيام و ثلاث ليال ، قد أباحوهم لأنباطهم و أقباطهم ، يحملون الحرائر ذوات الدين ، لا ينتهون عن انتهاك حرمه ، ثم خرجوا إلى بيت اللّه الحرام فهدموا الكعبة و أوقدوا النيران بين أحجارها و أستارها ، عليهم لعنة اللّه و سوء الدار٢ .

« ممّن ينبغي أن يفقّه » في ( رحلة ابن بطوطة ) : نزلت في خارج مدينة

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٤٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٨٠ ، نسخة دار الكتب العلمية .

٥٩١

( صور ) من بلاد الشام على قرية معمورة على بعض المياه أريد الوضوء ،

فأتى بعض أهل تلك القرية فبدأ يغسل رجليه ثم غسل وجهه ، فأخذت عليه في فعله فقال : إنّ البناء انما ابتدأه من الأساس١ .

« و يؤدّب و يعلم و يدرب » أي : يعوّد .

« و يولّى عليه و يؤخذ على يديه » في ( المروج ) : دخل رجل من أهل الكوفة في منصرفهم عن صفين على بعير له إلى دمشق ، فتعلّق به رجل منهم فقال :

هذه ناقتي أخذت مني بصفين فارتفع أمرهما إلى معاوية ، فأقام الدمشقي خمسين رجلا بيّنة يشهدون أنّها ناقته ، فقضى معاوية على الكوفي و أمره بتسليم البعير إليه فقال الكوفي : إنّه جمل و ليس بناقة فقال معاوية : هذا حكم قد مضى و دسّ إلى الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره و سأله عن ثمن بعيره ، فدفع إليه ضعفه و برّه و أحسن إليه و قال له : أبلغ عليّا أنّي اقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرّق بين الناقة و الجمل .

و لقد بلغ من طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء ، و أعاروه رؤوسهم عند القتال و حملوه بها ، و ركنوا إلى قول عمرو بن العاص أنّ عليّا هو الذي قتل عمّار بن ياسر حين أخرجه لنصرته ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن عليعليه‌السلام سنّة ينشأ عليها الصغير و يهلك الكبير٢ .

و ذكر بعض الأخباريين أنّه قال لرجل من زعماء أهل الشام و أهل الرأي و العقل منهم : من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر ؟ قال : أراه لصّا

____________________

( ١ ) رحلة ابن بطوطة : ٣٥ .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣١ .

٥٩٢

من لصوص الفتن١ .

و فيه : و قد كان عبد اللّه بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام وجّه إلى السفاح أشياخا من أهل الشام من أرباب النعم و الرئاسة ، فحلفوا للسفاح أنّهم ما علموا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قرابة و لا أهل بيت يرثونه غير بني امية حتى و لّيتم الخلافة٢ .

و فيه : لما أرسل عبد الملك الحجاج لقتال ابن الزبير بمكّة أقام بالطائف شهورا ثم زحف إلى مكّة فحاصر ابن الزبير بها و كتب إلى عبد الملك أنّي قد ظفرت بأبي قبيس ، فلما ورد كتابه على عبد الملك كبر عبد الملك فكبّر من في داره و اتصل التكبير بمن في جامع دمشق فكبّروا و اتصل ذلك بأهل الأسواق ،

ثم سألوا عن الخبر فقيل لهم : إنّ الحجاج حاصر ابن الزبير بمكة و ظفر بأبي قبيس فقالوا : لا نرضى حتى يحمل أبا قبيس الترابي الملعون إلينا مكبّلا على رأسه برنس على جمل يمرّ بنا في الأسواق٣ .

و في ( الطبري ) بعد ذكر قتل عمّار في صفين قال أبو عبد الرحمن السلمي : فلما كان الليل قلت : لأدخلن إلى أهل الشام حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمّار ما بلغ منّا و كنّا إذا توادعنا من القتال تحدّثوا إلينا و تحدّثنا إليهم ، فركبت فرسي ثم دخلت فإذا أنا بأربعة معاوية و أبو الأعور السلمي و عمرو بن العاص و ابنه عبد اللّه بن عمرو و هو خير الأربعة يتسايرون ، فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول أحد الشقين فقال عبد اللّه لأبيه : يا أبه قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا و قد قال فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ما قال قال : و ما قال ؟

____________________

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ٤١ ٤٢ ، دار المعرفة .

( ٢ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٣٣ .

( ٣ ) مروج الذهب ٣ : ١٢٠ ، دار المعرفة .

٥٩٣

قال : ألم تكن معنا و نحن نبني المسجد و الناس ينقلون حجرا حجرا و لبنة لبنة و عمّار ينقل حجرين حجرين و لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح التراب عن وجهه و يقول : و يحك يابن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا و لبنة لبنة و أنت تنقل حجرين حجرين و لبنتين لبنتين رغبة منك في الأجر ،

و أنت ويحك مع ذلك تقتلك الفئة الباغية ، فدفع عمرو بن العاص صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال : يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد اللّه ؟ قال : و ما يقول ؟

فأخبره الخبر فقال معاوية : انّك شيخ أخرق و لا تزال تحدّث الحديث و أنت تدحض في قولك ، أو نحن قتلنا عمّارا ، انّما قتل عمّارا من جاء به قال أبو عبد الرحمن السلمي : فما أدري من كان أعجب هو أو هم١ .

و في ( المروج ) : قال المستكفي العباسي : ذكروا أنّ الحجاج كان قد اجتبى قوما من أهل العراق وجد عندهم من الكفاية ما لم يجد عند مختصّيه من أهل الشام فشقّ ذلك عليهم و تكلّموا فيه ، فبلغ إليه كلامهم فركب في جماعة من الفريقين و أو غل بهم في الصحراء ، فلاح لهم من بعد قطار إبل ،

فدعا برجل من أهل الشام فقال له : أمض فاعرف ما هذه الأشباح و استقص أمرها فلم يلبث أن جاء و أخبره أنّها إبل ، فقال : أمحمّلة هي أم غير محمّلة ؟

قال : لا أدري و لكن أعود و أتعرّف ذلك و قد كان الحجاج أتبعه برجل من أهل العراق و أمره بمثل ما كان أمر الشامي فلما رجع العراقي أقبل عليه الحجاج و أهل الشام يسمعون فقال : ما هي ؟ قال : إبل قال : و كم عددها ؟ قال : ثلاثون .

قال : و ما تحمل ؟ قال : زيتا قال : و من أين صدرت ؟ قال : من موضع كذا قال :

و من ربّها ؟ قال : فلان فالتفت إلى أهل الشام فقال :

____________________

( ١ ) تاريخ الامم ٤ : ٣٨ .

٥٩٤

ألام على عمرو و لو مات أو نأى

لقلّ الذي يغني غناءك يا عمرو١

و في ( عيون ابن قتيبة ) : مات رجل من جند أهل الشام ، فحضر الحجاج جنازته و كان عظيم القدر فصلّى و جلس على قبره و قال : لينزل قبره بعض إخوانه ، فنزل نفر منهم فقال أحدهم و هو يسوّي عليه أرحمك اللّه أبا فلان إن كان ما علمتك لتجيد الغناء و تسرع إلى ربّ الكأس ، و لقد وقعت موقع سوء لا تخرج منه إلى الدكة فما تمالك الحجاج أن ضحك فأكثر و كان لا يكثر الضحك في جد و لا هزل ثم قال له : لا أم لك هذا موضع هذا ؟ قال : أصلح اللّه الأمير فرسي :

حبيس لو سمعه يتغني

يا لبيني أوقدي النارا

لانتشر الأمير على سعنه و كان الميت يلقب سعنه و كان من أوحش خلق اللّه صورة فقال الحجاج : إنّا للّه ، أخرجوه عن القبر ثم قال : ما أبين حجّة أهل العراق في جهلكم يا أهل الشام ، و لم يبق أحد حضر القبر إلاّ استفرغ ضحكا٢ .

هذا ، و وصف أبو أحمد العسكري رجلا لئيما فقال : حقير فقير نذل رذل غثّ رثّ لئيم زنيم ، أشحّ من كلب و أذلّ من نقد و أجهل من بغل ، سريع إلى الشرّ بطي‏ء عن الخير ، مغلول عن الحمد مكتوف عن البذل ، جواد بشتم الأعراض سخي بضرب الأبشار ، لجوج حقود خرق نزق عسر نكد شكس شرس دعيّ زنيم ، يعتزى إلى أنباط سقاط أهل لؤم أعراق و دقة أخلاق ، و ينتمي إلى أخبث البقاع ترابا و أمرّها شرابا و أكمدها ثيابا ، فهو كما قال تعالى .و الذي خبث

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٤ : ٢٦٣ .

( ٢ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٢ : ٥ .

٥٩٥

لا يخرج إلاّ نكداً .١ ثم كما قال الشاعر :

نبطي آباؤه لم يلده

ذو صلاح و لم يلد ذا صلاح

معشرا شبّهوا القرود و لكن

خالفوها في خفّة الأرواح

و في ( العقد ) : دخل عدي بن أرطاة الشامي على شريح القاضي ، فقال له :

أين أنت ؟ قال : بينك و بين الجدار قال : إنّي رجل من أهل الشام قال : نائي المحل سحيق الدار قال : قد تزوجت عندكم قال : بالرفاء و البنين قال : ولد لي غلام قال : ليهنك الفارس قال : و أردت أن أرحلها قال : الرجل أحقّ بأهله قال :

و شرطت لها دارها قال : الشرط أملك قال : فاحكم الآن بيننا قال : قد فعلت .

قال : على من قضيت ؟ قال : على ابن امّك قال : بشهادة من ؟ قال : بشهادة ابن اخت خالتك يريد إقراره٢ .

و في ( خلفاء القتيبي ) : بعث يزيد عبد اللّه بن مسعدة الفزاري إلى المدينة ،

فخطب الناس و قال : أهل الشام جند اللّه الأعظم و خير الخلق فقام الحارث بن مالك و قال : لعمر اللّه لنحن خير من أهل الشام ، ما نقمت من أهل المدينة إلاّ لأنّهم قتلوا أباك و هو يسرق لقاح النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنسيت طعنة أبي قتادة است أبيك بالرمح فخرج منه جعموص مثل هذا و أشار إلى ساعده ثم جلس٣ .

« ليسوا من المهاجرين و الأنصار و لا من الذين » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و لا الذين » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) .

« تبوؤا الدار و الإيمان » هكذا في ( المصرية ) أخذا من ابن أبي الحديد حيث جعل « و الإيمان » بين قوسين كما هو دأبه فيما يأخذه منه ، لكن الظاهر زيادته

____________________

( ١ ) الأعراف : ٥٨ .

( ٢ ) العقد الفريد ٣ : ١٠ .

( ٣ ) لم نعثر عليه في تاريخ الخلفاء لابن قتيبة .

٥٩٦

حيث قال ابن ميثم في نسخة الرضي « تبوؤا الدار » فقط و في سائر النسخ « و الإيمان » ، و لا معنى لكلامه فإنّ النهج للرضي فلا معنى لجعل نسخه من خطه هكذا و في نسخة غيره من خطه بطريق آخر ، لكن ما لم تتحقق نسخ يكون المتبع ما في نسخة ( ابن ميثم ) التي بخط المصنف .

و في ( صفين نصر ) : برز عوف بن مجزأة المرادي فارس أهل الشام يوم صفين و قال :

بالشام أمن ليس فيه خوف

بالشام عدل ليس فيه حيف

بالشام جود ليس فيه سوف

فخرج إليه عكبر الأسدي فارس أهل الكوفة و قال :

الشام محل و العراق ممطر

بها إمام طاهر مطهر

و الشام فيها أعور و معور١

« ألا و إنّ القوم اختاروا لأنفسهم أقرب القوم مما يحبّون ، و إنّكم اخترتم لأنفسكم أقرب القوم مما تكرهون » في ( صفين نصر ) : لمّا أراد الناس عليّاعليه‌السلام على أن يضح حكمين قال لهم : إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه و نظره من عمرو بن العاص ، و إنّه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله ،

فعليكم بعبد اللّه بن عباس فارموه ، فإنّ عمرا لا يعقد عقدة إلاّ حلّها عبد اللّه و لا يحلّ عقدة إلاّ عقدها و لا يبرم أمرا إلاّ نقضه و لا ينقض أمرا إلاّ أبرمه فقال الأشعث : لا و اللّه لا يحكم فينا مضريان حتى تقوم الساعة ، و لكن اجعله رجلا من أهل اليمن إذ جعلوا رجلا من مضر فقال عليعليه‌السلام : إنّي أخاف أن يخدع يمينكم ، فان عمرا ليس من اللّه في شي‏ء حتى إذا كان له في أمر هواه فقال الأشعث : و اللّه لأن يحكما ببعض ما نكره و أحدهما من أهل اليمن أحبّ إلينا من

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٤٥٠ .

٥٩٧

أن يكون ما نحبّ في حكمهما و هما مضريان فقالعليه‌السلام : قد أبيتم إلاّ أبا موسى ؟ قالوا : نعم ، قال : فاصنعوا ما أردتم فبعثوا إلى أبي موسى و قد اعتزل بعرض من الشام .١ .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : قال الأحنف لعليعليه‌السلام : إنّ أبا موسى رجل يماني و قومه مع معاوية إلى أن قال فقالعليه‌السلام : إنّ الأشعث و القراء أتوني بأبي موسى فقالوا : ابعث هذا فقد رضيناه و لا نريد سواه و اللّه بالغ أمره .٢ .

و منه يظهر أنّ جميع أفعالهم كان بمقتضى أغراضهم لا الديانة .

« و إنّما عهدكم بعبد اللّه بن قيس » قال ابن أبي الحديد : قال ابن عبد البر : لما قتل عثمان عزل عليعليه‌السلام أبا موسى عن الكوفة ، فلم يزل واجدا لذلك على عليعليه‌السلام و حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه ، فقد روى لحذيفة فيه كلاما كرهت ذكره٣ .

قال ابن أبي الحديد الكلام الذي أشار إليه ابن عبد البر أنّ أبا موسى ذكر عند حذيفة بالدين فقال حذيفة : أما أنتم ، و أمّا أنا فأشهد أنّه عدوّ للّه و لرسوله و حرب لهما في الحياة الدّنيا و يوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار و كان حذيفة عارفا بالمنافقين أسرّ إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم و أعلمه أسماءهم٤ .

و قال : و روي ان عمّارا سئل عن أبي موسى فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما ، سمعته يقول صاحب البرنس الأسود ثم كلح كلوحا

____________________

( ١ ) وقعة صفين لنصر بن مزاحم : ٥٠٠ .

( ٢ ) خلفاء ابن قتيبة : ١٣١ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٣١٤ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٣١٤ .

٥٩٨

علمت منه انّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط١ .

و قال : و روي عن سويد بن غفلة قال : كنت مع أبي موسى على شاطى‏ء الفرات في خلافة عثمان ، فروى لي خبرا عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال سمعته يقول : إنّ بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل الاختلاف بينهم حتى بعثوا حكمين ضالّين ضلاّ و أضلاّ من اتبعهما و لا ينفكّ أمر امتي حتى يبعثوا حكمين يضلاّن و يضلاّن من تبعهما فقلت له : احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما ، فخلع قميصه و قال :

أبرأ إلى اللّه من ذلك كما أبرأ من قميصي هذا٢ .

قال : و قال أبو محمد بن متويه من المعتزلة في كتابه ( الكفاية ) : أما أبو موسى فانّه عظم جرمه بما فعله و أدّى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله ،

و كان عليعليه‌السلام يقنت عليه و على غيره فيقول : « اللّهم العن معاوية أوّلا و عمرا ثانيا و أبا أعور السلمي ثالثا و أبا موسى الأشعري رابعا »٣ .

قلت : صدق إنّ فعل أبي موسى أدّى إلى الضرر الذي لم يخف حاله ، إلاّ ان فعل أبي موسى أيضا كان من فعل أركان سقيفتهم و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا قنت عليهم في تخلّفهم عن جيش اسامة .

و في ( مسترشد محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي ) مخاطبا للعامّة : و من علمائكم أبو موسى الأشعري و قد شهد عليه حذيفة بن اليمان أنّه منافق رواه جرير بن عبد الحميد العيني٤ .

و في ( المروج ) : كان أبو موسى الأشعري يحدّث قبل وقعة صفين و يقول : إنّ الفتن لم تزل في بني اسرائيل ترفعهم و تخفضهم حتى بعثوا

____________________

( ١ ) المصدر نفسه ١٣ : ٣١٥ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ١٣ : ٣١٥ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) المسترشد : ١١ .

٥٩٩

حكمين إلى أن قال فقال له سويد بن غفلة : إيّاك إن أدركت ذلك الزمان أن تكون أحد الحكمين قال : أنا ؟ قال : نعم أنت فكان يخلع قميصه و يقول : لا جعل اللّه لي اذن في السماء مصعدا و لا في الأرض مقعدا فلقيه سويد بعد ذلك فقال :

يا أبا موسى أتذكر مقالتك ؟ قال : سل ربّك العافية١ .

و في ( أمالي المفيد ) مسندا عن سلمان قال : قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : تفترق امتي ثلاث فرق ، فرقة على الحق لا ينقص الباطل منه شيئا يحبوني و يحبون أهل بيتي ، مثلهم كمثل الذهب الجيد كلّما أدخلته النار فأوقدت عليه لم يزده إلاّ جودة إلى أن قال و فرقة مدهدة على ملّة السامري لا يقولون لا مساس لكنّهم يقولون لا قتال ، إمامهم عبد اللّه بن قيس الأشعري٢ « بالأمس » و المراد أيام الجمل .

« يقول إنّها فتنة » و قد كانعليه‌السلام في ذاك الوقت أخبره بعمله في هذا الوقت و هو حكمه الباطل عليهعليه‌السلام .

ففي ( مروج المسعودي ) : كاتب عليعليه‌السلام لما أراد البصرة من الربذة أبا موسى الأشعري ليستنفر الناس ، فثبطهم أبو موسى و قال : إنّما هي فتنة .

فنمى ذلك إلى عليعليه‌السلام ، فولّى على الكوفة قرضة بن كعب الأنصاري و كتب إلى أبي موسى : اعتزل عملنا يابن الحائك ، فما هذا أوّل يومنا منك و إنّ لك فيها لهنات و هنيات٣ .

« فقطعوا أوتاركم » جمع الوتر بفتحتين واحد أوتار القوس .

« و شيموا سيوفكم » و المراد بشيموا هنا الأغماد و إن قيل إنّه من الأضداد .

____________________

( ١ ) مروج الذهب ، للمسعودي ٢ : ٣٩٢ .

( ٢ ) أمالي المفيد : ٣٠ .

( ٣ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٥٨ .

٦٠٠

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617