• البداية
  • السابق
  • 108 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21041 / تحميل: 3835
الحجم الحجم الحجم
سلامة القرآن من التحريف

سلامة القرآن من التحريف

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

الطائفة الثالثة: الروايات الموهمة بوقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان، ومنها:

١ - ما رواه العياشي في ( تفسيره ) عن مُيسّر، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، قال: « لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه، ما خفي حقّنا على ذي حجا، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن »(١) .

٢ - ما رواه الكليني في ( الكافي ) والصفار في ( البصائر ) عن جابر، قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول: « ما ادعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام والأئمة من بعدهعليهم‌السلام »(٢) .

٣ - ما رواه الكليني في ( الكافي ) والصفار في ( البصائر ) عن جابر، عن أبي جعفرعليه‌السلام ، أنّه قال: « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء »(٣) .

وهذه الطائفة قاصرةٌ أيضاً عن الدلالة على تحريف القرآن، فالحديث الأول من مراسيل العياشي، وهو مخالف للكتاب والسُنّة ولإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القران ولا حرف واحد، وقد ادعى الاجماع جماعة كثيرون من الأئمة الأعلام منهم السيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي وغيرهم. أمّا النقص المشار إليه في الحديث الأول فالمراد به نقصه من حيث عدم المعرفة بتأويله وعدم الاطلاع على

__________________

(١) تفسير العياشي ١: ١٣ / ٦.

(٢) الكافي ١: ٢٢٨ / ١، بصائر الدرجات: ٢١٣ / ٢.

(٣) الكافي ١: ٢٢٨ / ٢، بصائر الدرجات: ٢١٣ / ١.

٤١

باطنه، لا نقص آياته وكلماته وسوره، وقوله « ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن » فإنّ الذي يصدّق القائم ( صلوات الله عليه ) هو هذا القرآن الفعلي الموجود بين أيدي الناس، ولو كان محرفاً حقّاً لم يصدقه القرآن، فمعنى ذلك أنّ الإمام الحجة ( صلوات الله عليه ) سوف يُظهر معاني القرآن على حقيقتها بحيث لا يبقى فيها أي لبسٍ أو غموض، فيدرك كلّ ذي حجا أنّ القرآن يصدّقه، فالمراد من الحديث الأول - على فرض صحّته - أنّهم قد حرّفوا معانيه ونقصوها وأدخلوا فيها ما ليس منها حتى ضاع الأمر على ذي الحجا.

أمّا الرواية الثانية ففي سندها عمرو بن أبي المقدام، وقد ضعّفه ابن الغضائري(١) ، وفي سند الرواية الثالثة المنخّل بن جميل الأسدي، وقد قال عنه علماء الرجال: ضعيف، فاسد الرواية، متّهم بالغلوّ، أضاف إليه الغلاة أحاديث كثيرة(٢) .

وعلى فرض صحّة الحديثين فإنّه يمكن توجيههما بمعنى آخر يساعد عليه اللفظ فيهما، قال السيد الطباطبائي: « قولهعليه‌السلام : إنّ عنده جميع القرآن ؛ إلى آخره، الجملة وإن كانت ظاهرةً في لفظ القرآن، ومشعرة بوقوع التحريف فيه، لكن تقييدها بقوله: « ظاهره وباطنه » يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن، من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي، ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي »(٣) .

__________________

(١) أُنظر مجمع الرجال ٤: ٢٥٧ و ٦: ١٣٩، رجال ابن داود: ٢٨١ / ٥١٦.

(٢) أُنظر مجمع الرجال ٤: ٢٥٧ و ٦: ١٣٩، رجال ابن داود: ٢٨١ / ٥١٦.

(٣) التحقيق في نفي التحريف: ٦٢.

٤٢

وقد أورد السيد عليّ بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام والأوصياء من أبنائه، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعياً بتأييد إلهي، وإلهام رباني، وتعليم نبوي، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترةٌ بين الفريقين »(١) .

ويمكن حمل الروايتين أيضاً على معنى الزيادات الموجودة في مصحف أمير المؤمنينعليه‌السلام والتي أخذها عمّن لا ينطق عن الهوى تفسيراً، أو تنزيلاً من الله شرحاً للمراد، إلاّ أنّ هذه الزيادات ليست من القرآن الذي أُمِر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغه إلى الاَُمّة.

الطائفة الرابعة: الروايات الدالّة على أنّ في القرآن أسماء رجال ونساء فأُلقيت منه، ومنها:

١ - ما روي في ( تفسير العياشي ) مرسلاً عن الصادقعليه‌السلام ، قال: « إنّ في القرآن ما مضى، وما يحدث، وما هو كائن، كانت فيه أسماء الرجال فألقيت، إنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا تُحصى، يعرف ذلك الوصاة »(٢) .

٢ - ما روي في ( الكافي ) عن البزنطي، قال: دفع إليَّ أبو الحسن الرضاعليه‌السلام مصحفاً، فقال: « لا تَنْظُر فيه ». ففتحته وقرأت فيه( لم يكن الذين كفروا ) ( البينة ٩٨: ١ ) فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال: فبعث إليّ: « ابعث إليّ بالمصحف »(٣) .

__________________

(١) شرح الصحيفة السجادية: ٤٠١.

(٢) تفسير العياشي ١: ١٢ / ١٠.

(٣) الكافي ٢: ٦٣١ / ١٦.

٤٣

٣ - ما رواه الشيخ الصدوق في ( ثواب الاعمال ) عن عبدالله بن سنان، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال: « سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يا بن سنان، إنّ سورة فضحت نساء قريش من العرب، وكانت أطول من سورة البقرة، ولكن نقّصوها وحرّفوها »(١) . وهذه الروايات لا نصيب لها من الصحّة، فهي بين ضعيف ومرسل ومرفوع، ومن الممكن القول بأنّ تلك الاسماء التي أُلقيت إنّما كانت مثبتةً فيه على وجه التفسير لألفاظ القرآن وتبيين الغرض منها، لا أنّها نزلت في أصل القرآن. وقد ذكر ذلك الفيض الكاشاني في ( الوافي ) والسيد الخوئي في ( البيان ) وغيرهما بل إنّ الشيخ الصدوق - وهو رئيس المحدّثين - الذي روى الخبر في كتابه ( ثواب الاعمال ) ينصّ في كتابه ( الاعتقادات ) على عدم نقصان القرآن، وهذا مما يشهد بأنّهم قد يروون ما لا يعتقدون بصحّته سنداً أو معنىً.

الطائفة الخامسة: الأحاديث التي تتضمّن بعض القراءات المنسوبة إلى الأئمةعليهم‌السلام ، ومنها:

١ - روى الكليني بإسناده عن عمران بن ميثم، عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال: « قرأ رجل على أمير المؤمنينعليه‌السلام :( فإنَّهم لا يُكِذّبُونَكَ وَلكن الظَّالمينَ بآيات الله يَجْحَدُون ) ( الأنعام ٦: ٣٣ ) فقالعليه‌السلام : بلى والله لقد كذَّبوه أشدّ التكذيب، ولكنّها مخفّفة ( لا يكذبونك ) لا يأتون بباطل يكذبون به حقّك »(٢) .

__________________

(١) ثواب الأعمال: ١٠٠.

(٢) الكافي ٨: ٢٠٠ / ٢٤١.

٤٤

شبهات وردود

فيما يلي نعرض بعض الشبهات التي روّجها البعض متشبثاً بها للدلالة على وقوع التحريف، وسنبيّن وجوه اندفاعها:

الأولى: أنّه كان لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام مصحف غير المصحف الموجود، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه، وكان مصحفه مشتملاً على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بين أيدينا، ممّا يترتّب عليه أنّ المصحف الموجود ناقصٌ بالمقارنة مع مصحف أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه.

نقول: نعم، تفيد طائفةٌ من أحاديث الشيعة وأهل السنة أنّ علياًعليه‌السلام اعتزل الناس بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع القرآن العظيم، وفي بعض الروايات: أنّ عمله ذاك كان بأمر الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّهعليه‌السلام قال: « لا أرتدي حتّى أجمعه »، وروي أنّه لم يرتدِ إلاّ للصلاة حتّى جمعه(١) .

ولكن أعلام الطائفة يذكرون بأنّ غاية ما تدلّ عليه الأحاديث أنّ مصحف عليعليه‌السلام يمتاز عن المصحف الموجود بأنّه، كان مرتّباً على حسب النزول، وأنّه قدّم فيه المنسوخ على الناسخ، وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل على حقيقة تنزيلها، أي كتب فيه التفاسير المنزلة تفسيراً من قبل الله سبحانه، وأنّ فيه المحكم والمتشابه،

__________________

(١) أُنظر: شرح ابن أبي الحديد ١: ٢٧، الاتقان ١: ٢٠٤، أنساب الاشراف ١: ٥٨٧، الطبقات الكبرى ٢: ٣٣٨، مناهل العرفان ١: ٢٤٧، كنز العمال ٢: ٥٨٨ / ٤٧٩٢.

٤٥

وأنّ فيه أسماء أهل الحقّ والباطل، وأنّه كان بإملاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ عليعليه‌السلام ، وأنّ فيه فضائح قومٍ من المهاجرين والأنصار، وجميع هذه الاختلافات لا توجب تغايراً في أصل القرآن وحقيقته.

وأهمّ ما في هذه الاختلافات هو الزيادة التي كانت في مصحفهعليه‌السلام والتي يخلو عنها المصحف الموجود، وهذه الزيادة قد تكون من جملة الاحاديث القدسية والتي هي وحي وليست بقرآن، كما نصّ عليه الشيخ الصدوق في ( الاعتقادات )(١) . وقد تكون من جهة التأويل والتفسير وليست من أبعاض القرآن.

قال الشيخ المفيدرحمه‌الله في ( أوائل المقالات ): « ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنينعليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان مثبتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى:( ولا تعْجَل بالقُرآنِ مِن قَبْل أن يُقْضى إليْكَ وَحْيُه وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلماً ) ( طه ٢٠: ١١٤ ) فيسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف »(٢) .

وقال السيد الخوئي: «إنّ اشتمال قرآنهعليه‌السلام على زيادات ليست في القرآن الموجود، وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد أُسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو

__________________

(١) الاعتقادات: ٩٣.

(٢) أوائل المقالات: ٥٥.

٤٦

بعنوان التنزيل من الله تعالى شرحاً للمراد »(١) .

وخلاصة القول أنّ الادّعاء بوجود زيادات في مصحف عليّعليه‌السلام هي من القرآن ادِّعاءٌ بلا دليل وهو باطل قطعاً، ويدلّ على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن.

الثانية: أنّ بعض الأحاديث تفيد أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام المهديعليه‌السلام يختلف عمّا هو عليه الآن، ممّا يفضي إلى الشكّ في هذا القرآن الموجود، ومن هذه الروايات:

١ - ما رواه الفتّال والشيخ المفيد، عن أبي جعفرعليه‌السلام : « إذا قام القائم من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب فساطيط لمن يُعلّم الناس القرآن على ما أنزله الله عزّ وجل، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ؛ لأنّه يخالف فيه التأليف »(٢) .

وروي نحوه النعماني في الغيبة(٣) .

٢ - ما رواه الكليني في ( الكافي ) عن سالم بن سلمة، قال: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : « إذا قام القائم قرأ كتاب الله عزّ وجل على حدّه، وأخرج المصحف الذي كتبه عليعليه‌السلام »(٤) .

هذان الحديثان وسواهما ممّا اعتمده القائلون بهذه الشبهة جميعها

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن: ٢٢٣.

(٢) ارشاد المفيد ٢: ٣٨٦ تحقيق مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام ، روضة الواعظين: ٢٦٥.

(٣) غيبة النعماني: ٣١٨ و ٣١٩.

(٤) الكافي ٢: ٦٣٣ / ٢٣.

٤٧

ضعيفة، وإذا تجاوزنا النظر في أسانيدها نقول: لعلّ السرّ في تعليمه الناس القرآن هو مخالفة مصحفهعليه‌السلام للمصحف الموجود الآن من حيث التأليف، كما تدلّ عليه الرواية المتقدّمة عن أبي جعفرعليه‌السلام ، أو مخالفته من حيث الخصائص والميزات المذكورة في مصحف عليعليه‌السلام كما تدلّ عليه الرواية الثانية، فعندئذٍ يحتاج إلى تفسيره وتأويله على حقيقة تنزيله، فهذه الشبهة مبتنيةٌ إذن على الشبهة السابقة، ومندفعةٌ باندفاعها، إذ إنّ القرآن في عهده ( صلوات الله عليه ) لا يختلف عن هذا القرآن الموجود من حيث الألفاظ، وإنمّا الاختلاف في الترتيب، أو في الزيادات التفسيرية، كما تقدّم بيانه في الشبهة الأولى.

الثالثة: أنّ التحريف قد وقع في التوراة والانجيل، وقد ورد في الأحاديث عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: « يكون في هذه الاَُمّة كلّ ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، وحذو القذّة بالقذّة »(١) . ونتيجة ذلك أنّ التحريف لابدّ من وقوعه في القرآن الكريم كما وقع في العهدين، وهذا يوجب الشكّ في القرآن الموجود بين المسلمين، وإلاّ لم يصحّ معنى هذه الأحاديث.

وقد أجاب السيد الخوئي عن هذه الشبهة بوجوه، منها:

١ - إنّ الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً.

٢ - إنّ هذا الدليل لو تمّ لكان دالاً على وقوع الزيادة في القرآن أيضاً، كما وقعت في التوراة والانجيل، ومن الواضح بطلان ذلك.

__________________

(١) الفقيه ١: ٢٠٣ / ٦٠٩.

٤٨

٣ - إنّ كثيراً من الوقائع التي حدثت في الاَُمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الاَُمة، كعبادة العجل، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة، وغرق فرعون وأصحابه، وملك سليمان للانس والجنّ، ورفع عيسى إلى السماء، وموت هارون وهو وصيّ موسى قبل موت موسى نفسه وغير ذلك ممّا لا يسعنا إحصاؤه، وهذا أدلّ دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات، فلابدّ من إرادة المشابهة في بعض الوجوه(١) ، وبهذا الوجه اكتفى السيد الطباطبائي في تفسير الميزان(٢) .

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن: ٢٢١.

(٢) تفسير الميزان ١٢: ١٢٠.

٤٩

٥٠

أهل السنة ينفون التحريف

إنّ المعروف من مذهب أهل السنة هو تنزيه القرآن الكريم عن الخطأ والنقصان، وصيانته عن التحريف، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وفي كتب علوم القرآن، إلاّ أنّه رويت في صحاحهم أحاديث يدلّ ظاهرها على التحريف، تمسّك بها الحشوية منهم، فذهبوا إلى وقوع التحريف في القران تغييراً أو نقصاناً، كما أشار إلى ذلك الطبرسي في مقدمة تفسيره ( مجمع البيان )(١) ، وقد تقدّم قوله في تصريحات أعلام الإمامية.

ولا شكّ أنّ ما كان ضعيفاً من هذه الأحاديث فهو خارج عن دائرة البحث، وأمّا التي صحّت عندهم سنداً، فهي أخبار آحاد، ولا يثبت القرآن بخبر الواحد، على أنّ بعضها محمولٌ على التفسير، أو الدعاء، أو السُنّة، أو الحديث القدسي، أو اختلاف القراءة، وأمّا ما لا يمكن تأويله على بعض الوجوه، فقد حمله بعضهم على نسخ التلاوة، أي قالوا بنسخه لفظاً وبقائه حكماً، وهذا الحمل باطلٌ، وهو تكريسٌ للقول بالتحريف، وقد نفاه أغلب محققيهم وعلمائهم على ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله تعالى، وذهبوا إلى تكذيب وبطلان هذه الأحاديث لاستلزامها للباطل، إذ إنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن العظيم.

يقول عبد الرحمن الجزيري: « أمّا الأخبار التي فيها أنّ بعض القران المتواتر ليس منه، أو أنّ بعضاً منه قد حُذِف، فالواجب على كلِّ مسلم

__________________

(١) مجمع البيان ١: ٨٣.

٥١

تكذيبها بتاتاً، والدعاء على راويها بسوء المصير »(١) .

ويقول ابن الخطيب: « على أنّ هذه الأحاديث وأمثالها، سواء صحّ سندها أو لم يصحّ، فهي على ضعفها وظهور بطلانها، قلّة لا يعتدّ بها، ما دام إلى جانبها إجماع الاَُمّة، وتظاهر الأحاديث الصحيحة التي تدمغها وتظهر أغراض الدين والمشرّع بأجلى مظاهرها »(٢) .

وجماعة منهم قالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها من قبل أعداء الإسلام والمتربصّين به، يقول الحكيم الترمذي: « ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ».

ويقول الدكتور مصطفى زيد: « وأمّا الآثار التي يحتجّون بها فمعظمها مروي عن عمر وعائشة، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح، وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتّفق ومكانة عمر وعائشة، ممّا يجعلنا نطمئنّ إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين»(٣) .

إذن، فهم موافقون للشيعة الإمامية في القول بنفي التحريف، فيكون ذلك ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين جميعاً، يقول الدكتور محمّد التيجاني: «إنّ علماء السنة وعلماء الشيعة من المحقّقين، قد أبطلوا مثل هذه الروايات واعتبروها شاذّة، وأثبتوا بالأدلة المقنعة بأنّ القرآن الذي بأيدينا هو نفس القرآن الذي أُنزل على نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس فيه زيادةٌ ولا نقصان ولا تبديل ولا تغيير »(٤) .

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٤: ٢٦٠.

(٢) الفرقان: ١٦٣.

(٣) النسخ في القرآن ١: ٢٨٣.

(٤) لأكون مع الصادقين: ١٦٨ - ١٧٦.

٥٢

حقيقتان مهمّتان

إنّ قيل: إنّ الروايات التي ظاهرها نقصان القرآن، أو وجود اللحن فيه، مخرّجةٌ في كتب الصحاح عن بعض الصحابة، وإنّ تكذيبها وإنكارها قد يوجب الطعن في صحّة تلك الكتب، أو في عدالة الصحابة. نقول:

أولاً: إنّ القول بصحّة جميع الأحاديث المخرّجة في كتابي مسلم والبخاري - وهما عمدة كتب الصحاح - وأنّ الاَُمّة تلقّتهما بالقبول، غير مسلّم، فلقد تكلّم كثير من الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل في أحاديث موضوعةٍ وباطلةٍ وضعيفةٍ، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها في ( علل الحديث )، وكذلك الضياء المقدسي في ( غريب الصحيحين )، والفيروز آبادي في ( نقد الصحيح ) وغيرهم، وتكلّموا أيضاً في رجال رُوي عنهم في الصحيحين، وهم مشهورون بالكذب والوضع والتدليس. وفيما يلي بعض الارقام والحقائق التي توضّح هذه المسألة بشكل جليّ:

١ - قد انتقد حفّاظ الحديث البخاري في ١١٠ أحاديث، منها ٣٢ حديثاً وافقه مسلم فيها، و ٧٨ انفرد هو بها.

٢ - الذي انفرد البخاري بالاخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلاً، المتكلّم فيه بالضعف منهم ٨٠ رجلاً، والذي انفرد مسلم بالاخراج لهم دون البخاري ٦٢٠ رجلاً، المتكلّم فيه بالضعف منهم ١٦٠ رجلاً.

٣ - الأحاديث المنتقدة المخرّجة عندهما معاً بلغت ٢١٠ حديثاً، اختصّ البخاري منها بأقلّ من ٨٠ حديثاً، والباقي يختصّ بمسلم.

٥٣

٤ - هناك رواة يروي عنهم البخاري، ومسلم لا يرتضيهم ولا يروي عنهم، ومن أشهرهم عكرمة مولى ابن عباس.

٥ - وقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها، فلو أفادت علماً لزم تحقّق النقيضين في الواقع، وهو محال، لذا أنكر العلماء مثل هذه الأحاديث وقالوا ببطلانها.

وقد نصّ ببعض ما ذكرناه أو بجملته متقدّمو شيوخهم ومتأخروهم، كالنووي والرازي وكمال الدين بن الهمّام، وأبي الوفاء القرشي، وأبي الفضل الأدفوي، والشيخ عليّ القاري، والشيح محبّ الله بن عبد الشكور، والشيخ محمّد رشيد رضا، وابن أمير الحاج، وصالح بن مهدي المقبلي، والشيخ محمود أبو ريّة، والدكتور أحمد أمين، والدكتور أحمد محمّد شاكر وغيرهم، معترفين ومذعنين بحقيقة أنّ الاَُمّة لم تتلقَّ أحاديث الصحيحين بالقبول، أو أنّه ليس من الواجب الديني الإيمان بكلّ ما جاء فيهما، فتبيّن أنَّ جميع القول بالاجماع على صحّتهما لا نصيب له من الصحّة.

قال أبو الفضل الأدفوي: « إنّ قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح: إنّ الاَُمّة تلقّت الكتابين بالقبول ؛ إن أراد كلّ الاَُمّة فلا يخفى فساد ذلك. وإن أراد بالاَُمّة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الاَُمّة. ثمّ إن أراد كلّ حديث فيهما تُلقّي بالقبول من الناس كافّة فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء، وقال: إنّه خلط، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها،

٥٤

والقطع لا يقع التعارض فيه »(١) .

وقال الشيخ محمد رشيد رضا: « ليس من أُصول الدين، ولا من أركان الإسلام، أن يؤمن المسلم بكلّ حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه، بل لم يشترط أحد في صحّة الإسلام، ولا في معرفته التفصيلية، الاطلاع على صحيح البخاري والاقرار بكلّ ما فيه »(٢) .

فاتّضح أن ما يروّجه البعض من دعوى أنّ أحاديث نقصان القرآن ووجود اللحن فيه، مخرجةٌ في الصحاح، ولا ينبغي الطعن فيها، ممّا لا أساس له ؛ لأنّه مخالف للاجماع والضرورة، ومحكم التنزيل، فليس كلّ حديثٍ صحيحٍ يجوز العمل به، فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً، ورواية الأخبار الدالّة على التحريف غير مُسلّمة عند أغلب محقّقي أهل السنة إلاّ عند القائلين بصحّة جميع ما في كتب الصحاح، ووجوب الإيمان بكلّ ما جاء فيها، وهؤلاء هم الحشوية ممّن لا اعتداد بهم عند أئمّة المذاهب.

ثانياً: دعوى الاجماع على عدالة جميع الصحابة باطلةٌ لا أصل لها، إذ إنّ عمدة الأدلة القائمة على عدالتهم جميعاً ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « أصحابي كالنجوم، بأيّهم اقتديتم اهتديتم ». وقد نصّ جمعٌ كبيرٌ من أعيان أهل السنة على أنّه حديثٌ باطلٌ موضوعٌ(٣) ، هذا فضلاً عن

__________________

(١) التحقيق في نفي التحريف: ٣١٢.

(٢) تفسير المنار ٢: ١٠٤ - ١٠٥.

(٣) أُنظر: لسان الميزان ٢: ١١٧ - ١١٨، ١٣٧- ١٣٨، ميزان الاعتدال ١: ٤١٣ كنز العمال ١:

٥٥

معارضته للكتاب والسُنّة والواقع التاريخي، فقد نصّت كثيرٌ من الآيات القرآنية على أنّ بعض الأصحاب ممّن هم حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلال حياته، كانوا منافقين فسقة، كما في سورة التوبة وآل عمران والمنافقون، ونصّت بعض الآيات على ارتداد قسم منهم بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله تعالى:( أفَإن ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُم على أعْقَابِكُم ) ( آل عمران ٣: ١٤٤ )، وممّا يدلّ على ارتداد بعضهم بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديث الحوض: « أنا فرطكم على الحوض، ولأنازَعَنّ أقواماً ثمّ لاُغْلَبَنّ عليهم، فأقول: يا ربِّ أصحابي. فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك »(١) ، وقد عدّه الزبيدي الحديث السبعين من الأحاديث المتواترة، حيث رواه خمسون نفساً(٢) ، كما قامت الشواهد على جهل كثير من الأصحاب بالقرآن الكريم والاحكام الشرعية، كما أنّ بعضهم تسابّوا وتباغضوا وتضاربوا وتقاتلوا، وحكت الآثار عن ارتكاب بعضهم الكبائر واقتراف السيئات كالزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك.

قال الرافعي: « لا يتوهمنّ أحدٌ أنّ نسبة بعض القول إلى الصحابة نصّ في أنّ ذلك القول صحيحٌ البتّة، فإنّ الصحابة غير معصومين، وقد جاءت روايات صحيحة بما أخطأ فيه بعضهم في فهم أشياء من القرآن على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك العهد هو ما هو »(٣) .

__________________

١٩٨ / ١٠٠٢، نظرية عدالة الصحابة: ٢٠. الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية: ٤٦٣ - ٥١٤.

(١) صحيح البخاري ٩: ٩٠ / ٢٦ - ٢٩، صحيح مسلم ١: ٨١ / ١١٨ - ١٢٠ و ٤: ١٧٩٦ / ٣٢، مسند أحمد ٥: ٣٧ و ٤٤ و ٤٩ و ٧٣، سنن الترمذي ٤: ٤٨٦ / ٢١٩٣، سنن أبي داود ٤: ٢٢١ / ٤٦٨٦. والآية من سورة آل عمران ٣: ١٤٤.

(٢) التحقيق في نفي التحريف: ٣٤٢.

(٣) اعجاز القرآن: ٤٤.

٥٦

إذن فنسبة أحد الأقوال الدالّة على تحريف القرآن إلى أحد الصحابة، لا تعني التعبّد به، أو التعسّف في تأويله، بل إنّ إمكانية ردّه وإنكاره قائمةٌ ما دام شرط عدالة الجميع مرفوعاً.

٥٧

٥٨

نماذج من روايات التحريف في كتب أهل السنّة

نذكر هنا جملة من الروايات الموجودة في كتب أهل السنة، ونبيّن ما ورد في تأويلها، وما قيل في بطلانها وإنكارها، وعلى أمثال هذه النماذج يقاس ما سواها، وهي على طوائف:

الطائفة الاولى: الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنّها كانت من القرآن وحُذِفت منه، أو زعم البعض نسخ تلاوتها، أو أكلها الداجن، نذكر منها:

الأولى: أنّ سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة:

١ - رُوي عن عائشة: « أنّ سورة الأحزاب كانت تُقْرأ في زمان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مائتي آية، فلم نقدر منها إلاّ على ماهو الآن »(١) . وفي لفظ الراغب: « مائة آية »(٢) .

٢ - ورُوي عن عمر وأُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس: « أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة، أو هي أطول منها، وفيها كانت آية الرجم »(٣) .

٣ - وعن حذيفة: « قرأتُ سورة الأحزاب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسيتُ منها

__________________

(١) الاتقان ٣: ٨٢، تفسير القرطبي ١٤: ١١٣، مناهل العرفان ١: ٢٧٣، الدر المنثور ٦: ٥٦٠.

(٢) محاضرات الراغب ٢: ٤ / ٤٣٤.

(٣) الاتقان ٣: ٨٢، مسند أحمد ٥: ١٣٢، المستدرك ٤: ٣٥٩، السنن الكبرى ٨: ٢١١، تفسير القرطبي ١٤: ١١٣، الكشاف ٣: ٥١٨، مناهل العرفان ٢: ١١١، الدر المنثور ٦: ٥٥٩.

٥٩

سبعين آية ما وجدتها »(١) .

وقد حمل ابن الصلاح المدّعى زيادته على التفسير، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ما كانت عليه سورة الأحزاب، الأمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها، أمّا آية الرجم الواردة في الحديث الثاني فستأتي في القسم الرابع من هذه الطائفة.

الثانية: لو كان لابن آدم واديان ...

رُوي عن أبي موسى الأشعري أنّه قال لقرّاء البصرة: « كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب »(٢) .

وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث على السنّة، قال: « إنّ هذا معروف في حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّه من كلام الرسول، لا يحكيه عن ربِّ العالمين في القرآن ويؤيده حديث روي عن العباس بن سهل، قال: سمعت ابن الزبير على المنبر يقول: « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنّ ابن آدم أُعطي واديان » وعدّه الزبيدي الحديث الرابع والأربعين من الأحاديث المتواترة وقال: « رواه من الصحابة خمسة عشر نفساً »(٣) . ورواه أحمد في

__________________

(١) الدر المنثور ٦: ٥٥٩.

(٢) صحيح مسلم ٢: ٧٢٦ / ١٠٥٠.

(٣) مقدمتان في علوم القرآن: ٨٥ - ٨٨.

٦٠